دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه المجلد 3

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه/ لمولفه المنتظری

مشخصات نشر : قم: دار الفکر، 14ق. = - 13.

شابک : 2500ریال(ج.4)

يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد چهارم، 1411ق. = 1370

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات تفکر منتشر شده است

يادداشت : جلد سوم (چاپ دوم: 1415ق. = 1373)؛ بها: 7000 ریال. (ناشر: نشر تفکر)

يادداشت : ج. 3 (چاپ دوم) 1415 = 1374

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه

موضوع : ولایت فقیه

موضوع : اسلام و دولت

رده بندی کنگره : BP223/8 /م 78د4 1300ی

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 70-2367

الباب الثّامن من الكتاب في البحث عن المنابع المالية للدولة الإسلامية

اشارة

و فيه مقدمة و ستة فصول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 3

مقدمة

لا يخفى أنّ إدارة المجتمعات و تأسيس الدولة و تشكيل السلطات الثلاث و التصدي للأمور العامّة الاجتماعية في المجالات المختلفة لا تتيسر قهرا إلّا بصرف أموال كثيرة ضخمة في طريقها. و كلّما اتّسع نطاق الحكومة و ازدادت توقعات الأمم من حكوماتها اتّسع نطاق الاحتياج إلى الأموال العامّة أيضا. و على هذا فلا بدّ لمن يخطّط دولة و حكومة و لو في منطقة خاصة من أن يخطّط لها منابع مالية تناسب المصارف اللازمة.

و التاريخ يشهد بأن من أهمّ ما كان يفكّر فيها السلاطين و رؤساء الدول في الأعصار و البلدان المختلفة كان هو تخطيط منابع مالية و تثبيتها لتطبيق خططهم الفكرية في المجتمعات، فهذا أمر بديهي لا يشوبه شك و ترديد.

و الإسلام كما مرّ تفصيله في أبواب هذا الكتاب من بدأ ظهوره كان دينا و دولة و مشتملا على العبادة و الاقتصاد و السياسة معا.

و القرآن و السنّة حاويان لبيان منابع مالية للدولة الإسلامية يرفع بها الحاجات العامة بحسب الأعصار و القرون المتتالية:

فقد ترى آيات الكتاب العزيز أنها في أكثر الموارد التي يحثّ فيها على الصلاة التي هي عمود الدين و أساسه يحثّ فيها أيضا على الزكاة و الإنفاق في سبيل اللّه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 4

فمن ذلك يظهر أهمية المال لبقاء الدين و الدولة مدّ الأعصار و القرون. هذا.

و حيث إن بيان المنابع المالية الواردة في الإسلام بنحو التفصيل في باب خاص من هذا الكتاب ليس إلّا كصبّ بحر في جرّة، و هذا مما لا يعقل، فلا محالة نكتفي فيها ببيان بسيط،

حرصا على عدم خلوّ الكتاب منها. و نوصي القرّاء الكرام

بالرجوع إلى الكتب المفصلة المؤلفة في ذلك من الفريقين.

و قد طبع من مؤلفاتنا في هذا المجال الى الآن مجلدان في الزكاة و مجلد في الخمس و الأنفال. و لعلّ اللّه- تعالى- يوفقنا على تتميم بحث الزكاة في المآل بحوله و قوّته، إن شاء اللّه تعالى.

إذا عرفت هذا فنقول: العناوين المهمة الواردة في الكتاب و السنة للمنابع المالية أمور:

الأول: الزكاة و الصدقات بسعتها التي منها الصدقات المندوبة و الأوقاف و المشاريع العامّة.

الثاني: الخمس بأقسامه التي منها خمس أرباح المكاسب و الفوائد اليومية بسعتها و شمولها.

الثالث: غنائم الحرب التي منها الأرضون المفتوحة عنوة و السبايا.

الرابع: الفي ء بما له من المعنى و منه الخراج و الجزايا.

الخامس: الأنفال التي من أهم أقسامها الأرضون و الآجام و البحار و المعادن الظاهرة و الباطنة كما يأتي بيانها.

فلنتعرض إجمالا لهذه العناوين الخمسة في خمسة فصول، ثم نعقب ذلك بفصل سادس للبحث عن ضرائب أخرى ربّما يقال بأن للحكومة و الدولة الحقة أن تفرضها حسب احتياجاتها و عدم كفاية الضرائب المنصوصة. فهنا ستة فصول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 5

الفصل الاول في الزكاة و الصدقات

اشارة

و فيه جهات من البحث:

الجهة الأولى: في بيان مفهوم الزكاة و الصدقة:

[مفهوم الزكاة]

اعلم ان الزكاة في اللغة: النماء و الطهارة، و إليهما يرجع سائر المعاني:

ففي معجم مقاييس اللغة- في لغة زكى-:

«الزاي و الكاف و الحرف المعتل اصل يدلّ على نماء و زيادة. و يقال: الطهارة.

زكاة المال، قال بعضهم: سميت بذلك لأنها مما يرجى به زكاء المال و هو زيادته و نماؤه. و قال بعضهم: سميت زكاة لأنها طهارة. قالوا: و حجة ذلك قوله- جلّ ثناؤه-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا.» «1» و الأصل في ذلك كله راجع

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 6

إلى هذين المعنيين و هما النماء و الطهارة.» «1»

و في مفردات الراغب:

«أصل الزكاة: النموّ الحاصل عن بركة اللّه- تعالى- ... يقال: زكا الزرع يزكو إذا حصل منه نموّ و بركة.» «2»

أقول: و من النماء ظاهرا ما في نهج البلاغة: «المال تنقصه النفقة، و العلم يزكو على الإنفاق.» «3» و من الطهارة قوله- تعالى-: «ذٰلِكُمْ أَزْكىٰ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ» «4» و قوله: «فَلْيَنْظُرْ أَيُّهٰا أَزْكىٰ طَعٰاماً» «5» و قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكّٰاهٰا» «6» بل و قوله: «فَلٰا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقىٰ.» «7» و التفعيل للنسبة.

و الزكاة المصطلحة يمكن أخذها من كل من المعنيين، إذ بالزكاة ينمو المال و بها يطهر المال و صاحبه، و لكن الأنسب بقوله- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا» «8» هو المعنى الثاني. و حيث إن المقصود بها طهارة صاحب المال اعتبر فيها

قصد القربة، و هذا من ميزات اقتصاد الإسلام حيث صبغ واجباته المالية بصبغة العبودية و القربة. هذا.

و الزكاة اصطلاحا عبارة عن: «قدر مخصوص يطلب

إخراجه من المال بشروط خاصة» أو: «حق مالي يعتبر في وجوبه النصاب» أو: «صدقة متعلقة بنصاب بالأصالة» أو غير ذلك مما قيل في تعريفها.

______________________________

(1)- معجم مقاييس اللغة 3/ 17.

(2)- مفردات الراغب/ 218.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1155؛ عبده 3/ 187؛ لج/ 496، الحكمة 147.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 232.

(5)- سورة الكهف (18)، الآية 19.

(6)- سورة الشمس (91)، الآية 9.

(7)- سورة النجم (53)، الآية 32.

(8) سورة التوبة (9)، الآية 103.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 7

[مفهوم الصدقة]

و أما الصدقة فقال الراغب في المفردات:

«و الصدقة ما يخرجه الإنسان من ماله على وجه القربة كالزكاة، لكن الصدقة في الأصل يقال للمتطوّع به و الزكاة للواجب، و قد يسمى الواجب صدقة إذا تحرّى صاحبها الصدق في فعله، قال: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» و قال: إنما الصدقات للفقراء» «1».

و في مجمع البيان:

«الفرق بين الصدقة و الزكاة أن الزكاة لا تكون إلا فرضا و الصدقة قد تكون فرضا و قد تكون نفلا.» «2»

أقول: يمكن نقض ما ذكره بالزكوات المستحبة كزكاة مال التجارة و زكاة الخيل و نحوهما و قد أطلقت في القرآن أيضا على غير الواجب بل غير المقدر أيضا كما في قوله- تعالى-: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ.» «3» حيث فسرت في أخبار الفريقين بالخاتم الذي تصدّق به أمير المؤمنين «ع» في صلاته.

و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«الصدقة زكاة، و الزكاة صدقة، يفترق الاسم و يتفق المسمّى، و لا يجب على المسلم في ماله حق سواها، قال رسول اللّه «ص»: ليس في المال حق سوى الزكاة.» «4»

أقول: كأن الصدقة مأخوذة من الصدق و قد اشرب

في مفهومها الشفقة و الرحمة على المعطى له كما يشهد بذلك قول إخوة يوسف له: «تَصَدَّقْ عَلَيْنٰا» «5»، سواء كان

______________________________

(1)- المفردات/ 286.

(2)- مجمع البيان 1/ 384، (الجزء 2).

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 55.

(4)- الأحكام السلطانية/ 113.

(5)- سورة يوسف (12)، الآية 88.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 8

لها تقدير خاص أم لا، و سواء كانت فرضا أو نفلا. و بهذه المناسبة أيضا لم تحلّ لبني هاشم الذين هم من بيت الإمارة على المسلمين و شرّع لهم الخمس بعنوان حق الإمارة كما سيأتي بيانه.

و أما الزكاة فهي حقّ مالي مقدر في مال خاص أو على فرد خاص شرّع لتطهير المال أو صاحبه فرضا كان أو نفلا، فتشمل زكاة المال و الفطرة و الزكوات الواجبة و المستحبة، بل لعلها تشمل الخمس المصطلح أيضا، كما يساعد ذلك ملاحظة مفهومها بحسب اللغة، إذ لا فرق في حصول البركة و الطهارة بين الزكاة المعهودة و بين الخمس، و هو المناسب أيضا لذكرها رديفا للصلاة في آيات كثيرة من الكتاب العزيز.

و لو سلّم كونها قسيما للخمس المصطلح فالظاهر أنها ذكرت في الآيات الشريفة من باب المثال، فتكون كناية عن كل حق مالي شرّعه اللّه- تعالى- فيراد في الآيات الشريفة الحثّ على الواجبات البدنية و المالية معا و أن المؤمن من تعبّد بكلتيهما، فتدبّر.

و كيف كان فلو جعلنا الزكاة قسيما للخمس المصطلح كانت الصدقة أعم منها مطلقا، و لو جعلناها أعم منه كانت النسبة بين الصدقة و الزكاة عموما من وجه كما لا يخفى.

[الزكاة ليست من مخترعات الإسلام]

و ليست الزكاة من مخترعات الإسلام بل كانت ثابتة في الشرّائع السالفة أيضا مثل الصلاة؛ فالقرآن يحكي عن عيسى بن مريم أنه قال:

«وَ أَوْصٰانِي بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ مٰا دُمْتُ حَيًّا.» «1» و عن إسماعيل صادق الوعد: «وَ كٰانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلٰاةِ وَ الزَّكٰاةِ.» «2»

و يذكر الأنبياء السالفين فيقول: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا، وَ أَوْحَيْنٰا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرٰاتِ وَ إِقٰامَ الصَّلٰاةِ وَ إِيتٰاءَ الزَّكٰاةِ.» «3»

و هذا أيضا مما يؤيّد ما لوّجنا إليه من كون المراد بالزكاة كل حق مالي مقدر،

______________________________

(1)- سورة مريم (19)، الآية 31.

(2)- سورة مريم (19)، الآية 55.

(3)- سورة الأنبياء (21)، الآية 73.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 9

و لا محالة يختلف مقدارا و موردا بحسب الشرائع و الأصقاع و الأزمنة، فتدبّر. هذا.

[التعبير عن الزكاه بلفظ الصدقة]

و قد عبّر عما هو قسيم الخمس المصطلح في روايات الفريقين بلفظ الصدقة على وفق القرآن، حيث قال- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا.» «1» و قال:

«إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ. الآية.» و قال: «وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقٰاتِ.» «2»

و وقع التعبير عما لا يحلّ لبني هاشم أيضا في روايات الفريقين بلفظ الصدقة لا الزكاة، فراجع الباب التاسع و العشرين من أبواب المستحقين للزكاة من الوسائل و ما بعده من الأبواب. «3»

نعم، في خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الصدقة التي حرمت على بني هاشم ما هي؟ فقال: «هي الزكاة.» «4»

و لكن لا يخفى أن المركوز في ذهن السائل في هذه الرواية أيضا كون المحرم هو الصدقة، و الجواب بالزكاة يكون في كلام الإمام «ع» و يمكن أن يقال: إن الزكاة في كلامه «ع» إشارة إلى الصدقة الواجبة المقدرة في قبال الصدقات المستحبة، حيث إنها تحلّ لهم على ما في بعض الأخبار.

و نظير هذه الرواية رواية زيد

الشحام، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «سألته عن الصدقة التي حرمت عليهم؟ فقال: هي الزكاة المفروضة، و لم يحرم علينا صدقة بعضنا على بعض.» «5» هذا.

و مسلم في صحيحه ذكر ثمان روايات في تحريم الصدقة على رسول اللّه «ص» و على آله، و المذكور في جميعها لفظ الصدقة أيضا لا الزكاة. نعم، المذكور في عنوان الباب هو لفظ الزكاة و لعله اشتباه منه، فراجع صحيح مسلم. «6»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 60 و 58.

(3)- الوسائل 6/ 185 و ما بعدها.

(4)- الوسائل 6/ 190، الباب 32 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 5.

(5)- الوسائل 6/ 190، الباب 32 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 4.

(6)- صحيح مسلم 2/ 751، كتاب الزكاة، الباب 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 10

الجهة الثانية: في بيان ما فيه الزكاة إجمالا:

[كلمات الفريقين]

و أما ما فيه الزكاة فروايات الفريقين و فتاواهما مختلفة في هذا المجال، و قد تعرّضنا للمسألة تفصيلا في الجزء الأول من زكاتنا المطبوع «1»، فلنذكر هنا نماذج و نحيل التفصيل و التحقيق في المسألة إلى ذلك الكتاب:

1- قال السيد المرتضى «ره» في الانتصار:

«و مما ظنّ انفراد الإمامية به القول بأن الزكاة لا تجب إلّا في تسعة أصناف:

الدنانير و الدراهم، و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الإبل و البقر و الغنم، و لا زكاة فيما عدا ذلك، و باقي الفقهاء يخالفونهم في ذلك. و حكي عن ابن أبي ليلى و الثوري و ابن حي انه ليس في شي ء من المزروع زكاة إلّا الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و هذه موافقة للإمامية. و أبو حنيفة و زفر يوجبون العشر في جميع ما أنبتت الأرض

إلا الحطب و القصب و الحشيش. و ابو يوسف و محمد يقولان: لا يجب العشر إلّا فيما له ثمرة باقية و لا شي ء في الخضروات. و قال مالك: الحبوب كلها فيها الزكاة و في الزيتون. و قال الشافعي: إنما يجب فيما يبس و يقتات و يدّخر مأكولا، و لا شي ء في الزيتون. و الذي يدل على صحة مذهبنا مضافا إلى الاجماع أن الأصل براءة الذمة من الزكاة و إنما يرجع إلى الأدلة الشرعية في وجوب ما يجب منها، و لا خلاف فيما أوجبت الإمامية الزكاة فيه، و ما عداه فلم يقم دليل قاطع على وجوب الزكاة فيه فهو باق على الأصل و هو قوله- تعالى-: و لا يسألكم أموالكم.» «2»

2- و قال العلامة في التذكرة:

______________________________

(1)- كتاب الزكاة 1/ 147 و ما بعدها.

(2)- الجوامع الفقهية/ 152 (طبعة أخرى/ 110).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 11

«قد أجمع المسلمون كافة على إيجاب الزكاة في تسعة أشياء: الإبل و البقر و الغنم، و الذهب و الفضة، و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و اختلفوا فيما زاد على ذلك.» «1»

3- و قال في المختلف:

«قال ابن الجنيد: تؤخذ الزكاة في أرض العشر من كلّ ما دخله القفيز من حنطة و شعير و سمسم و أرز و دخن و ذرة و عدس و سلت و سائر الحبوب و من التمر و الزبيب.

و الحق الاستحباب فيما عدا الأصناف الأربعة.» «2»

4- و فيه أيضا:

«اختلف علماؤنا في مال التجارة على قولين فالأكثر قالوا بالاستحباب و آخرون قالوا بالوجوب.» «3»

5- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«الأنواع التي تجب فيها الزكاة خمسة أشياء: الأول: النعم و هي الإبل و البقر

و الغنم ... و لا زكاة في غير ما بيناه من الحيوان فلا زكاة في الخيل و البغال و الحمير و الفهد و الكلب المعلّم و نحوها إلّا إذا كانت للتجارة ... الثاني: الذهب و الفضة و لو غير مضروبين. الثالث: عروض التجارة. الرابع: المعدن و الركاز. الخامس:

الزروع و الثمار و لا زكاة فيما عدا هذه الأنواع الخمسة.» «4»

6- و فيه أيضا:

«جمهور الفقهاء يرون وجوب الزكاة في الأوراق المالية لأنها حلّت محلّ الذهب و الفضة في التعامل، و يمكن صرفها بالفضة بدون عسر، فليس من المعقول أن يكون لدى الناس ثروة من الأوراق المالية و يمكنهم صرف نصاب الزكاة منها بالفضة و لا يخرجون منها زكاة، و لذا أجمع فقهاء ثلاثة من الأئمة على وجوب الزكاة فيها،

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 205.

(2)- المختلف/ 180.

(3)- المختلف/ 179.

(4)- الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 596.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 12

و خالف الحنابلة فقط.» «1»

أقول: نحن وجّهنا زكاة الأوراق المالية في أول زكاة النقدين من كتابنا في الزكاة «2» بوجوه ثلاثة:

الأول: أن الأوراق المالية لا موضوعية لها و لا قيمة، بل هي حوالة على النقدين فالمالك لها في الحقيقة مالك لهما.

الثاني: إلغاء الخصوصية بتقريب أن الذهب و الفضة المسكوكتين إنما وجبت فيهما الزكاة بما أنهما نقدان رائجان و بهما تقوم سائر الأشياء و تعتبر ماليتها، فالموضوع في الحقيقة هو النقد الرائج الذي تقوّم به الأشياء و يصير واسطة في المبادلات، و ربما نلتزم بذلك في باب المضاربة أيضا بناء على ما ادعوه من الإجماع على عدم صحتها في غير النقدين.

الثالث: العمومات و الإطلاقات التي يستفاد منها ثبوت الزكاة في جميع الأموال كقوله- تعالى-: «خُذْ مِنْ

أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» «3» و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ». «4» و التخصيص بالتسعة كان في تلك الأعصار التي راج فيها النقدان و كانت التسعة عمدة ثروة العرب. هذا.

و يمكن أن يناقش الوجه الأول، بأن الأوراق المالية في أعصارنا صارت لها موضوعية و قيمة بحسب الاعتبار العقلائي و ليست حوالة على النقدين و إلّا لكانا محفوظين للمحتال فيما إذا تلفت الأوراق أو ضاعت، و لبطلت المعاملات على الأوراق لمن لا يعلم ما بإزائها من النقدين، و الالتزام بهما مشكل.

و الوجه الثاني بأنه قياس مستنبط العلة و نحن لا نقول به.

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 1/ 605.

(2)- كتاب الزكاة 1/ 280 و ما بعدها.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 267.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 13

و الوجه الثالث بأنها خصصت بالروايات الخاصة، فتدبّر.

الروايات الواردة فيما فيه الزكاة:
اشارة

و أما أخبار ما فيه الزكاة فهي كثيرة من طرق الفريقين و تنقسم إلى أربع طوائف على ما فصلناه في كتاب الزكاة «1».

الطائفة الأولى: ما تضمنت أن رسول اللّه «ص» وضع الزكاة على تسعة أشياء و عفا عما سواها.

و مفاد هذه الأخبار نقل واقعة تاريخية فقط و إن كان فيها إشعار ببيان الحكم أيضا، و لكن لا تعارض ما دلت على ثبوتها فيما عدا التسعة أيضا.

1- و من هذه الطائفة ما رواه الكليني بسند صحيح، عن زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير و بريد بن معاوية العجلي و الفضيل بن يسار كلهم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه «ع»، قالا: «فرض اللّه- عز و جل- الزكاة مع الصلاة في الأموال، و سنّها رسول اللّه «ص» في تسعة أشياء، و عفا (رسول اللّه «ص») عما سواهن: في الذهب و الفضة، و الابل و البقر و الغنم، و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و عفا رسول اللّه «ص» عمّا سوى ذلك.» «2»

2- و منها أيضا ما رواه بسند لا بأس به، عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الذهب و الفضة، و الإبل و البقر و الغنم، و عفا عمّا سوى ذلك.» قال يونس: معنى قوله: إن الزكاة في تسعة أشياء و عفا عما سوى ذلك، إنما كان ذلك في أول النبوة كما كانت الصلاة ركعتين، ثم زاد رسول اللّه «ص» فيها سبع ركعات، و كذلك

______________________________

(1)- كتاب الزكاة 1/ 150 و ما بعدها.

(2)- الوسائل 6/ 34، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 14

الزكاة

وضعها و سنّها في أول نبوته على تسعة أشياء ثم وضعها على جميع الحبوب.» «1»

الطائفة الثانية: [ما دلت على أن هذا الحكم أبدي]

ما اشتملت على بيان هذه الواقعة التاريخية مع التصريح أو الظهور في كون الحكم الفعلي في عصر الإمام الحاكي لها أيضا ذلك و أنه حكم أبدي يجب الأخذ به في جميع الأعصار و إن كان حكما سلطانيا منه «ص».

1- و من هذه الطائفة خبر محمد الطيار، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عما تجب فيه الزكاة، فقال: «في تسعة أشياء: الذهب و الفضة، و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الإبل و البقر و الغنم، و عفا رسول اللّه «ص» عما سوى ذلك.» فقلت: أصلحك اللّه فإن عندنا حبا كثيرا، قال: فقال: و ما هو؟ قلت: الارز، قال: نعم ما أكثره. فقلت: أ فيه الزكاة؟

فزبرني، قال: ثم قال: «أقول لك: إن رسول اللّه «ص» عفا عما سوى ذلك و تقول: إن عندنا حبا كثيرا أ فيه الزكاة؟» «2»

2- و منها أيضا خبر جميل بن دراج، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سمعته يقول:

«وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة أشياء و عفا عما سوى ذلك: على الفضة و الذهب، و الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الإبل و البقر و الغنم.» فقال له الطيار و أنا حاضر: إن عندنا حبا كثيرا يقال له: الأرز، فقال له أبو عبد اللّه: «و عندنا حب كثير.» قال: فعليه شي ء؟

قال: «لا، قد أعلمتك أن رسول اللّه عفا عما سوى ذلك.» «3»

و قوله «ع» في خبر الطيّار: «أقول لك إن رسول اللّه «ص» عفا ...» يحتمل فيه أمران:

الأول و هو الأظهر: أن يريد أنه بعد عفو الرسول «ص» عن غير التسعة

لا وجه لسؤالك عن ثبوت الزكاة في الأرز.

______________________________

(1)- الكافي 3/ 509، كتاب الزكاة، باب ما وضع رسول اللّه ...، الحديث 2؛ و الوسائل 6/ 34، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 5.

(2)- الوسائل 6/ 36، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 12.

(3)- الوسائل 6/ 36، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 15

الثاني: أن يريد أن ما صدر عني هو نقل فعل النبي «ص» و عفوه عن غير التسعة و هذا لا ينافي ثبوت الزكاة في غيرها بعد ذلك فيكون سؤالك بلا وجه، و لكن هذا الاحتمال خلاف الظاهر، مضافا إلى أن ظاهر السؤال في صدر الخبر هو السؤال عن الحكم الفعلي لا عما صنعه رسول اللّه «ص»، فتأمّل.

3- و منها أيضا مرسلة القمّاط، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سئل عن الزكاة فقال: «وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة و عفا عما سوى ذلك: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الذهب و الفضة، و البقر و الغنم و الإبل.» فقال السائل: و الذرة، فغضب «ع» ثم قال: «كان و اللّه على عهد رسول اللّه «ص» السماسم و الذرة و الدخن و جميع ذلك.» فقال:

إنهم يقولون: إنه لم يكن ذلك على عهد رسول اللّه «ص» و إنما وضع على تسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك، فغضب و قال: «كذبوا. فهل يكون العفو إلا عن شي ء قد كان؟

و لا و اللّه ما أعرف شيئا عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.» «1»

و الحديث مرسل، مضافا إلى أن

عدم ذكره في الكتب الأربعة أيضا ربما يوهنه.

و ظاهر هاتين الطائفتين سعة موضوع الزكاة بحسب الجعل الأولي من قبل اللّه- تعالى- و لكن رسول اللّه «ص» بما أنه كان سلطانا و حاكما على المسلمين وضعها على تسعة و عفا عما سواها، و ظاهر الطائفة الثانية أن حكمه السلطاني مستمر دائم لا أنه مخصوص بعصره «ص». و التعبير بعفو الرسول «ص» وقع في أحاديث السنّة أيضا بالنسبة إلى بعض الأشياء: ففي سنن البيهقي بسنده، عن معاذ بن جبل أن رسول اللّه «ص» قال: «فيما سقت السماء و البعل و السيل العشر، و فيما سقي بالنضح نصف العشر.» و إنما يكون ذلك في التمر و الحنطة و الحبوب، فأما القثاء و البطيخ و الرمان و القضب فقد عفا عنه رسول اللّه «ص». «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 33، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.

(2)- سنن البيهقي 4/ 129، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميون.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 16

الطائفة الثالثة: ما دلت بالصراحة على ثبوت الزكاة في غير التسعة أيضا

من الذرة و الأرز و سائر الحبوب:

1- فمنها ما رواه الكليني بسند صحيح، عن حريز، عن محمد بن مسلم، قال:

سألته «ع» عن الحبوب ما يزكّى منها؟ قال: «البرّ و الشعير و الذرة و الدخن و الأرز و السلت و العدس و السمسم، كل هذا يزكّى و أشباهه.» و رواه الشيخ أيضا عن الكليني «1».

2- ثم قال الكليني: حريز، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه «ع» مثله و قال:

«كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة. و قال: جعل رسول اللّه «ص» الصدقة في كل شي ء أنبتت الأرض إلا ما كان في الخضر و

البقول و كل شي ء يفسد من يومه.» «2»

و الظاهر في أمثال هذه الموارد من الكافي كون السند معلقا على ما قبله، فالرواية صحيحة مسندة بالسند السابق عليها.

3- ما رواه الكلينيّ بسنده، عن محمد بن إسماعيل، قال: قلت لأبي الحسن «ع» إن لنا رطبة و أرزا، فما الذي علينا فيها؟ فقال: «أما الرطبة فليس عليك فيها شي ء، و أما الأرز فما سقت السماء العشر و ما سقي بالدلو فنصف العشر من كل ما كلت بالصاع، أو قال: وكيل بالمكيال.» «3»

4- ما رواه الكليني أيضا بسند فيه إرسال، عن أبان، عن أبي مريم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الحرث ما يزكى منه؟ فقال: «البرّ و الشعير و الذرة و الأرز و السلت و العدس، كل هذا مما يزكى. و قال: كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق فعليه الزكاة.» «4»

______________________________

(1)- الكافي 3/ 510، كتاب الزكاة، باب ما يزكى من الحبوب، الحديث 1؛ و الوسائل 6/ 40، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 4.

(2)- الوسائل 6/ 40، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 6.

(3)- الوسائل 6/ 39، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 2.

(4)- الوسائل 6/ 39، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 17

5- ما رواه الشيخ بسند موثوق به، عن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»:

في الذرة شي ء؟ فقال لي: «الذرة و العدس و السلت و الحبوب فيها مثل ما في الحنطة و الشعير.

و كل ما كيل بالصاع فبلغ الأوساق التي يجب فيها الزكاة فعليه فيه الزكاة.» «1»

6- ما رواه أيضا

بسند موثوق به، عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»:

هل في الأرز شي ء؟ فقال: نعم. ثم قال: «إن المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه، و لكنه قد جعل فيه، و كيف لا يكون فيه و عامّة خراج العراق منه.» «2»

و ظاهر الروايات الوجوب، و يشهد له أيضا عدّ الذرة و الأرز و أمثالهما في عداد البرّ و الشعير الواجب فيهما الزكاة. و الحمل على التقية ينافيه تعرض الإمام «ع» في آخر بعض الروايات لبيان الميزان الكلي لما فيه الزكاة، إذ التقية ضرورة و الضرورات تتقدر بقدرها و السائل سأل في بعضها عن الأرز أو عن الذرة مثلا؛ فأيّ داع دعاه «ع» إلى أن يذكر الزكاة في كل ما كيل إذا فرض كون الحكم على خلاف الواقع أو ينسب إلى رسول اللّه «ص» أمرا مخالفا للواقع، و الضرورة كانت ترتفع بقوله: «نعم» مثلا.

اللهم إلا أن يقال: إن التقية قد تكون للإمام و قد تكون للسائل و قد تكون لسائر الشيعة، و لعلها تكون هنا من قبيل الثالث، حيث إن الشيعة كانت مبتلاة بحكّام الجور و هم كانوا يطلبون الزكاة من كل ما كيل، فأراد الإمام «ع» أداءهم للزكاة إليهم و عدم مقاومتهم في قبالهم حفظا لهم من تعرضاتهم و ظلاماتهم. هذا.

7- و في سنن البيهقي بسنده، عن مجاهد، قال: «لم تكن الصدقة في عهد رسول اللّه «ص» إلا في خمسة أشياء: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب و الذرة» «3» و الحصر إضافي لا محالة، أي فيما أنبتت الأرض.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 41، الباب 9 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 10.

(2)- الوسائل 6/ 41، الباب 9 من أبواب ما تجب

فيه الزكاة، الحديث 11.

(3)- سنن البيهقي 4/ 129، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميّون.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 18

8- و فيه أيضا بسنده، عن عاصم بن ضمرة، عن علي «ع»، قال: «ليس في الخضر و البقول صدقة.» «1» و ظاهره الثبوت في غيرهما.

9- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، عن النبي «ص»، قال: «العسل في كل عشرة أزقاق زقّ.» «2»

10- و فيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة، قال: كتب رسول اللّه «ص» إلى أهل اليمن: «أن يؤخذ من العسل العشر.» «3»

11- و فيه أيضا بسنده، عن أبي ذرّ، قال: قال رسول اللّه «ص»: «في الإبل صدقتها و في الغنم صدقتها و في البزّ صدقته.» «4»

12- نعم، فيه أيضا بسنده، عن أبي موسى و معاذ بن جبل أن رسول اللّه «ص» بعثهما إلى اليمن فأمرهما أن يعلما الناس أمر دينهم و قال: «لا تأخذا في الصدقة إلا من هذه الأصناف الأربعة: الشعير و الحنطة و الزبيب و التمر.» «5»

13- و فيه أيضا بسنده، عن أبي موسى الأشعري أنه لما أتى اليمن لم يأخذ الصدقة إلا من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب. «6»

14- و فيه أيضا بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي «ع»، قال:

«ليس في العسل زكاة.» «7» إلى غير ذلك من الأخبار. هذا.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 4/ 130، كتاب الزكاة، باب الصدقة فيما يزرعه الآدميّون.

(2)- سنن البيهقي 4/ 126، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.

(3)- سنن البيهقي 4/ 126، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.

(4)- سنن البيهقي 4/ 147، كتاب الزكاة، باب زكاة التجارة.

(5)- سنن البيهقي 4/ 125، كتاب الزكاة، باب لا

تؤخذ صدقة شي ء من الشجر غير النخل و العنب.

(6)- سنن البيهقي 4/ 125، كتاب الزكاة، باب لا تؤخذ صدقة شي ء من الشجر غير النخل و العنب.

(7)- سنن البيهقي 4/ 128، كتاب الزكاة، باب ما ورد في العسل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 19

و هنا أخبار مستفيضة وردت من طرقنا يستفاد منها ثبوت الزكاة في مال التجارة و ظاهرها الوجوب أيضا، كما وردت أخبار تدل على عدم الوجوب فيه، فراجع الوسائل. «1» و قد أشبعنا الكلام في زكاة مال التجارة في المجلد الثاني من كتابنا في الزكاة، فراجع «2».

الطائفة الرابعة من أخبار الباب: ما اشتملت على مضمون الطائفتين: الثانية و الثالثة

المتعارضتين، بحيث يستفاد منها صدور كلتا الطائفتين و عدم كذب إحداهما، و هي ما رواه الكليني بسند صحيح، عن علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب عبد اللّه بن محمد إلى أبي الحسن «ع»: جعلت فداك روي عن أبي عبد اللّه «ع»: أنه قال: «وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة أشياء: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الذهب و الفضة، و الغنم و البقر و الإبل، و عفا رسول اللّه «ص» عما سوى ذلك. فقال له القائل: عندنا شي ء كثير يكون أضعاف ذلك، فقال: و ما هو؟ فقال له: الأرز، فقال أبو عبد اللّه «ع»: أقول لك: إن رسول اللّه «ص» وضع الزكاة على تسعة أشياء و عفا عما سوى ذلك و تقول: عندنا أرز و عندنا ذرة و قد كانت الذرة على عهد رسول اللّه «ص».

فوقّع «ع»: كذلك هو. و الزكاة على كل ما كيل بصاع.»

و كتب عبد اللّه: و روى غير هذا الرجل عن أبي عبد اللّه «ع»: أنه سأله عن الحبوب، فقال: و ما هي؟

فقال: السمسم و الأرز و الدخن، و كل هذا غلة كالحنطة و الشعير، فقال أبو عبد اللّه «ع»: «في الحبوب كلها زكاة.»

و روي أيضا عن أبي عبد اللّه «ع»: أنه قال: «كل ما دخل القفيز فهو يجري مجرى الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب.» قال: فأخبرني- جعلت فداك. هل على هذا الأرز و ما أشبهه من الحبوب: الحمّص و العدس زكاة؟ فوقّع «ع»: «صدقوا، الزكاة في كل شي ء كيل.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 45 و 48، الباب 13 و 14 من ابواب ما تجب فيه الزكاة.

(2)- كتاب الزكاة 2/ 181 و ما بعدها.

(3)- الكافي 3/ 510 و 511، كتاب الزكاة، باب ما يزكّى من الحبوب، الحديث 3 و 4؛ و الوسائل 6/ 39، الباب 9 من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 20

فهذه أربع طوائف من الأخبار الواردة في الباب، و قد تعرضنا لها في المجلد الأول من كتاب الزكاة، فراجع «1».

ثم تعرضنا لوجوه الجمع بينها:
الوجه الأول: ما مرّ في كلام يونس من أن العفو عن غير التسعة كان في أول النبوة.

و فيه أولا: أن الأمر بأخذ الزكاة لم يكن في أول النبوة، حيث إن قوله- تعالى- «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» «2» في سورة التوبة، و هي قد نزلت في أواخر النبوة.

و في صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «لما نزلت آية الزكاة:

«خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا» في شهر رمضان فأمر رسول اللّه «ص» مناديه، فنادى في الناس: إن اللّه- تبارك و تعالى- قد فرض عليكم الزكاة كما فرض عليكم الصلاة، ففرض اللّه عليكم من الذهب و الفضة، و الإبل و البقر و الغنم، و من الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و نادى فيهم بذلك في شهر رمضان، و

عفا لهم عما سوى ذلك. الحديث.» «3»

و ثانيا: أن كلامه لا يفيد في الجمع بين جميع الأخبار، إذ المستفاد من أخبار الطائفة الثانية حصر الزكاة في التسعة بعد النبي «ص» أيضا فضلا عن عصره.

الوجه الثاني: حمل ما دلّ على الزكاة في غير التسعة على الاستحباب،

اختاره

______________________________

«- أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.

(1)- كتاب الزكاة 1/ 150 و ما بعدها.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(3)- الوسائل 6/ 32، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 21

المفيد و الشيخ و من تبعهما:

ففي المقنعة ما حاصله:

«و يزكى سائر الحبوب ... سنة مؤكدة دون فريضة واجبة، و ذلك أنه قد ورد في زكاة سائر الحبوب آثار عن الصادقين «ع» مع ما ورد في حصرها في التسعة، و قد ثبت أن أخبارهم لا تتناقض فلم يكن لنا طريق إلى الجمع بينها إلا إثبات الفرض فيما أجمعوا على وجوبه فيه، و حمل ما اختلفوا فيه مع عدم ورود التأكيد في الأمر به على السنة المؤكدة.» «1»

و في الاستبصار:

«و ما يجري مجرى هذه الأخبار التي تتضمن وجوب الزكاة في كل ما يكال أو يوزن فالوجه فيها أن نحملها على ضرب من الاستحباب و الندب دون الفرض و الإيجاب لئلا تتناقض الأخبار، و لأنا قد قدمنا في أكثر الأخبار ان رسول اللّه «ص» عفا عما سوى ذلك، و لو كانت هذه الأشياء تجب فيها الزكاة لما كانت معفوا عنها.» «2»

أقول: و فيه- مضافا إلى أن كثيرا من الأخبار مما يأبى هذا الحمل- أن الجمع بين الدليلين يجب أن يكون مما يقبله العرف و الوجدان كما في حمل المطلق على المقيد و تخصيص العام بالخاص و نحوهما، و أما الجمع

التبرعي بين الدليلين بإعمال الدقة العقلية فاعتباره بحيث يصير أساسا للافتاء و مصححا للفتوى بالاستحباب محل إشكال، إذ الاستحباب كسائر الاحكام يحتاج إلى دليل شرعي و ليس في أخبار الباب اسم منه، و ليس ينسبق إلى الذهن من أخبار الباب.

الوجه الثالث: حمل ما دل على الزكاة في غير التسعة على التقية،

ذكره السيد المرتضى في الانتصار، و أصرّ عليه صاحب الحدائق، و قرّبه المحقق الهمداني في مصباح الفقيه. و لكن الالتزام بذلك مشكل و لا سيما في كثير من هذه الأخبار،

______________________________

(1)- المقنعة/ 40.

(2)- الاستبصار 2/ 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 22

فراجع.

قال في الانتصار بعد ما ادعى إجماع الإمامية على أن الزكاة لا تجب إلّا في تسعة، و قد مرّ بعض كلامه، قال ما ملخصه:

«فإن قيل: كيف تدّعون إجماع الإمامية، و ابن الجنيد يخالف في ذلك و يذهب إلى أن الزكاة واجبة في جميع الحبوب و روى في ذلك أخبار كثيرة عن أئمتنا و ذكر أن يونس كان يذهب إلى ذلك.

قلنا: لا اعتبار بشذوذ ابن الجنيد و لا يونس و قد تقدم إجماع الإمامية و تأخر عن ابن الجنيد و يونس. و الأخبار التي تعلق ابن الجنيد بها معارضة بأظهر و أكثر و أقوى منها و يمكن حملها بعد ذلك على أنها خرجت مخرج التقية فإن الأكثر من مخالفي الإمامية يذهبون إلى أن الزكاة واجبة في الأصناف كلها.» «1»

و قال في الحدائق ما ملخصه و محصله:

«و الأصحاب قد جمعوا بين الأخبار بحمل هذه الأخبار الأخيرة على الاستحباب كما هي قاعدتهم و عادتهم في جميع الأبواب. و الأظهر عندي حمل هذه الأخبار على التقية التي هي في اختلاف الأحكام الشرعية أصل كل بلية، فإن القول بوجوب الزكاة في هذه الأشياء مذهب الشافعي

و أبي حنيفة و مالك و أبي يوسف و محمد كما نقله في المنتهى.

و يدل على ذلك ما رواه الصدوق عن أبي سعيد القمّاط، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع»: أنه سئل عن الزكاة فقال: «وضع رسول اللّه «ص» الزكاة على تسعة و عفا عما سوى ذلك: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب، و الذهب و الفضة، و البقر و الغنم و الإبل.» فقال السائل: و الذرة؟ فغضب «ع» ثم قال: «كان و اللّه على عهد رسول اللّه «ص» السماسم و الذرة و الدخن و جميع ذلك.» فقال: إنهم يقولون: إنه لم يكن ذلك على عهد رسول اللّه «ص»، و إنما وضع على التسعة لما لم يكن بحضرته غير ذلك؟ فغضب و قال: «كذبوا. فهل يكون العفو إلا عن شي ء قد كان، فلا و اللّه

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 153 (طبعة أخرى/ 111).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 23

لا أعرف شيئا عليه الزكاة غير هذا، فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر.» «1»

و مما يستأنس به لذلك صحيحة علي بن مهزيار المتقدمة، حيث إنه أقرّ السائل على ما نقله عن أبي عبد اللّه «ع» من تخصيص الوجوب بالتسعة و العفو عما سواها و إنكاره على السائل لما راجعه في الأرز، و مع هذا قال له: الزكاة في كل ما كيل بالصاع، فلو لم يحمل كلامه على التقية للزم التناقض بين الكلامين، و لو كان الاستحباب مرادا لما خفي على أصحاب الأئمة المعاصرين لهم و لما احتاجوا إلى عرض هذه الأخبار على الإمام «ع» ...» «2»

و في مصباح الفقيه بعد الإشارة إلى الوجوه الثلاثة للجمع قال ما محصله:

«و ملخص الكلام

أن الجمع بين الخبرين المتعارضين بحمل أحدهما على الاستحباب و إن كان في حد ذاته أقرب من الحمل على التقية الذي هو في الحقيقة بحكم الطرح، و لكنه في غير مثل المقام الذي يكون احتمال التقية فيه أقوى، فإن الحمل على التقية حينئذ أقرب إلى الواقع من الحمل على الاستحباب ... فالذي ينبغي أن يقال: إن الأخبار المثبتة للزكاة في كل ما يكال ليست جميعها على نسق واحد، بل بعضها يعدّ في العرف معارضا للروايات الحاصرة للزكاة في التسعة، فهذا ما يتعين حمله على التقية مثل قوله «ع» في صحيحة زرارة: «و جعل رسول اللّه «ص» الصدقة في كل شي ء أنبتت الأرض إلّا الخضر و البقول»، فإنه ينافي التصريح بأن رسول اللّه لم يضع الزكاة على غير التسعة بل عفا عنها، و بعضها ليس كذلك فإنه قد يوجد فيها ما لا يراه العرف مناقضا لتلك الأخبار بل يجعل تلك الأخبار قرينة على حمل هذا البعض على مطلق الثبوت غير المنافي للاستحباب ... فالإنصاف أن حمل الأخبار المثبتة للزكاة في سائر الأجناس بأسرها على التقية أشبه. اللهم إلا أن يقال: إن رجحان الصدقة بالذات و إمكان إرادة استحبابها بعنوان الزكاة من هذه الأخبار و لو على سبيل التورية مع اعتضاده بفهم الأصحاب و فتاويهم كاف في

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 33، الباب 8 من ابواب ما تجب فيه الزكاة، الحديث 3.

(2)- الحدائق 12/ 108 و 109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 24

إثبات استحبابها من باب المسامحة.» «1»

أقول: و ربما يؤيد الحمل على التقية القرائن الداخلية و الخارجية:

أما الخارجية فاشتهار الفتوى بوجوب الزكاة فيما عدا التسعة بين أهل الخلاف.

و أما الداخلية فالتعبيرات الواقعة

في بعض الأخبار، فراجع مرسلة القماط و رواية الطيار و رواية جميل «2». مضافا إلى تأكيد الأئمة «ع» في أخبار كثيرة بأن رسول اللّه «ص» عفا عما سوى ذلك حيث يستشعر من ذلك وجود خلاف في البين فأراد الأئمة «ع» إقناعهم ببيان عمل النبي «ص». هذا.

و لكن يمكن أن يقال: أولا: إن ما قد يتوهم من كون أئمتنا «ع» ضعفاء مستوحشين يقلّبون الحق بأدنى خوف من الناس أمر يعسر علينا قبوله. كيف؟! و إن بناءهم كان على بيان الحق و رفع الباطل في كل مورد انحرف الناس عن مسير الحق. ألا ترى كيف أنكروا العول و التعصيب في المواريث، و الجماعة في صلاة التراويح و صلاة الضحى، و الطلاق ثلاثا و أمثال ذلك ممّا استقرّ عليه فقه أهل الخلاف بلسان قاطع صريح؟

و ثانيا: قد أشرنا إلى أن التقية ضرورة، و الضرورات تتقدر بقدرها مع أن أجوبة الأئمة «ع» في الطائفة الثالثة وقعت فوق مقدار الضرورة.

و ثالثا: إن الانحصار في التسعة ليس من خصائص الشيعة الإمامية بل أفتى به بعض فقهاء السنّة و وردت به رواياتهم أيضا، فلا يبقى مجال للتقية. و قد حكينا بعضا من أقوالهم في صدر المسألة و نتمم ذلك بنقل عبارة المغني لابن قدامة الحنبلي، قال:

«و قال مالك و الشافعي: لا زكاة في ثمر إلا التمر و الزبيب، و لا في حبّ إلا ما كان قوتا في حالة الاختيار لذلك إلا في الزيتون على اختلاف. و حكي عن أحمد إلا في

______________________________

(1)- مصباح الفقيه/ 19.

(2)- الوسائل 6/ 33 و ما بعدها، الباب 8 من أبواب ما تجب فيه الزكاة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 25

الحنطة و الشعير

و التمر و الزبيب. و هذا قول ابن عمر و موسى بن طلحة و الحسن و ابن سيرين و الشعبي و الحسن بن صالح و ابن أبي ليلى و ابن المبارك و أبي عبيد ...

و قد روى عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: إنما سنّ رسول اللّه «ص» الزكاة في الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب. و في رواية عن أبيه، عن جده، عن النبي «ص» أنه قال: «و العشر في التمر و الزبيب و الحنطة و الشعير.» و عن موسى بن طلحة، عن عمر أنه قال: «إنما سنّ رسول اللّه «ص» الزكاة في هذه الأربعة: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب.» و عن أبي بردة، عن أبي موسى و معاذ «أن رسول اللّه «ص» بعثهما إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم، فأمرهم أن لا يأخذوا الصدقة إلا من هذه الاربعة: الحنطة و الشعير و التمر و الزبيب.» رواهن كلهن الدار قطني.» «1»

اللهم إلا أن يقال كما مرّ أن التقية لم تكن من الفقهاء و المفتين و لا لمصلحة الإمام «ع» بل لحفظ الشيعة من شرّ السلاطين و حكّام الجور و جباتهم، حيث إن الزكاة كانت من منابع ثرواتهم و كانوا يطالبونها من غير التسعة أيضا فأراد الأئمة «ع» حثّ الشيعة على أداء الزكاة المطالب بها إليهم دفعا لشرورهم، فتدبّر.

الوجه الرابع: [ثبتت الزكاة في الإسلام و فوّض بيان ما فيه الزكاة إلى أولياء المسلمين]

ما ذكرناه بنحو الاحتمال و إن أشكل الالتزام به. و محصل ذلك أن أصل ثبوت الزكاة من القوانين الأساسية للإسلام، بل لجميع الأديان الإلهية. و قد جعلت الزكاة في آيات الكتاب العزيز عدلا للصلاة التي هي عمود الدين، و تكررت في آيات كثيرة لأنها أساس مالية الحكومة

الإسلامية، و لا سيما إن أرجعنا الخمس أيضا إليها و جعلناه من مصاديق الزكاة كما مرّ بيانه. و قد مرت الآيات الحاكية لها عن المسيح و إسماعيل و الأنبياء السالفين، فهي كانت أمرا ثابتا في جميع الأديان الإلهية و شرّعت في الإسلام أيضا.

و حيث إن ثروات الناس و منابع أموالهم تختلف بحسب الأزمنة و الأمكنة،

______________________________

(1)- المغني 2/ 549.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 26

و دين الإسلام شرّع لجميع البشر و لجميع الأعصار كما نطق بهما الكتاب و السنّة، فلا محالة ذكر في الكتاب العزيز أصل ثبوت الزكاة و خوطب النبي «ص» بقوله- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» «1» و لم يذكر فيه ما فيه الزكاة بنحو التعيين، بل الجمع المضاف يفيد العموم، و ذكر فيه عمومات اخر أيضا كقوله- تعالى-: «وَ مِمّٰا رَزَقْنٰاهُمْ يُنْفِقُونَ» «2»* و قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ» «3» و غير ذلك من الآيات العامّة- و المقصود بالإنفاق هو الزكاة بدليل قوله- تعالى-: «وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لٰا يُنْفِقُونَهٰا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذٰابٍ أَلِيمٍ.» «4»-

و فوّض بيان ما فيه الزكاة إلى أولياء المسلمين و حكّام الحق في كل صقع و كل زمان، و قد وضع رسول اللّه «ص» بما أنه كان حاكما على المسلمين في عصره الزكاة على تسعة أشياء لما كانت هذه التسعة عمدة ثروة العرب في عصره و مجال حكمه و عفا عما سوى ذلك، و لعله «ص» جعلها في آخر عمره الشريف في أكثر من ذلك، كما في كلام يونس، و هو كان رجلا بصيرا بالكتاب و السنّة و

كان من أجلّاء أصحاب الرضا «ع» و من علمائهم، و أئمتنا «ع» أيضا ربما جعلوها في بعض الأحيان في أكثر من التسعة كما تدلّ على ذلك روايات كثيرة و فيها الصحاح و الحسان، و ربما شاهدوا في بعض الأحيان أن الزكوات المأخوذة كانت تصرف في تقوية دول الضلال و الجور و رأوا أن الجباة لها يستندون في تعميمها لسائر الحبوب و أموال التجارة و غيرها إلى النقل عن النبي «ص» فأراد الأئمة «ع» تضعيف دولتهم بسدّ منابعهم المالية فنقلوا ما هو الواقع من أن النبي «ص» وضعها في تسعة ليرتدع الناس عن إعطاء الزكاة إليهم.

و بالجملة، حيث إن ثروات الناس و منابع أموالهم تتطور و تتغير بحسب الأصقاع

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 3.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 267.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 27

و الأعصار و كذلك الخلّات و الحاجات فلا مناص عن إحالة تعيين ما فيه الزكاة من الأعيان إلى ولاة الأمر و حكّام العدل في كل عصر و مكان حسب ما يبدو لهم من الحاجات، و البلاد و الأصقاع من حيث الإنتاجات و الاحتياجات في غاية الاختلاف.

و يشهد لذلك ما ورد من جعل أمير المؤمنين «ع» الزكاة في الخيل، و ظاهر ذلك جعلها بنحو الوجوب:

ففي صحيحة محمد بن مسلم و زرارة، عنهما- عليهما السلام- جميعا، قالا: «وضع أمير المؤمنين «ع» على الخيل العتاق الراعية في كل فرس في كل عام دينارين و جعل على البراذين دينارا» «1»

و الظاهر أن المراد بها الزكاة لا الخراج، لتسمية ذلك صدقة في صحيحة زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» هل

في البغال شي ء؟ فقال: لا، فقلت: فكيف صار على الخيل و لم يصر على البغال؟ فقال: لأن البغال لا تلقح و الخيل الإناث ينتجن، و ليس على الخيل الذكور شي ء. قال: قلت: فما في الحمير؟ قال: ليس فيها شي ء. قال: قلت:

هل على الفرس أو البعير يكون للرجل يركبهما شي ء؟ فقال: «لا ليس على ما يعلف شي ء، انما الصدقة على السائمة المرسلة في مرجها عامها الذي يقتنيها فيه الرجل.» «2»

هذا.

و هل يمكن الالتزام في مثل أعصارنا بحصر الزكاة في التسعة المعهودة بالشرائط الخاصة؟! مع أن الذهب و الفضة المسكوكين و كذا الأنعام الثلاثة السائمة لا توجد إلا أقل قليل و كأنها منتفية موضوعا، و الغلات الأربع في قبال سائر منابع الثروة:

من المصانع العظيمة، و التجارات الضخمة المربحة، و الأبنية المرتفعة، و السفن

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 28

و السيارات و الطيارات و المحصولات الزراعية المتنوعة غير الغلات الأربع، قليلة القيمة جدّا. و مصارف الزكاة الثمانية التي تساوق عمدة خلّات المجتمع و الدول و احتياجاتهم في المجالات المختلفة تحتاج إلى أموال كثيرة.

و قد دلت أخبار كثيرة على أن اللّه- تعالى- فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم. و لعل ذكر الفقراء كان من باب المثال فكان المقصود المصارف الثمانية المذكورة للزكاة:

1- ففي صحيحة زرارة و محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن اللّه- عزّ و جلّ- فرض للفقراء في مال الأغنياء ما يسعهم، و لو علم أن ذلك

لا يسعهم لزادهم. إنهم لم يؤتوا من قبل فريضة اللّه- عزّ و جلّ- و لكن أوتوا من منع من منعهم حقهم لا مما فرض اللّه لهم. و لو أن الناس أدّوا حقوقهم لكانوا عائشين بخير.» «1»

2- و في صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن اللّه- عزّ و جلّ- فرض الزكاة كما فرض الصلاة، فلو أن رجلا حمل الزكاة فأعطاها علانية لم يكن عليه في ذلك عيب، و ذلك أن اللّه- عزّ و جلّ- فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكتفون به، و لو علم أن الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم. و إنما يؤتى الفقراء فيما أوتوا من منع من منعهم حقوقهم لا من الفريضة.» «2»

3- و في خبر معتب مولى الصادق «ع» قال: قال الصادق «ع»: «إنما وضعت الزكاة اختبارا للأغنياء و معونة للفقراء، و لو أن الناس أدّوا زكاة أموالهم ما بقي مسلم فقيرا محتاجا و لاستغنى بما فرض اللّه له. و إن الناس ما افتقروا و لا احتاجوا و لا جاعوا و لا عروا إلا بذنوب الأغنياء: الحديث.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 3، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 6/ 3، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...، الحديث 3.

(3)- الوسائل 6/ 4، الباب 1 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 29

4- و في كتاب الأموال لأبي عبيد: حدثني أحمد بن يونس، عن أبي شهاب الحناط، عن أبي عبد اللّه الثقفي قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي يحدّث أن عليا «ع» قال:

«إن اللّه- عز و جل- فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي للفقراء. فإن جاعوا أو عروا أو جهدوا فبمنع الأغنياء، و حق على اللّه- تبارك و تعالى- أن يحاسبهم و يعذبهم.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.

فنفس هذه الروايات الكثيرة من أقوى الأدلة على أن الزكاة ليست من الواجبات العبادية المجهولة الملاك التي يؤتى بها بداعي التقرب المحض من دون أن يلحظ في تشريعها الحكم و المصالح الاجتماعية. بل الزكاة المفروضة في كل زمان و صقع يجب أن تناسب المصارف الثمانية المذكورة لها في الكتاب العزيز.

و بعبارة أخرى: هذه الروايات الدالة على حكمة الزكاة محكمات و ميزان يوزن به الحق من أخبار الباب.

و حيث إن منابع الثروة و كذا المصارف و الحاجات تتغير بحسب الأصقاع و الأزمنة فلا محالة يتغير ما فيه الزكاة أيضا بحسبهما و لا يتحقق ذلك إلا بما لوّحنا إليه من كون المشرّع بحسب حكم اللّه- تعالى- أصل وجوب الزكاة و إيجاب أخذها من قبل الحكومة الحقة و صرفها في مصارفها الثمانية على ما نطق به القرآن، و أما ما فيه الزكاة فالكتاب دلّ عليه بنحو العموم، و تعيينه في الأموال الخاصة مفوض إلى من إليه الحكم في كل صقع و زمان حسب تشخيصه للأموال و الحاجات و لعل موضوعها في الشرائع السالفة أيضا كان مسانخا لعمد ثروتهم في تلك الأعصار.

ثم إن القول بأن اللّه- تعالى- جعل الزكاة أعني العشر و ربع العشر و نحوهما في التسعة المعهودة فقط بشرائطها الخاصة للمصارف الثمانية بسعتها، و جعل الخمس في سبعة أمور منها المعادن بسعتها و أرباح المكاسب بشعبها للإمام و لفقراء بني هاشم

______________________________

(1)- الأموال/ 709.

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 30

فقط بالمناصفة بحيث يصير عشر كل المستفادات لفقراء بني هاشم فقط مع أن زكاة بني هاشم تكفي لأنفسهم إذا لوحظوا بالنسبة إلى سائر الناس و هم يستفيدون أيضا مما صرف في سبل الخير و المشاريع العامة، يوجب هذا القول القول بعدم إحاطة اللّه تعالى- نعوذ باللّه- بأعداد الناس و احصائياتهم و حاجاتهم، و لا يكفي في الفرار من هذا الإشكال ما ورد من أن ما زاد عن بني هاشم يرجع إلى الإمام بعد عدم كون المجعولين في البابين متعادلين و متناسبين في مقام الجعل و التشريع، فتدبّر. هذا.

و مقتضى ما احتملناه أن تصير الماليات المفروضة من قبل الحكومة الحقة في كل عصر و زمان على أموال الناس حسب الاحتياجات العارضة مصداقا للزكاة و منصبغة بصبغتها. و لو أبيت ذلك و ثقل عليك تسليمه فلا محالة يلتزم بذلك فيما إذا فرضها الوالي في الموارد التي استحبّت فيها الزكاة و ندب إليها، و هي أيضا كثيرة أنهيناها في المجلد الثاني من كتاب الزكاة الى اثني عشر موردا:

الأول: مال التجارة مع بقاء رأس المال طول الحول.

الثاني: كل ما يكال أو يوزن مما تنبت الأرض.

الثالث: الخيل الإناث.

الرابع: حاصل المساكن و البساتين و الدكاكين و الحمامات و الخانات و غيرها من الأبنية و العقارات التي لها عوائد.

الخامس: الحليّ، و زكاته إعارته.

السادس: المال الغائب أو المدفون بعد ما تمكن منهما، فيزكّى لسنة واحدة على ما قالوا.

السابع: ما تصرّف فيه بالمعاوضة في أثناء الحول بقصد الفرار من الزكاة.

الثامن: الغلّات الأربع من غير البالغ.

التاسع: مال التجارة إذا لم يطلب في الحول برأس المال أو بزيادة.

العاشر: الإبل العوامل و معلوفتها.

الحادي عشر: الرقيق.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 31

الثاني عشر: الحلي المحرم لبسه، مثل حليّ النساء للرجال و بالعكس.

و تفصيل شرائط الزكاة و مقدارها و الدليل عليها في هذه الأمور يطلب من الكتاب المذكور و غيره، فراجع. «1»

فيقال: إن الزكاة في هذه الأمور و إن كانت بحسب الجعل الشرعي مندوبة و لكن للحاكم في كل عصر أن يفرضها حسب الاحتياج، كما صنع أمير المؤمنين «ع» في الخيل على ما نطقت به الأخبار. «2» هذا.

و لكن الإنصاف أن ما بيناه و حررناه و إن كان موافقا للاعتبار و لكنه ليس في الحقيقة جمعا بين أخبار الباب بل طرحا لكثير منها فلا بد لرفع المعضلة من إبداء فكر آخر.

و يمكن بيان حلّ المعضلة بتعبير آخر، و هو أن أخبار التعميم مضافا إلى كونها أكثر و فيها الصحاح و الحسان لما كانت موافقة لعمومات الكتاب و لما دلت على مصالح التشريع و حكمه من سدّ جميع الخلّات فلأجل ذلك تقدّم على أخبار التخصيص بالتسعة، فتطرح أخبار الحصر أو تحمل على ما مرّ من إرادة الأئمة «ع» تضعيف الدول و الحكومات الجائرة بسدّ منابعهم المالية، و لا نسلّم كون الشهرة الفتوائية مرجحة مطلقا حتى مع وجود عمومات الكتاب و مع وضوح مبنى فتواهم، فتدبّر. هذا.

و سيجي ء في الفصل التالي احتمال كون فعلية خمس الأرباح مجعولة من قبل أئمتنا «ع» لجبران ما ذكرنا من وجوب كون المالية المفروضة متطورة بتطور الأصقاع و الأزمنة و مناسبة للمصارف و الحاجات الطارية في كل صقع و عصر، و على هذا فيكون خمس الأرباح بمنزلة المتمم للزكاة التي فرضت في أشياء خاصة بل لا نأبى من تسميته زكاة أيضا كما عرفت، و لا نسلّم تقسيمه بين الإمام

و بني هاشم و إن قيل بذلك في سائر أقسام الخمس و سيأتي تفصيل ذلك، و لعله بذلك يرتفع الإشكال و المعضلة، فافهم.

______________________________

(1)- كتاب الزكاة 2/ 181- 284.

(2)- الوسائل 6/ 51، الباب 16 من أبواب ما تجب فيه الزكاة و ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 32

الجهة الثالثة: في أن الزكاة تكون تحت اختيار الإمام:

اعلم أن الزكاة على ما يظهر من بيان مصارفها في الكتاب العزيز لم تكن تختص بالفقراء و المساكين فقط و لم تكن تحت اختيار الأشخاص يضعونها حيث شاءوا، بل شرّعت لسدّ جميع الخلّات التي تحدث في المجتمع، و بقرينة ذكر العاملين عليها و المؤلّفة قلوبهم في عداد مصارفها يظهر أنها ميزانية إسلامية تقع تحت اختيار الحكومة الإسلامية، و يكون الحاكم هو الذي يتصدّى لأخذها و صرفها في مصارفها.

و يشهد لذلك أيضا قوله- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً» «1»، حيث إن النبي «ص» بما أنه كان حاكما على المسلمين أمر بأخذها، و هكذا كان عمله و عليه استقرت سيرته و سيرة الخلفاء من بعده فكانوا يبعثون العمال و الجباة و يطالبونها. و الأخبار الدالة على هذا المعنى في غاية الكثرة:

1- ففي صحيحة زرارة و محمد بن مسلم أنهما قالا لأبي عبد اللّه «ع»: أ رأيت قول اللّه- تبارك و تعالى-: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ» «2» أكل هؤلاء يعطى و إن كان لا يعرف؟ فقال «ع»: «إن الإمام يعطي هؤلاء جميعا لأنهم يقرّون له بالطاعة.» قال زرارة:

قلت: فإن كانوا لا يعرفون؟ فقال: «يا زرارة، لو كان يعطى من يعرف دون من لا يعرف

لم يوجد لها موضع، و إنما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه. فأما اليوم فلا تعطها أنت

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 33

و أصحابك إلا من يعرف. الحديث.» «1»

يظهر من هذه الصحيحة أن الزكاة بحسب التشريع الأولي تكون في تصرف الإمام و هو يسدّ بها خلّات من يكون تحت لوائه و حكمه، عارفا كان أو غير عارف.

و لكن لما تصدى للحكومة غير أهلها و كانت الزكوات تصرف في غير مصارفها و كان الشيعة يبقون محرومين أمر الإمام «ع» بإعطاء الشيعة زكواتهم للعارفين بحقهم. فهذا حكم موقّت منه «ع» و إجازة موقتة.

2- و في خبر علي بن إبراهيم في تفسيره، عن العالم «ع»: «و الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي عنهم و يفكّهم من مال الصدقات. و في سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجون به، أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج و الجهاد. و ابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب ما لهم، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.» «2»

3- و في خبر صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«أيما مؤمن أو مسلم مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف فعلى الإمام أن يقضيه فإن لم يقضه فعليه إثم ذلك،

إن اللّه- تبارك و تعالى- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ. الآية.» فهو من الغارمين، و له سهم عند الإمام فإن حبسه فإثمه عليه.» «3»

4- و في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح «ع»، قال: «و الأرضون التي أخذت عنوة ... فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، و نصف العشر مما سقي بالدوالي و النواضح، فأخذه الوالي فوجّهه في الجهة التي وجّهها اللّه على ثمانية أسهم: لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 143، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.

(3)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرّعيّة و ...، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 34

وَ ابْنِ السَّبِيلِ، ثمانية أسهم يقسم بينهم في مواضعهم بقدر ما يستغنون به في سنتهم بلا ضيق و لا تقتير.

فإن فضل من ذلك شي ء ردّ إلى الوالي، و إن نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا. الحديث.» «1»

5- و في خبر أبي علي بن راشد، قال: «سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال:

للإمام. قال: قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم، من أردت أن تطهره منهم.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال، و هي كثيرة مرّ بعضها في الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع. «3»

قال الشيخ المفيد في الزكاة من المقنعة:

«باب وجوب إخراج الزكاة إلى الإمام: قال اللّه- عزّ

و جلّ-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللّٰهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» فأمر نبيه بأخذ صدقاتهم تطهيرا لهم بها من ذنوبهم، و فرض على الأمة حملها إليه بفرضه عليها طاعته و نهيه لها من خلافه. و الإمام قائم مقام النبي «ص» فيما فرض عليه من إقامة الحدود و الأحكام لأنه مخاطب بخطابه في ذلك على ما بيّنّاه فيما سلف و قدمناه، فلما وجد النبي «ص» كان الفرض حمل الزكاة إليه، و لما غابت عينه من العالم بوفاته صار الفرض حمل الزكاة إلى خليفته. فإذا غاب الخليفة كان الفرض حملها إلى من نصبه من خاصته لشيعته، فإذا عدم السفراء بينه و بين رعيته وجب حملها إلى الفقهاء المأمونين من أهل ولايته لأن الفقيه أعرف بموضعها ممن لا فقه له في ديانته.» «4» هذا.

أقول: و كان يترقب في بحث الزكاة بيان مصارفها الثمانية أيضا، و لكن رأينا أن البحث المختصر لا يقنع و التفصيل لا يناسب هذا الكتاب، فنحيل القرّاء الكرام إلى

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 184، الباب 28 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 240، الباب 9 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 2.

(3)- راجع 1/ 98 و ما بعدها من الكتاب.

(4)- المقنعة/ 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 35

الكتب الموسوعة المؤلفة في فقه الزكاة، و لنقتصر هنا على ذكر الآية الشريفة و رواية جامعة في هذا الباب:

قال اللّه- تعالى- في سورة التوبة: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقٰابِ وَ الْغٰارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ، فَرِيضَةً مِنَ اللّٰهِ وَ اللّٰهُ عَلِيمٌ

حَكِيمٌ.» «1»

و في الوسائل عن الشيخ بإسناده، عن علي بن إبراهيم أنه ذكر في تفسيره تفصيل هذه الثمانية الأصناف فقال: «فسّر العالم «ع» فقال:

الفقراء هم الذين لا يسألون و عليهم مئونات من عيالهم، و الدليل على أنهم هم الذين لا يسألون قول اللّه- تعالى-: «لِلْفُقَرٰاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ لٰا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجٰاهِلُ أَغْنِيٰاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمٰاهُمْ لٰا يَسْئَلُونَ النّٰاسَ إِلْحٰافاً.» «2»

و المساكين هم أهل الزمانات، و قد دخل فيهم الرجال و النساء و الصبيان.

و العاملين عليها هم السعاة و الجباة في أخذها و جمعها و حفظها حتى يؤدوها إلى من يقسمها.

و المؤلفة قلوبهم قال: هم قوم وحّدوا اللّه و خلعوا عبادة من دون اللّه و لم يدخل المعرفة قلوبهم أن محمدا رسول اللّه «ص»، و كان رسول اللّه «ص» يتألفهم و يعلّمهم و يعرّفهم كيما يعرفوا فجعل لهم نصيبا في الصدقات لكي يعرفوا و يرغبوا.

وَ فِي الرِّقٰابِ قوم لزمتهم كفارات في قتل الخطأ و في الظهار و في الأيمان و في قتل الصيد في الحرم، و ليس عندهم ما يكفّرون و هم مؤمنون، فجعل اللّه لهم سهما في الصدقات ليكفر عنهم.

و الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي عنهم و يفكّهم من مال الصدقات.

و في سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد و ليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 60.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 273.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 36

عندهم ما يحجّون به أو في جميع سبل الخير، فعلى الإمام أن يعطيهم من مال

الصدقات حتى يقووا على الحج و الجهاد.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم، فعلى الإمام أن يردّهم إلى أوطانهم من مال الصدقات.» و عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق «ع» نحوه «1»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 37

الجهة الرابعة: في الصدقات المندوبة و الأوقاف العامة:

هذا كله في الزكاة، و أما الصدقات المندوبة فلا نصاب لها و لا حدّ، و موضوعها جميع الأموال و الطاقات، فهي منبع غنيّ عامّ لسدّ الخلّات و الحاجات، و قد حثّ عليها الكتاب و السنة بنحو عامّ بحيث يتشوق إليها كل من كان له قلب أو ألقى السمع، و لو كانت الحكومات صالحة عادلة و الحكام عقلاء متشابكين مع الأمة و واجهوا الناس بالصداقة و الرحمة لتطايرت قلوب الناس إليهم و آثروهم على أنفسهم بالأموال و الطاقات. و ما ينفقه الإنسان بطوعه و رغبته أولى و أهنأ مما يؤخذ منه جبرا عليه.

و من أوفر الصدقات و أكثرها نفعا و عائدة الأوقاف و المشاريع العامة، فلو كان للحكومة سياسة و كفاية لأوجدت للأوقاف العامّة نظاما صحيحا صالحا، بحيث لا يقع فيها التفريط و لا تصل إليها أيدي الغاصبين، فتكثر عوائدها و يرتفع ببركتها كثير من الحاجات و الخلّات في المجالات المختلفة، هذا.

و الآيات و الروايات الواردة في الإنفاق و الصدقات في غاية الكثرة، فلنذكر بعضا منها نموذجا:

1- قال اللّه- تعالى- في سورة البقرة: «مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنٰابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ، وَ اللّٰهُ يُضٰاعِفُ لِمَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ.» «1»

2- و

قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبٰاتِ مٰا كَسَبْتُمْ وَ مِمّٰا أَخْرَجْنٰا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 261.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 38

وَ لٰا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلّٰا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ، وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ.» «1»

و الموصول عام، و عمومه بعموم صلته، فالآية تشمل جميع عوائد الإنسان كما هو ظاهر.

3- و قال: «وَ مٰا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللّٰهَ يَعْلَمُهُ وَ مٰا لِلظّٰالِمِينَ مِنْ أَنْصٰارٍ.» «2»

فقد وردت في هذه السورة أربع عشرة آية متتالية في الحث على الإنفاق في سبيل اللّه و الإخلاص فيه و أنحائه، و من تلا الآيات بالتفات و توجّه أعجب أمر الإنفاق في سبيل اللّه و تاقت إليه نفسه قهرا، فتدبّر.

و قد تعرض في أول هذه الآيات لمضاعفة ما ينفقه الإنسان في سبيل اللّه سبعمائة مرّة، و ذكر بعد آيات الإنفاق بلا فصل آيات الربا الذي يتصوره الناس زيادة المال، و من جملتها قوله: «يَمْحَقُ اللّٰهُ الرِّبٰا وَ يُرْبِي الصَّدَقٰاتِ.» «3» فهو- تعالى- قابل بين الإنفاق الذي يراه الناس غرما و الربا الذي يرونه زيادة، و وعد بمضاعفة الأول أضعافا مضاعفة و محق الثاني الذي يرونه زيادة، و هذا من أحسن التعبيرات و أوقع البواعث في نفوس أهل المعرفة باللّه- تعالى-، فتدبّر.

4- و في سورة البقرة أيضا: «وَ يَسْئَلُونَكَ مٰا ذٰا يُنْفِقُونَ، قُلِ الْعَفْوَ.» «4»

قال في المجمع:

«فيه أقوال: أحدها: أنه ما فضل عن الأهل و العيال أو الفضل عن الغنى، عن ابن عباس و قتادة. و ثانيها: أن العفو الوسط من غير اسراف و لا اقتار، عن الحسن و عطاء و هو

المروي عن أبي عبد اللّه «ع». و ثالثها: أن العفو ما فضل عن قوت السنة، عن أبي جعفر الباقر «ع». قال و نسخ ذلك بآية الزكاة، و به قال السدّي. و رابعها: أن

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 267.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 270.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 276.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 219.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 39

العفو أطيب المال و أفضله.» «1»

5- و في سورة آل عمران: «لَنْ تَنٰالُوا الْبِرَّ حَتّٰى تُنْفِقُوا مِمّٰا تُحِبُّونَ، وَ مٰا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللّٰهَ بِهِ عَلِيمٌ.» «2»

6- و في سورة التوبة: «أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبٰادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقٰاتِ وَ أَنَّ اللّٰهَ هُوَ التَّوّٰابُ الرَّحِيمُ.» «3»

7- و في سورة الحديد: «آمِنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمّٰا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ.» «4»

إلى غير ذلك من آيات الكتاب الكريم.

8- و في الوسائل بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الصدقة تدفع ميتة السوء.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «تصدّقوا فإن الصدقة تزيد في المال كثرة، فتصدقوا رحمكم اللّه.» «6»

10- و فيه أيضا بإسناده، عن الرضا «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «التوحيد نصف الدين، و استنزلوا الرزق بالصدقة.» «7»

11- و فيه أيضا بسنده، عن الرضا «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال النبي «ص»:

______________________________

(1)- مجمع البيان 1/ 316، (الجزء 2).

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 92.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 104.

(4)- سورة الحديد (57)، الآية 7.

(5)- الوسائل 6/ 255،

الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 2.

(6)- الوسائل 6/ 257، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 8.

(7)- الوسائل 6/ 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 40

«خير مال المرء و ذخائره الصدقة». «1»

12- و فيه أيضا بسنده، عن الحسين بن علوان، عن جعفر، عن أبيه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «داووا مرضاكم بالصدقة.» «2»

13- و فيه أيضا بسنده، عن أبي جعفر «ع»، قال: «البرّ و الصدقة ينفيان الفقر و يزيدان في العمر و يدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة السوء.» «3»

14- و فيه أيضا بسنده، عن عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»:

«داووا مرضاكم بالصدقة و ادفعوا البلاء بالدعاء، و استنزلوا الرزق بالصدقة، فإنها تفكّ من بين لحى سبعمائة شيطان.» «4»

و نحو ذلك أخبار أخر أيضا، فراجع.

15- و في تفسير العياشي، عن أبان بن تغلب، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»:

«أ ترى اللّه أعطى من أعطى من كرامته عليه، و منع من منع من هوان به عليه؟ لا، و لكن المال مال اللّه يضعه عند الرجل ودائع، و جوّز لهم أن يأكلوا قصدا، و يشربوا قصدا، و يلبسوا قصدا، و ينكحوا قصدا، و يركبوا قصدا، و يعودوا بما سوى ذلك على فقراء المؤمنين و يلمّوا به شعثهم، فمن فعل ذلك كان ما يأكل حلالا و يشرب حلالا و يركب حلالا و ينكح حلالا، و من عدا ذلك كان عليه حراما. ثم قال: «وَ لٰا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.» أ ترى اللّه ائتمن رجلا على مال خوّل له أن يشتري فرسا بعشرة آلاف درهم و يجزيه فرس بعشرين درهما، و يشتري

جارية بألف دينار و يجزيه جارية بعشرين دينارا و قال: وَ لٰا تُسْرِفُوا، إِنَّهُ لٰا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ.»؟! «5»

16- و في الوسائل بسند صحيح، عن عبد الأعلى، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 14.

(2)- الوسائل 6/ 258، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 18.

(3)- الوسائل 6/ 255، الباب 1 من أبواب الصدقة، الحديث 4.

(4)- الوسائل 6/ 260، الباب 3 من أبواب الصدقة، الحديث 1.

(5)- تفسير العياشى 2/ 13؛ و الميزان- عنه- 8/ 93.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 41

قال رسول اللّه «ص»: «كل معروف صدقة.» «1»

17- و فيه أيضا بسند صحيح، عن معاوية بن وهب، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «كل معروف صدقة.» «2»

18- و فيه أيضا بسنده، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، و سنة هدى سنّها فهي يعمل بها بعد موته، و ولد صالح يدعو له.» «3»

و نحو ذلك أخبار أخر أيضا، فراجع. «4»

19- و فيه أيضا بسنده، عن أيوب بن عطية، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «قسّم رسول اللّه «ص» الفي ء فأصاب عليا «ع» أرض، فاحتفر فيها عينا فخرج منها ماء ينبع في السماء كهيئة عنق البعير فسمّاها عين ينبع، فجاء البشير، يبشّره، فقال: بشّر الوارث، بشّر الوارث، هي صدقة بتّا بتلا في حجيج بيت اللّه و عابر سبيله، لا تباع و لا توهب و لا تورث، فمن باعها أو وهبها فعليه لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين، لا

يقبل اللّه منه صرفا و لا عدلا.» «5»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في صدقات رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين و فاطمة و الأئمة- عليهم السلام-. «6»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 2.

(3)- الوسائل 13/ 292، الباب 1 من كتاب الوقوف و الصدقات، الحديث 1.

(4)- الوسائل 13/ 292، و ما بعدها، الباب 1 من كتاب الوقوف و الصدقات.

(5)- الوسائل 13/ 303، الباب 6 من كتاب الوقوف و الصدقات، الحديث 2.

(6)- راجع الوسائل ج 13، كتاب الوقوف و الصدقات.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 43

الفصل الثاني في الخمس

اشارة

و فيه أيضا جهات من البحث:

الجهة الأولى: في بيان مفهوم الخمس و تشريعه:

[الخمس لغة]

قال في المقاييس:

«و الخمس: واحد من خمسة. يقال: خمست القوم: أخذت خمس أموالهم أخمسهم.» «1»

و في لسان العرب:

«و الخمس و الخمس و الخمس: جزء من خمسة، يطّرد ذلك في جميع هذه الكسور عند بعضهم، و الجمع أخماس. و الخمس: أخذك واحدا من خمسة، تقول: خمست

______________________________

(1)- معجم مقاييس اللغة 2/ 217.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 44

مال فلان و خمسهم يخمسهم بالضم خمسا: أخذ خمس أموالهم ... و في حديث عديّ بن حاتم: ربعت في الجاهلية و خمست في الإسلام، يعني قدت الجيش في الحالين، لأن الأمير في الجاهلية كان يأخذ الربع من الغنيمة و جاء الإسلام فجعله الخمس و جعل له مصارف.» «1»

و ذكر نحو ذلك ابن الاثير في النهاية. «2»

و هذا مما يؤيد ما سنذكره من كون الخمس حق الإمارة و كونه حقا وحدانيا تحت اختيار الحاكم. هذا بحسب اللغة.

و أمّا شرعا

فالخمس ضريبة مالية تعادل واحدا من خمسة جعلها في الشرع على أمور يأتي بيانها. و كونه حقيقة شرعية ممنوع بل اللفظ استعمل بمعناها اللغوي.

[آية الخمس]

و ثبوت الخمس إجمالا من ضروريات الإسلام، و يدل عليه الكتاب و السنّة و الإجماع:

قال اللّه- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللّٰهِ وَ مٰا أَنْزَلْنٰا عَلىٰ عَبْدِنٰا يَوْمَ الْفُرْقٰانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعٰانِ وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.» «3»

صدّر- سبحانه و تعالى- كلامه بالبعث على العلم اهتماما بالحكم المذكور في الآية، و أكّده بالإتيان بحرف التأكيد، و علّقه على الموصول الذي هو من المبهمات و يدل على العموم بعموم صلته، و فسّره بمبهم آخر للدلالة على التعميم، فكل ما انطبق عليه مفهوم الصلة و صدق عليه لفظ الشي ء فهو موضوع لهذا الحكم.

و اختلفت كلمات أهل اللغة في معنى الغنم بمشتقاته، فيظهر من بعضها اختصاصها بما أصيب به بالحرب، و من بعضها عمومها لكل ما يستفيده الإنسان و يفوز به من الأموال، و الظاهر أن المراد بها ما يفوز به الإنسان من غير مشقة،

______________________________

(1)- لسان العرب 6/ 70.

(2)- النهاية 2/ 79.

(3)- سورة الأنفال (8)، الآية 41.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 45

فتكون في الحقيقة نعمة غير مترقبة، سواء أصيب به بالحرب أم بغيرها، فيكون إطلاق الكلمة على غنائم الحرب من باب إطلاق المطلق على أظهر أفراده:

قال في المقاييس:

«الغين و النون و الميم أصل صحيح واحد يدلّ على إفادة شي ء لم يملك من قبل، ثم يختص به ما أخذ من مال المشركين بقهر و غلبة.» «1»

أقول: لعل قوله:

«يختص به» يراد به غلبة إطلاقه عليه لا الاختصاص بنحو يهجر إطلاقه على المطلق.

و في القاموس:

«و المغنم و الغنيم و الغنيمة و الغنم بالضم: الفي ء ... و الفوز بالشي ء بلا مشقة.» «2»

و في النهاية:

«قد تكرر فيه ذكر الغنيمة و الغنم و المغنم و الغنائم، و هو ما أصيب من أموال أهل الحرب و أوجف عليه المسلمون بالخيل و الركاب ... و منه الحديث: «الصوم في الشتاء الغنيمة الباردة.» إنما سماه غنيمة لما فيه من الأجر و الثواب، و منه الحديث:

«الرهن لمن رهنه، له غنمه و عليه غرمه.» «3»

أقول: ما رواه من الحديثين يشهدان بأن مفهوم اللفظ أعمّ من غنائم الحرب، كما لا يخفى.

و في لسان العرب:

«و الغنم: الفوز بالشي ء من غير مشقة، و الاغتنام: انتهاز الغنم، و الغنم و الغنيمة و المغنم: الفي ء.» «4»

و عن خليل بن أحمد في عين اللغة:

______________________________

(1)- معجم مقاييس اللغة 4/ 397.

(2)- قاموس اللغة/ 783.

(3)- النهاية لابن الأثير 3/ 389.

(4)- لسان العرب 12/ 445.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 46

«الغنم هو الفوز بالشي ء من غير (في غير خ. ل) مشقة.» «1»

و في مفردات الراغب:

«الغنم معروف، قال: وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا، و الغنم: إصابته و الظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى و غيرهم.» «2»

أقول: و الظاهر أنه أحسن ما قيل في المقام. و ربما قيل:

«الغنم ما يناله الإنسان و يظفر به من غير مقابل يبذله في سبيله، ضدّ الغرم و هو ما يتحمله الإنسان من خسر و ضرر بغير خيانة و جناية.»

و لا يصدق الغنم على كل ما يظفر به الإنسان و إن كان بتبديل ماله به

بلا حصول فائدة، فلا محالة يعتبر في صدقه خصوصية، و الظاهر أن الخصوصية التي أشربت في معناه هو المجانية و عدم الترقب، فهو عبارة عما ظفر به الإنسان بلا توقع لحصوله و تصدّ مستقيم لتحصيله، و بعبارة أخرى: النعمة غير المترقبة.

فما يتصدى الإنسان لتحصيله في الحروب هو خذلان العدوّ و الغلبة عليه، لا اغتنام الأموال، فهو نعمة غير مترقبة، و كذلك ما يحصل بالظفر بالكنز و المعدن و بالغوص نعم غير مترقبة بحسب العادة قد تحصل و قد لا تحصل. و ما يتصدى الإنسان لتحصيله في مكاسبه و حرفه اليومية بحسب العادة هو ما يعيش به و يرفع به حاجاته اليومية، فالزائد على ذلك نعمة غير مترقبة، و لذا قلنا في باب أرباح المكاسب إن مقدار المؤونة اليومية خارج تخصّصا لا تخصيصا.

و كيف كان فالظاهر أنه لم يؤخذ في مفهوم الغنم خصوصية الحرب و القتال كما يعرف ذلك بملاحظة ضده أعني الغرم. و الغنيمة و المغنم أيضا من مشتقاته، فلا تختصان بمغانم الحرب. و لو سلّم ذلك فيهما بسبب كثرة الاستعمال فلا نسلّم ظهور الفعل في ذلك، فالآية تشمل بإطلاقها غنائم الحرب و غيرها. و وقوع الآية في سياق آيات غزوة البدر لا يوجب التخصيص، إذ المورد غير مخصص و إلا لوجب اختصاص

______________________________

(1)- عين اللغة 4/ 426.

(2)- مفردات الراغب/ 378.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 47

الخمس بغنائم بدر فقط، و لا مانع من أن يصير مورد خاص موجبا لنزول حكم كلي يشمله بعمومه و إطلاقه، بل هو المتعارف في آيات الكتاب العزيز.

و بالجملة، فالآية الشريفة بعمومها تشمل المعادن و الكنوز و الغوص و أرباح المكاسب بل و الهبات و

الجوائز أيضا، و قد نطقت بهذا العموم الأخبار المستفيضة الواردة في تفسيرها في الأبواب المختلفة:

1- ففي حديث وصايا النبي «ص» لعلي «ع»: «يا علي، إن عبد المطلب سنّ في الجاهلية خمس سنن أجراها اللّه له في الإسلام. (إلى أن قال:) و وجد كنزا فأخرج منه الخمس و تصدق به فأنزل اللّه: و اعلموا أنما غنمتم من شي ء فأنّ للّه خمسه. الآية.» «1»

2- و في صحيحة علي بن مهزيار الطويلة، عن أبي جعفر الثاني «ع»: «فأما الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام، قال اللّه- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ. الآية». فالغنائم و الفوائد- يرحمك اللّه- فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، و الميراث الذي لا يحتسب ...» «2»

3- و في رواية حكيم مؤذن بني عيس، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له:

«وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ»؟ قال: «هي و اللّه الإفادة يوما بيوم إلا أن أبي جعل شيعتنا من ذلك في حلّ ليزكوا.» «3»

4- و في باب الغنائم و الخمس من فقه الرضا:

«و قال- جلّ و علا-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ» ... و كل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز و المعادن و الغوص و مال الفي ء الذي لم يختلف فيه و هو ما ادعي فيه الرخصة، و هو ربح التجارة، و غلّة

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 50- 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس،

الحديث 5.

(3)- الوسائل 6/ 381، الباب 4 من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 48

الضيعة و سائر الفوائد، من المكاسب و الصناعات و المواريث و غيرها، لأن الجميع غنيمة و فائدة من رزق اللّه- تعالى-، فإنه روي أن الخمس على الخيّاط من إبرته و الصانع من صناعته، فعلى كل من غنم من هذه الوجوه مالا فعليه الخمس.» «1»

أقول: قوله: «و هو ربح التجارة» الظاهر زيادة الضمير فيه كما لا يخفى.

و قال المحقق في المعتبر بعد ذكر الآية الشريفة:

«و الغنيمة اسم للفائدة، و كما يتناول هذا اللفظ غنيمة دار الحرب بإطلاقه يتناول غيرها من الفوائد.» «2»

و المحقق «ره» مضافا إلى كونه فقيها عرب أصيل عارف بلغة العرب.

أقول: و يمكن أن يحمل على ذلك أيضا صحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ليس الخمس إلّا في الغنائم خاصة.» «3»

فتحمل الغنائم فيها على المعنى الأعم لا خصوص غنائم الحرب، و يكون الحصر في قبال ما يملكه الإنسان بالاشتراء و نحوه بلا ربح، بل و الأرباح بمقدار تصرف في مئونة السنة أيضا، بناء على ما أشرنا إليه من عدم صدق الغنيمة عليه و كون خروجها تخصصا لا تخصيصا. هذا.

و يحتمل في الصحيحة أن يكون الحصر فيها بالإضافة إلى الفي ء و الأنفال، و محطّ النظر فيها خصوص ما يصل إلى المسلمين من أموال الكفّار، فيكون المراد أن ما يصل إليهم من أموال الكفّار لا تخمس إلا الغنائم التي تقسم بين المقاتلين، و أما الفي ء و الأنفال فكلّها للإمام و لا خمس فيها خلافا لما عن الشافعي و غيره من ثبوت الخمس في الفي ء

أيضا كما يأتي في محلّه.

و أما الخمس في الحلال المختلط بالحرام و الأرض التي اشتراها الذمي فسيأتي

______________________________

(1)- فقه الرضا/ 293.

(2)- المعتبر/ 293.

(3)- الوسائل 6/ 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 49

منّا المناقشة في كونهما من الخمس المصطلح، و الصحيحة ناظرة إلى الخمس المصطلح. هذا.

و قد يقال:

«إنه قد ورد أن رسول اللّه «ص» قسّم أموال غزوة أهل بدر بسير على أميال من بدر.» «1»

و ظاهره تقسيم الجميع.

و روي عن ابن عباس و ابن الزبير و زيد بن ثابت أن سورة الأنفال نزلت بالمدينة. «2»

و عن عبادة بن الصامت قال:

«سلمنا الأنفال للّه و رسوله، و لم يخمّس رسول اللّه «ص» بدرا و نزلت بعد: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ» فاستقبل رسول اللّه «ص» بالمسلمين الخمس فيما كان من كل غنيمة بعد بدر.» «3»

و عن أبي عبيد:

«لم يخمّس رسول اللّه «ص» غنائم بدر.» «4»

و في تفسير علي بن إبراهيم:

«فلم يخمّس رسول اللّه «ص» ببدر و قسّمه بين أصحابه ثم استقبل يأخذ الخمس بعد بدر.» «5»

فيظهر بذلك كله عدم كون غنائم بدر موردا لآية الخمس.

أقول: يرد على ذلك أولا: أن ظاهر آية الخمس كونها نازلة في بدر و في يوم

______________________________

(1)- الأمّ للشافعيّ 4/ 65، تفريق القسم فيما أوجف عليه الخيل و الركاب؛ و سيرة ابن هشام 2/ 297.

(2)- الدّر المنثور 3/ 158.

(3)- الدّر المنثور 3/ 187.

(4)- تفسير القرطبي 8/ 9.

(5)- تفسير عليّ بن إبراهيم (القمّى) 1/ 235، في تفسير سورة الأنفال (ط. أخرى 1/ 255).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 50

حادثته، لأنه المراد

بيوم الفرقان يوم التقى الجمعان في الآية الشريفة كما وردت به أخبار، اللهم إلا أن يقال إن قوله: و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان إشارة إلى نزول آية الأنفال لا آية الخمس.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 50

و ثانيا: أن ما ذكر من الأخبار أخبار آحاد عارضها أخبار أخر:

فعن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة الأنفال؟ قال: «نزلت في بدر.» «1»

و ظاهرها تمام السورة.

و عن أمير المؤمنين «ع» قال: «كان لي شارف من نصيبي من المغنم يوم بدر، و كان رسول اللّه «ص» أعطاني شارفا من الخمس يومئذ.» «2»

أقول: الشارف: الناقة المسنة.

و في الرسالة المنسوبة إلى الإمام الصادق «ع» بعد ذكر نزول آية الأنفال في بدر قال: «فلما قدم رسول اللّه «ص» المدينة أنزل اللّه عليه: «و اعلموا أنما غنمتم ... فخمّس رسول اللّه «ص» الغنيمة التي قبض بخمسة أسهم فقبض سهم اللّه لنفسه ... فهذا يوم بدر و هذا سبيل الغنائم التي أخذت بالسيف ...» «3» و ظاهره تخميس غنيمة بدر.

و ثالثا: لعل عدم تخميس النبي «ص» لغنائم بدر على فرض صحته كان من جهة عدم الاحتياج إليه و عدم وجود مصرفه في ذلك اليوم، و لكن اللّه- تعالى- أراد بإنزال الآية الشريفة تفهيمهم بأن الخمس ثابت بحسب التشريع لئلا يتوقع المقاتلون في الوقائع الآتية تقسيم جميع الغنيمة.

و رابعا: أن عدم تخميس مغانم بدر لا يدل على عدم ثبوت الخمس في سائر مغانم الحروب، فتدبّر.

______________________________

(1)- الدّر المنثور 3/ 158.

(2)- تفسير القرطبي 8/ 9، عن

مسلم في صحيحه.

(3)- تحف العقول/ 341.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 51

الجهة الثانية: فيما يجب فيه الخمس:

اشارة

قال المحقق في خمس الشرائع:

«فيما يجب فيه، و هو سبعة: الأول: غنائم دار الحرب مما حواه العسكر و ما لم يحوه من أرض و غيرها، ما لم يكن غصبا من مسلم أو معاهد، قليلا كان أو كثيرا.

الثاني: المعادن، سواء كانت منطبعة كالذهب و الفضة و الرصاص، أو غير منطبعة كالياقوت و الزبرجد و الكحل، أو مائعة كالقير و النفط و الكبريت ...

الثالث: الكنوز، و هو كل مال مذخور تحت الأرض ...

الرابع: كل ما يخرج من البحر بالغوص كالجواهر و الدرر ...

الخامس: ما يفضل عن مئونة السنة له و لعياله من أرباح التجارات و الصناعات و الزراعات.

السادس: إذا اشترى الذمّي أرضا من مسلم وجب فيها الخمس ...

السابع: الحلال إذا اختلط بالحرام و لا يتميز وجب فيه الخمس.» «1»

و قال في المدارك:

«هذا الحصر استقرائي مستفاد من تتبع الأدلة الشرعية، و ذكر الشهيد في البيان أن هذه السبعة كلها مندرجة في الغنيمة.» «2»

أقول: إدراج الحلال المختلط بالحرام و الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم في عنوان الغنيمة لا يخلو من إشكال، و لعل الخمس فيهما أيضا سنخ آخر و له مصرف آخر كما

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 179- 181 (طبعة أخرى 1/ 133).

(2)- المدارك/ 335.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 52

سيأتي، و أما الخمسة الأخر فهي مندرجة تحت عنوان الغنيمة و تشملها الآية الشريفة بعمومها كما مرّ، و لا نتقيد بصدق العناوين الخاصة بعد صدق عنوان الغنيمة عليها.

و بالجملة، فموضوع الخمس المصطلح هو أمر واحد تعرّض له الكتاب العزيز، و الملاك في جميع الموارد هو صدق هذا

العنوان أعني قوله: «أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ» بمفهومه العام، فتدبّر.

و تفصيل البحث في الخمس يطلب من الكتب الفقهية، و قد طبع منّا في سالف الزمان أيضا كتاب في الخمس و الأنفال، و إنما نتعرض هنا للموضوعات السبعة بنحو الإجمال فنقول:

الأول: غنائم دار الحرب:

و يدل على ثبوت الخمس فيها إجمالا الكتاب و السنّة و إجماع المسلمين. و قد مرّ البحث في الآية الشريفة إجمالا.

و من السنّة قوله «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان السابقة، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ليس الخمس إلا في الغنائم خاصة.» «1» و المتيقن منها غنائم الحرب.

و خبر أبي بصير، عن أبي جعفر «ع»، قال: «كل شي ء قوتل عليه على شهادة أن لا إله إلا اللّه و أن محمدا رسول اللّه «ص» فإن لنا خمسه ...» «2»

و مرسلة حماد الطويلة، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع»، قال:

«الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص، و من الكنوز، و من المعادن و الملاحة. الحديث.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

(3)- الوسائل 6/ 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 53

إلى غير ذلك من الأخبار و منها صحيحة ربعي الآتية. «1»

و بالجملة ثبوت الخمس إجمالا في غنائم الحرب مما لا إشكال فيه، من غير فرق بين القليل منها و الكثير، فلا يعتبر فيها نصاب.

و ظاهر المشهور ثبوت الخمس حتى في الأراضي التي لا تقسم عندنا بين الغانمين بل تبقى للمسلمين، فقد لاحظت آنفا عبارة الشرائع في الخمس و قال

في الجهاد منه:

«و أما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة و فيه الخمس، و الإمام مخيّر بين إفراز خمسه لأربابه و بين إبقائه و إخراج الخمس من ارتفاعه.» «2»

و قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 18):

«ما لا ينقل و لا يحوّل من الدور و العقارات و الأرضين عندنا إن فيه الخمس، فيكون لأهله و الباقي لجميع المسلمين من حضر القتال و من لم يحضر فيصرف ارتفاعه إلى مصالحهم، و عند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل و يحوّل: خمسه لأهل الخمس و الباقي للمقاتلة الغانمين، و به قال ابن الزبير ...» «3»

و بذلك أفتى الشيخ في النهاية و المبسوط أيضا، فراجع. «4»

و استدل لذلك بعموم الآية و عموم رواية أبي بصير التي مرت. «5»

و خالف في ذلك صاحب الحدائق فقال ما حاصله:

«قد تتبعت ما حضرني من كتب الأخبار فلم أقف فيها على ما يدل على دخول الأرض و نحوها في الغنيمة التي يتعلق بها الخمس.» «6»

ثم ذكر ثلاث طوائف من الأخبار و أراد أن يستنتج منها عدم الخمس فيها:

الأولى: ما وردت في تقسيم الغنيمة، مثل صحيحة ربعي، عن أبي عبد اللّه «ع»،

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.

(2)- الشرائع 1/ 322 (طبعة أخرى/ 245).

(3)- الخلاف 2/ 333.

(4)- النهاية/ 198؛ و المبسوط 1/ 235 و 236.

(5)- الوسائل 6/ 339، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

(6)- الحدائق 12/ 325.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 54

قال: «كان رسول اللّه «ص» إذا أتاه المغنم أخذ صفوه و كان ذلك له ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس و يأخذ خمسه ثم يقسم أربعة أخماس

بين الناس الذين قاتلوا عليه ...» «1»

فمن أمثال هذه الروايات لا يستفاد حكم الأرض قطعا، إذ الأرض لا تقسم بين المقاتلين قطعا، بل لعل المستفاد منه أن الخمس إنما يثبت فيما يقسم.

الثانية: ما دلت على أن الأرض المفتوحة عنوة في ء لجميع المسلمين من وجد و من سيوجد إلى يوم القيامة و أن أمرها إلى الإمام يقبلها أو يعمرها و يصرف حاصلها في مصالح المسلمين.

و الظاهر منها أن ذلك حكم جميع الأرض لا أربعة أخماسها.

الثالثة: ما ورد في بيان عمل النبي «ص» و الإمام بالنسبة إلى الأرض المفتوحة عنوة و منها أرض خيبر، و لم يتعرض في واحدة منها للتخميس مع بيان الزكاة في حاصلها، و لو ثبت الخمس فيها لكان أولى بالذكر لتعلقه برقبة الأرض.

فمن هذه الروايات ما عن الكافي بسنده، عن صفوان و البزنطي، قالا: ذكرنا له الكوفة و ما وضع عليها من الخراج و ما سار فيها أهل بيته، فقال: «من أسلم طوعا تركت أرضه في يده ... و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى، كما صنع رسول اللّه «ص» بخيبر: قبّل سوادها و بياضها، يعني أرضها و نخلها ... و على المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم، الحديث.» «2» و نحوه صحيحة البزنطي، عن الرضا «ع» «3».

أقول: لا يخفى أن الطائفة الأولى لا دلالة لها على المقصود، إذ غاية الأمر قصورها عن إفادة التعميم لا أنها صالحة لتقييد الآية و الرواية، و أما الطائفتان الأخيرتان فدلالتهما واضحة، و هما أخصّ موردا من الآية و الرواية- و إطلاق الخاص مقدم-، بل في المستمسك:

«أن ظاهر النصوص الإشارة إلى الأرض الخارجية الخراجية، فالموضوع نفس

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 356،

الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.

(2) الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(3) الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 55

الأرض، و الحمل على المقدار الزائد على الخمس تجوّز لا قرينة عليه.» «1»

و الحاصل أن الروايات الكثيرة الواردة في بيان حكم أرض الخراج و بيان سيرة النبي «ص» فيها مع كونها في مقام البيان ساكتة عن ثبوت الخمس فيها و هي أخص موردا من الآية و الرواية.

بل لأحد أن يدعي انصراف الآية الشريفة عن مثل الأراضي التي هي في ء لعنوان المسلمين عموما، كما يظهر من تقريرات بحث السيد الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- في الخمس «2»، فإن الخطاب فيها متوجه إلى خصوص من غنم بشخصه أو حضر الحرب و جاهد و اغتنم، و الأراضي ليست غنيمة عائدة إليهم كما هو المفروض، بل هي غنيمة للإسلام و عنوان المسلمين، و ظاهر الخطاب في قوله: «غَنِمْتُمْ» كونه للأشخاص الغانمين لا للحيثيات و العناوين، فتدبّر.

بل يظهر من بعض أن لفظ الغنيمة منصرف إلى خصوص المنقولات، قال الماوردي: «و أما الأموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة.» «3»

هذا مضافا إلى أنه لم يعهد من الخلفاء و من أمير المؤمنين «ع» تخميس أراضي العراق و غيرها من الأراضي التي فتحت عنوة، و لا تخميس خراجها و عوائدها السنوية، و لو كان هذا لبان و أثبته المؤرخون.

و إلى أن الخمس كما يأتي بيانه من الضرائب و الماليات المقررة في الإسلام لمنصب الإمامة و الحكومة الحقة، كما أن الأراضي المفتوحة عنوة أيضا تكون من هذا القبيل و تكون تحت اختيار الحكومة الإسلامية

و إمام المسلمين كما مرّ في خبر صفوان و البزنطي «4».

و لم يعهد في الحكومات المتعارفة جعل الضرائب على الضرائب و الأموال العامة الواقعة تحت اختيار الحكومة و إن اختلفت فيها المصارف و الجهات. و إنما توضع

______________________________

(1)- المستمسك 9/ 444.

(2)- زبدة المقال/ 16.

(3)- الأحكام السلطانية/ 138.

(4)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 56

الضرائب على غنائم الناس و فوائدهم بنفع بيت المال.

و يشهد لذلك قوله «ع» في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح «ع»:

«و ليس في مال الخمس زكاة لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس ... و لذلك لم يكن على مال النبي «ص» و الوالي زكاة.» «1»

و يمكن أن يحمل على ذلك أيضا ما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال: «أحلت يا أبا محمد؟ أما علمت أن الدنيا و الآخرة للإمام يضعها حيث يشاء و يدفعها إلى من يشاء؟ الحديث.» «2»

فيكون المراد أن ما هو ملك للإمام بما أنه إمام أي ما حصل في بيت مال المسلمين لا يتعلق به زكاة، و إلا فيستبعد جدّا عدم تعلق الزكاة بما هو ملك لشخص الإمام «ع» إذا بلغ النصاب المقرر، فإنه «ع» أحد من المكلفين، و عمومات التكليف تشمله، فكما تجب عليه الصلاة في أوقاتها الخمسة فكذلك تتعلق الزكاة بأمواله الشخصية أيضا إذا بلغت النصاب المقرر. هذا.

و في كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي قال:

«و قال بعض الفقهاء: الأرض لا تخمّس لأنها في ء و ليست بغنيمة لأن الغنيمة لا توقف، و الأرض إن شاء الإمام وقفها و إن شاء

قسمها كما يقسم الفي ء فليس في الفي ء خمس و لكنه لجميع المسلمين ...» «3». هذا.

و قد عثرت بعد ما كتبت المسألة على أخبار ربما يستفاد منها تخميس رسول اللّه «ص» لأراضي خيبر أو عوائدها و خيبر كانت مفتوحة عنوة:

ففي سيرة ابن هشام:

«قال ابن إسحاق: و كانت المقاسم على أموال خيبر على الشق و نطاة و الكتيبة، فكانت الشق و نطاة في سهمان المسلمين، و كانت الكتيبة خمس اللّه و سهم

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

(2)- الكافي 1/ 408، كتاب الحجة، باب أنّ الأرض كلّها للإمام، الحديث 4.

(3)- الخراج/ 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 57

النبي «ص» و سهم ذوي القربى و اليتامى و المساكين (و ابن السبيل- الطبري.)

و طعم أزواج النبي «ص» و طعم رجال مشوا بين رسول اللّه «ص» و بين أهل فدك بالصلح ... فأخبرني ابن شهاب أنّ رسول اللّه «ص» افتتح خيبر عنوة بعد القتال و كانت خيبر مما أفاه اللّه- عزّ و جلّ- على رسول اللّه «ص» خمّسها رسول اللّه «ص» و قسمها بين المسلمين.» «1»

و روى صدر الحديث الطبري أيضا «2»، و روى خبر ابن شهاب أبو عبيد أيضا «3».

و لكن يمكن أن يقال: إن الظاهر مما ذكر تقسيم رسول اللّه «ص» نفس أراضي خيبر لا تقسيم عوائدها فقط، فلعل التخميس على فرض صحة الرواية كان ثابتا عند التقسيم لا مطلقا لما عرفت من أنه لم يعهد التخميس في أراضي العراق و نحوها، و لعل الحكم الشرعي في بادي الأمر كان تقسيم الأراضي أيضا أو تخيير الإمام بينه و بين وقفها للمسلمين ثم نسخ بعد ذلك على ما

يشهد به الروايات و العمل كما يأتي.

قال أبو عبيد:

«فقد تواترت الآثار في افتتاح الأرضين عنوة بهذين الحكمين: أما الأول منهما فحكم رسول اللّه «ص» في خيبر و ذلك أنه جعلها غنيمة فخمسها و قسمها ... و أما الحكم الآخر فحكم عمر في السواد و غيره، و ذلك أنه جعله فيئا موقوفا على المسلمين ما تناسلوا و لم يخمّسه، و هو الرأي الذي أشار به عليه علي بن أبي طالب و معاذ بن جبل.» «4»

هذا مضافا إلى أن المستفاد من صحيحة صفوان و البزنطي الماضية و نحوها عدم التقسيم لأراضي خيبر و لم يذكر فيها الخمس أيضا.

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 3/ 363 و 371.

(2)- تاريخ الطبري 3/ 1588 (طبعة ليدن).

(3)- الأموال/ 70.

(4)- الأموال/ 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 58

و في البخاري أيضا بسنده، عن عبد اللّه، قال: «أعطى رسول اللّه «ص» خيبر اليهود أن يعملوها و يزرعوها و لهم شطر ما يخرج منها.» «1»

فليس فيه أيضا اسم من التقسيم و لا الخمس، و لعل إعطاءه «ص» سهما من عوائدها إلى أزواجه و عائلته قد عبّر عنه الأصحاب بالخمس و هما منهم أنه كان من باب التخميس المصطلح، و قد يعبّر عن سهم النبي و سهم ذي القربى في باب الفي ء أيضا بالخمس توهما منهم على وجوب تخميس الفي ء خمسة أسهم حذفا لسهم اللّه.

و يأتي تتمة لذلك في فصل الفي ء و مصرفه، فتدبّر.

فإن قلت: في صحيح مسلم عن رسول اللّه «ص»: «و أيّما قرية عصمت اللّه و رسوله فإن خمسها للّه و لرسوله ثم هي لكم.» «2»

و رواه أحمد أيضا في المسند. «3» و ظاهر الحديث أيضا تقسيم الأرض و تخميسها.

قلت:

يمكن أن يحمل الحديث أيضا على تقسيم الفي ء، فتكون القرية مفتوحة صلحا، أو يراد تقسيم أموال القرية التي حواها العسكر فتخمس و تقسم البقية بين المقاتلين، فتأمّل.

الثاني مما فيه الخمس: المعادن:

من الذهب و الفضة و الرصاص و الصفر و الحديد و الياقوت و الزبرجد و الفيروزج و العقيق و الزيبق و النفط و الكبريت و القير و الملح و نحو ذلك.

و لا إشكال عندنا في تعلق الخمس بها. و يدل على ذلك مضافا إلى عموم الآية

______________________________

(1)- صحيح البخاري 2/ 76، باب مشاركة الذّمي و المشركين في المزارعة.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1376، كتاب الجهاد و السير، باب حكم الفي ء، الحديث 1756.

(3)- مسند أحمد 2/ 317.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 59

الشريفة كما مرّ، الأخبار المستفيضة:

1- كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، قال: سألته عن معادن الذهب و الفضة و الصفر و الحديد و الرصاص، فقال: «عليها الخمس جميعا.» «1»

2- و صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال: سألته عن المعادن ما فيها؟

فقال: «كل ما كان ركازا ففيه الخمس.» و قال: «ما عالجته بمالك ففيه ما أخرج اللّه- سبحانه- منه من حجارته مصفى الخمس.» «2»

3- و صحيحة الحلبي، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الكنز كم فيه؟ قال:

الخمس. و عن المعادن كم فيها؟ قال: الخمس. و عن الرصاص و الصفر و الحديد و ما كان من المعادن كم فيها؟ قال: «يؤخذ منها كما يؤخذ من معادن الذهب و الفضة.» «3»

4- و صحيحة محمد بن مسلم الأخرى، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن الملاحة، فقال: و ما الملاحة؟ فقلت: أرض سبخة مالحة يجتمع فيه الماء فيصير ملحا، فقال: هذا المعدن فيه الخمس.

فقلت: و الكبريت و النّفط يخرج من الأرض؟ قال: فقال: هذا و أشباهه فيه الخمس.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع الوسائل: الباب الثالث مما يجب فيه الخمس.

و وافقنا في المسألة بعض فقهاء السنة أيضا:

ففي زكاة الخلاف (المسألة 137):

«المعادن كلها يجب فيها الخمس من الذهب و الفضة و الحديد و الصفر و النحاس و الرصاص و نحوها مما ينطبع و مما لا ينطبع كالياقوت و الزبرجد و الفيروزج و نحوها،

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 342، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(3)- الوسائل 6/ 342، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

(4)- الوسائل 6/ 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 60

و كذلك القير و الموميا و الملح و الزجاج و غيره.

و قال الشافعي: لا يجب في المعادن شي ء إلّا الذهب و الفضة، فإن فيهما الزكاة، و ما عداهما ليس فيه شي ء، انطبع أو لم ينطبع.

و قال أبو حنيفة: كل ما ينطبع مثل الحديد و الرصاص و الذهب و الفضة ففيه الخمس، و ما لا ينطبع فليس فيه شي ء ...

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا قوله- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ... و روي عن النبي «ص» أنه قال: «في الركاز الخمس» و المعدن ركاز.» «1»

و في خراج أبي يوسف القاضي:

«قال أبو يوسف: في كل ما أصيب من المعادن من قليل أو كثير الخمس، و لو أنّ رجلا أصاب في معدن أقلّ من وزن مأتي درهم فضة أو أقل من وزن

عشرين مثقالا ذهبا فإن فيه الخمس، ليس هذا على موضع الزكاة، إنما هو على موضع الغنائم، و ليس في تراب ذلك شي ء، إنما الخمس في الذهب الخالص و في الفضة الخالصة و الحديد و النحاس و الرصاص ... و ما استخرج من المعادن سوى ذلك من الحجارة مثل الياقوت و الفيروزج و الكحل و الزيبق و الكبريت و المغرة فلا خمس في شي ء من ذلك، إنما ذلك كله بمنزلة الطين و التراب ... قال: و أما الركاز فهو الذهب و الفضة الذي خلقه اللّه- عز و جل- في الأرض يوم خلقت، فيه أيضا الخمس ... قال أبو يوسف: و حدثني عبد اللّه بن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن جده، قال: كان أهل الجاهلية إذا عطب الرجل في قليب جعلوا القليب عقله، و إذا قتلته دابة جعلوها عقله، و إذا قتله معدن جعلوه عقله، فسأل سائل رسول اللّه «ص» عن ذلك. فقال «ص»: «العجماء جبار، و المعدن جبار، و البئر جبار، و في الركاز الخمس.» فقيل له: و ما الركاز؟ يا رسول اللّه! فقال: الذهب و الفضة الذي خلقه اللّه في الأرض يوم خلقت.» «2»

______________________________

(1)- الخلاف 1/ 319.

(2)- الخراج/ 21 و 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 61

أقول: الجبار بالضم: الهدر. و الركاز بالكسر من الركز بمعنى الثبات، فتخصيصه بالذهب و الفضة بلا وجه إلا أن يكونا من باب المثال، و الظاهر أن الركاز بمفهومه يشمل المعدن و الكنز كليهما، بل صدق مفهوم الثبات في المعدن أقوى و أشدّ. و قوله في الحديث: «خلقه اللّه في الأرض يوم خلقت» أيضا ظاهر في المعدن.

و في نهاية ابن الأثير:

«الركاز عند أهل الحجاز

كنوز الجاهلية المدفونة في الأرض، و عند أهل العراق:

المعادن. و القولان تحتملهما اللغة، لأن كلا منهما مركوز في الأرض، أي ثابت» «1»

و في كتاب الأموال لأبي عبيد:

«و قد اختلف الناس في معنى الركاز: فقال أهل العراق: هو المعدن و المال المدفون كلاهما، و في كل واحد منهما الخمس. و قال أهل الحجاز: الركاز هو المال المدفون خاصة، و هو الذي فيه الخمس. قالوا: فأما المعدن فليس بركاز و لا خمس فيه، إنما فيه الزكاة فقط.» «2»

و قد مرت صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: سألته عن المعادن ما فيها؟

فقال: «كل ما كان ركازا ففيه الخمس.» «3» و ظاهرها إرادة المعدن من الركاز.

و في سنن البيهقي بسنده، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الركاز:

الذهب الذي ينبت في الأرض.» «4» و هذا أيضا ينطبق على المعدن.

و لكن في صحيح البخاري:

«قال مالك و ابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية، في قليله و كثيره الخمس، و ليس المعدن بركاز.» «5»

______________________________

(1)- النهاية 2/ 258.

(2)- الأموال/ 422.

(3)- الوسائل 6/ 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(4)- سنن البيهقي 4/ 152، كتاب الزكاة، باب من قال المعدن ركاز فيه الخمس.

(5)- صحيح البخاري 1/ 262، باب في الركاز الخمس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 62

و لم يعلم وجه ما ذكره، اللهم إلا أن يقال: إن النبي «ص» كان يتكلّم بلغة الحجاز. هذا.

و حديث الخمس في الركاز- على ما قيل- مروي عن ابن عباس و أبي هريرة و جابر و عبادة بن الصامت و أنس بن مالك عن النبي «ص». رواه البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و ابن ماجة و

مالك و أحمد و البيهقي. راجع كتاب الزكاة من البخاري باب في الركاز الخمس، و الحدود من مسلم باب جرح العجماء و المعدن و البئر جبار، و الزكاة من البيهقي «1»، و راجع أيضا ديات الوسائل «2».

و الخمس عندنا ثابت في جميع المعادن: المنطبعة و غيرها و الجامدة و المائعة، فنفي الخمس عن الياقوت و أمثاله بلا وجه.

و قد شرحنا مفهوم المعدن و حكينا كلمات أهل اللغة فيه في كتاب الخمس «3».

و محصل ما اخترناه أن المراد به مطلق ما تكوّن في الأرض و لو كان مائعا إذا اشتمل على خصوصية يعظم الانتفاع بها و تصيّره ذا قيمة و إن لم يخرج بها عن حقيقة الأرضية كبعض الأحجار القيّمة.

و هل يعتبر في خمس المعدن النصاب؟ في المسألة أقوال ثلاثة: الأول: عدم اعتباره. الثاني: اعتبار بلوغه عشرين دينارا. الثالث: اعتبار بلوغه دينارا. نسب الأول إلى أكثر القدماء، و ظاهر الخلاف و السرائر الإجماع عليه، و اختار بعض الأصحاب و منهم الشيخ في النهاية الثاني، و آخر الثالث، و بكل من الأخيرين رواية، فراجع كتاب الخمس «4».

و هاهنا إشكال ينبغي الالتفات إليه، و هو أن الأقوى عندنا على ما يأتي بيانه و يستفاد من بعض الأخبار كون المعادن من الأنفال، و الأنفال تكون بأجمعها

______________________________

(1)- صحيح البخاري 1/ 262؛ و صحيح مسلم 3/ 1334؛ و سنن البيهقي 4/ 152.

(2)- الوسائل 19/ 203، الباب 32 من أبواب موجبات الضمان.

(3)- كتاب الخمس/ 43 و ما بعدها.

(4)- كتاب الخمس/ 48 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 63

للإمام بما أنه إمام المسلمين، و ظاهر الأخبار الدالة على وجوب الخمس في المعدن كون الباقي بعد

الخمس لمن أخرجه فكيف الجمع بين هذين الأمرين؟

و يمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بأن جعل الخمس فيها لعله كان من قبل النبي «ص» و الأئمة «ع» بما هم أئمة، و حكما سلطانيا بعنوان حق الاقطاع، فيكون نفس ذلك إذنا منهم- عليهم السلام- في استخراج المعادن بإزاء تأدية الخمس من حاصلها.

و ثانيا: باحتمال كون التخميس حكما شرعيا إلهيا ثابتا لمن أخرج المعادن بإذنهم- عليهم السلام- و لو بالتحليل المطلق في عصر الغيبة. و كون الخمس بعنوان حق الإقطاع لا يقتضي اختصاص الإمام- عليه السلام- به و عدم صرف نصفه إلى السادة كما توهم، إذ هو تابع لكيفية جعل الإمام إياه.

هذا مضافا إلى ما يأتي منّا من احتمال كون الخمس بأجمعه مطلقا حقا وحدانيا ثابتا للإمام كما يدلّ عليه بعض الأخبار و يعبّر عنه بحق الإمارة غاية الأمر أن إدارة أمر فقراء بني هاشم تكون من وظائف الإمام و من شئونه بما أنهم من أغصان شجرة النبوة و الإمامة، فتدبّر. هذا.

و تحليل الأئمة «ع» الأنفال لشيعتهم في عصر الغيبة لا ينافي جواز دخالة الحاكم الشرعي فيها مع بسط يده، إذ الظاهر أن التحليل صدر عنهم توسعة للشيعة عند عدم بسط اليد للحكومة الحقة و عدم تصرفها فيها بنفسها.

و على هذا فإذا فرض تصرف الحكومة الحقة في المعادن و استخراجها لها مباشرة فالظاهر عدم تعلق الخمس بها حينئذ، إذ الخمس كما عرفت ضريبة إسلامية، و مورده هو ما يغنمه الناس فلا يتعلق بما يغنمه الدولة و الحكومة بنفسها، و سيأتي لذلك تفصيل في مبحث الأنفال.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 64

الثالث مما فيه الخمس: الكنز:

و هو المال المذخور في الأرض أو الجدار أو الجبل، سواء

كان من الذهب أو الفضة أو غيرهما من الجواهر، و لا خلاف في ثبوت الخمس فيه إجمالا بين الفريقين:

قال الشيخ في زكاة الخلاف (المسألة 145):

«الركاز هو الكنز المدفون، يجب فيه الخمس بلا خلاف. و يراعى عندنا فيه أن يبلغ نصابا يجب في مثله الزكاة، و هو قول الشافعي في الجديد، و قال في القديم: يخمّس قليله و كثيره، و به قال مالك و أبو حنيفة. دليلنا إجماع الفرقة ...» «1»

نعم، في مصرف خمس الكنز و المعادن عند فقهاء السنة خلاف: قال في الخلاف (المسألة 151):

«مصرف الخمس من الركاز و المعادن مصرف الفي ء، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي و أكثر أصحابه: مصرفها مصرف الزكاة، و به قال مالك و الليث بن سعد.

و قال المزني و ابن الوكيل من أصحاب الشافعي: مصرف الواجب في المعدن مصرف الصدقات، و أما مصرف حق الركاز فمصرف الفي ء.» «2» هذا.

و يدل على ثبوت الخمس في الكنز- مضافا إلى عدم الخلاف فيه و صدق الغنم في الآية- أخبار مستفيضة:

منها صحيحة الحلبي أنه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن الكنز، كم فيه؟ فقال:

«الخمس ...» «3»

و منها صحيحة البزنطي، عن أبي الحسن الرضا «ع»، قال: سألته عما يجب فيه

______________________________

(1)- الخلاف 1/ 321.

(2)- الخلاف 1/ 322.

(3)- الوسائل 6/ 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 65

الخمس من الكنز، فقال: «ما يجب الزكاة في مثله ففيه الخمس.» «1»

و هل المراد بالمثلية، المثلية في الجنس أو المقدار أو كليهما؟ وجوه ذكرناها في كتاب الخمس، فراجع «2».

و هاهنا أمر ينبغي الإشارة إليه، و هو أنه من المحتمل جدا كون الكنز

أيضا مثل المعدن من الأنفال، أعني الأموال العامة التي تكون بأجمعها تحت اختيار الإمام.

و الحكم بالتخميس إما أن يكون إذنا من قبل الأئمة «ع» في استخراجه و يكون الخمس حكما سلطانيا بعنوان حق الإقطاع، أو يكون حكما شرعيا إلهيا ثابتا على من استخرجه بإذن الإمام.

و كيف كان فللإمام أو الحاكم الشرعي عند بسط اليد منع الأشخاص عن استخراجه. و لو استخرجه الإمام أو الحاكم الشرعي بنفسه فلا خمس فيه. فوزانه وزان المعدن على ما مرّ. و يساعد ذلك الاعتبار العقلائي و السيرة الجارية في جميع البلاد أيضا، فتدبّر.

الرابع مما فيه الخمس: الغوص:

و هو إخراج الجواهر من البحر بلا خلاف فيه عندنا.

و يشهد له، مضافا إلى صدق الغنم في الآية، النصوص:

ففي خبر البزنطي، عن محمد بن علي بن أبي عبد اللّه، عن أبي الحسن «ع»، قال:

سألته عما يخرج من البحر من اللؤلؤ و الياقوت و الزبرجد، و عن معادن الذهب و الفضة

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 345، الباب 5 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

(2)- كتاب الخمس/ 79 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 66

هل فيها زكاة؟ فقال: «إذا بلغ قيمته دينارا ففيه الخمس.» «1»

و في صحيحة الحلبي، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن العنبر و غوص اللؤلؤ، فقال: عليه الخمس.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار.

و نصاب الغوص دينار كما هو المشهور شهرة محققة، و يدلّ عليه رواية محمد بن علي.

الخامس مما فيه الخمس: ما يفضل عن مئونة السنة:
اشارة

من أرباح التجارات و الصناعات و الزراعات.

و ثبوت الخمس فيه إجمالا مما لا إشكال فيه عند أصحابنا و إن لم يوافقنا فقهاء السنة.

و يدلّ عليه عموم الكتاب و إجماع أصحابنا و الروايات المستفيضة إن لم تكن متواترة.

أما الكتاب

فواضح، لصدق قوله: «ما غَنِمْتُمْ»، على ما مرّ من بيان مفاده.

و في الانتصار:

«و مما انفردت به الإمامية القول بأن الخمس واجب من جميع المغانم و المكاسب، و مما استخرج من المعادن و الغوص و الكنوز، و مما فضل من أرباح التجارات و الزراعات و الصناعات بعد المؤونة و الكفاية في طول السنة على اقتصاد.» «3»

و قال الشيخ في زكاة الخلاف (المسألة 138):

«يجب الخمس في جميع المستفاد من أرباح التجارات و الغلات و الثمار على

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 343، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

(2)- الوسائل 6/ 347، الباب 7 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(3)- الجوامع الفقهية/ 155 (طبعة أخرى/ 113).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 67

اختلاف أجناسها بعد إخراج حقوقها و مؤنها، و إخراج مئونة الرجل لنفسه و مئونة عياله سنة، و لم يوافقنا على ذلك أحد من الفقهاء. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و طريقة الاحتياط تقتضي ذلك.» «1»

و في الغنية:

«و يجب الخمس أيضا في الفاضل عن مئونة الحول على الاقتصاد من كل مستفاد بتجارة أو زراعة أو صناعة أو غير ذلك من وجوه الاستفادة أيّ وجه كان، بدليل الإجماع المشار إليه و طريقة الاحتياط.» «2»

و قال العلامة في المنتهى:

«الصنف الخامس: أرباح التجارات و الزراعات و الصنائع و جميع أنواع الاكتسابات و فواضل الأقوات من الغلات و الزراعات عن مئونة السنة على الاقتصاد. و يجب

فيها الخمس، و هو قول علمائنا أجمع، و قد خالف فيه الجمهور كافة، لنا قوله- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ. الآية.» «3»

و ذكر نحو ذلك في التذكرة أيضا، فراجع «4». إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب في المقام، فراجع كتاب الخمس منّا. «5»

و أما الأخبار

في المسألة فكثيرة ذكرها في الوسائل في الباب الثامن مما يجب فيه الخمس، فلنذكر بعضها:

1- موثقة سماعة، قال: سألت أبا الحسن «ع» عن الخمس، فقال: «في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير.» «6»

2- و في صحيحة علي بن مهزيار الطويلة، قال: كتب إليه أبو جعفر «ع» (إلى

______________________________

(1)- الخلاف 1/ 319.

(2)- الجوامع الفقهية/ 507 (طبعة أخرى/ 569).

(3)- المنتهى 1/ 548، و الآية من سورة الأنفال (8) الآية 41.

(4)- التذكرة 1/ 253.

(5)- كتاب الخمس/ 145 و ما بعدها.

(6)- الوسائل 6/ 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 68

أن قال): «فأما الغنائم و الفوائد فهي واجبة عليهم في كل عام. قال اللّه- تعالى-: و اعلموا أنما غنمتم من شي ء فإن اللّه خمسه. الآية. فالغنائم و الفوائد- يرحمك اللّه- فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها، و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، و الميراث الذي لا يحتسب من غير أب و لا ابن، و مثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله، و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب، و ما صار إلى قوم من موالي من أموال الخرّمية الفسقة. فقد علمت أن أموالا عظاما صارت إلى قوم من موالي، فمن كان عنده شي ء من ذلك فليوصله إلى وكيلي، و من كان نائيا بعيد الشقة فليتعمد لإيصاله و

لو بعد حين. الحديث.» «1»

و الرواية من الروايات الجامعة في الباب و قد شرحناها في كتاب الخمس، فراجع «2».

و لعل تقييد الجائزة بالتي لها خطر و الميراث بالذي لا يحتسب يشهدان بما مر منّا من اشتراط عدم الترقب في صدق عنوان الغنيمة.

3- و في صحيحة أخرى لعلي بن مهزيار قال: قال لي أبو علي بن راشد: قلت له:

أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقك، فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: و أيّ شي ء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه؟ فقال: «يجب عليهم الخمس.» فقلت: ففي أيّ شي ء؟

فقال: «في أمتعتهم و صنائعهم (ضياعهم خ. ل).» قلت: و التاجر عليه و الصانع بيده؟

فقال: «إذا أمكنهم بعد مئونتهم.» «3»

و أبو علي بن راشد اسمه الحسن، بغدادي ثقة من أصحاب الجواد و الهادي- عليهما السلام-، و كان وكيلا للإمام الهادي- عليه السلام-، فالظاهر عود الضمير في قوله: «قلت له» إليه- عليه السلام-.

4- حسنة محمد بن الحسن الأشعري، قال: كتب بعض أصحابنا إلى أبي جعفر الثاني «ع»: أخبرني عن الخمس، أعلى جميع ما يستفيد الرجل من قليل و كثير من

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

(2)- كتاب الخمس/ 165.

(3)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 69

جميع الضروب و على الصنّاع، و كيف ذلك؟ فكتب «ع» بخطه: «الخمس بعد المؤونة» «1»

5- و في خبر محمد بن علي بن شجاع النيسابوري أنه سأل أبا الحسن الثالث «ع» عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مأئة كرّ ما يزكّى، فأخذ منه العشر عشرة أكرار، و ذهب منه بسبب عمارة الضيعة

ثلاثون كرا، و بقي في يده ستون كرا، ما الذي يجب لك من ذلك؟ و هل يجب لأصحابه من ذلك عليه شي ء؟ فوقّع: «لي منه الخمس مما يفضل من مئونته.» «2»

و محمد بن علي بن شجاع مجهول.

6- و في صحيحة الريّان بن الصلت أو حسنته، قال: كتبت إلى أبي محمد «ع»: ما الذي يجب عليّ يا مولاي في غلّة رحى أرض في قطيعة لي و في ثمن سمك و برديّ و قصب أبيعه من أجمة هذه القطيعة؟ فكتب «ع»: «يجب عليك فيه الخمس إن شاء اللّه- تعالى-.» «3»

7- و في خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه و المنقطع إليه هديّة تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر، هل عليه فيها الخمس؟ فكتب «ع»: الخمس في ذلك. و عن الرجل يكون في داره البستان فيه الفاكهة يأكله العيال إنما يبيع منه الشي ء بمائة درهم أو خمسين درهما، هل عليه الخمس؟ فكتب «ع»: أما ما أكل فلا، و أما البيع فنعم هو كسائر الضياع. «4»

و في السند ضعف باحمد بن هلال.

8- و في خبر عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «على كل امرئ غنم أو

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(2)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

(3)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 9.

(4)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 70

اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة-

عليها السلام- و لمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج على الناس، فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاءوا و حرّم عليهم الصدقة، حتى الخياط ليخيط قميصا بخمسة دوانيق فلنا منه دانق إلا من أحللناه من شيعتنا لتطيب لهم به الولادة، إنه ليس من شي ء عند اللّه يوم القيامة أعظم من الزنا، إنه ليقوم صاحب الخمس فيقول: يا ربّ سل هؤلاء بما أبيحوا.» «1»

و في سند الرواية ضعف.

إلى غير ذلك من الروايات المستفاد منها ثبوت الخمس في الفوائد اليومية بعد إخراج المؤونة له و لعياله و هي كثيرة. و ظاهر أكثرها أو صريحها كونها في مقام بيان الوظيفة الفعلية للشيعة، و أكثرها صادرة عن الأئمة المتأخرين، و هم كانوا يطالبون الخمس من شيعتهم و ينصبون الوكلاء لمطالبته و أخذه، و استمرّت هذه السيرة حتى في عصر النوّاب الأربعة للإمام الثاني عشر «ع»، فلا مجال لأن يحمل هذه الأخبار على أصل الجعل و التشريع و يقال إنه لا يعارضها أخبار التحليل بل تحكّم عليها.

و خمس الأرباح ماليّة كثيرة ضخمة جدا و تتغيّر بحسب منابع الثروة و الأصقاع و الأزمان. و سيجي ء كون الخمس و لا سيما خمس الأرباح حقا وحدانيا يكون تحت اختيار إمام المسلمين، و لو طولب و جبي في كل عصر بنظام صحيح لسدّ به كثير من الحاجات و الخلّات.

نعم،

يقع البحث هنا في أمور
اشارة

ذكرناها في كتاب الخمس و لنشر هنا إلى أمور ثلاثة:

الأمر الأول: في الإشارة إلى إشكال وقع في خمس الأرباح و الجواب عنه:

إن الأخبار الدالة على هذا الخمس مرويّة عن الصادقين- عليهما السلام- و من

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 71

بعدهما من الأئمة «ع»، بل أكثرها مروية عن الجواد و الهادي- عليهما السلام- من الأئمة المتأخرين، و لا تجد في صحاحنا و لا صحاح السنّة حديثا في هذا الباب مرويّا عن النبي «ص» أو أمير المؤمنين «ع»، اللهم إلا بعض العمومات التي ربما يحتمل انطباقها عليه، و لم يضبط في التواريخ أيضا مطالبتهما «ع» لهذا الخمس من أحد، مع أنه لو كان ثابتا مشرّعا في عصرهما كان مقتضى عموم الابتلاء به نقل الرواة و المؤرخين له من طرق الفريقين.

و ليس هذا مما يخالفه حكومات الجور حتى يظن ذلك سببا لاختفائه كيف؟! و هو كان يوجب مزيد بيت المال و تقوية الجهات المالية.

فلم صار هذا الحكم مهجورا عند فقهاء السنة و رواتهم بحيث لم يفت به أحد منهم و لم يتعرض لثبوته أو مطالبته و أخذه أحد من أهل الحديث و التاريخ؟!

و لم لا يوجد في كتب النبي «ص» و كتب أمير المؤمنين «ع» إلى العمّال و جباة الأموال اسم و لا رسم من خمس الأرباح، مع أنه لو كان لنقل لعموم الابتلاء به، إذ يعمّ الحكم كل تاجر و كاسب و صانع و زارع و عامل؟!

نعم، في رواية ابن طاوس بإسناده، عن عيسى بن المستفاد، عن موسى بن جعفر، عن أبيه «ع»: «أن رسول اللّه «ص» قال لأبي ذرّ و سلمان و المقداد ... و إخراج الخمس من

كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى وليّ المؤمنين و أميرهم.» «1»

و لكن فيه مضافا إلى ضعف السند أن هذا غير خمس الأرباح، و لعله كان مندوبا إليه من باب صلة الإمام، فتأمّل.

و قد يقال: إنما في بعض كتب النبي «ص» و عهوده من أخذ الخمس من المغانم كقوله «ص» في كتابه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن: «و أمره أن يأخذ من المغانم خمس اللّه و ما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار. الحديث.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 386، الباب 4 من أبواب الأنفال و ...، الحديث 21.

(2)- سيرة ابن هشام 4/ 242.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 72

و قوله لوفد عبد القيس: «و أن تعطوا من المغنم الخمس.» «1»

و في كتابه «ص» لملوك حمير: «و آتيتم الزكاة و أعطيتم من المغانم خمس اللّه و سهم النبيّ و صفيّه.» «2»

و في كتابه «ص» لصيفي بن عامر سيد بني ثعلبة: «من أسلم منهم و أقام الصلاة و آتى الزكاة و أعطى خمس المغنم و سهم النبي «ص» و الصفيّ فهو آمن بأمان اللّه.» «3»

إلى غير ذلك مما في كتب النبي «ص» و عهوده للوفود، لا يمكن أن يراد. بالخمس فيها خمس مغانم الحرب لنهيه «ص» عن الإغارة و نهب الأموال، و كون أمر الحروب بيده «ص»، فلا محالة يراد بالخمس فيها خمس الأرباح و الاستفادات اليومية.

و لكن يمكن أن يورد على ذلك أولا: بأنّا لا نسلّم عدم إجازة الحرب من قبله «ص»، إذ قتال الكفار لدعوتهم إلى الإسلام لم يكن منهيّا عنه، و يشهد لذلك ذكر الصفي أيضا في بعض هذه الأخبار و هو ما كان يصطفى

من غنائم الحرب.

قال في النهاية:

«الصفيّ: ما كان يأخذه رئيس الجيش و يختاره لنفسه من الغنيمة قبل القسمة و يقال له: الصفية و الجمع: الصفايا، و منه حديث عائشة: كانت صفية «رض» من الصفيّ.» «4»

و في مرسلة حماد الطويلة: «و للإمام صفو المال أن يأخذ من هذه الأموال صفوها الجارية الفارهة و الدابة الفارهة.» «5» و نحوها أخبار أخر.

و ثانيا: أن خمس الركاز أيضا مما أمر به النبي «ص» و يصدق عليه المغنم أيضا، و أما خمس الأرباح فلو كان واجبا في عصره و تعارف مطالبته و أخذه لذاع و شاع

______________________________

(1)- صحيح البخاري 1/ 20، باب أداء الخمس من الإيمان.

(2)- فتوح البلدان/ 82.

(3)- الإصابة 2/ 197.

(4)- النهاية لابن الأثير 3/ 40.

(5)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال و ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 73

ذكره في المحاورات و الكتب و لم يكن يخفى و يهمل إلى عصر الصادقين «ع»، فهذه معضلة قوية ينبغي الالتفات إليها و التحرّي لحلّها، هذا.

و لكن مع ذلك لا يضرّ هذا الإشكال بأصل الحكم بعد ما ثبت بعموم الكتاب و إجماع الفرقة المحقة و الأخبار المستفيضة كما مرّ.

و لعل الحكم ثبت في عصر النبي «ص» بنحو الاقتضاء و الإنشاء المحض، و لكن لما كان تنفيذه و إجراؤه موجبا للحرج بسبب الفقر النوعي أو لاستيحاش المسلمين منه لكونهم حديثي العهد بالإسلام، أو كونه «ص» مظنة للتهمة حيث إن الخمس كان بنفع شخصه و أهل بيته فلأجل ذلك أخرت فعليته و تنفيذه إلى عصر الأئمة- عليهم السلام-.

و أحكام الإسلام تدريجية و ربما أخرت فعلية بعضها حتى إلى عصر ظهور الإمام المنتظر لعدم تحقق شرائطها

قبل ذلك.

و يمكن أن يقال أيضا: إن هذا الخمس ضريبة سلطانية وضعها الأئمة المتأخرون من العترة الطاهرة بما هم أئمة العباد و ساسة البلاد شرعا حسب الاحتياج في أعصارهم، حيث إن الزكوات و الأموال العامة و سائر الضرائب الإسلامية قد انحرفت عن مسيرها الأصلي و صارت تحت اختيار خلفاء الجور و عمّالهم، و لذلك ترى الأئمة- عليهم السلام- محللين له تارة و مطالبين له أخرى.

و قد احتملنا نظير ذلك في خمس المعادن و الكنوز أيضا بناء على كونهما من الأنفال و كون الخمس فيهما بعنوان حق الإقطاع و إجازة التصرف فيهما.

و مقتضى ذلك جواز تجديد النظر في ذلك بحسب مقتضيات الزمان و الشرائط.

و لكن يبعّد هذا الاحتمال استدلالهم- عليهم السلام- لهذا الخمس و كذا لخمس الكنز بالآية الشريفة و تطبيقهم الآية عليهما. اللهم إلّا أن يكون الاستدلال بها وقع جدلا لإقناع من في قلبه مرض و ريب من سعة اختيارهم- عليهم السلام-، أو يراد بذكر الآية تثبيت الحكم إنشاء و اقتضاء و إن كانت فعليته من قبلهم- عليهم السلام-.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 74

و كيف كان فلا إشكال في أصل الحكم. و ربما يؤيده ما دلّ من الأخبار الواردة من طرق الفريقين على حرمة الزكاة على بني هاشم و تعويضهم منها بالخمس، فكما أن موضوعات الزكاة كانت أمورا مستمرة سنوية وجب أن يكون للخمس الذي هو عوض عنها أيضا موضوع مستمر سنوي و ليس هو إلّا أرباح المكاسب، إذ غنائم الحرب و المعادن و الكنوز و نحوها أمور اتفاقية قد لا تتحقق في سنوات متلاحقة فيلزم من ذلك حرمان بني هاشم في كثير من الأحيان، فتدبّر.

الأمر الثاني: في ذكر أخبار التحليل و الجواب عنها:

لا يخفى أن

هنا أخبارا كثيرة يستفاد منها تحليل الخمس إجمالا. و ليس مفاد ما دلّ على ثبوت الخمس في الأرباح و غيرها مجرّد الجعل و التشريع اقتضاء و إنشاء حتى يحكم بحكومة أخبار التحليل عليها و عدم المعارضة بينهما. بل قد عرفت أن أكثرها ظاهرة أو صريحة في بيان الحكم الفعلي و أن الأئمة «ع» كانوا يطالبونه و يعيّنون الوكلاء لمطالبته أو كانوا يأمرون بأدائه، فلا بد من بيان محمل لأخبار التحليل:

أما إجمالا، فنقول: إن ما دلّ على المطالبة و وجوب الأداء رويت عن موسى بن جعفر «ع» و من بعده من الأئمة المتأخرين- عليهم السلام-، و هي مستفيضة بل لعلها متواترة أفتى بمضمونها الأصحاب.

و أما أخبار التحليل فمرويّة عن الإمامين الهمامين: الباقر و الصادق- عليهما السلام- إلا صحيحة علي بن مهزيار عن أبي جعفر الثاني «ع» و لكن موردها صورة الإعواز و عدم إمكان الأداء.

و التوقيع المروي عن صاحب الزمان «ع». و فيه إجمال، لكون الجواب فيه ناظرا إلى سؤال السائل و هو غير معلوم، فلعله كان في مورد خاص، مضافا إلى ظهوره في المناكح خاصة بقرينة التعليل فيه بطيب الولادة، فعلى هذا يكون التحليل في زمان خاص أو موضوع خاص و يتعين العمل بالأخبار الصادرة عن الأئمة المتأخرين عن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 75

الصادقين «ع» الدالة على وجوب الأداء و فعليته.

و أما تفصيلا، فأخبار التحليل منها ما يختص بحال الإعواز بالنسبة إلى حق الإمام فقط.

كصحيحة علي بن مهزيار، قال: قرأت في كتاب لأبي جعفر «ع» من رجل يسأله أن يجعله في حلّ من مأكله و مشربه من الخمس، فكتب بخطه: «من أعوزه شي ء من حقي فهو في حلّ.»

«1»

و المراد بأبي جعفر هنا بقرينة الراوي هو أبو جعفر الثاني، أعني جواد الأئمة «ع».

و لا يخفى أن هذه الصحيحة بنفسها شاهدة على أن البناء و العمل في عصر الإمام الجواد «ع» كان على أداء الخمس و لذا استحلّ الرجل لنفسه، فيعلم بذلك أن أخبار التحليل مع كثرتها و صدورها عن الصادقين «ع» لم تكن بإطلاقها موردا للعمل في عصره «ع»، و ظاهر الجواب هو التحليل لخصوص المعوز لا مطلقا، بل لعل التحليل وقع للمعوز في عصره فقط.

و منها ما يدل على تحليل المناكح لشيعتهم:

1- كخبر ضريس الكناسي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: أ تدري من أين دخل على الناس الزنا؟ فقلت: لا أدري، فقال: «من قبل خمسنا أهل البيت إلا لشيعتنا الأطيبين، فإنه محلل لهم و لميلادهم.» «2»

2- و خبر أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رجل و أنا حاضر: حلّل لي الفروج، ففزع أبو عبد اللّه «ع»، فقال له رجل: ليس يسألك أن يعترض الطريق، إنما يسألك خادما يشتريها أو امرأة يتزوجها أو ميراثا يصيبه أو تجارة أو شيئا أعطيه، فقال: «هذا لشيعتنا حلال: الشاهد منهم و الغائب، و الميّت منهم و الحيّ و ما يولد

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 379، الباب 4 من أبواب الأنفال و ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 6/ 379، الباب 4 من أبواب الأنفال و ...، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 76

منهم إلى يوم القيامة فهو لهم حلال، أما و اللّه لا يحلّ إلا لمن أحللنا له، و لا و اللّه ما أعطينا أحدا ذمة و ما عندنا لأحد عهد (هوادة) و لا لأحد عندنا ميثاق.» «1»

و لعل المراد

بالميراث و التجارة و ما أعطيه بقرينة السؤال خصوص الإماء و الفتيات.

و لو أريد الأعم فيحمل على خصوص ما انتقل إليه ممن لا يعتقد الخمس أو لا يخمّس، إذ الظاهر من الحديث تعلق حق الإمام به قبل أن ينتقل إليه فلا يشمل الخمس المتعلق بأموال نفسه قطعا، بل يشكل هذا الحمل أيضا لمعارضته بخبر أبي بصير عن أبي جعفر «ع»، قال: سمعته يقول: «من اشترى شيئا من الخمس لم يعذره اللّه، اشترى ما لا يحل له.» «2» و خبره الآخر عنه «ع»، قال: «لا يحلّ لأحد أن يشتري من الخمس شيئا حتى يصل إلينا حقنا.» «3»

فالمتيقن من الرواية خصوص الإماء و الفتيات المغنومة المنتقلة إليه بالشراء أو بالميراث أو نحوهما.

3- و مما ورد في المناكح أيضا خبر محمد بن مسلم، عن أحدهما «ع»، قال: «إن أشدّ ما فيه الناس يوم القيامة أن يقوم صاحب الخمس فيقول: يا ربّ خمسي، و قد طيّبنا ذلك لشيعتنا لتطيب ولادتهم و لتزكو أولادهم.» «4»

و لعل مرسل العياشي أيضا قطعة من هذا الحديث فيحمل إطلاقه على المناكح أيضا. «5»

4- و خبر الحارث بن المغيرة النصري، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له: إن لنا أموالا من غلّات و تجارات و نحو ذلك، و قد علمت أن لك فيها حقّا، قال: «فلم

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 379، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 4.

(2)- الوسائل 6/ 338، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

(3)- الوسائل 6/ 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.

(4)- الوسائل 6/ 380، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 5.

(5)- الوسائل 6/ 386، الباب 4 من أبواب الأنفال ...،

الحديث 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 77

أحللنا إذا لشيعتنا إلا لتطيب ولادتهم، و كل من والى آبائي فهو في حل مما في أيديهم من حقنا، فليبلغ الشاهد الغائب.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار الناظرة إلى المناكح بلحاظ التعليلات الواردة فيها، فتأمّل.

و منها ما يحمل على تحليل ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس أو من لا يخمس في زمان خاص:

كبعض ما ذكر، و كرواية يونس بن يعقوب، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فدخل عليه رجل من القمّاطين فقال: جعلت فداك، تقع في أيدينا الأموال و الأرباح و تجارات نعلم أن حقك فيها ثابت و أنّا عن ذلك مقصرون، فقال أبو عبد اللّه «ع»: «ما أنصفناكم إن كلفناكم ذلك اليوم». «2»

و ظهورها في التحليل في زمان خاص ظاهر، كظهورها فيما تعلق به الخمس أو حق آخر في يد الغير ثم انتقل إليه، فلا تشمل ما تعلق به الحق في يده.

و منها ما دل على تحليل الفي ء و غنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي المخالفين:

كصحيحة الفضلاء، عن أبي جعفر «ع»، قال: «قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع»: «هلك الناس في بطونهم و فروجهم لأنهم لم يؤدوا إلينا حقنا، الا و إن شيعتنا من ذلك و آباءهم في حلّ.» و رواه الصدوق أيضا مثله إلا أنه قال: «و أبناءهم» «3».

إذ الظاهر أن المشار إليه لقوله: «من ذلك» الحق الثابت عند الناس إذا وصل إلى الشيعة.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 381، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 9.

(2)- الوسائل 6/ 380، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 6.

(3)- الوسائل 6/ 379، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 1.

دراسات

في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 78

و خبر أبي حمزة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «إن اللّه جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفي ء فقال- تبارك و تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ.» فنحن أصحاب الخمس و الفي ء، و قد حرمناه على جميع الناس ما خلا شيعتنا. و اللّه يا أبا حمزة ما من أرض تفتح و لا خمس يخمس فيضرب على شي ء منه إلا كان حراما على من يصيبه فرجا كان أو مالا. الحديث.» «1»

و قد كثرت الغنائم الحربية و الجواري المسبية في تلك الأعصار و كثر ابتلاء الشيعة بها فاقتضت المصلحة تسهيل الأمر على الشيعة و تحليلها لهم فعدم شمول هذه الأخبار لمثل أرباح المكاسب و سائر الموضوعات التي تعلق بها الخمس عند الإنسان واضح جدا.

و منها ما دلّ على تحليل الأراضي و الأنفال، ككثير من أخبار الباب، فراجع و يأتي بحثه في فصل الأنفال. «2»

بقي الكلام في التوقيع المروي في الإكمال و الاحتجاج، عن الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، عن صاحب الزمان «ع»:

ففي الاحتجاج: محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال: سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخطّ مولانا صاحب الزمان- عليه السلام-: ... و أما المتلبسون بأموالنا فمن استحل منها شيئا فأكله يأكل النيران. و أما الخمس فقد أبيح لشيعتنا و جعلوا منه في حلّ إلى وقت ظهور أمرنا لتطيب ولادتهم و لا تخبث.» «3»

و إسحاق بن يعقوب لم يذكر بمدح و لا قدح.

______________________________

(1)- الوسائل

6/ 385، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 19.

(2)- راجع المسألة الثانية من الجهة الرابعة من فصل الأنفال في الجزء التالي من الكتاب.

(3)- الوسائل 6/ 383، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 79

و يظهر من هذا التوقيع بنفسه أن صاحب الأمر «ع» أيضا كان يطالب الأموال و يأخذها و لم يكن حلّلها بالكلية استغناء منها، فلعل الخمس المذكور في التوقيع كان نوعا خاصا منه اقتضت المصلحة تحليله كما يشعر بذلك التعليل بطيب الولادة، فلعله كان مرتبطا بخمس الغنائم و الجواري المسبية من قبل حكّام الجور المبتلى بها الشيعة في عيشتهم. و لا دليل على حمل اللام على الاستغراق بعد كون جوابه «ع» مسبوقا بالسؤال، و السؤال غير مذكور و لا معلوم، فلعل المسؤول عنه كان نوعا خاصا من الخمس، و اللام للعهد و الإشارة اليه، و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال.

هذا مضافا إلى أن ظاهر الكلام في التوقيع و غيره تحليل جميع الخمس حتى سهم السادة منه، و هو المستفاد من سائر أخبار التحليل أيضا.

و لا يمكن الالتزام بذلك بعد ما حرم الصدقة عليهم و جعل الخمس عوضا عنها.

و بالجملة، فصحيحة علي بن مهزيار كان موضوعه من أعوز، و التوقيع أيضا فيه إجمال، و أما غيرهما من أخبار التحليل المذكورة في الباب الرابع من أبواب الأنفال من الوسائل فجميعها صادرة عن الإمامين الهمامين الباقر و الصادق «ع» إلا رواية واحدة عن تفسير الإمام حاكية لتحليل أمير المؤمنين «ع». «1»

و إذا شاهدنا الأئمة المتأخرين عنهما «ع» يحكمون بوجوب الخمس في الأرباح و يطالبونه و يأخذونه كلا أو بعضا فلا محالة يجب أن تحمل

أخبار التحليل على موضوعات خاصة أو زمان خاص:

فمنها ما تدل على تحليل المناكح و الجواري المسبية المبتلى بها في تلك الأعصار، حفظا لطيب الولادات.

و منها ما تدل على تحليل الفي ء و غنائم الحرب الواصلة إلى الشيعة من أيدي

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 385، الباب 4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 80

المخالفين، و قد كثرت الغنائم الحربية و الجواري المسبية في تلك الأعصار و كثر ابتلاء الشيعة بها.

و منها ما تحمل على تحليل ما يشترى ممن لا يعتقد الخمس أو لا يخمّس.

و منها ما تحمل على التحليل في زمان خاص.

و منها ما تدل على تحليل الأراضي و الأنفال.

فلا يستفاد من هذه الأخبار تحليل خمس أرباح المكاسب و سائر الموضوعات التي يتعلق بها الخمس عند المكلف، فتدبّر. و إن شئت التفصيل فراجع ما ذكرناه في كتاب الخمس «1». هذا.

1- و روى الصدوق بإسناده، عن عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال: «إني لآخذ من أحدكم الدرهم و إني لمن أكثر أهل المدينة مالا، ما أريد بذلك إلا أن تطهروا.» «2»

2- و روى الكليني بإسناده، عن محمد بن زيد الطبري، قال: كتب رجل من تجّار فارس من بعض موالي أبي الحسن الرضا «ع» يسأله الإذن في الخمس، فكتب إليه: «بسم اللّه الرحمن الرحيم. إن اللّه واسع كريم، ضمن على العمل الثواب و على الضيق الهمّ، لا يحل مال إلا من وجه أحلّه اللّه، إن الخمس عوننا على ديننا و على عيالنا و على موالينا و ما نبذله و نشتري من أعراضنا ممن نخاف سطوته، فلا تزووه عنّا و لا تحرموا أنفسكم دعاءنا ما قدرتم

عليه، فإن إخراجه مفتاح رزقكم و تمحيص ذنوبكم، و ما تمهدون لأنفسكم ليوم فاقتكم، و المسلم من يفي للّه بما عهد إليه، و ليس المسلم من أجاب باللسان و خالف بالقلب. و السلام.» «3»

3- و بالإسناد، عن محمد بن زيد، قال: قدم قوم من خراسان على أبي الحسن الرضا «ع» فسألوه أن يجعلهم في حلّ من الخمس، فقال «ع»: «ما أمحل هذا؟!

______________________________

(1)- كتاب الخمس/ 151 و ما بعدها.

(2)- الوسائل 6/ 337، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(3)- الوسائل 6/ 375، الباب 3 من أبواب الأنفال ...، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 81

تمحضونا المودّة بألسنتكم و تزوون عنّا حقّا جعله اللّه لنا و جعلنا له و هو الخمس، لا نجعل، لا نجعل، لا نجعل لأحد منكم في حلّ. «1»

و رواهما الشيخ أيضا بإسناده، عن محمد بن زيد مثله. «2»

4- و روى الكليني و الشيخ عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، قال: كنت عند أبي جعفر الثاني «ع» إذ دخل عليه صالح بن محمد بن سهل- و كان يتولّى له الوقف بقم- فقال: يا سيّدي، اجعلني من عشرة آلاف درهم في حلّ، فإني قد أنفقتها.

فقال له: أنت في حلّ. فلما خرج صالح قال أبو جعفر «ع»: «أحدهم يثب على أموال آل محمد و أيتامهم و مساكينهم و فقرائهم و أبناء سبيلهم فيأخذها ثم يجي ء فيقول: اجعلني في حلّ، أ تراه ظن أني أقول: لا أفعل، و اللّه ليسألنهم اللّه يوم القيامة عن ذلك سؤالا حثيثا.» «3»

و الشيخ في الاستبصار بعد نقل أخبار التحليل و الأخبار الثلاثة الأخيرة قال:

«فالوجه في الجمع بين هذه الروايات ما كان يذهب

إليه شيخنا «ره»، و هو أنه ما ورد من الرخصة في تناول الخمس و التصرف فيه إنما ورد في المناكح خاصة للعلة التي سلف ذكرها في الآثار عن الأئمة «ع» لتطيب ولادة شيعتهم، و لم يرد في الأموال، و ما ورد من التشدّد في الخمس و الاستبداد به فهو يختص بالأموال.» «4»

هذا.

مضافا إلى أن الخمس و كذا الأنفال ليسا ملكا لشخص الإمام المعصوم كما قد يتوهم، بل هما لمنصب الإمامة أعني منصب زعامة المسلمين و إدارة شئونهم العامة، و الإمامة و الزعامة من الضروريات لمجتمع المسلمين في جميع الأعصار، و الخمس من أهمّ الميزانيات و الضرائب المشرعة لها و لذا عبّر عنه في رواية المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع» بوجه الإمارة «5».

كما أن الأنفال أيضا أموال عامة راجعة إلى الحكومات في جميع النظامات

______________________________

(1) الوسائل 6/ 376، الباب 3 من أبواب الأنفال ...، الحديث 3.

(2) الوسائل 6/ 376، الباب 3 من أبواب الأنفال ...، الحديث 3.

(3)- الوسائل 6/ 375، الباب 3 من أبواب الأنفال ...، الحديث 1.

(4)- الاستبصار 2/ 60، كتاب الزكاة، الباب 32، ذيل الحديث 11.

(5)- الوسائل 6/ 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 82

و منها نظام الإسلام.

فالتحليل المطلق للخمس و الأنفال هدم لأساس الإمامة و الحكومة الحقة، فلا محالة يجب أن تحمل أخبار التحليل كما عرفت على موضوعات خاصة أو زمان خاص أو شرائط خاصة.

و لعل تحليل الأنفال العامة كالأراضي و الآجام و نحوهما للشيعة كان يختص بعصر استبدّ بها حكّام الجور و أياديهم، و احتاج بعض الشيعة إليها و لم يتيسر لهم الاستيذان من أئمة

العدل و نوّابهم، و إلا فإطلاق سراح الأنفال مطلقا و عدم السماح لتحديدها و تقسيمها على وفق موازين العدل و الإنصاف يوجب استبداد جمع بها و حرمان المستحقين الضعفاء منها كما هو المشاهد في أعصارنا. و هذا أمر مرغوب عنه شرعا كما لا يخفى على من عرف مذاق الشرع المبين، فتدبّر.

الأمر الثالث: في أن الموضوع في هذا القسم من الخمس هل هو الأرباح أو مطلق الفائدة؟

لا يخفى أن المحتملات فيه أربعة: الأول: اعتبار صدق التكسب، أعني القصد إلى حصول المال و التصدي لذلك مطلقا، نسب إلى المشهور.

الثاني: اعتبار ذلك مع اتخاذه مهنة و حرفة مستمرة، كما نسب إلى المحقق الخونساري في حاشيته على شرح اللمعة.

الثالث: عموم الحكم للتكسب و للفائدة الاتفاقية أيضا مع حصولها بالاختيار كالهبة و الجائزة.

الرابع: عموم الحكم و لو للفائدة غير الاختيارية كالمواريث و نحوها.

و المذكور في كلمات أكثر القدماء من أصحابنا خصوص ما يستفاد بالاكتساب كأرباح التجارات و الصناعات و الزراعات.

و لكن المستفاد من الآية الشريفة و الأخبار هو الأعمّ من ذلك و مما لا يتصدى لتحصيله، سواء كان بالاختيار كالهبات و الجوائز أو بغيره كالميراث الذي لا يحتسب بل مطلقا على قول.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 83

توضيح ذلك أن المتعارف بين الناس أن يتوصل كل منهم بشغل من الأشغال لرفع حاجاته اليومية. فمنهم من يتوصل بالتوليد و الإنتاج كالزرّاع، و منهم من يتوصل بنقل الأموال كالتجّار، و منهم من يتوصل بتغيير صور الأمتعة و العمل عليها بما يزيد في قيمتها كالصنّاع.

فهذه هي عمدة وجوه الاستفادة المتعارفة بين الناس و قد تعرّض لها الأصحاب في كلماتهم.

نعم، قد يحصل للإنسان المال من دون تعب و تصدّ لتحصيله إما مع الاختيار كالهبات و الجوائز و الصداق و عوض الخلع و نحوها

أو بلا اختيار له كالميراث و نذر النتيجة على القول بصحته، و لكنها فوائد اتفاقية نادرة و ليس بناء اقتصاد الناس عليها و لا يصدق عليها الاكتساب و يشكل شمول كلمات الأصحاب لها.

اللهم إلا أن يحمل العناوين المذكورة في كلماتهم على المثال و يقال إن غرضهم بيان مطلق الفوائد اليومية غير العناوين الخاصة التي مرت من الغنائم و المعادن و الكنوز و الغوص التي لها أحكام خاصة.

و يؤيد ذلك كلمة «غير ذلك» المذكورة في النهاية و الغنيمة بعد عناوين التجارة و الصناعة و الزراعة.

و كيف كان فقد نسب إلى المشهور عدم ثبوت الخمس في الفوائد الاتفاقية، و لكن الأقوى هو الثبوت في مثل الهدية و الجائزة.

و يدل على ذلك، مضافا إلى عموم الآية الشريفة لصدق الغنيمة عليها، أخبار مستفيضة:

1- ففي صحيحة علي بن مهزيار، عن أبي جعفر الثاني «ع»- بعد الحكم بوجوب الخمس في الغنائم و الفوائد- قال: «فالغنائم و الفوائد- يرحمك اللّه- فهي الغنيمة يغنمها المرء و الفائدة يفيدها، و الجائزة من الإنسان للإنسان التي لها خطر، و الميراث الذي لا يحتسب من غير أب و لا ابن، و مثل عدوّ يصطلم فيؤخذ ماله، و مثل مال يؤخذ و لا يعرف له صاحب.

الحديث.» «1»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 50- 349، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 84

و تقييد الجائزة بالتي لها خطر لعله من جهة أن الجائزة الحقيرة تصرف فورا فلا تبقى إلى السنة. و من تقييد الميراث يستفاد عدم الخمس في المواريث المتعارفة التي تحتسب كما يأتي بيانه.

2- و في موثقة سماعة قال: سألت أبا الحسن «ع» عن الخمس، فقال: «في

كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير.» «1» بناء على عموم اللفظ للفوائد الاتفاقية أيضا كما لا يبعد.

3- و في صحيحة علي بن مهزيار، عن أبي علي بن راشد، عنه «ع»، قال: «يجب عليهم الخمس.» فقلت: ففي أيّ شي ء؟ فقال: «في أمتعتهم و صنائعهم. الحديث.» «2»

بتقريب أن المتاع بحسب اللغة و الاستعمال يراد به كل ما يتمتع به في الحاجات فيعمّ جميع لوازم المعيشة و إن حصلت بالهبة و نحوها.

و في القاموس:

«و المتاع: المنفعة و السلعة و الأداة و ما تمتعت به من الحوائج، ج: أمتعة». «3»

و الظاهر أن الموضوع له هو الأخير و الباقي من قبيل المصاديق له.

4- و في خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: كتبت إليه في الرجل يهدي إليه مولاه و المنقطع إليه هدية تبلغ ألفي درهم أو أقل أو أكثر هل عليه فيها الخمس؟ فكتب «ع»: «الخمس في ذلك.» «4»

أقول: في سند الرواية أحمد بن هلال، و فيه كلام.

5- و في خبر عبد اللّه بن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «على كل امرئ غنم أو اكتسب الخمس مما أصاب لفاطمة «ع» و لمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج على الناس. الحديث.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(2)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(3)- قاموس اللغة/ 508.

(4)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 10.

(5)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 85

بناء على عدم كون الترديد

من الراوي. و في سند الرواية ضعف كما لا يخفى على أهله.

6- و في خبر أحمد بن محمد بن عيسى، عن يزيد، قال: كتبت: جعلت لك الفداء تعلمني ما الفائدة و ما حدّها؟ رأيك- أبقاك اللّه- أن تمنّ عليّ ببيان ذلك لكي لا أكون مقيما على حرام لا صلاة لي و لا صوم، فكتب: «الفائدة مما يفيد إليك في تجارة من ربحها و حرث بعد الغرام أو جائزة.» «1»

و يزيد هذا يظن كونه يزيد بن إسحاق بقرينة رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه، و قد وثقوه.

7- و في رواية علي بن الحسين بن عبد ربّه، قال: سرّح الرضا «ع» بصلة إلى أبي، فكتب إليه أبي: هل عليّ فيما سرّحت إليّ خمس؟ فكتب إليه: «لا خمس عليك فيما سرّح به صاحب الخمس.» «2»

يظهر من الرواية أن الصلة بالطبع فيها الخمس. و في سند الرواية سهل بن زياد، و الأمر فيه سهل.

8- و في تحف العقول، عن الرضا «ع» في كتابه إلى المأمون قال: «و الخمس من جميع المال مرة واحدة.» «3» و لكن ليست هذه الجملة في نقل العيون.

9- و في رواية عيسى بن المستفاد، عن أبي الحسن موسى بن جعفر عن أبيه «ع» أن رسول اللّه «ص» قال: «... و إخراج الخمس من كل ما يملكه أحد من الناس حتى يرفعه إلى وليّ المؤمنين و أميرهم. الحديث.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 350، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 7.

(2)- الوسائل 6/ 354، الباب 11 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

(3)- الوسائل 6/ 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 13.

(4)- الوسائل 6/ 386، الباب 4 من أبواب

الأنفال ...، الحديث 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 86

10- و في فقه الرضا بعد ذكر الآية الشريفة قال:

«و كل ما أفاده الناس فهو غنيمة، لا فرق بين الكنوز و المعادن و الغوص ... و هو ربح التجارة و غلّة الضيعة و سائر الفوائد من المكاسب و الصناعات و المواريث و غيرها، لأن الجميع غنيمة و فائدة.» «1»

هذا مضافا إلى أنه إذا كان ما يحصل للإنسان بتعب و مشقة موردا للمالية و الضريبة فما يحصل له مجانا و بلا تعب أولى بذلك و أحق، فهذا أمر يحكم به العقل و الاعتبار العرفي.

و بالجملة، قد تحصل لك أن المستفاد من الآية الشريفة و الأخبار المستفيضة ثبوت الخمس في مطلق الفائدة.

و لكن المذكور في كلمات الأصحاب خصوص أرباح التجارات و الصناعات و الزراعات، فهل يؤخذ بعموم الآية و مفاد الروايات المذكورة و تحمل كلماتهم على قصد المثال و بيان المنابع المتعارفة لتحصيل المال، أو يؤخذ بظاهر كلماتهم و يرفع اليد عمّا دلّ على ثبوت الخمس في مثل الهدية و الجائزة و الميراث بإعراض الأصحاب، بتقريب أن عدم تعرّضهم لمثل الميراث و الهدية و الجائزة في كتبهم المعدّة لنقل الفتاوى المأثورة عن الأئمة «ع» مع عموم الابتلاء بها يكشف كشفا قطعيا عن خروجها عندهم عن موضوع الخمس و أنهم تلقوا ذلك عن الأئمة يدا بيد.

قال في السرائر:

«قال بعض أصحابنا إن الميراث و الهدية و الهبة فيه الخمس، ذكر ذلك أبو الصلاح الحلبي في كتاب الكافي الذي صنفه، و لم يذكره أحد من أصحابنا إلا المشار إليه، و لو كان صحيحا لنقل نقل أمثاله متواترا، و الأصل براءة الذمة.» «2»

و في مصباح الفقيه ما

حاصله:

______________________________

(1)- فقه الرضا/ 294.

(2)- السرائر/ 114.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 87

«لا ينبغي الارتياب في عدم تعارفه بين المسلمين في زمان النبي «ص» و لا بين الشيعة في عصر أحد من الأئمة «ع»، و إلا امتنع عادة اختفاء مثل هذا الحكم أعني وجوب صرف خمس المواريث، بل و كذا العطايا مع عموم الابتلاء به، على النساء و الصبيان من المسلمين فضلا عن صيرورته خلافيا أو صيرورة خلافه مشهورا لو لم يكن مجمعا عليه، فوقوع الخلاف في مثل المقام أمارة قطعية على عدم معروفيته في عصر الأئمة «ع» بل و لا في زمان الغيبة الصغرى، و إلا لقضت العادة بصيرورته من ضروريات الدين لو كان في عصر النبي «ص» أو المذهب لو كان في أعصار الأئمة «ع».» «1»

أقول: قد عرفت في أوائل بحث الخمس أن الغنيمة اسم لكل فائدة غير مترقبة أو زائدة على ما يترقب، فتشمل مثل الهدية و الجائزة الخطيرة بلا إشكال. و تعرضت لها الأخبار أيضا.

و أما الميراث فحيث إنه مما يقتضيه نظام التكوين لكل أحد بلا استثناء فيمكن أن يقال إنه أمر مترقب و مرجوّ الحصول و مقطوع التحقق، فلا يصدق عليه الاغتنام إلا فيما لا يحتسب كما دلّ على ذلك صحيحة ابن مهزيار.

بل يمكن أن يقال إن الاغتنام إنما يصدق في تبديل الأموال و نقلها، و ما هو المتبدل في المواريث إنما هو الملّاك لا الأموال فكأن الأموال و العقارات باقية على حالها و في مكانها و إنما تبدّل ملاكها بحسب ما اقتضاه نظام التكوين، فتأمّل.

ثم لو أبيت إلا عن صدق الغنيمة على الميراث أمكن الاستدلال على عدم الخمس في ما يحتسب منه بمفهوم الوصف في

الصحيحة و بأنه لو كان الخمس ثابتا فيه لاشتهر غاية الاشتهار بين العوام أيضا فضلا عن الخواص لكثرة الابتلاء به في جميع البلاد و في جميع الأعصار.

و لعل وزان الصداق أيضا وزان الميراث، فإنه أمر يرجى حصوله بحسب نظام

______________________________

(1)- مصباح الفقيه/ 129.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 88

المجتمع. بل يمكن أن يقال إنه عوض عن الزوجية و البضع، حيث إن الزوجة تجعل نفسها تحت سلطنة الزوج بإزائه و تسلب حريتها بذلك فلا يصدق عليه الاغتنام

و من هذا القبيل أيضا عوض الخلع، فإنه بإزاء رفع اليد عن السلطة المملوكة.

هذا مضافا إلى أنه لو ثبت فيهما الخمس لاشتهر و بان لكثرة الابتلاء بهما و لا سيما بالصداق. هذا.

و أما رفع اليد عن العمومات و الأخبار المستفيضة الدالة على ثبوت الخمس في الهبة و الهدية و الجائزة و الميراث الذي لا يحتسب باستناد إعراض الأصحاب عنها فالالتزام به مشكل، لعدم ثبوت الإعراض، و إنما الثابت هو عدم تعرض الأكثر، و لعلهم ذكروا عناوين التجارة و الصناعة و الزراعة من باب المثال و من باب ذكر المصاديق الغالبة التي يزاولها الأكثر، و لذا قد عطف بعضهم عليها كلمة: «و غير ذلك.»

و كيف كان فالأقوى فيها ثبوت الخمس، وفاقا لأبي الصلاح و استحسنه في اللمعة و مال إليه في شرحها و قواه الشيخ الأعظم في خمسه بل لعله الظاهر من المعتبر أيضا، فتدبّر.

ثم لا يخفى أن من مصاديق الفوائد التي قوينا فيها الخمس ما إذا اشترى شيئا للقنية لا للتجارة، ثم اتفق أن باعه بأكثر مما اشتراه به، فالزائد على الثمن يكون من فوائد سنة البيع فيثبت الخمس فيما زاد منها على

مئونة السنة، بل لأحد أن يدرج هذا في عنوان التكسب أيضا، إذ حين الشراء و إن لم يكن قاصدا للنماء و الزيادة و لكنه قصدها حين ما باعه و يكفي هذا في صدق عنوان التكسب. بل قد يقال بذلك في مثل الهبة أيضا بتقريب أن قبولها نوع من التكسب، فتأمّل.

السادس مما فيه الخمس على ما قالوا: الأرض التي اشتراها الذمي من المسلم:

«عند ابني حمزة و زهرة و أكثر المتأخرين من أصحابنا، بل في الروضة نسبته إلى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 89

الشيخ و المتأخرين أجمع، بل في المنتهى و التذكرة نسبته إلى علمائنا، بل في الغنية الإجماع عليه، و هو- بعد اعتضاده بما عرفت- الحجة.» كذا في الجواهر. «1»

و في نهاية الشيخ:

«و الذمي إذا اشترى من مسلم أرضا وجب عليه فيها الخمس.» «2»

و في المبسوط:

«و إذا اشترى دمي من مسلم أرضا كان عليه فيها الخمس.» «3»

و في الغنية:

«و في المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، و في الأرض التي يبتاعها الذمي بدليل الإجماع المتردد.» «4» هذا.

و لكن في المختلف:

«لم يذكر ذلك ابن الجنيد و لا ابن أبي عقيل و لا المفيد و لا سلّار و لا أبو الصلاح.» «5»

فالمسألة مختلف فيها. و الأصل في المسألة ما رواه الشيخ بسند صحيح، عن أبي عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «أيّما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن عليه الخمس.» و رواه الصدوق أيضا بإسناده، عن الحذاء «6».

و في زيادات المقنعة عن الصادق «ع» قال: «الذمي إذا اشترى من المسلم الأرض فعليه فيها الخمس.» «7» و هي مع إرسالها يحتمل رجوعها إلى الصحيحة و وقوع الوهم في النسبة إلى الصادق «ع».

و الظاهر من الحديث و لا سيما المرسلة تعلق الخمس

برقبة الأرض، و هو الظاهر من النهاية و المبسوط و غيرهما. و لكن التتبع يوجب التزلزل في المسألة:

______________________________

(1)- الجواهر 16/ 65.

(2)- النهاية/ 197.

(3)- المبسوط 1/ 237.

(4)- الجوامع الفقهية/ 507 (طبعة أخرى/ 569).

(5)- المختلف/ 203.

(6)- الوسائل 6/ 352، الباب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(7)- الوسائل 6/ 352، الباب 9 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 90

1- ففي خراج أبي يوسف:

«قال أبو يوسف: و كل أرض من أرض العشر اشتراها نصراني تغلبي فإن العشر يضاعف عليه كما يضاعف عليهم في أموالهم التي يختلفون بها في التجارات، و كل شي ء يجب على المسلم فيه واحد فعلى النصراني التغلبي اثنان. قال: و إن اشترى رجل من أهل الذمة سوى نصارى بني تغلب أرضا من أرض العشر فإن أبا حنيفة قال: أضع عليها الخراج ... و أنا أقول أن يوضع عليها العشر مضاعفا فهو خراجها ... قال أبو يوسف: حدثني بعض أشياخنا أن الحسن و عطاء قالا في ذلك العشر مضاعفا، قال أبو يوسف: فكان قول الحسن و عطاء أحسن عندي من قول أبي حنيفة.» «1»

2- و في كتاب الأموال لأبي عبيد:

«أخبرني محمد، عن أبي حنيفة، قال: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحوّلت أرض خراج، قال: و قال أبو يوسف: يضاعف عليه العشر ... قال أبو عبيد: و كان سفيان بن سعيد يقول: عليه العشر على حاله ... و روى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عشر عليه و لكنه يؤمر ببيعها لأن في ذلك إبطالا للصدقة، و كذلك يروى عن الحسن بن صالح أنه قال: لا عشر عليه و لا خراج.» «2»

3- و

في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«قال حرب: سألت أحمد عن الذمي يشتري أرض العشر؟ قال: لا أعلم شيئا و أهل المدينة يقولون في هذا قولا حسنا: يقولون: لا يترك الذمي يشتري أرض العشر، و أهل البصرة يقولون قولا عجبا: يقولون: يضاعف عليهم، و قد روى عن احمد انهم يمنعون من شرائها، اختارها الخلّال و هو قول مالك و صاحبه فإن اشتروها ضوعف عليهم العشر فأخذ منهم الخمس.» «3» هذا.

4- و الشيخ «ره» عنون في الخلاف ثلاث مسائل متعاقبة متناسبة فقال في المسألة

______________________________

(1)- الخراج/ 121.

(2)- الأموال/ 116- 118.

(3)- المغني 2/ 576.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 91

«84»: من الزكاة:

«إذا اشترى الذمي أرضا عشرية وجب عليه فيها الخمس، و به قال أبو يوسف فإنه قال: عليه فيها عشران. و قال محمد: عليه عشر واحد. و قال أبو حنيفة: تنقلب خراجية. و قال الشافعي: لا عشر عليه و لا خراج. دليلنا إجماع الفرقة فإنهم لا يختلفون في هذه المسألة، و هي مسطورة لهم منصوص عليها، روى ذلك أبو عبيدة الحذاء، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: أيّما ذمي اشترى من مسلم أرضا فإن عليه الخمس.» «1»

و في المسألة «85»:

«إذا باع تغلبي و هم نصارى العرب أرضه من مسلم وجب على المسلم فيها العشر أو نصف العشر، و لا خراج عليه. و قال الشافعي: عليه العشر. و قال أبو حنيفة:

يؤخذ منه عشران. دليلنا أن هذه ملك قد حصل لمسلم و لا يجب عليه في ذلك أكثر من العشر، و ما كان يؤخذ من الذمي من الخراج كان جزية، فلا يلزم المسلم ذلك.» «2»

و في المسألة «86»:

«إن اشترى تغلبي من ذمي أرضا لزمته الجزية كما

كانت تلزم الذمي. و قال أبو حنيفة و أصحابه: عليه العشران. و هذان العشران عندهم خراج يؤخذ باسم الصدقة. و قال الشافعي: لا عشر عليه و لا خراج. دليلنا أن هذا ملك قد حصل لذمي فوجب عليه فيه الجزية كما يلزم في سائر أهل الذمة.» «3»

5- و قال العلامة في المنتهى:

«الذمي إذا اشترى أرضا من مسلم وجب عليه الخمس. ذهب إليه علماؤنا.

و قال مالك: يمنع الذمي من الشراء إذا كانت عشرية، و به قال أهل المدينة و أحمد في رواية. فإن اشتراه ضوعف العشر فوجب عليه الخمس. و قال أبو حنيفة: تصير

______________________________

(1)- الخلاف 1/ 300.

(2)- الخلاف 1/ 300.

(3)- الخلاف 1/ 300.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 92

أرض خراج. و قال الثوري و الشافعي و أحمد في رواية أخرى: يصح البيع و لا شي ء عليه و لا عشر أيضا. و قال محمد بن الحسن: عليه العشر. لنا أن في إسقاط العشر إضرارا بالفقراء، فإذا تعرضوا لذلك ضوعف عليهم فأخرج الخمس. و يؤيده ما رواه الشيخ عن أبي عبيدة الحذاء. الحديث.» «1»

و نحو ذلك في التذكرة أيضا. «2»

و تعرض للمسألة و نقل الأقوال المحقق في المعتبر أيضا، فراجع. «3»

6- و في منتقى الجمان بعد نقل الصحيحة قال:

«قلت: ظاهر أكثر الأصحاب الاتفاق على أن المراد من الخمس في هذا الحديث معناه المعهود، و للنظر في ذلك مجال. و يعزى إلى مالك القول بمنع الذمي من شراء الأرض العشرية و أنه إن اشتراها ضوعف العشر فيجب عليه الخمس، و هذا المعنى يحتمل إرادته من الحديث إما موافقة عليه أو تقية على الرأي الظاهر لأهل الخلاف وقت صدور الحكم. و معلوم أن رأي مالك

كان هو الظاهر في زمن الباقر «ع».

و مع قيام هذا الاحتمال بل قربه لا يتّجه التمسك بالحديث في إثبات ما قالوه، و ليس هو بمظنّة بلوغ حد الإجماع ليغنى عن طلب الدليل فإن جمعا منهم لم يذكروه أصلا و صرّح بعضهم بالتوقف فيه ...» «4»

أقول: ولادة مالك على ما في مقدمة الموطأ كانت في 95 من الهجرة، و في هذه السنة أيضا بدأت إمامة الباقر «ع» على ما في أصول الكافي، و وفاة الإمام «ع» كانت في 114 «5» فلم يكن مالك في عصر إمامته «ع» أهلا لأن يظهر فتواه و يتقى منه. نعم، هذه الفتوى كانت ظاهرة قبل ذلك عن الحسن و عطاء كما مرّ بل كان

______________________________

(1)- المنتهى 1/ 549.

(2)- التذكرة 1/ 253.

(3)- المعتبر/ 293.

(4)- منتقى الجمان 2/ 443.

(5)- الموطّأ، أو اخر المقدمة؛ و أصول الكافي 1/ 466 و 469.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 93

هذا عمل النبي «ص» و كذا الخليفة الثاني كما يأتي عن قريب.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 93

و كيف كان فهل نلتزم بثبوت الخمس في رقبة الأرض تمسكا بظاهر الصحيحة و الإجماع المنقول و شهرة المتأخرين من أصحابنا، أو نمنع ذلك بتقريب أن صدور الحديث من الإمام «ع» في جوّ كان البحث عن بيع الأرض العشرية من الذمّي و عن كيفية المعاملة معه من أخذ الخراج أو العشر أو الخمس ظاهرا بينهم يوجب التردد في الحكم لاحتمال صدور الحديث تقية أو كون مراد الإمام- عليه السلام-

أيضا ثبوت الخمس أي العشرين في حاصل الأرض بعنوان الزكاة وفقا لهم و لما حكي عن النبي «ص». إذ لا بعد في كون الحكم ذلك لئلا يرغب أهل الذمة في شراء أراضي المسلمين، بل أنس ذهن الراوي بالحكم الشائع في ذلك الجو يوجب انسباق ذلك من كلام الإمام أيضا. فيمنع بذلك ظهور الصحيحة في خمس الرقبة.

كيف؟! و عمدة الدليل على حجية الخبر بناء العقلاء، و يمكن منع بنائهم على العمل مع تلك القرائن الموجبة لعدم الظهور أو عدم إرادته.

و لعل نظر بعض المفتين في المسألة كالشيخ في الخلاف و العلامة في المنتهى و التذكرة أيضا كان إلى ثبوت الخمس في حاصل الأرض لا في رقبتها، فتأمل في العبارات التي مرت، بل الظاهر من عبارة الخلاف كون موضوع البحث عند أصحابنا أيضا هو حاصل الأرض العشرية و أنهم حملوا الصحيحة أيضا على ذلك.

نعم للحاكم الإسلامي منع الذمي من شراء الأرض و سائر العقارات من المسلمين إذا كان هذا مقدمة لاستيلائهم الاقتصادي و السياسي كما شوهد ذلك في فلسطين، و له أيضا جعل الخمس على رقبة الأرض إذا فرض اشتراؤها و يصير هذا نحو جزية عليهم. هذا.

و ليس جعل الخمس في حاصل أراضي الكفّار أمرا غريبا يستوحش منه، بل له سابقة في سيرة النبي «ص» و الخلفاء:

ففي خبر محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» أ رأيت ما يأخذ هؤلاء من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 94

هذا الخمس من أرض الجزية و يأخذ من الدهاقين جزية رءوسهم؛ أما عليهم في ذلك شي ء موظّف؟ فقال: «كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، و ليس للإمام أكثر من الجزية؛ إن شاء الإمام

وضع ذلك على رءوسهم و ليس على أموالهم شي ء، و إن شاء فعلى أموالهم و ليس على رءوسهم شي ء» فقلت: «فهذا الخمس؟» فقال: «إنما هذا شي ء كان صالحهم عليه رسول اللّه «ص».» «1»

و روى الصدوق، قال: قال الرضا «ع»: «إن بني تغلب أنفوا من الجزية و سألوا عمر أن يعفيهم، فخشى أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رءوسهم و ضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه و رضوا به إلى أن يظهر الحق.» «2»

و قد ظهر مما ذكرناه بطوله الإشكال في خمس رقبة الأرض التي اشتراها الذمّيّ من المسلم، بل الثابت هو الخمس في حاصلها بعنوان الزكاة، و على ذلك تحمل الصحيحة و كثير من كلمات الأصحاب أيضا، فليس في المسألة إجماع و لا شهرة مقنعة، و الظاهر من كلمة الأرض في تلك الأعصار كان أراضي الزراعة و التنمية لا مثل أراضي الدور و الدكاكين و نحوها لعدم الاهتمام فيها بأرضها، فتدبّر.

السابع مما فيه الخمس: الحلال المختلط بالحرام

على وجه لا يتميز مع الجهل بصاحبه و بمقداره، فيحلّ بإخراج خمسه:

و قد أفتى بذلك في النهاية و الغنية و غيرهما بل ادعي عليه الإجماع و الشهرة:

قال في النهاية:

«و إذا حصل مع الإنسان مال قد اختلط الحلال بالحرام و لا يتميز له، و أراد تطهيره

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 95

أخرج منه الخمس و حلّ له التصرف في الباقي.» «1»

و في الغنية في عداد ما فيه الخمس:

«و في المال الذي لم يتميز حلاله من حرامه، و في الأرض التي يبتاعها

الذمي، بدليل الإجماع المتردد.» «2»

نعم، لم يذكره المفيد و ابن أبي عقيل و ابن الجنيد، كما في المختلف.

و قال في المدارك:

«المطابق للأصول وجوب عزل ما يتيقن انتفاؤه عنه و التفحص عن مالكه إلى أن يحصل اليأس من العلم به فيتصدق به على الفقراء، كما في غيره من الأموال المجهولة المالك.» «3»

و كيف كان فقد استدلوا لوجوب الخمس في المقام بروايات، فلنذكر بعضها:

1- صحيحة عمار بن مروان، المروية عن الخصال، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «فيما يخرج من المعادن و البحر و الغنيمة و الحلال المختلط بالحرام إذا لم يعرف صاحبه و الكنوز الخمس.» «4»

و الرواية لا بأس بها سندا و دلالة. و ظاهر الخمس فيها، هو الخمس المصطلح، نعم ربما يوهنها عدم ذكرها في الكتب الأربعة.

2- ما رواه الشيخ بسنده، عن الحسن بن زياد، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«إن رجلا أتى أمير المؤمنين «ع» فقال: يا أمير المؤمنين، إني أصبت مالا لا أعرف حلاله من حرامه؟

فقال له: أخرج الخمس من ذلك المال، فإن اللّه- عزّ و جلّ- قد رضي من ذلك المال بالخمس،

______________________________

(1)- النهاية/ 197.

(2)- الجوامع الفقهية/ 507 (طبعة أخرى/ 569).

(3)- المدارك/ 339.

(4)- الوسائل 6/ 344، الباب 3 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 96

و اجتنب ما كان صاحبه يعلم.» «1»

هكذا في الوسائل، و لكن الشيخ رواها في موضعين من التهذيب ذكر في الموضع الأول «يعمل» بدل قوله: «يعلم»، و في الموضعين «قد رضي من المال» بدل قوله: «قد رضي من ذلك المال.» «2»

3- ما رواه المشايخ الثلاثة بسند لا بأس به، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»: ففي

الفقيه: «روى السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن أبيه، عن آبائه «ع»، قال: «أتى رجل عليا «ع» فقال: إني كسبت مالا أغمضت في طلبه حلالا و حراما، فقد أردت التوبة و لا أدري الحلال منه و لا الحرام فقد اختلط عليّ؟ فقال علي «ع»: أخرج خمس مالك، فإن اللّه- عزّ و جلّ- قد رضي من الإنسان بالخمس، و سائر المال كله لك حلال.» «3»

و رواه الكليني أيضا إلا أنه قال: «فقال أمير المؤمنين «ع»: «تصدق بخمس مالك، فإن اللّه- جلّ اسمه- رضي من الأشياء بالخمس، و سائر الأموال لك حلال.» «4» و رواه الشيخ أيضا بسنده عن الكليني. «5»

و الظاهر رجوع روايتي السكوني و الحسن بن زياد إلى رواية واحدة، لتشابههما في السؤال و نقلهما لواقعة واحدة اتفقت في زمان أمير المؤمنين «ع». و يبعد تعدد الواقعة.

و على هذا فيشكل الاعتماد على ما اختلفتا فيه من الخصوصيات.

و هل تحمل الروايتان على المال الذي أصابه الإنسان من شخص آخر بالوراثة أو الاشتراء أو نحوهما و قد اختلط مال ذلك الشخص إجمالا و لكن يحتمل كون المال المنتقل إليه بأجمعه من الحلال فيكون حلالا له و يحمل الخمس فيه على خمس الأرباح و الفوائد كما قد يحتمل، أو يراد المال الذي قد اختلط عند نفسه أو عند غيره و لكن المختلط قد انتقل إليه فيكون الخمس للتحليل؟ و جهان، و لعل الثاني هو الأظهر.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 352، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

(2)- التهذيب 4/ 124 و 138، كتاب الزكاة، الباب 35 و 39.

(3)- الفقيه 3/ 189، كتاب المعيشة، باب الدين و القرض، الحديث 3713.

(4)- الكافي 5/ 125 (ط. القديم من الفروع

1/ 363)، كتاب المعيشة، باب المكاسب الحرام، الحديث 5.

(5)- الوسائل 6/ 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 97

و يحتمل فيهما أيضا أن يراد حلية المال المختلط أو المشتبه بسبب توبة الشخص و يكون الخمس فيه أيضا من قبيل خمس الفوائد، و لا بعد في أن يحل المال المختلط أو المشتبه و ينصبغ الحرام في البين بصبغة الحلية بسبب التوبة، كما يشهد بذلك الأخبار المستفيضة الواردة في المال المختلط بالربا، فراجع الوسائل الباب الخامس من أبواب الربا. «1» و كذلك موثقة سماعة فيمن أصاب مالا من عمل بني أميّة. «2»

و يشهد بذلك أيضا مرسلة الصدوق في المقام، و قد فصّلنا البحث في ذلك في كتاب الخمس، فراجع. «3»

4- مرسلة الصدوق، قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين «ع» فقال:

يا أمير المؤمنين، أصبت مالا أغمضت فيه، أ فلي توبة؟ قال: ايتني خمسه، فأتاه بخمسه، فقال: «هو لك، إن الرجل إذا تاب تاب ماله معه.» «4»

و الظاهر كونها مشيرة إلى نفس الواقعة المذكورة في روايتي السكوني و الحسن بن زياد، فيجري فيها ما مضى فيهما.

5- موثقة عمّار الساباطي، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سئل عن عمل السلطان يخرج فيه الرجل؟ قال: «لا، إلّا أن لا يقدر على شي ء يأكل و لا يشرب و لا يقدر على حيلة، فإن فعل فصار في يده شي ء فليبعث بخمسه إلى أهل البيت.» «5»

أقول: الظاهر أن المراد بالخمس فيه هو الخمس المصطلح و لكن المورد في الحديث هو المال المشتبه لا المختلط، إذ المنتقل إليه لا يعلم بوجود الحرام فيه، فالخمس فيه هو خمس الأرباح، فتأمل.

______________________________

(1)- الوسائل 12/

430.

(2)- الوسائل 12/ 59، الباب 4 من أبواب ما يكتسب به الخمس، الحديث 2.

(3)- كتاب الخمس/ 110 و ما بعدها.

(4)- الوسائل 6/ 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(5)- الوسائل 6/ 353، الباب 10 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 98

فالعمدة في المسألة هو صحيحة عمار بن مروان و معتبرة السكوني. و عمدة الإشكال في المسألة هو أن الحكم الشرعي في المال الذي لا يعرف صاحبه أو لا يمكن إيصاله إلى صاحبه كاللقطة و ما أودعه اللصوص عند الإنسان و غير ذلك هو التصدق به كما نطقت بذلك الأخبار في الموارد المختلفة.

و من البعيد جدا كون المصرف هو التصدق فيما إذا علم مقدار الحرام، و الخمس المصطلح فيما إذا لم يعلم مقداره. فيحتمل قويا كون مصرف الخمس في المقام هو مصرف الصدقات، غاية الأمر أن المقدار لما كان مجهولا فاللّه- تعالى-، مالك الأملاك و وليّ الغائب، صالح الحرام الموجود في البين بالخمس.

و يؤيد ذلك قوله «ع» في خبر السكوني بنقل الكليني: «تصدق بخمس مالك.»

و الكليني ذكر روايات الخمس في أواخر كتاب الحجة من الكافي، لكونه عنده من حقوق الإمامة، و لكنه ذكر خبر السكوني الذي مرّ في كتاب المعيشة من الفروع، فيظهر بذلك أنه لم يجعل الخمس في المال المختلط من قبيل الخمس المصطلح.

و في حاشية الفروع عن مرآة العقول قال: «و اختلفوا في أنه خمس أو صدقة، و الأخير أشهر.» «1»

و ليس لفظ الخمس حقيقة شرعية في الخمس المصطلح المعهود كما قد يتوهم، بل يراد به جزء من الأجزاء الخمسة. نعم، قرينة السياق في صحيحة عمّار بن

مروان ربما تشهد بإرادة الخمس المصطلح. هذا.

و لو قيل بأن الخمس المصطلح بأجمعه حق وحدانيّ لمنصب الإمامة كما سيأتي بيانه، و أن مصرف الصدقة مطلقا هو جميع المصارف الثمانية التي منها جميع سبل الخير لا خصوص الفقراء و المساكين كما لا يبعد، و يشهد له آية مصرف الصدقات، و كذا إطلاق الصدقة على الأوقاف العامّة، و قوله «ع»: «كل معروف صدقة» «2»، و قوله «ع»: «عونك للضعيف من أفضل الصدقة» «3»، و نحو ذلك من الاستعمالات، انحلّ

______________________________

(1)- الكافي 5/ 125، كتاب المعيشة، باب المكاسب الحرام، ذيل خبر السكوني.

(2)- الوسائل 6/ 321، الباب 41 من أبواب الصدقة، الحديث 1 و 2.

(3)- تحف العقول/ 414.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 99

الإشكال من رأسه، إذ يصرف الجميع في مصالح الإسلام و المسلمين و شئون الإمامة و الحكومة، و منها فقراء المسلمين و فقراء بني هاشم، فتأمل، لبقاء الإشكال إن منعنا إعطاء الصدقة لبني هاشم، اللّهم إلا أن يقال باختصاص ذلك بالزكاة الواجبة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 100

الجهة الثالثة: في مصرف الخمس:

[كلمات الفريقين]

1- قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 37):

«عندنا أن الخمس يقسّم ستة أقسام: سهم للّه و سهم لرسوله و سهم لذي القربى، فهذه الثلاثة أسهم كانت للنبي «ص» و بعده لمن يقوم مقامه من الأئمة، و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل من آل محمد «ص» لا يشركهم فيه غيرهم.

و اختلف الفقهاء في ذلك: فذهب الشافعي إلى أن خمس الغنيمة يقسم على خمسة أسهم: سهم لرسول اللّه «ص» و سهم لذي القربى و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل، فأمّا سهم

رسول اللّه «ص» فيصرف في مصالح المسلمين، و أما سهم ذي القربى فإنه يصرف إلى ذوي القربى على ما كان يصرف إليهم على عهد النبي «ص» على ما نبينه فيما بعد.

و ذهب أبو العالية الرياحي إلى أن الخمس من الغنيمة و الفي ء مقسوم على ستة أقسام: سهم للّه- تعالى-، و سهم لرسوله، و سهم لذي القربى، و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لأبناء السبيل. و ذهب مالك إلى أن خمس الغنيمة و أربعة أخماس الفي ء مفوض إلى اجتهاد الإمام ليصرفه إلى من رأى أن يصرفه إليه.

و ذهب أبو حنيفة إلى أن خمس الغنيمة و أربعة أخماس الفي ء يقسم على ثلاثة أسهم:

سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل. هذا الذي رواه عنه الحسن بن زياد اللؤلؤي ...

دليلنا إجماع الفرقة المحقة و أخبارهم، و أيضا قوله- تعالى-: فأنّ للّه خمسه و للرسول. الآية.» «1»

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 340.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 101

2- و فيه أيضا (المسألة 38):

«سهم ذي القربى ثابت لم يسقط بموت النبي «ص»، و هو لمن قام مقامه. و قال الشافعي: سهم ذي القربى ثابت و هو خمس الخمس يصرف إلى أقاربه الغني و الفقير منهم و يستحقونه بالقرابة. و قال أبو حنيفة: سهم ذي القربى سقط بموت النبي «ص» ... دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا قوله- تعالى-: و لذي القربى ...» «1»

3- و فيه أيضا (المسألة 39):

«عندنا أن سهم ذي القربى للإمام، و عند الشافعي لجميع ذي القربى يستوي فيه القريب و البعيد و الذكر و الأنثى ... دليلنا إجماع الفرقة.» «2»

4- و فيه أيضا (المسألة 41):

«الثلاثة أسهم التي هي لليتامى و

المساكين و أبناء السبيل من الخمس، يختص بها من كان من آل الرسول «ص» دون غيرهم، و خالف جميع الفقهاء في ذلك و قالوا: إنها لفقراء المسلمين و أيتامهم و أبناء سبيلهم دون من كان من آل الرسول خصوصا. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «3»

5- و في خراج أبي يوسف القاضي:

«و أما الخمس الذي يخرج من الغنيمة فإن محمد بن السائب الكلبي حدثني عن أبي صالح، عن عبد اللّه بن عباس: أن الخمس كان في عهد رسول اللّه «ص» على خمسة أسهم: للّه و للرسول سهم، و لذي القربى سهم، و لليتامى و المساكين و ابن السبيل ثلاثة أسهم، ثم قسمه أبو بكر و عمر و عثمان على ثلاثة أسهم، و سقط سهم الرسول و سهم ذوي القربى، و قسم على الثلاثة الباقية، ثم قسمه علي بن أبي طالب على ما قسمه عليه أبو بكر و عمر و عثمان. و قد روي لنا عن عبد اللّه بن عباس أنه قال:

عرض علينا عمر بن الخطاب أن نزوّج من الخمس أيّمنا و نقضي منه عن مغرمنا،

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 341.

(2)- الخلاف 2/ 343.

(3)- الخلاف 2/ 344.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 102

فأبينا إلا أن يسلمه لنا، و أبى ذلك علينا.

قال: و أخبرني محمد بن اسحاق، عن أبي جعفر (عن جعفر خ. ل)، قال: قلت له:

ما كان رأي علي في الخمس؟ قال: كان رأيه فيه رأي أهل بيته و لكنه كره أن يخالف أبا بكر و عمر ...

قال: و حدثني عطاء بن السائب أن عمر بن عبد العزيز بعث بسهم الرسول و سهم ذوي القربى إلى بني هاشم.» «1»

6- و في تفسير القرطبي:

«قال مالك:

هو موكول إلى نظر الإمام و اجتهاده فيأخذ منه من غير تقدير و يعطي منه القرابة باجتهاد، و يصرف الباقي في مصالح المسلمين، و به قال الخلفاء الأربعة و به عملوا و عليه يدلّ قوله «ص»: مالي مما أفاء اللّه عليكم إلّا الخمس، و الخمس مردود عليكم.» «2»

7- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«الفصل الرابع أن الخمس يقسم على خمسة أسهم، و بهذا قال عطاء و مجاهد و الشعبي و النخعي و قتادة و ابن جريج و الشافعي. و قيل يقسم على ستة: سهم للّه، و سهم لرسوله ...

و روى ابن عباس أن أبا بكر و عمر قسما الخمس على ثلاثة أسهم، و نحوه حكي عن الحسن بن محمد بن الحنفية، و هو قول أصحاب الرأي: قالوا: يقسم الخمس على ثلاثة: اليتامى و المساكين و ابن السبيل، و أسقطوا سهم رسول اللّه «ص» بموته و سهم قرابته أيضا.

و قال مالك: الفي ء و الخمس واحد يجعلان في بيت المال، قال ابن القاسم: و بلغني عمن أثق به أن مالكا قال: يعطي الإمام أقرباء رسول اللّه «ص» على ما يرى، و قال الثوري و الحسن: يضعه الإمام حيث أراه اللّه- عزّ و جلّ-. و لنا قول اللّه

______________________________

(1)- الخراج/ 19- 21.

(2)- تفسير القرطبي 8/ 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 103

- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ. الآية.» «1»

أقول: ما في كلام الشيخ و غيره من أصحابنا من كون الأسهم الثلاثة حتى سهم ذي القربى في عصر النبي «ص» للنبي «ص» يشهد لما سنبينه من كون الأسهم الثلاثة بل الستة حقا للإمامة و الإمارة، حيث إن منصب الإمامة في عصر النبي «ص» كان

له نفسه و كانت الإمامة قائمة به «ص». و لازم ذلك انتقال هذه السهام منه «ص» إلى الإمام بعده و هكذا.

و ما أفتى به أبو حنيفة و أتباعه من سقوط السهام الثلاثة بموته «ص» يكون على أساس ما حكوه من عمل الخلفاء بعده «ص». و يشاهد من له ثقافة من خلفه يد السياسة قهرا، و إلّا فأيّ وجه لسقوط حق ذي القربى بموت النبي «ص».

و ما أفتى به مالك من جعل الخمس و الفي ء في بيت المال و إعطاء الإمام منه أقرباء الرسول «ص» يرجع الى ما سنبيّنه من كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا يكون في اختيار إمام المسلمين، و وزانه وزان الفي ء و الأنفال، غاية الأمر أن الإمام يسدّ به خلّات الأصناف الثلاثة من السادة بما أنهم من بيت الوحي و الإمامة، فتدبّر.

و كيف كان فتقسيم الخمس ستة أسهم نسب إلى المشهور، و في مجمع البيان:

«ذهب إليه أصحابنا.» و في الانتصار و الخلاف و الغنية الإجماع عليه، و عن الأمالي أنه من دين الإمامية.

و استدلوا عليه- مضافا إلى الإجماع المدعى و الشهرة المحققة- بظاهر الآية و بأخبار مستفيضة:

______________________________

(1)- المغني 7/ 300.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 104

بيان مفاد الآية الشريفة:

قال اللّه- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ. الآية» «1».

و قد مرّ في أوّل البحث بيان صدر الآية، فراجع.

و أما قوله: «فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ ...» ففيه بالنظر البدوي احتمالان:

الأوّل: أن يراد به التقسيم و التسهيم، فيكون المراد تقسيمه ستة أسهم، كما عليه المشهور من أصحابنا، أو خمسة أسهم بجعل سهم اللّه و الرسول واحدا كما قال

به بعض، و يدلّ على هذا الاحتمال ظواهر كثير من الأخبار أيضا.

الثاني: أن يراد به الترتيب في الاختصاص، بتقريب أن الخمس بأجمعه حق وحداني جعله اللّه- تعالى- لمنصب الإمامة و الحكم، و حيث إن الحكم يكون أولا و بالذات للّه- تعالى-، مالك الملك و الملكوت (إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ) «2»* و قد جعله اللّه تعالى للرسول بقوله: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ» «3» و جعله النبي «ص» لذي القربى كما يشهد بذلك قوله «ص» في غدير خم: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» «4» فلا محالة يكون الخمس بأجمعه أولا و بالذات للّه- تعالى-، و في طول ذلك بأجمعه للرسول، و بعده لمن قام مقامه من ذوي قرباه، إماما بعد إمام، على ما هو معتقدنا في الإمامة.

و أما قوله: «وَ الْيَتٰامىٰ» و ما بعده فحيث لم يدخل عليه لام الملك و الاختصاص فلا اختصاص للخمس بهم و ليس ملكا لهم، و إنما يكونون من قبيل المصارف، و قد

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 41.

(2)- سورة الأنعام (6)، الآية 57، و سورة يوسف (12)، الآية 40 و 67.

(3)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.

(4)- راجع الغدير 1/ 9 و ما بعدها، و هذا الجزء من كلام النبي «ص» في «ص» 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 105

ذكروا في الآية اهتماما بشأنهم و إشعارا بأنهم من شئون الحكومة و من لواحقها.

و لعل في عدم ذكر اللام مضافا إلى ذلك نكتة أخرى أيضا، و هي الإشارة إلى شدّة اتّصالهم بالرسول و بذي القربى، فتدلّ الآية على اعتبار انتسابهم إليهما، فتدبّر.

و أما قوله- تعالى-: «وَ لِذِي الْقُرْبىٰ» ففيه بالنظر البدوي ثلاث احتمالات:

الأول: أن يراد به أقارب

من تعلق به الخمس، نظير قوله- تعالى-: «وَ آتَى الْمٰالَ عَلىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ.» «1»

و الظاهر أنه لم يقل بهذا الاحتمال في هذا المقام فيما أعرف أحد من الخاصة و لا العامة.

الثاني: أن يراد به أقارب النبي «ص» من قريش أو من بني هاشم أو بني هاشم و بني المطلب مطلقا، و اختار هذا فقهاء السنّة و نسب إلى ابن الجنيد من فقهائنا أيضا.

الثالث: أن يراد به خصوص الإمام «ع»، و قد ذكر مفردا للإشعار بذلك، حيث إن الإمام في كل عصر شخص واحد، و قد أشعر اللّه- تعالى- بهذا التعبير إلى أن المستحق لمنصب الإمامة بعد الرسول هو ذو القربى منه، و هذا الاحتمال هو ظاهر أصحابنا الإمامية و عليه دلت رواياتنا، و قد مرّت عبارة الخلاف في ذلك و لم ينسب الخلاف فيه إلا إلى ابن الجنيد من أصحابنا.

و حيث إن الأصناف الثلاثة لا يراد بها عندنا إلا من انتسب إلى النبي «ص» كما يأتي فلا محالة لا يراد بذي القربى مطلق من يتقرب به حذرا من التكرار، فالمراد به من له قرابة خاصة و هو الإمام بعده، فتأمل.

و أما قوله- تعالى-: «وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ»، فالمشهور بين أصحابنا اختصاصها بمن كان من آل الرسول «ص»، و ادعى بعضهم عليه الإجماع.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2) الآية 177.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 106

و أما فقهاء السنة فقالوا بعمومها لجميع يتامى المسلمين و مساكينهم و أبناء سبيلهم، و وافقهم في الجملة ابن الجنيد منّا.

و استدل أصحابنا على ذلك بعد الإجماع المدعى و الشهرة المحققة بأخبار مستفيضة:

منها قوله «ع» في مرسلة

ابن بكير، عن أحدهما «ع»: «و اليتامى يتامى الرسول و المساكين منهم و أبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم.» «1»

و منها قوله في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح «ع»: «و نصف الخمس الباقي بين أهل بيته، فسهم ليتاماهم، و سهم لمساكينهم، و سهم لأبناء سبيلهم. الحديث.» «2» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع.

و يمكن أن يقرب التعميم بوجهين: الأول: أن مفاد الآية و إن كان عاما لكن موردها غزوة بدر الواقعة في السنة الثانية من الهجرة، و في ذلك الوقت لم يكن لمن أسلم من بني هاشم أيتام و مساكين و أبناء سبيل يوزع عليهم خمس الغنيمة و لكن كثرت الأصناف الثلاثة من غيرهم و لا سيما من المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم. اللّهم إلّا أن يقال إن التشريع وقع بلحاظ الأعصار اللاحقة لا عصر النزول فقط.

الثاني: مماثلة آية الفي ء المذكورة في سورة الحشر «3» لهذه الآية في الألفاظ و الخصوصيات، و الفي ء عندنا من الأنفال المختصة بالإمام و لا تقسيم و لا تسهيم فيه، نعم للإمام صرفه في الأصناف الثلاثة مطلقا كما صرفه رسول اللّه «ص» في الفقراء المهاجرين الّذين أخرجوا من ديارهم و في بعض الأنصار. هذا.

و في أخبارنا أيضا ما يدلّ على التعميم: ففي الرسالة المنسوبة إلى الإمام الصادق «ع» المروية في تحف العقول قوله: «فخمّس رسول اللّه «ص» الغنيمة التي قبض

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 2.

(2)- الوسائل 6/ 358، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

(3)- سورة الحشر (59)، الآية 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 107

بخمسة أسهم، فقبض سهم اللّه لنفسه يحيي به ذكره

و يورث بعده، و سهما لقرابته من بني عبد المطلب، فأنفذ سهما لأيتام المسلمين و سهما لمساكينهم و سهما لابن السبيل من المسلمين في غير تجارة، فهذا يوم بدر. الحديث.» «1»

الروايات المتعرضة لمصرف الخمس:

و أما الروايات المتعرضة لمصرف الخمس فكثيرة يظهر من بعضها تقسيمه ستة أسهم و من بعضها تقسيمه خمسة أسهم، و قد تعرضنا لها بالتفصيل في كتاب الخمس، فراجع «2». و لنذكر هنا نماذج:

1- مرسلة حماد الطويلة المشتملة على أحكام كثيرة، رواها الكليني و الشيخ:

ففي أواخر كتاب الحجة من أصول الكافي: «علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع»، قال: الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله اللّه- تعالى- له و يقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه و ولي ذلك.

و يقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم للّه و سهم لرسول للّه و سهم لذي القربى و سهم لليتامى و سهم للمساكين و سهم لأبناء السبيل، فسهم اللّه و سهم رسول اللّه «ص» لأولي الأمر من بعد رسول اللّه «ص» وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة و سهم مقسوم له من اللّه، و له نصف الخمس كملا.

و نصف الخمس الباقي بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم و سهم لمساكينهم و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة (على الكفاف و السعة- التهذيب.) ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شي ء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده

______________________________

(1)- تحف العقول/ 341.

(2)- كتاب الخمس/ 255 و

ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 108

بقدر ما يستغنون به، و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم. الحديث.» «1»

و الرواية مع إرسالها قد عمل بفقراتها الأصحاب في الأبواب المختلفة، و حماد ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. «2»

و محط النظر في الرواية بيان كيفية تقسيم الإمام و صرفه للأموال و الضرائب الإسلامية من الأخماس و الزكوات و خراج الأراضي و الأنفال بعد فرض كونه مبسوط اليد و متصديا للحكومة الإسلامية و كونه بحيث يجتمع عنده الضرائب.

فالاستدلال بها لتتميم حاجات الذرّيّة من سهم الإمام في عصر الغيبة أو عدم بسط اليد مع كون الوجوه المجتمعة أقل قليل و كون بعض المصارف أهمّ بمراتب مشكل جدّا كما لا يخفى.

و عدم تعرض الرواية لخمس الأرباح مع كونها في مقام الاستقصاء و كون خمس الأرباح في عصر الإمام الكاظم- عليه السلام- مما تعم به البلوى يوجب نوع وهن و إشكال في خمس الأرباح، فتدبّر.

2- و نظير هذه المرسلة في موارد الخمس و تقسيمه ستة أسهم و تتميم حق السادة إن نقص مرفوعة أحمد بن محمد التي رواها الشيخ، فراجع. «3»

3- ما رواه الشيخ بسند موثوق به، عن عبد اللّه بن بكير، عن بعض أصحابه، عن أحدهما «ع» في قول اللّه- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ ...» قال: «خمس اللّه للإمام، و خمس الرسول للإمام، و خمس ذوي القربى لقرابة الرسول: الإمام. و اليتامى يتامى الرسول، و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم، فلا يخرج منهم إلى غيرهم.» «4»

و عبد اللّه بن بكير ممن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنه. «5»

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 539، كتاب الحجة،

باب الفي ء و الأنفال ...؛ و الوسائل 6/ 358، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

(2)- تنقيح المقال 1/ 367.

(3)- الوسائل 6/ 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 9.

(4)- الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 2.

(5)- تنقيح المقال 2/ 171.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 109

4- و في الدرّ المنثور: «و أخرج ابن المنذر من طريق أبي مالك، عن ابن عباس، قال: كان رسول اللّه «ص» يقسم ما افتتح على خمسة أخماس: فأربعة أخماس لمن شهده و يأخذ الخمس خمس اللّه فيقسمه على ستة أسهم: فسهم للّه، و سهم للرسول، و سهم لذي القربى، و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لابن السبيل. الحديث.» «1»

5- صحيحة ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان رسول اللّه «ص» إذا أتاه المغنم أخذ صفوه و كان ذلك له ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس و يأخذ خمسه، ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه. ثم قسم الخمس الذي أخذه خمسة أخماس:

يأخذ خمس اللّه- عزّ و جلّ- لنفسه. ثم يقسم الأربعة أخماس بين ذوي القربى و اليتامى و المساكين و أبناء السبيل يعطي كل واحد منهم حقا. و كذلك الإمام يأخذ كما أخذ الرسول «ص».» «2»

و مفاد الصحيحة نقل ما كان يصنعه النبي «ص» في الغنيمة و في الخمس لا مرّة بل بالاستمرار، و لعله كان يصنع ذلك في الخمس توفيرا على سائر المستحقين.

و لا ينافي ذلك قوله «ع»: «و كذلك الإمام»، اذ لعل المماثلة كان في أخذ الصفو و الخمس، لا في جميع الجهات.

و ظاهر هذه الصحيحة عموم الأصناف

الثلاثة و عدم اختصاصها بالذرية.

و الحمل على التقية مشكل، إذ يبعد جدا نسبة خلاف الواقع إلى النبي «ص» بداعي التقية. هذا و لكن يشكل مقاومة الصحيحة لظاهر الآية و صريح الأخبار و الفتاوى الدالة على ستة أسهم، فتأمل. هذا.

______________________________

(1)- الدّر المنثور 3/ 186.

(2)- الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 110

الخمس حق وحداني ثابت لمنصب الإمامة:

و لكن قد مرّ منّا في تفسير الآية الشريفة احتمال آخر قوي في نفسه، و هو أن يراد بها الترتيب في الاختصاص لا التقسيم و التسهيم، بتقريب أن الخمس حق وحداني جعل لمنصب الإمامة و الحكم. و حيث إن الحكم يكون أولا و بالذات للّه- تعالى-، و من قبله- تعالى- جعل للرسول حق الحكم، و من قبل الرسول «ص» جعل لذي القربى في غدير خم فلا محالة يكون الخمس بأجمعه أولا و بالذات للّه- تعالى-، و في الرتبة المتأخرة يكون بأجمعه للرسول بما أنه خليفة اللّه في الحكم، و بعده للإمام القائم مقامه. و مثله الأنفال أيضا.

لا أقول: إنهما لشخص الإمام، بل أقول: إنهما لمنصب الإمامة، نظير ما يحكم على الأموال العامة أنها للدولة و الحكومة. و أما الأصناف الثلاثة فلا ملكية لها و لا اختصاص بل هي مصارف له، و لذا لم يدخل عليها اللام لا في آية الخمس و لا في آية الفي ء.

و يشهد لهذا الاحتمال سياق الآية و أخبار كثيرة:

أما الآية فأولا من جهة أنه- تعالى- أدخل لام الاختصاص على اسمه الشريف و على كل من الرسول و ذي القربى، دون الأصناف الثلاثة، و ظاهر اللام الاختصاص التام و الملكية المستقلة.

و مقتضى ذلك اختصاص جميع الخمس باللّه-

تعالى- مستقلا و بالرسول كذلك و بذي القربى كذلك و لا محالة يكون ذلك طولية مترتبة.

و أما الأصناف الاخر فلا اختصاص بهم و لا ملكية لهم و إنما هم مصارف محضة، فيرتزقون من ميزانية الحكومة و الإمامة لكونهم من بيتها و من شئونها، و بذلك يفترقون عن سائر الفقراء، حيث إنهم يرتزقون من أموال الناس و صدقاتهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 111

و ثانيا من جهة أن تقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر، و على هذا فتقديم قوله:

«لِلّٰهِ» على قوله: «خُمُسَهُ» مما يظهر منه اختصاص جميع الخمس باللّه.

ثم لو فرض ظهور الآية في التقسيم كان مقتضاه التقسيم أثلاثا لا أسداسا فيجعل سهم للّه و سهم لرسوله و سهم لذي القربى و الأصناف الثلاثة التابعة له المسانخة له من جهة الانتساب إلى النبي «ص».

و أما الأخبار الظاهرة في كون الخمس حقا وحدانيا ثابتا لمنصب الإمامة فكثيرة نذكر بعضها:

الأول: ما رواه السيّد المرتضى في المحكم و المتشابه، نقلا عن تفسير النعماني بإسناده عن علي «ع»، قال: «و أما ما جاء في القرآن من ذكر معايش الخلق و أسبابها فقد أعلمنا- سبحانه- ذلك من خمسة أوجه: وجه الإمارة و وجه العمارة و وجه الإجارة و وجه التجارة و وجه الصدقات.

فأما وجه الإمارة فقوله- تعالى-: و اعلموا أنما غنمتم من شي ء فأنّ للّه خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين فجعل للّه خمس الغنائم ... الحديث» «1»

فانظر أنه- عليه السلام- سمّى الخمس بأجمعه وجه الإمارة ثم صرّح بكونه للّه- تعالى-، و ليس المقصود مالكيته تكوينا فإنها لا تختص بالخمس بل المقصود كونه للّه تشريعا، و لو كان له السدس فقط لم

يحسن نسبة الجميع إليه، فصح ما قلنا من كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا ثابتا لمن له الحكم و الأمر. و الحكم للّه- تعالى- و لرسوله و لمن قام مقامه على سبيل الترتيب.

و قد يسمّى الأموال العامة الواقعة تحت اختيار الإمام بمال اللّه كما في نهج البلاغة: «يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع.» «2» هذا.

و لكن في صحة روايات الكتاب كلام مرّ في بعض المباحث السابقة.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 30؛ لح/ 49، الخطبة 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 112

الثاني: ما رواه الصدوق في الفقيه بإسناده، عن السكوني، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه «ع»، قال: قال علي «ع»: «الوصية بالخمس، لأن اللّه- عزّ و جلّ- قد رضي لنفسه بالخمس.» «1»

يظهر منه أن الخمس بأجمعه للّه- تعالى-. نعم لأحد أن يقول: إن المراد بالخمس هنا ليس هو الخمس المصطلح بل ما يوصى به في القربات.

الثالث: ما رواه الصفار في بصائر الدرجات، عن عمران بن موسى، عن موسى بن جعفر «ع»، قال: قرأت عليه آية الخمس فقال: «ما كان للّه فهو لرسوله، و ما كان لرسوله فهو لنا»، ثم قال: «و اللّه لقد يسّر اللّه على المؤمنين أرزاقهم بخمسة دراهم جعلوا لربّهم واحدا و أكلوا أربعة أحلّاء.» «2»

يظهر من الرواية أن الخمس حق وحداني جعل للرب، و يكون للرسول و للإمام في طوله لا في عرضه، فتأمل.

و الأخبار الدالة على كون الخمس بأجمعه للّه- تعالى- المعبر فيها عنه بخمس اللّه كثيرة من طرق الفريقين يجدها المتتبع في مظانها. و احتمال كون الإضافة إليه-

تعالى- بلحاظ تشريعه من ناحيته أو كونه واقعا في سبيل قربه و مرضاته كسائر القربات خلاف الظاهر، فتأمّل.

الرابع: قوله- عليه السلام- في رواية ابن شجاع النيسابوري التي مرّت: «لي منه الخمس مما يفضل من مئونته.» «3» فأضاف الإمام «ع» جميع الخمس إلى نفسه.

الخامس: صحيحة أبي علي بن راشد، قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقك، فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: و أيّ شي ء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه، فقال: «يجب عليهم الخمس.» فقلت: ففي أيّ شي ء؟ فقال: «في أمتعتهم

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 361، الباب 9 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 338، الباب 1 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 6.

(3)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 113

و صنائعهم. الحديث.» «1»

يظهر منها أن الخمس بأجمعه حق للإمام. و أبو علي بن راشد بغدادي ثقة و كان وكيلا للإمام الهادي «ع». «2»

السادس: قول الرضا «ع» في تفسير آية الخمس: «الخمس للّه و الرسول، و هولنا.» «3»

فجعل جميع الخمس لأنفسهم.

السابع: قوله «ع» في آخر مرسلة حماد الطويلة في مقام التعليل لعدم الزكاة في مال الخمس: «و ليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس ... و لذلك لم يكن على مال النبي «ص» و الوالي زكاة.» «4» فجعل جميع الخمس للنبي «ص» و الوالي مع كون هذه المرسلة بعينها متعرضة للتقسيم أسداسا فيجب توجيه التقسيم كما يأتي بيانه، فتأمّل.

الثامن: خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-:

«وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي

الْقُرْبىٰ» قال: «هم قرابة رسول اللّه «ص» و الخمس للّه و للرسول و لنا.» «5»

التاسع: صحيحة البزنطي، عن الرضا «ع» قال: سئل عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ. الآية.» فقيل له: فما كان للّه فلمن هو؟ فقال:

لرسول اللّه «ص»، و ما كان لرسول اللّه «ص» فهو للإمام. فقيل له: أ فرأيت إن كان صنف من الأصناف أكثر و صنف أقلّ ما يصنع به؟ قال: «ذاك إلى الإمام، أ رأيت رسول اللّه «ص» كيف يصنع، أ ليس إنما كان يعطي على ما يرى؟ كذلك الإمام.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(2)- تنقيح المقال 3/ 27 من فصل الكنى.

(3)- الوسائل 6/ 361، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 18.

(4)- الوسائل 6/ 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

(5)- الوسائل 6/ 357، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 5.

(6)- الوسائل 6/ 362، الباب 2 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 114

فالصحيحة صريحة في أن مرجع المال بأجمعه هو الإمام «ع» و أنه يقسمه على ما يرى و لا يجب التقسيم أسداسا أو أخماسا، فتأمّل.

العاشر: خبر ابن سنان، قال: قال أبو عبد اللّه: «على كل امرئ غنم أو اكتسب:

الخمس مما أصاب لفاطمة «ع» و لمن يلي أمرها من بعدها من ذريتها الحجج على الناس، فذاك لهم خاصة يضعونه حيث شاءوا.» «1»

و الظاهر أن المراد بأمر فاطمة أمر الإمامة و الولاية، و إنما ذكرت هي لكونها صدف درر الإمامة- عليها و عليهم السلام-.

و بالجملة فظاهر كثير من أخبار الخمس و كذا الأنفال أن الجميع

حق وحداني ثابت للإمام بما هو إمام، أي لوحظت الإمامة حيثية تقييدية لا تعليلية، فالمال لمنصب الإمامة لا لشخص الإمام و لذا ينتقل منه إلى الإمام بعده لا إلى ورثته كما يدلّ على ذلك ما رواه الصدوق بإسناده عن أبي علي بن راشد، قال: قلت لأبي الحسن الثالث «ع» إنا نؤتى بالشي ء فيقال: هذا كان لأبي جعفر «ع» عندنا فكيف نصنع؟ فقال «ع»: «ما كان لأبي «ع» بسبب الإمامة فهو لي، و ما كان غير ذلك فهو ميراث على كتاب اللّه و سنة نبيّه.» «2»

و مما يشهد أيضا لكون الخمس حقا وحدانيا ثابتا للإمام بما أنه إمام أخبار التحليل بكثرتها، إذ يستفاد منها أنه «ع» هو المرجع الوحيد في الخمس و أنه بأجمعه له و أن الأصناف الثلاثة من باب المصرف.

و يشهد لذلك أيضا أنه- تعالى- جعل الفي ء أيضا في آية الفي ء المذكورة في سورة الحشر لنفس المصارف الستة المذكورة في آية الخمس بلا تفاوت بينهما، فهو

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 351، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 8.

(2)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال ...، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 115

- سبحانه- ذكر نفسه و الرسول و ذا القربى مع لام الاختصاص، و الأصناف الثلاثة بدونها مع اختصاص الفي ء بالإمام و عدم وجوب تقسيمه ستة أسهم، و سيأتي البحث في آية الفي ء في الفصل الرابع.

و الكليني «قده» لم يعقد في فروع الكافي بحثا في الخمس و الأنفال و إنما تعرض لرواياتهما في آخر كتاب الحجة من الأصول «1»، فيظهر بذلك أنه جعلهما من حقوق الإمامة و شئونها، فتدبّر.

فإن قلت: ما ذكرت من كون

الخمس بأجمعه حقا وحدانيا للإمام ينافي ما دلّ من الأخبار المستفيضة على تقسيم الخمس ستة أسهم أو خمسة أسهم، و أن النبي «ص» كان يقسمه كذلك و كذلك الإمام. بل المستفاد من مرسلة حماد الطويلة و مرفوعة أحمد بن محمد هو التقسيم بسهام متساوية؛ حيث حكم فيهما بعد تقسيمه ستة أسهم بأن للإمام نصف الخمس كملا و النصف الباقي للأصناف الثلاثة الباقية. و هذا هو المفتى به لأصحابنا في الأعصار المختلفة.

قلت: صدر المرسلة و كذا المرفوعة و إن دلّ على التقسيم بسهام متساوية، و لكن ذكر فيهما بعد ذلك أن الإمام يقسم بين الأصناف الثلاثة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل شي ء كان للوالي، و إن نقص كان عليه أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به، فيعلم بذلك عدم تعين التسهيم، نعم على الإمام أن يمون أهل الحاجة.

و يشهد لذلك أولا: وقوع التعبير بثمانية أسهم في مرسلة حماد بالنسبة إلى الزكاة أيضا، مع أن المصارف الثمانية في باب الزكاة مصارف محضة، و لا يتعين فيها التسهيم عندنا.

و ثانيا: عدّ الخمس بأجمعه في آخر المرسلة مالا للنبي و الوالي كما مرّ.

______________________________

(1)- أصول الكافي 1/ 538. كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 116

و لعل اصرار الإمام «ع» على التعبير بالسهام كان في مقام الإلزام و الجدل، حيث إن الفتوى الرائج في عصر الإمام موسى بن جعفر «ع» و بعده كان فتوى أبي حنيفة، و هو كان قائلا بسقوط حق النبي «ص» و حق ذي القربى بعد وفاة النبي «ص»، فيقسم الخمس عنده ثلاثة أسهم للأصناف الثلاثة. و فقهاء السنة جميعا كانوا يقولون بالتعميم في

الأصناف الثلاثة لغير السادة أيضا. و قد أنتج ذلك حرمان أئمتنا «ع» و السادة الأطياب عن حقهم المشروع لهم. بل كان هذا مدار عمل الخلفاء بعد وفاة النبي «ص» كما مر فيما حكيناه في نقل الأقوال عن خراج أبي يوسف «1»، فأراد أئمتنا «ع» إثبات حقهم بقدر الإمكان بظاهر الآية الشريفة على مذاق فقهاء السنة حيث حملوها على التقسيم و التسهيم.

و الحاصل أن مقتضى الجمع بين ما دلّ على كون جميع الخمس حقا للإمام بما أنه إمام، و بين أخبار التقسيم هو حمل أخبار التقسيم على الجدل و الإلزام أو نحو ذلك من المحامل، و الالتزام بكون الخمس بأجمعه للإمام، و على هذا كان عمل أئمتنا «ع» فهم كانوا يطالبون الخمس بأجمعه جملة واحدة، و هكذا كان يصنع وكلاؤهم.

و يشهد لذلك نفس أخبار التقسيم أيضا، حيث دلت على أن الزائد عن مئونة السنة للأصناف الثلاثة كان للإمام و كان يرجع إليه. و قد أفتى بهذا المضمون كثير من أصحابنا فينتفي ملكية الأصناف الثلاثة و ثبوت التقسيم المتساوي قهرا، فتدبّر.

و المفروض في مرسلة حماد وجود إمام مبسوط اليد و رجوع جميع الأخماس و الزكوات و غيرهما من الأموال الشرعية إليه، و حينئذ فيكفي في أعصارنا خمس بلد من البلاد الكبيرة كطهران مثلا لفقراء جميع السادة، فكيف يجعل نصف خمس ثروة العالم بكثرتها لهم.

______________________________

(1)- الخراج/ 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 117

فيعلم بذلك كله أنه ليس للأصناف الثلاثة بالنسبة إلى الخمس ملكية و اختصاص، بل الخمس بأجمعه حق وحداني ثابت للإمام، نعم عليه أن يمون منه فقراء السادة، فهم ذكروا بعنوان المصارف فقط نظير ذكر الأصناف الثلاثة و ذكر فقراء المهاجرين في

سورة الحشر بعد آية الفي ء مع وضوح أن الفي ء يختص بالإمام بما هو إمام كما يأتي بيانه.

توضيح و تكميل: المعروف بين أصحابنا الإمامية وجوب الزكاة في تسعة أشياء و وجوب الخمس في سبعة،

و ذكروا من السبعة المعادن بكثرتها و أرباح المكاسب بشعبها. و لا يخفى كثرة المعادن المستخرجة و عوائدها، و كذا أرباح المكاسب بشعبها المختلفة في جميع الأعصار و لا سيما في هذه الأزمان، فالخمس ثروة عظيمة موفورة لا تحصى بالمليارات فما فوقها.

و أما الأموال الزكوية التسعة فهي بنفسها أقل من مواضيع الخمس بمراتب، و الزكاة المفروضة عليها أيضا أقل من الخمس فإنها العشر أو نصف العشر أو ربع العشر.

و ذكروا ان نصف الخمس في جميع الموارد لفقراء السادة لا يشركهم فيه غيرهم، و ذكروا للزكاة مصارف ثمانية على ما في القرآن منها الفقراء و منها سبل الخير كلها كإحداث المساجد و المعاهد العلمية و المستشفيات و الطرق و القناطر و تهيئة العدّة و العدّة للجهاد و نحو ذلك من المصارف المهمة العامة المتوقفة على صرف أموال كثيرة.

و ذكروا أن زكوات بني هاشم يجوز صرفها في أنفسهم، و أنت ترى أن عدد بني هاشم بالنسبة إلى غيرهم في غاية القلة و لا سيما في صدر الإسلام و حين تشريع هذه الأحكام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 118

فعلى مذاق القوم شرّع نصف الخمس كملا مع كثرته موضوعا و مقدارا للفقراء من بني هاشم مع قلتهم جدّا و لا يشركهم فيه غيرهم، و شرّع الزكاة مع قلتها جدّا بالنسبة إلى الخمس موضوعا و مقدارا لأن تصرف في مصارف ثمانية منها جميع سبل الخير التي يستفيد منها الجميع حتى السادة و منها جميع الفقراء حتى فقراء السادة بالنسبة إلى زكاة أموال السادة، فهل لا يعدّ هذا الجعل

و التشريع ظلما و زورا مخالفا للعقل و الحكمة، لا يوجد فيه التعادل و التناسب أصلا؟! و لا سيما مع ملاحظة ما في أخبار كثيرة من أن اللّه- تعالى- جعل للفقراء في أموال الأغنياء ما يسعهم و لو علم أن ذلك لا يسعهم لزادهم، حيث يستفاد من هذه الروايات أن الجعل و التشريع كان على حساب الحاجات و الخلات.

و على هذا فيتعين ما قلناه من أن الخمس حق وحداني جعل لمنصب الإمامة و الحكم و تحت اختيار الإمام، و أن له أن يصرفه في جميع ما يراه من مصالح نفسه و مصالح المسلمين، و منها أيضا إدارة عيشة الفقراء، كما جعلت الزكاة و سائر الضرائب الإسلامية أيضا تحت اختياره، غاية الأمر أنه يتعين عليه أن يمون فقراء بني هاشم من تلك الضريبة المنسوبة إلى الإمامة و الإمارة رفعا لشأنهم لأنهم من أهل بيت النبوة و الإمامة، و المرء يكرم في بيته و عائلته.

قال الإمام الخميني- مدّ ظلّه- في كتاب البيع من أبحاثه:

«و بالجملة من تدبر في مفاد الآية و الروايات يظهر له أن الخمس بجميع سهامه من بيت المال، و الوالي ولي التصرف فيه، و نظره متبع بحسب المصالح العامة للمسلمين، و عليه إدارة معاش الطوائف الثلاث من السهم المقرر ارتزاقهم منه حسب ما يرى. كما أن أمر الزكوات بيده في عصره يجعل السهام في مصارفها حسب ما يرى من المصالح. هذا كله في السهمين. و الظاهر أن الأنفال أيضا لم تكن ملكا لرسول اللّه و الأئمة- صلوات اللّه عليهم أجمعين- بل لهم ملك التصرف، و بيانه يظهر مما تقدم.» «1» هذا.

______________________________

(1)- كتاب البيع 2/ 495.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص:

119

الورود في المسألة من طريق آخر:

و لو أبيت ما ذكرناه فلنا أن نشيّد المطلب بطريق آخر، و محصله: أن خمس المال المخلوط بالحرام لعلّه يكون من قبيل الصدقات كما مرّ بيانه.

و خمس أرض الذمي أيضا يكون من قبيل الزكوات و يكون متعلقا بحاصل الأرض لا رقبته كما مرّ.

و المعادن و الكنوز و ما في قعر البحار أيضا حيث إنها من الأنفال المختصة بالإمام فالخمس فيها من قبيل حق الإقطاع المجعول من ناحية الإمام لمن تصرف في ملكه و استخرجه، فلا يرتبط ببني هاشم بل هو بأجمعه للإمام بما هو إمام، أي للإمامة و الحكومة الحقّة.

و أما خمس الأرباح فقد عرفت فيما مرّ احتمال كونه من الضرائب المرسومة من قبل الأئمة المتأخرين «ع» لإحساس الاحتياج إليه بعد انقطاع أيديهم من الزكوات و الضرائب الإسلامية المشروعة من قبل اللّه- تعالى-، فهو أيضا يختص بالإمام، و لذا أضافه في رواية ابن شجاع النيسابوري إلى نفسه بقوله «ع»: «لي منه الخمس مما يفضل من مئونته»، و عدّ في صحيحة أبي علي بن راشد حقّا له «ع». «1»

و في الحدائق نقلا عن المنتقى في مقام الجواب عن الإشكالات الواردة على صحيحة علي بن مهزيار الطويلة: احتمال اختصاص هذا الخمس بالإمام و استظهاره من بعض أخبار الباب و من جماعة من القدماء، فراجع. «2»

و يظهر من المحقق السبزواري في الكفاية و الذخيرة الميل إلى كون الخمس بأجمعه للإمام. «3»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2 و 3.

(2)- الحدائق 12/ 356.

(3)- الكفاية/ 44؛ و الذخيرة/ 486.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 120

و في أواخر الخمس من الجواهر في المسألة الرابعة قال:

«بل لو لا

وحشة الانفراد عن ظاهر اتفاق الأصحاب لأمكن دعوى ظهور الأخبار في أن الخمس جميعه للإمام «ع» و إن كان يجب عليه الإنفاق منه على الأصناف الثلاثة الذين هم عياله، و لذا لو زاد كان له «ع»، و لو نقص كان الإتمام عليه من نصيبه، و حللوا منه من أرادوا.» «1»

و على هذا فلا يبقى للتقسيم و التسهيم إلّا خمس مغانم الحرب. و موضوعه منتف في أعصارنا.

و لا يخفى أن مغانم الحرب تمتاز عن سائر الأموال بوقوعها من أول الأمر في اختيار الرسول أو الإمام بسبب الظفر على العدوّ، و ليست من قبيل الضرائب التي تؤخذ من الناس، فلعلّ رفع خلات بني هاشم منها دون الزكوات و سائر الضرائب المأخوذة من الناس كان لرفع التهمة عنه «ص» بأن يتوهم الحدثاء في الإسلام أن إصراره «ص» على أخذ الزكوات و سائر الضرائب يكون لتموين عائلته و عشيرته فحرّمها لهم.

و التعبير بالأوساخ في الزكوات على فرض صحته أيضا كان لاشميزاز عائلته منها و عدم إصرارهم على الاستفادة منها، و إلّا فأيّ فرق بين الزكوات و بين الأخماس المأخوذة من الناس؟ و لم صارت الأولى أوساخا دون الثانية؟

اللهم إلّا أن يفرّق بينهما بأن الزكوات تؤخذ من الناس مباشرة باسم الفقراء و المساكين بداعي تطهير الناس كما يدلّ عليه قوله- تعالى-: «تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا.» «2»

فلذلك سمّيت أوساخا، و أما الأخماس فجعلت أولا و بالذات بأجمعها للّه- تعالى- كما بيّناه، و من ناحيته- تعالى- ينتقل إلى الرسول و ذي القربى و ذوي الحاجة من بني هاشم بتبع انتقال الحكومة منه- تعالى- إلى الرسول و إلى ذي القربى. ففقراء الناس عيال للناس، و فقراء بني هاشم عيال اللّه و من شئون

الإمامة و الحكومة الإسلامية، و بين الاعتبارين فرق واضح، فتأمّل.

______________________________

(1)- الجواهر 16/ 155.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 121

نعم يبقى هنا إشكال ربما يتفوه به، و هو أن الميز بين بني هاشم و بين غيرهم خلاف ما يقتضيه طبع الإسلام و روحه من المساواة بين الطبقات و العناصر و هدم أساس الامتيازات العنصرية و الشعبية. هذا.

و لكن إكرام الرجل في عشيرته و عائلته أمر عقلائي عرفي يقبله روح الاجتماع، و احترام ذرية الرسول «ص» و أقربائه يعدّ احتراما له «ص»، فأيّ مانع من أن يسدّ خلاتهم من أموال الحكومة الإسلامية لكونهم من أغصان شجرة النبوة؟

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 122

الجهة الرابعة: في حكم الخمس في عصر الغيبة:

قال الشيخ الطوسي- قدّس سرّه- في النهاية:

«فأما في حال الغيبة فقد رخّصوا لشيعتهم التصرف في حقوقهم مما يتعلق بالأخماس و غيرها فيما لا بدّ لهم منه من المناكح و المتاجر و المساكن. فأما ما عدا ذلك فلا يجوز له التصرف فيه على حال.

و ما يستحقونه من الأخماس في الكنوز و غيرها في حال الغيبة فقد اختلف قول أصحابنا فيه، و ليس فيه نص معين إلّا أن كل واحد منهم قال قولا يقتضيه الاحتياط: فقال بعضهم: إنه جار في حال الاستتار مجرى ما أبيح لنا من المناكح و المتاجر.

و قال قوم: إنه يجب حفظه ما دام الإنسان حيّا، فإذا حضرته الوفاة وصّى به إلى من يثق به من إخوانه المؤمنين ليسلّمه إلى صاحب الأمر إذا ظهر، أو يوصي به حسب ما وصّى به إليه إلى أن يصل إلى صاحب الأمر «ع».

و قال قوم: يجب دفنه، لأن الأرضين تخرج كنوزها عند قيام القائم «ع».

و قال قوم: يجب

أن يقسم الخمس ستة أقسام: فثلاثة أقسام للإمام يدفن أو يودع عند من يوثق بأمانته. و الثلاثة أقسام الأخر يفرّق على مستحقيه من أيتام آل محمد و مساكينهم و أبناء سبيلهم.

و هذا مما ينبغي أن يكون العمل عليه، لأن هذه الثلاثة أقسام مستحقها ظاهر و إن كان المتولي لتفريق ذلك فيهم ليس بظاهر، كما أن مستحق الزكاة ظاهر و إن كان المتولي لقبضها و تفريقها ليس بظاهر. و لا أحد يقول في الزكاة إنه لا يجوز تسليمها إلى مستحقيها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 123

و لو أن إنسانا استعمل الاحتياط و عمل على أحد الأقوال المقدم ذكرها من الدفن أو الوصاية لم يكن مأثوما. فأما التصرف فيه على ما تضمنه القول الأول فهو ضد الاحتياط، و الأولى اجتنابه حسب ما قدمناه.» «1»

أقول: و الغرض من نقل كلامه بطوله أن يظهر لك كون المسألة خلافية عند القدماء أيضا و أنه لا إجماع فيها و لا شهرة، فيجب أن يعمل فيها بما تقتضيه القواعد.

و قد صرّح بالاختلاف في المقنعة أيضا فقال:

«قد اختلف قوم من أصحابنا في ذلك عند الغيبة، و ذهب كل فريق منهم فيه إلى مقال فمنهم من يسقط فرض إخراجه لغيبة الإمام ...» «2»

و قد أنهى الأقوال في الحدائق إلى أربعة عشر: «3»
الأول: عزل الخمس جميعا و الوصية به من ثقة إلى آخر إلى وقت ظهور الإمام «ع»،

و إليه ذهب المفيد.

الثاني: القول بالتحليل و سقوطه مطلقا،

نسب إلى سلار و الفاضل الخراساني و جمع من الأخباريين. و لكن الدقة في عبارة المراسم توجب الاطمينان بأن مورد حكمه بالتحليل هو الأنفال لا الخمس، فراجع. «4»

الثالث: القول بدفنه جميعا،

نقله في المقنعة و النهاية عن بعض الأصحاب استنادا إلى ما رواه في المقنعة من أن الأرض تظهر كنوزها عند ظهور الإمام «ع».

الرابع: دفع النصف إلى الأصناف الثلاثة، و النصف الذي له «ع» يودع أو يدفن،

و هو مذهب الشيخ في النهاية.

الخامس: كسابقه بالنسبة إلى حصة الأصناف،

و أما حقه «ع» فيحفظ إلى أن يصل اليه، استصوبه في المقنعة و اختاره أبو الصلاح و ابن البراج و ابن إدريس و استحسنه العلامة في المنتهى و اختاره في المختلف.

______________________________

(1)- النهاية/ 200.

(2)- المقنعة/ 46.

(3)- الحدائق 12/ 437 و ما بعدها.

(4)- الجوامع الفقهية/ 582 (طبعة أخرى/ 644).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 124

السادس: دفع حصة الأصناف إليهم و كذا حصة الإمام تتميما لهم،

استقربه في المختلف و نقله عن جملة من علمائنا و هو اختيار المحقق في الشرائع و المشهور بين المتأخرين من أصحابنا و عمدة دليلهم للتتميم مرسلة حماد و مرفوعة أحمد المتقدمتان.

السابع: صرف النصف إلى الأصناف، و أما حصة الإمام فتوصل إليه مع الإمكان

و إلا فتصرف إلى الأصناف الثلاثة و مع تعذر الإيصال و عدم حاجة الأصناف تباح للشيعة، و هو اختيار صاحب الوسائل.

الثامن: صرف النصف إلى الأصناف و إباحة حصة الإمام للشيعة

فيسقط إخراجها، و هو ظاهر المدارك و المحدث الكاشاني في الوافي و المفاتيح و استقر به في الحدائق.

التاسع: صرف النصف إلى الأصناف و صرف حصته في مواليه العارفين،

و هو اختيار ابن حمزة.

العاشر: تخصيص التحليل بخمس الأرباح

لكونه بأجمعه للإمام، و أما خمس سائر ما فيه الخمس فهو مشترك بينه و بين الأصناف، اختاره في المنتقى حملا لأخبار التحليل على خصوص خمس الأرباح.

أقول: حمل جميع أخبار التحليل على خصوص خمس الأرباح مشكل و لا سيما ما اشتمل منها على تحليل السبي و الفروج.

الحادي عشر: عدم إباحة شي ء بالكلية حتى من المناكح و المساكن و المتاجر

التي جمهور الأصحاب على تحليلها، بل ادعي إجماعهم على إباحة المناكح، و هو الظاهر من أبي الصلاح الحلبي في الكافي.

الثاني عشر: قصر أخبار التحليل على جواز التصرف في المال الذي فيه الخمس قبل إخراج الخمس منه

بأن يضمن الخمس في ذمته، و هو مختار المجلسي «ره».

الثالث عشر: صرف حصة الأصناف إليهم و التخيير في حصة الإمام

بين الدفن و الوصية على الوجه المتقدم وصلة الأصناف مع الإعواز بإذن الفقيه، و هو مذهب الشهيد في الدروس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 125

الرابع عشر: صرف حصة الأصناف إليهم وجوبا أو استحبابا و حفظ نصيب الإمام إلى حين ظهوره،

و جواز صرف العلماء إياه في المستحقين من الأصناف، و هو اختيار البيان.

فهذه أربعة عشر قولا في المسألة ذكرها في الحدائق.

و هنا قولان آخران للمتأخرين من أصحابنا:
الأول: صرف حصة الأصناف إليهم، و التصدق بحصة الإمام من قبله،

لما يستفاد من أخبار التصدق بالمال المجهول مالكه من أن الملاك في وجوب التصدق هو عدم إمكان إيصال المال إلى صاحبه و إن كان يعرفه بشخصه كما في رواية يونس عن الرضا «ع» فيمن بقي عنده بعض المتاع من رفيق له بمكة بعد ما رحل إلى منزله و لا يعرف بلده فقال «ع»: «إذا كان كذا فبعه و تصدق بثمنه.» «1» و قد قوّى هذا القول في الجواهر و مصباح الفقيه. «2»

الثاني: صرف حصة الأصناف إليهم و صرف حصة الإمام فيما يعلم برضاه

أو يوثق به من تتميم نصيب الذرية أو إعانة فقراء الشيعة أو إدارة الحوزات العلمية و كل ما فيه تشييد مباني الدين المبين.

بتقريب أن التصدق بالمال الذي لا يمكن إيصاله إلى صاحبه إنما يجوز إذا لم يعلم بما يرتضيه المالك، و أما إذا أحرز رضاه بالصرف في مصرف خاص و لم يحرز رضاه بغيره أو أحرز عدمه فلا يجوز التعدي عنه، فلو كان مال زيد عند عمرو مثلا و لم يمكنه إيصاله إليه و لكن كان لصاحب المال أهل بيت فقراء أو دار مشرفة إلى الخراب فهل يرضى صاحبه بأن يتصدق بماله و لا يصرف في عائلته أو تعمير داره؟ و نحن نعلم من سيرة الأئمة «ع» في أعصارهم أن تتميم إعاشة الذرية و إعانة فقراء الشيعة و إقامة دعائم الدين و ترويج الشرع المبين كانت من أهمّ الأمور عندهم، فالواجب علينا صرف مال الإمام «ع» فيما نعلم قطعا باهتمامه به. و يختلف ذلك باختلاف المقامات.

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 357، الباب 7 من أبواب اللقطة، الحديث 2.

(2)- الجواهر 16/ 177؛ و مصباح الفقيه/ 158- 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 126

فالتخصيص بفقراء الذرية كما في كلام كثير من المتأخرين

بلا وجه بعد ما يوجد هنا أمور ربما تكون أهم عنده بمراتب. و المفروض في المرسلة و المرفوعة الدالتين على تتميم نصيب الذرية و التوسعة عليهم هو صورة بسط يد الإمام و اجتماع جميع الضرائب و الأموال العامة لديه و إدارته لجميع الخلات، فلا يستفاد منهما حكم صورة تزاحم المصارف و كون بعضها أهمّ من التوسعة على الذرية بمراتب.

و على هذا فإذا أحرز من عنده مال الإمام «ع» رضاه بصرف ماله في جهة خاصة جاز له التصدي لذلك بلا رجوع إلى الفقيه، و كون الفقيه وليّا على الغائب لا يشمل المقام، إذ أدلة ولاية الفقيه بنيابته عن الإمام «ع» في الأمور العامة الحسبية و ولايته على الغائب تنصرف عن الولاية على نفس الإمام «ع». اللّهم إلا أن يقال بان الفقيه أبصر بمصالح الدين و بما يرتضيه الأئمة «ع».

أقول: تبقى على هذا الوجه نكتة و هي أن مجرد رضا المالك قلبا بصرف ماله في جهة خاصة لا يخرج المعاملات الواقعة على ماله عن الفضولية ما لم يكن في البين إذن مالكي أو شرعي أو إجازة لا حقة، إذ اللازم استناد العقد إلى المالك بحيث يقال باع ملكه مثلا، و لا يتحقق هذا إلّا بإذنه أو إجازته، و قد أشار إلى هذه النكتة الشيخ الأنصاري- قدّس سرّه- في أول مبحث الفضولي من مكاسبه و إن قوى هو كفاية الرضا، فراجع. «1»

[المختار في المسألة]

ثم نقول: هذه أقوال أصحابنا في حكم الخمس في عصر الغيبة. و ضعف بعضها واضح كالقول بوجوب دفن الجميع أو حصة الامام إلى أن يظهر الإمام و يستخرجه، أو عزله و حفظه و إيداعه إلى أن يصل إليه و نحو ذلك مما يوجب ضياع المال و

تلفه و حرمان مستحقيه و تعطيل مصارفه الضرورية، و كالقول بالتحليل المطلق و لا سيما بالنسبة إلى سهام الأصناف مع حرمانهم عن الزكاة أيضا.

______________________________

(1)- راجع المكاسب/ 124 (ط. أخرى 8/ 156- 157).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 127

و لا يخفى ابتناء أكثر هذه الأقوال على كون الخمس بالطبع منصّفا بنصفين و كون النصف ملكا للأصناف الثلاثة و النصف الآخر لشخص الإمام المعصوم و من أمواله الشخصية بحيث يجب أن يحفظ ليوصل إليه أو يتصدق به عنه أو يتصرف فيما أحرز رضاه به. و لكن قد مرّ منّا مرارا أن الخمس بأجمعه حق وحداني جعل لمنصب الإمامة و الحكومة الحقة، فهو مال للإمام بما أنه إمام لا لشخصه، و حيثية الإمامة لوحظت تقييدية لا تعليلية، و نحوه الأنفال أيضا و المتصدي لأخذهما و صرفهما في شئون الإمامة و الحكومة من له حق الحكم، و هو النبي «ص» في عصره الشريف، و بعده للإمام المعصوم، و في غيبته للفقيه العادل العالم بمصالح الإسلام و المسلمين. و إن شئت قلت: إنهما أموال عامة جعلتا شرعا في اختيار ممثّل المجتمع و من له حق الحكم عليهم، و إذنه و إجازته مصححان للمعاملات الواقعة عليهما، فمعنى كونهما للإمام هو أن الإمام وليّ التصرف فيهما و بيده اختيارهما، و مصرفهما المصالح العامة على ما يشخّصها الإمام العادل. و من أهم المصالح إدارة عائلة شخص الإمام أيضا و حفظ شئونه، كما أن تموين الأصناف الثلاثة أيضا من أظهر وظائفه، فتدبّر.

و حيث إن الإمامة و الحكومة لا تتعطل شرعا، و لا يجوز تعطيل شئونها و وظائفها و لو في عصر الغيبة كما بيّناه بالتفصيل في هذا الكتاب فلا

محالة لا يجوز حذف النظام المالي المقرر لها و تعطيله بالكلية. و الخمس و الأنفال من أهمّ المنابع المالية للحكومة الإسلامية فلا مجال لتحليلهما المطلق، أو إيجاب حفظهما و الإباء عن صرفهما في مصارفهما المقررة، أو استبداد الناس في صرفهما بلا رجوع إلى من ثبت له الحكم و لو في بلد خاص أو منطقة خاصة.

و عدم بسط يد الفقهاء الصالحين للحكومة و عدم استقرار الحكومة المطلقة لهم لا ينافي وجوب تصديهم لبعض شئونها الممكنة و صرف الأموال المقررة في مصارفها بقدر سعة نطاق الحكم كما استقرّ على ذلك عمل أئمتنا «ع».

و من أهم المصارف الواجبة عقلا و شرعا حفظ الحوزات العلمية الدينية و ترويج الشرع المبين و تهيئة المقدمات و الوسائل لتحقيق الحكومة الصالحة الدينية و توسعة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 128

نطاقها التي ببركتها يرجى إقامة العدل في البلاد و تنفيذ قوانين الإسلام بين الأمة و لو في منطقة خاصة. هذا.

و هل يمكن الالتزام بأن اللّه- تعالى- جعل خمس أموال الناس أو عشرها بكثرتها و جميع الأموال التي ليس لها مالك خاص كأرض الموات و الآجام و الأودية و الجبال و المعادن و البحار و نحوها لشخص خاص و لو كان معصوما بحيث يعدّ من أمواله الشخصية يتصرف فيها كيف يشاء بلا لحاظ لمصالح الأمة و ينتقل إلى ورثته نظير ما دخل في ملكه بنشاطه و صنعه أو بالوراثة من مورّثه؟ لا أظن ذلك، فتدبّر.

و قد اقتبسنا كثيرا مما ذكرناه هنا في الزكاة و الخمس مما كتبناه سابقا في البابين و قد طبع الكتابان في السنين السابقة. و لأجل ذلك أدرجنا البحث فيهما هنا، فإن شئت التفصيل فراجع

إليهما.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 129

الفصل الثالث في غنائم الحرب التي منها الأراضي المفتوحة عنوة و السبايا و الأسارى

اشارة

و نحن نبحث فيها هنا بنحو الإجمال و نحيل من أراد التفصيل إلى كتاب الجهاد من كتب الفقه الموسوعة.

و في المسألة جهات من البحث:

الجهة الأولى: في مفاد الغنيمة و الفرق بينها و بين الفي ء:

1- قال الراغب في المفردات:

«الغنم معروف، قال: «وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنٰا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمٰا.» و الغنم: إصابته و الظفر به، ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى و غيرهم، قال: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ»، فَكُلُوا مِمّٰا غَنِمْتُمْ حَلٰالًا طَيِّباً». «1»

______________________________

(1)- مفردات الراغب/ 378.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 130

و قد مرّ في أول بحث الخمس كلام في معنى الغنيمة و نقل لبعض الكلمات، فراجع. «1»

2- و في مجمع البيان في ذيل آية الخمس:

«الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال، و هي هبة من اللّه- تعالى- للمسلمين، و الفي ء ما أخذ بغير قتال، و هو قول عطاء و مذهب الشافعي و سفيان، و هو المروي عن أئمتنا «ع». و قال قوم: الغنيمة و الفي ء واحد، و ادّعوا أن هذه الآية ناسخة للتي في الحشر من قوله: مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ.» «2»

و ذكر نحو ذلك الشيخ أيضا في التبيان في ذيل آية الخمس. «3»

3- و في تفسير القرطبي في ذيل الآية:

«الغنيمة في اللغة ما يناله الرجل أو الجماعة بسعي ... و المغنم و الغنيمة بمعنى، يقال: غنم القوم غنما. و اعلم أن الاتفاق حاصل على أن المراد بقوله- تعالى-:

«غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» مال الكفار إذا ظفر به المسلمون على وجه الغلبة و القهر.

و لا تقتضي اللغة هذا التخصيص على ما بينّاه، و لكن عرف

الشرع قيد اللفظ بهذا النوع. و سمّى الشرع الواصل من الكفار إلينا من الأموال باسمين: غنيمة و فيئا.

فالشي ء الذي يناله المسلمون من عدوّهم بالسعي و إيجاف الخيل و الركاب يسمّى غنيمة، و لزم هذا الاسم هذا المعنى حتى صار عرفا. و الفي ء مأخوذ من فاء يفي ء إذا رجع. و هو كل مال دخل على المسلمين من غير حرب و لا إيجاف كخراج الأرضين و جزية الجماجم و خمس الغنائم. و نحو هذا قال سفيان الثوري و عطاء بن السائب.

و قيل: إنهما واحد و فيهما الخمس، قاله قتادة. و قيل: الفي ء عبارة عن كل ما صار للمسلمين من الأموال بغير قهر، و المعنى متقارب.» «4»

______________________________

(1)- راجع ص 44 و ما بعدها من الكتاب.

(2)- مجمع البيان 2/ 543 (الجزء 4).

(3)- التبيان 1/ 797. في تفسير سورة الأنفال.

(4)- تفسير القرطبي 8/ 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 131

4- و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و أموال الفي ء و الغنائم ما وصلت من المشركين أو كانوا سبب وصولها، و يختلف المالان في حكمهما. و هما مخالفان لأموال الصدقات من أربعة أوجه ...

أما الفي ء و الغنيمة فهما متفقان من وجهين و مختلفان من وجهين:

فأما وجها اتفاقهما فأحدهما: أن كل واحد من المالين واصل بالكفر. و الثاني: أن مصرف خمسهما واحد.

و أما وجها افتراقهما فأحدهما: أن مال الفي ء مأخوذ عفوا و مال الغنيمة مأخوذ قهرا.

و الثاني: أن مصرف أربعة أخماس الفي ء مخالف لمصرف أربعة أخماس الغنيمة على ما سنوضح إن شاء اللّه تعالى.» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية. «2»

أقول: سيجي ء في الفصل الرابع البحث في معنى الفي ء و حكمه و أنه هل

يثبت فيه الخمس أم لا؟ و هل يقسم أو يكون كله للإمام؟ و يظهر من كلماتهم أن الغنيمة و الفي ء عندهم إما متباينان أو متساويان على ما مرّ من القولين.

و لكن يمكن أن يقال: إنهما متخالفان مفهوما و إن بينهما عموما من وجه أو يكون الفي ء أعم مطلقا: إذ الفي ء يراد به ما رجع إلى إمام المسلمين و بيت مالهم إما مطلقا أو من ناحية الكفار فقط كما لعله الأظهر فيعم غنائم الحرب و القتال أيضا، و قد أطلق عليها في كثير من الأخبار كما سيأتي، و من ذلك ما في نهج البلاغة: «إن هذا المال ليس لي و لا لك و إنما هو في ء للمسلمين و جلب أسيافهم.» «3»

و كون مورد آية الفي ء في سورة الحشر ما حصل بغير حرب لا يدل على اختصاص اللفظ به.

و الغنيمة عندنا يراد بها كل مال مظفور به و لو بالكسب مثلا، و تطلق على غنائم

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 126.

(2)- الأحكام السلطانية/ 136.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 728؛ عبده 2/ 253؛ لح/ 353، الخطبة 232.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 132

الحرب أيضا بلحاظ ظفر المقاتلين به و حصولها لهم، و لا يضاف إليهم إلّا بعد ما أريد تقسيمها بينهم، و على هذا فيكون بينهما عموم من وجه.

و إن أريد بالغنيمة خصوص غنائم الحرب لكثرة استعمالها فيها كان الفي ء أعم مطلقا منها، اللّهم إلّا أن يدّعى إطلاق الغنيمة على ما حصل من الكفّار بغير حرب و قتال أيضا كما لا يبعد، فيتساوى اللفظان مفهوما و موردا، فتدبّر. و ظاهر ما مرّ من كلماتهم أن الغنيمة تختص بما يؤخذ من الكفار فقط. و سيأتي البحث في

حكم ما يؤخذ من البغاة و إطلاق الغنيمة عليه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 133

الجهة الثانية: في أن الغنائم للّه و للرسول و أنها من الأنفال، و آية الأنفال نزلت فيها:

1- قال في مجمع البيان في ذيل آية الأنفال:

«قال ابن عباس أن النبي «ص» قال يوم بدر: من جاء بكذا فله كذا، و من جاء بأسير فله كذا، فتسارع الشبان و بقي الشيوخ تحت الرايات فلما انقضى الحرب طلب الشبان ما كان قد نفلهم النبي «ص» به فقال الشيوخ كنّا ردء لكم و لو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا. و جرى بين أبي اليسر بن عمرو الأنصاري أخي بني سلمة و بين سعد بن معاذ كلام فنزع اللّه- تعالى- الغنائم منهم و جعلها لرسوله يفعل بها ما يشاء فقسمها بينهم بالسوية.

و قال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسوله «ص» فقسمه بيننا على السواء، و كان ذلك في تقوى اللّه و طاعته و صلاح ذات البين.

و قال سعد بن أبي وقاص: قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت سعيد بن العاص بن أمية و أخذت سيفه و كان يسمّى ذا الكتيفة فجئت به إلى النبي «ص» و استوهبته منه، فقال: «ليس هذا لي و لا لك، اذهب فاطرحه في القبض»، فطرحت و رجعت و بي ما لا يعلمه إلا اللّه من قتل أخي و أخذ سلبي و قلت: عسى أن يعطى هذا لمن لم يبل بلائي، فما جاوزت إلا قليلا حتى جاءني الرسول و قد أنزل اللّه: «يَسْئَلُونَكَ. الآية.»

فخفت أن يكون قد نزل فيّ شي ء. فلما انتهيت إلى رسول اللّه «ص» قال:

«يا سعد، إنك سألتني السيف و ليس لي و إنه قد صار لي فاذهب فخذه فهو لك.»

و قال علي بن طلحة

عن ابن عباس: كانت الغنائم لرسول اللّه «ص» خاصة ليس لأحد فيها شي ء، و ما أصاب سرايا المسلمين من شي ء أتوه به فمن حبس منه إبرة أو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 134

سلكا فهو غلول فسألوا رسول اللّه «ص» أن يعطيهم منها فنزلت الآية.

و قال ابن جريج: اختلف من شهد بدرا من المهاجرين و الأنصار في الغنيمة فكانوا ثلاثا فنزلت الآية و ملكها اللّه رسوله يقسمها كما أراه اللّه.» «1»

أقول: القبض- بالتحريك-: ما جمع من الغنيمة قبل أن تقسم. و قوله: «فكانوا ثلاثا» أي ثلاث طوائف: طائفة عقّبت العدوّ و طائفة تحوز الغنائم و طائفة أحدقت برسول اللّه «ص» يحفظونه من العدوّ.

2- و في الرسالة المنسوبة إلى الإمام الصادق «ع» المروية في تحف العقول

ما ملخصه: «و أما المغانم فإنه لما كان يوم بدر قال رسول اللّه «ص»: من قتل قتيلا فله كذا و كذا، و من أسير أسيرا فله من غنائم القوم كذا و كذا. فلما هزم اللّه المشركين و جمعت غنائمهم قام رجل من الأنصار فقال: يا رسول اللّه، إني قتلت قتيلين- لي بذلك البينة- و أسرت أسيرا، فأعطنا ما أوجبت على نفسك يا رسول اللّه ثم جلس.

فقام سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، ما منعنا أن نصيب مثل ما أصابوا جبن عن العدوّ و لا زهادة في الآخرة و المغنم، و لكنا تخوّفنا إن بعد مكاننا منك فيميل إليك من جند المشركين أو و لا زهادة في الآخرة و المغنم، و لكنا تخوّفنا إن بعد مكاننا منك فيميل إليك من جند المشركين أو يصيبوا منك ضيعة، و إنك إن تعط هؤلاء القوم ما طلبوا يرجع سائر المسلمين ليس لهم من الغنيمة شي ء، ثم جلس فقام الأنصاري فقال

مثل مقالته الأولى ثم جلس، يقول ذلك كل واحد منهما ثلاث مرات، فصدّ النبي «ص» بوجهه، فأنزل اللّه- عزّ و جلّ-: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ» و الأنفال اسم جامع لما أصابوا يومئذ مثل قوله: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ» و مثل قوله: «أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ» ثم قال: «قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ» فاختلجها اللّه من أيديهم فجعلها للّه و لرسوله ...

فلما قدم رسول اللّه «ص» المدينة أنزل اللّه عليه: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ». الآية ... فهذا يوم بدر و هذا سبيل الغنائم التي أخذت بالسيف.» «2»

3- و في سيرة ابن هشام:

«ثم إن رسول اللّه «ص» أمر بما في العسكر مما جمع الناس جمع، فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه: هو لنا، و قال الذين كانوا يقاتلون العدوّ و يطلبونه: و اللّه لو لا

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 517 (الجزء 4).

(2)- تحف العقول/ 339 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 135

نحن ما أصبتموه، لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم، و قال الذين كانوا يحرسون رسول اللّه «ص» مخافة أن يخالف إليه العدوّ: و اللّه ما أنتم بأحق به منّا، و اللّه لقد رأينا أن نقتل العدوّ إذ منحنا اللّه أكتافه، و لقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه و لكنا خفنا على رسول اللّه «ص» كرّة العدوّ فقمنا دونه، فما أنتم بأحق به منّا ...

ثم روى بسنده عن أبي أمامة، قال:

«سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال، فقال: فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل، و ساءت فيه اخلاقنا فنزعه اللّه من أيدينا فجعله إلى رسوله، فقسمه رسول اللّه «ص» بين المسلمين عن بواء- يقول:

عن السواء- ... ثم أقبل رسول اللّه «ص» حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق و بين النازية- يقال له: سير- إلى سرحة به فقسم هنالك النفل الذي أفاء اللّه على المسلمين من المشركين على السواء.» «1»

أقول: لا يخفى أنه في هذه العبارة أطلق النفل و كذا الفي ء على غنائم الحرب.

و روى رواية عبادة بن الصامت السيوطي أيضا في الدرّ المنثور عن أحمد و عبد بن حميد و ابن جرير و أبي الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي، فراجع. «2»

4- و في الدرّ المنثور:

«أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس في قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ» قال: الأنفال:

المغانم كانت لرسول اللّه «ص» خالصة ليس لأحد منها شي ء، ما أصاب سرايا المسلمين من شي ء أتوه به، فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول، فسألوا رسول اللّه «ص» أن يعطيهم منها شيئا فأنزل اللّه: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ، قُلِ الْأَنْفٰالُ لي جعلتها لرسولي ليس لكم منه شي ء، فَاتَّقُوا اللّٰهَ وَ أَصْلِحُوا ذٰاتَ بَيْنِكُمْ إلى قوله: «إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» ثم أنزل اللّه: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ، الآية» ثم قسم ذلك

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 295.

(2)- الدّر المنثور 3/ 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 136

الخمس لرسول اللّه و لذي القربى و اليتامى و المساكين و المهاجرين في سبيل اللّه، و جعل أربعة أخماس الناس فيه سواء للفرس سهمان و لصاحبه سهم و للراجل سهم.» «1»

و عليك بمراجعة تفسير علي بن إبراهيم و التبيان و المجمع و الدر المنثور و القرطبي

و سنن البيهقي و الأموال لأبي عبيد «2» و غير ذلك من الكتب في شأن نزول آية الأنفال، يظهر لك بذلك أن الغنائم من الأنفال قطعا و أنها التي وقع فيها النزاع و السؤال.

و سيأتي في فصل الأنفال أن المقصود بالأنفال هي الأموال العامة التي ليس لها مالك شخصي. و بهذا المعنى يطلق اللفظ على غنائم الحرب و على مثل أرض الموات و الآجام و الجبال و الأدوية و نحوها بمعنى واحد، و إن كان الغالب في أخبارنا و فتاوى أصحابنا إطلاق اللفظ على القسم الثاني، بل هو المنصرف إليه في أعصارنا.

و التخاصم في الأنفال و السؤال عنها و إن وقعا في خصوص غنائم الحرب على ما في الأخبار التي مرت، و لكن لا مانع من حمل الجواب في الآية على ظاهره من العموم و الاستغراق، فتكون اللام في قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ» للعهد، و في قوله:

«قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ» للاستغراق.

بل يمكن أن يقال: إن مورد السؤال و إن كان هو الغنائم و لكن السؤال وقع عنها بما هي من الأنفال، لا بما هي غنائم مأخوذة عنوة، فيكون السؤال و الجواب متطابقين في الورود على الأنفال بإطلاقها و عمومها، و اللام في كليهما للاستغراق، فتدبّر.

ليست الغنائم و الأنفال لشخص الرسول و الإمام بل هما تحت اختيارهما:

و ليس المقصود من جعل الغنائم و الأنفال للرسول أو الإمام بعده جعلهما ملكا

______________________________

(1)- الدّر المنثور 3/ 160.

(2)- تفسير علي بن إبراهيم (القمي)/ 235؛ التبيان 1/ 780؛ مجمع البيان 2/ 517؛ الدّر المنثور 3/ 158 و ما بعدها؛ تفسير القرطبي 8/ 2؛ سنن البيهقي 6/ 291، كتاب قسم الفي ء و الأنفال؛ الأموال/ 382 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 137

لشخصه نظير ما يملكه

بتجارة أو وراثة مثلا. بل المقصود جعلهما تحت اختياره و تدبيره ينفل منها ما يشاء لمن يراه صلاحا و يصرف منها ما يريد فيما ينوبه، فإن بقي من الغنائم شي ء أخرج الخمس منها لأهله، و قسم البقية بين من قاتل، فهو المتولّي لأمرها و للتصرف فيها، و ليس لمن قاتل الاعتراض عليه بذلك و إن استوعب النفل و الجعائل جميع المغنم، و ليس التقسيم بين المتقاتلين متعينا فيها:

1- ففي مرسلة حماد الطويلة التي عمل بها الأصحاب، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع» قوله: «و للإمام صفو المال: أن يأخذ من هذه الأموال صفوها:

الجارية الفارهة، و الدابة الفارهة، و الثوب و المتاع مما يحبّ أو يشتهي، فذلك له قبل القسمة و قبل إخراج الخمس. و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و غير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله، و قسم الباقي على من ولي ذلك،

و إن لم يبق بعد سدّ النوائب شي ء فلا شي ء لهم. و ليس لمن قاتل شي ء من الأرضين و لا ما غلبوا عليه إلّا ما احتوى عليه العسكر.» «1»

2- و في صحيحة زرارة قال: «الإمام يجري و ينفل و يعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام، و قد قاتل رسول اللّه «ص» بقوم لم يجعل لهم في الفي ء نصيبا، و إن شاء قسم ذلك بينهم.» «2»

أقول: كون الرواية مقطوعة لا يضرّ بالاستدلال بعد كون زرارة من فقهاء أصحاب الباقر و الصادق «ع» و واقفا على نظر الأئمة «ع» و أنه لم يكن مثله يتكلم في أحكام اللّه- تعالى- إلّا عن نصّ وصل إليه، فتأمّل.

و ما

في المرآة «3» من تفسير القوم في الرواية بالأعراب الذين لا سهم لهم في الغنائم تفسير لا شاهد له. و قد ذكر زرارة فعل الرسول «ص» شاهدا على ما ذكره من فعل الإمام.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال ...، الحديث 4. و تمام الحديث في الكافي 1/ 539- 543، كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال، الحديث 4.

(2)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال ...، الحديث 2.

(3)- مرآة العقول 6/ 271 (ط. القديم 1/ 446).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 138

و يظهر من الرواية أن الفي ء كان يطلق على غنائم الحرب أيضا، فليس الفي ء قسيما للغنيمة و إن قال به بعض كما مرّ، و سيأتي التحقيق في معناه.

و بما ذكرنا يظهر صحة عدّ غنائم الحرب من المنابع المالية للدولة الإسلامية، فإن الأرضين و العقارات و ما ليس في العسكر لا تقسم أصلا بل تجعل تحت اختيار الإمام، و له أيضا أن يسدّ النوائب و الخلات بما احتوى عليه العسكر و إنما يقع التقسيم على خصوص هذا بعد سدّ جميع النوائب و الخلّات لوجود نحو اختصاص له بالمقاتلين. هذا.

و قد أفتى أصحابنا بمفاد الحديثين إجمالا:

1- قال المفيد في المقنعة:

«و للإمام قبل القسمة من الغنيمة ما شاء على ما قدمناه في صفو الأموال، و له أن يبدأ بسدّ ما ينوبه بأكثر ذلك المال، و إن استغرق جميعه فيما يحتاج إليه من مصالح المسلمين كان ذلك له جائزا و لم يكن لأحد من الأمة عليه اعتراض.» «1»

و سيأتي في هذا المجال عبارة عن المبسوط أيضا في بيان فتح مكة عنوة. «2»

2- و في الكافي لأبي الصلاح الحلبي:

«يجب في جميع

ما غنمه المسلمون من ضروب المحاربين- منفردين به و متناصرين، بجملة الجيش أو السرايا، بحرب و غير حرب- إحضاره إلى وليّ الأمر. فإذا اجتمعت المغانم كان له إن كان إمام الملة أن يصفى قبل القسمة لنفسه الفرس و السيف و الدرع و الجارية، و أن يبدأ بسدّ ما ينوبه من خلل في الإسلام و ثغوره و مصالح أهله. و لا يجوز لأحد أن يعترض عليه و إن استغرق جميع المغنم. و يجوز ذلك لمن عداه من أولياء السلطان في الجهاد عن تشاور من صلحاء المسلمين. ثم يخرج الخمس من الباقي لأربابه، و يقسم الأربعة الأخماس الباقية بين من قاتل عليها دون من عداهم من المسلمين: للراجل سهم و للفارس سهمان ...

و من السنة تنفيل النساء قبل القسمة، لأنهن يداوين الجرحى و يعلّلن المرضى

______________________________

(1)- المقنعة/ 46، باب الزيادات.

(2)- راجع ص 141 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 139

و يصلحن أزواد المجاهدين.» «1»

3- و في الغنية لابن زهرة:

«و للإمام أن يصطفي لنفسه قبل القسمة ما شاء من فرس أو جارية أو درع أو سيف أو غير ذلك، و هذا من جملة الأنفال، و أن يبدأ بسدّ ما ينوبه من خلل في الإسلام، و ليس لأحد أن يعترض عليه و إن استغرق ذلك جميع الغنيمة، ثم يخرج منها الخمس لأربابه، و يقسم ما بقي مما حواه العسكر بين المقاتلة خاصة: لكل راجل سهم و لكل فارس سهمان.» «2»

4- و في الوسيلة لابن حمزة:

«فالأموال يخرج منها الصفايا للإمام قبل القسمة، و هي ما لا نظير له من الفرس الفاره و الثوب المرتفع و الجارية الحسناء و غير ذلك. ثم تخرج منها المؤن

و هي ثمانية أصناف: أجرة الناقل و الحافظ، و النفل، و الجعائل، و الرضيخة للعبيد و النساء و من عاونهم من المؤلفة و الأعراب على حسب ما يراه الإمام، ثم يخرج الخمس من الباقي لأهله. ثم يقسم الباقي بين من قاتل و من هو في حكمه بالسوية: للراجل سهم و للفارس سهمان ...» «3»

5- و في جهاد القواعد:

«المطلب الثاني في قسمة الغنيمة: تجب البدأة بالمشروط كالجعائل و السلب و الرضخ، ثم بما يحتاج إليه الغنيمة من النفقة مدّة بقائها حتى تقسم كأجرة الراعي و الحافظ، ثم الخمس، و تقسم أربعة الأخماس الباقية بين المقاتلة و من حضر و إن لم يقاتل حتى المولود بعد الحيازة قبل القسمة، و المدد المتصل بهم بعد الغنيمة قبل القسمة، و المريض بالسوية، و لا يفضّل أحد لشدّة بلائه: للراجل سهم و للفارس سهمان و لذي الأفراس ثلاثة.» «4»

______________________________

(1)- الكافي لأبي الصلاح/ 258.

(2)- الجوامع الفقهية/ 522 (طبعة أخرى/ 584).

(3)- الجوامع الفقهية/ 732 (طبعة أخرى/ 696).

(4)- القواعد 1/ 107.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 140

6- و في التذكرة:

«يجوز للإمام أن يجعل جعلا لمن يدلّه على مصلحة من مصالح المسلمين كسهولة طريق أو ماء في مفازة أو موضع فتح القلعة أو مال يأخذه أو عدوّ يغير عليه أو ثغر يدخل منه بلا خلاف. و قد استأجر النبي «ص» في الهجرة من دلّهم على الطريق.» و ذكر نحو ذلك في المنتهى «1».

7- و في المراسم:

«فإن اختار الإمام قبل القسمة شيئا من الغنيمة كائنا ما كان فهو له.» «2»

8- و في جهاد الدروس:

«و للإمام الاصطفاء من الغنيمة، و جوّز الحلبي أن يبدأ بسدّ ما ينوبه من خلل في الإسلام

و مصالح أهله و لو استغرق الغنيمة، و هو نادر.» «3»

9- و في متن اللمعة:

«و المنقول بعد الجعائل و الرضخ و الخمس و النفل و ما يصطفيه الإمام يقسم بين المقاتلة و من حضر حتى الطفل المولود بعد الحيازة و قبل القسمة، و كذا المدد الواصل إليهم حينئذ: للفارس سهمان و للراجل سهم و لذوي الأفراس ثلاثة.» «4»

إلى غير ذلك من كلمات الأصحاب في هذا المجال، و يشترك الجميع في الدلالة على كون الغنائم في اختيار الإمام و أنه يصطفي منها و ينفل منها حسب المصالح. نعم، تتفاوت كلماتهم في ما للإمام سعة و ضيقا.

و لعل الصفايا أيضا على قسمين: قسم يصطفيه الإمام لشخصه لشدّة حاجته إليه، و هو أحقّ بأن يسدّ خلّاته، و سدّ خلّاته من أهم المصالح العامة. و قسم يصطفيه ليدخره في بيت مال المسلمين لغلائه و علوّ قيمته و أنه مما يرغب فيه جدّا و لا يمكن تقسيمه، و إيثار البعض به دون بعض يوجب التبعيض و الفتنة، فيدخر في

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 429؛ و المنتهى 2/ 938.

(2)- الجوامع الفقهية/ 581 (طبعة أخرى/ 643).

(3)- الدروس/ 162.

(4)- اللمعة الدمشقية 2/ 403 و ما بعدها (طبعة أخرى من متن اللمعة/ 45).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 141

المتاحف لمستقبل المسلمين، و ذلك كالجواهر الثمينة النفيسة و نحوها، فتدبّر. هذا.

عدم تقسيم النبي «ص» غنائم مكة و حنين بين المقاتلين و قد فتحتا عنوة:

لا يخفى أن ما في صحيحة زرارة السابقة من نقل عمل رسول اللّه «ص» لعله إشارة إلى ما صنعه هو «ص» في فتح مكة و هوازن، حيث إنهما فتحتا عنوة و لم يقسم هو «ص» بين المقاتلين شيئا:

1- قال الشيخ في كتاب السير من الخلاف (المسألة 13):

«مكة فتحت عنوة بالسيف،

و به قال الأوزاعي و أبو حنيفة و أصحابه و مالك. و قال الشافعي: إنها فتحت صلحا، و به قال مجاهد. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و روي أن النبي «ص» لما دخل مكة استند إلى الكعبة ثم قال: «من ألقى سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن.» فآمنهم بعد أن ظفر بهم، و لو كان دخلها صلحا لم يحتج إلى ذلك. و أيضا قوله- تعالى: «إِنّٰا فَتَحْنٰا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً»، و إنما أراد فتح مكة، و الفتح لا يسمّى إلا ما أخذ بالسيف. و قال- تعالى-: «إِذٰا جٰاءَ نَصْرُ اللّٰهِ وَ الْفَتْحُ» يعني فتح مكة. و قال- تعالى-: «وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ»، و هذا صريح في الفتح. و من قرأ السير و الأخبار و كيفية دخول النبي «ص» مكة علم أن الأمر على ما قلناه. و روي عن النبي «ص» أنه قال: «كل بلدة فتحت بالسيف إلا المدينة فإنها فتحت بالقرآن.»

و روي عن النبي «ص» أنه دخل مكة و على رأسه المغفر. و قتل خالد بن الوليد أقواما من أهل مكة. و هذا علامة القتال.» «1»

2- و قال في المبسوط:

«ظاهر المذهب أن النبي «ص» فتح مكة عنوة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، و إنما

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 232.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 142

لم يقسم الأرضين و الدور لأنها لجميع المسلمين كما نقوله في كل ما يفتح عنوة إذا لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام فإنه يكون للمسلمين قاطبة. و منّ النبي «ص» على رجال من المشركين فأطلقهم، و عندنا أن للإمام أن يفعل ذلك،

و كذلك أموالهم منّ عليهم بها لما رآه من المصلحة.» «1»

3- و قال العلامة في المنتهى:

«مسألة: الظاهر من المذهب أن النبي «ص» فتح مكة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، و به قال أبو حنيفة و مالك و الأوزاعي.

و قال الشافعي إنه «ع» فتحها صلحا بأن قدر لهم قبل الدخول، و هو منقول عن أبي سلمة بن عبد الرحمن و مجاهد.

لنا ما رواه الجمهور عن النبي «ص» أنه قال لأهل مكة: ما تروني صانعا بكم؟

فقالوا: أخ كريم و ابن أخ كريم. فقال: أقول كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم يغفر اللّه لكم و هو أرحم الراحمين، أنتم الطلقاء.

و من طريق الخاصة ما رواه الشيخ، عن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر، قالا: ذكرنا له الكوفة- إلى أن قال-: إن أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر. و إن مكة دخلها رسول اللّه «ص» عنوة و كانوا أسراء في يده فأعتقهم فقال:

اذهبوا فأنتم الطلقاء.

احتجّ الشافعي بما رواه عبد اللّه بن عباس، قال: لما نزل رسول اللّه بمرّ الظهران قال العباس: قلت: و اللّه لئن دخل رسول اللّه «ص» عنوة قبل أن يأتوه و يستأمنوه إنه لهلاك قريش ...» «2»

أقول: خبر صفوان و أحمد بن محمد بن أبي نصر رواه في جهاد الوسائل، فراجع. «3»

و دلالته واضحة و إن كان السند مخدوشا بعلي بن أحمد بن أشيم، و يأتي البحث

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 33.

(2)- المنتهى 2/ 937.

(3)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 143

فيه و أن المجلسي «ره» صحّحه. «1»

4- و في المغازي

للواقدي:

«و قد كان صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو قد دعوا إلى قتال رسول اللّه «ص» و ضوى إليهم ناس من قريش و ناس من بني بكر و هذيل و تلبسوا السلاح و يقسمون باللّه لا يدخلها محمد عنوة أبدا. فكان رجل من بني الديل يقال له: حماس بن قيس بن خالد الديلي لما سمع برسول اللّه «ص» جلس يصلح سلاحه، فقالت له امرأته: لمن تعدّ هذا؟ قال: لمحمد و أصحابه، فإني أرجو أن أخدمك منهم خادما فإنك إليه محتاجة ... فلما دخل خالد بن الوليد وجد جمعا من قريش و أحابيشها قد جمعوا له، فيهم صفوان بن أمية و عكرمة بن أبي جهل و سهيل بن عمرو، فمنعوه الدخول، و شهروا السلاح و رموا بالنبل، و قالوا لا تدخلها عنوة أبدا. فصاح خالد بن الوليد في أصحابه و قاتلهم، فقتل منهم أربعة و عشرين رجلا من قريش و أربعة من هذيل و انهزموا أقبح الانهزام حتى قتلوا بالحزورة و هم مولّون في كل وجه، و انطلقت طائفة منهم فوق رءوس الجبال و أتبعهم المسلمون، فجعل أبو سفيان بن حرب و حكيم بن حزام يصيحان: يا معشر قريش، على م تقتلون أنفسكم؟ من دخل داره فهو آمن، و من وضع السلاح فهو آمن ...» «2» و روى نحو ذلك ابن هشام في السيرة. «3»

أقول: الحزورة: سوق مكة، و قد دخلت في المسجد لما زيد فيه. هذا.

و لم يقع منه «ص» تخميس و لا تقسيم لأموال أهل مكة، بل نادى قريشا فقال:

«يا معشر قريش، ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم.

قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء.»

فعفا عنهم و كان اللّه قد أمكنه منهم و كانوا له فيئا.» «4»

______________________________

(1)- راجع ص 193 من الكتاب.

(2)- المغازي 2/ 823 و ما بعدها.

(3)- سيرة ابن هشام 4/ 49.

(4)- الكامل 2/ 252؛ و نحوه سيرة ابن هشام 4/ 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 144

5- و في سيرة ابن هشام و كذا في غيرها من كتب السيرة و الحديث في شأن غنائم حنين ما محصله:

«و لما فرغ رسول اللّه «ص» من ردّ سبايا حنين إلى أهلها ركب «ص» و أتبعه الناس يقولون: يا رسول اللّه، اقسم علينا فيئنا من الإبل و الغنم، حتى ألجئوه إلى شجرة، فقام إلى جنب بعير فأخذ و برة من سنامه ثم قال: أيها الناس، و اللّه مالي من فيئكم و لا هذه الوبرة إلا الخمس، و الخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط و المخيط، فإن الغلول يكون على أهله عارا و نارا و شنارا يوم القيامة.

و أعطى رسول اللّه «ص» المؤلفة قلوبهم و كانوا أشرافا من أشراف الناس يتألفهم و يتألف بهم قومهم: فأعطى أبا سفيان و ابنه معاوية و حكيم بن حزام و الحارث بن كلدة و الحارث بن هشام و سهيل بن عمرو و حويطب بن عبد العزى و العلاء بن جارية و عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس و مالك بن عوف النضري و صفوان بن أمية كل واحد منهم مأئة بعير. و أعطى دون المائة رجالا من قريش منهم مخرمة بن نوفل و عمير بن وهب و هشام بن عمرو ...

لما أعطى رسول اللّه «ص» ما أعطى من تلك العطايا في قريش و في قبائل العرب و لم يكن في الأنصار

منها شي ء وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى كثرت منهم القالة حتى قال قائلهم: لقي و اللّه رسول اللّه «ص» قومه، فدخل عليه سعد بن عبادة فقال: يا رسول اللّه، إن هذا الحي من الانصار قد وجدوا عليك في أنفسهم لما صنعت في هذا الفي ء الذي أصبت، قال: فأين أنت من ذلك يا سعد؟ قال:

يا رسول اللّه، ما أنا إلا من قومي. قال فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة.

فخرج سعد فجمع الأنصار، فأتاهم رسول اللّه «ص»، فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: «يا معشر الأنصار، ما قالة بلغتني عنكم و جدة وجدتموها عليّ في أنفسكم؟

ألم آتكم ضلّالا فهداكم اللّه، و عالة فأغناكم اللّه، و أعداء فألّف اللّه بين قلوبكم» قالوا: بلى، اللّه و رسوله أمنّ و أفضل. ثم قال: ... ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة و البعير و ترجعوا برسول اللّه «ص» إلى رحالكم؟ فوالذي نفس محمد بيده لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار ... فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم و قالوا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 145

رضينا برسول اللّه «ص» قسما و حظّا، ثم انصرف رسول اللّه «ص» و تفرّقوا.» «1»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 145

أقول: الغلول: الخيانة. الشنار- بالفتح-: اقبح العار. القالة: القول الرديّ.

الجدة: الغضب. عالة- جمع عائل-: الفقير. المنّ و المنّة: النعمة. أخضلوا لحاهم:

بلّوها بالدموع.

6- و في رواية أنس بن مالك:

«أنّ ناسا من الأنصار قالوا ...: يغفر اللّه لرسوله «ص»؛ يعطي

قريشا و يتركنا و سيوفنا تقطر من دمائهم.» «2»

و راجع في هذه القصة تفسير مجمع البيان في شرح غزوة حنين من سورة التوبة، «3» و روايات أنس بن مالك و عبد اللّه بن زيد بن عاصم في سنن البيهقي «4» و البخاري «5»، و روايات غزوة حنين من جامع الأصول لابن الأثير. «6»

7- و قد ورد في كتب السير: أنه زحمت ناقة أبي رهم الغفاري ناقة رسول اللّه «ص»، فوقع حرف نعله على ساق رسول اللّه «ص» فأوجعه، فقرع رجله بالسوط ثم استرضاه و أعطاه من الغنائم غنما عوضا من ضربته. «7»

8- و حكي وقوع نحو ذلك عن عبد اللّه بن أبي حدرد فأوجعه بعصاه ثم أعطاه ثمانين شاة ضائنة. «8»

9- و ضرب هو «ص» ناقته بالسوط فأصاب سوطه أبا زرعة الجهني فأعطاه غنما و قال: خذ هذه الغنم بالذي أصابك من السوط أمس. قال: فعددتها فوجدتها عشرين

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 134- 143.

(2)- سنن البيهقي 6/ 337، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما كان النبي «ص» يعطي المؤلّفة ...

(3)- مجمع البيان 3/ 19 (الجزء 5).

(4)- سنن البيهقي 6/ 337 و 339، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما كان النبي «ص» يعطي المؤلّفة ...، و باب سهم اللّه و سهم رسوله ...

(5)- صحيح البخاري 2/ 198- 199، كتاب الجهاد و السير، باب ما كان النبي «ص» يعطي المؤلّفة قلوبهم.

(6)- جامع الأصول 9/ 269- 286، غزوة حنين.

(7)- المغازي للواقدي 2/ 939 (الجزء 3).

(8) المغازي 2/ 940 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 146

و مأئة رأس. «1»

10- و طاف صفوان بن أمية مع النبي «ص» و هو يتصفح

الغنائم إذ مرّ بشعب مما أفاء اللّه عليه، فيه غنم و إبل و رعاؤها مملوء. فأعجب صفوان و جعل ينظر إليه، فقال رسول اللّه «ص»: أعجبك يا أبا وهب هذا الشعب؟ قال: نعم، قال: هو لك و ما فيه، فقال صفوان: أشهد ما طابت بهذا نفس أحد قط إلّا نبي و أشهد أنك رسول اللّه. «2»

11- و كانت في سبي هوازن أخته «ص» من الرضاع و هي الشيماء، قيل: و أمّه حليمة: و لما قالت له الشيماء: أنا أختك يا رسول اللّه، قال: و ما علامة ذلك؟ فأخبرته بعضّة كان عضّها إياها حين كان مسترضعا عندهم و أرته إيّاها، فعرفها و تذكر ذلك فقام و بسط لها رداءه ...

فقال «ص»: إن أحببت فعندي محبّة مكرمة، و إن أحببت أن أمتعك و ترجعي إلى قومك، قالت: بل تمتعني و أرجع إلى قومي، فأعطاها نعما و شاء و غلاما و جارية. «3»

12- و قال «ص» في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيّا ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له.» «4»

أقول: و كل هذه العطايا كانت من الغنائم، و حملها على كونها من سهمه «ص» من الخمس مشكل بل ممنوع قطعا في بعضها.

و محصل ما يستفاد من الآيتين الشريفتين و من أخبار الباب الواردة من طرق الفريقين بعد إرجاع بعضها إلى بعض هو أن الغنائم كسائر الأنفال تكون من الأموال العامة التي لا تتعلق بالأشخاص و لا تدخل بمجرد الاغتنام أيضا في ملك المقاتلين، بل تقع تحت اختيار قائد المسلمين و إمامهم فيضبطها و يحفظها و ينفل منها و يجعل منها الجعائل حسب ما اقتضته المصالح العامة في عصره و بيئته و إن استوعبت

______________________________

(1)- المغازي

2/ 940 (الجزء 3).

(2)- المغازى 2/ 946 (الجزء 3).

(3)- سيرة زيني دحلان (المطبوع بهامش السيرة الحلبيّة) 2/ 306.

(4)- صحيح البخاري 2/ 196، باب منّ النبيّ على الأسارى من غير أن يخمّس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 147

كلّها، و ليست من الأملاك الشخصية للرسول أو الإمام، بل هو و الناس فيها سواء. و ليس له أن يتصرف فيها جزافا أو يهبها لمن أراد بلا ملاك، بل الملاك هو رعاية المصالح العامة في كل مورد، و ليس للناس الاعتراض عليه.

و من جملة المصالح العامة المهمة تأليف القلوب و جذب الرجال و النساء و لا سيما أهل الشوكة منهم إلى قبول الحق و التسليم له و رفع شرهم و أذاهم و حفظ الموازين الأخلاقية و العاطفية التي يهتم بها العقلاء في نظامهم.

فإن بقي منها شي ء أخذ منها الخمس لأهله و لما يمكن أن يواجهه الإمام من الحاجات في المستقبل و قسّم البقية بين المقاتلين حسب ما حكم به الشرع المبين.

ر إنما يؤخذ منها الخمس بعد لحاظ تعلقها بالمقاتلين و كونها غنيمة لهم و إرادة تقسيمها بينهم.

و بالجملة، قد كانت العرب تعدّ الغنائم ملكا للمقاتلين و حقا طلقا لهم، بل ربما كان الاغتنام هدفا أساسيا لهم في المقاتلات و الحروب فكانت تغير قبيلة على قبيلة بداعي اغتنام الأموال و سبي الذراريّ و النساء، و بذلك ساءت أخلاقهم، و قد أراد اللّه- تعالى- أن يكون بسط التوحيد و العدل هدفهم و مغزاهم، فجعل بإنزال آية الأنفال الغنائم تحت اختيار الرسول و الإمام، فهو الذي يتصرف فيها حسب المصالح العامة و قد يقسمها بينهم، فتدبّر.

ليس بين آية الأنفال و آية الخمس تهافت و ليس في البين نسخ:

و لا تهافت بين كون الأنفال للّه و الرسول و بين

تعيّن المصارف من قبل الشرع المبين و منها التخميس و التقسيم بعد الجعائل و النوائب. إذ ليس كونها للرسول أو الإمام إلّا بمعنى كونها تحت اختياره و تدبيره و أنه المتصرف فيها و لو بالتقسيم:

فقد مرّ في قصة غنائم حنين عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «و اللّه ما لي من فيئكم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 148

و لا هذه الوبرة إلا الخمس، و الخمس مردود عليكم، فأدّوا الخياط و المخيط.» ثم رأيت أنه «ص» أعطى هذه المغانم لأشراف قريش و رؤساء القبائل.

و مرّ في مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح «ع» أنه قال: «و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و غير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله و قسم الباقي على من ولي ذلك، و إن لم يبق بعد سدّ النوائب شي ء فلا شي ء لهم.» «1»

و في نهج البلاغة من كلام له «ع» كلّم به عبد اللّه بن زمعة لما قدم عليه في خلافته يطلب منه مالا قال: «إنّ هذا المال ليس لي و لا لك، و إنما هو في ء للمسلمين و جلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم و إلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.» «2»

هذا.

و قد ظهر بما ذكرنا من عدم التهافت بين الآيتين بطلان ما توهم من كون آية الخمس ناسخة لآية الأنفال:

1- قال الشيخ الطوسي في التبيان في تفسير آية الأنفال:

«و اختلفوا هل هي منسوخة أم لا؟ فقال قوم: هي منسوخة بقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ. الآية. و روي ذلك عن مجاهد

و عكرمة و السدّي و عامر الشعبي، و اختاره الجبائي. و قال آخرون: ليست منسوخة، ذهب إليه ابن زيد و اختاره الطبري و هو الصحيح، لأن النسخ محتاج إلى دليل. و لا تنافي بين هذه الآية و بين آية الخمس، فيقال إنها نسختها.» «3»

فشيخ الطائفة في التبيان أيضا أنكر التنافي و النسخ كما قلناه.

2- و لكنه قال في المبسوط بخلاف ذلك، فقال في كتاب قسمة الفي ء و الغنائم منه:

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال و ...، الحديث 4.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 728؛ عبده 2/ 253؛ لح/ 353، الخطبة 232.

(3)- التبيان 1/ 781.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 149

«و الغنيمة كانت محرّمة في الشريعة المتقدمة، و كان يجمعون الغنيمة فتنزل النار من السماء فتأكلها، ثم أنعم اللّه- تعالى- على النبي «ص» فجعلها له خاصة بقوله:

«يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ، قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ.» و روي عن النبي «ص» أنه قال:

أحلّ لي الخمس، لم يحلّ لأحد قبلي. و جعلت لي الغنائم. و كان النبي «ص» يقسم الغنيمة أولا لمن يشهد الوقعة، لأنها كانت له خاصة. و نسخ بقوله: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ. الآية.» فأضاف المال إلى الغانمين ثم انتزع الخمس لأهل السهمان فبقي الباقي على ملكهم، و عليه الإجماع.» «1» هذا.

3- و في الدر المنثور:

«و أخرج أبو عبيد و ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: يسألونك عن الأنفال، قال:

هي الغنائم، ثم نسخها: و اعلموا أنما غنمتم من شي ء. الآية.» «2»

4- و فيه أيضا:

«و أخرج ابن أبي شيبة و النحاس في ناسخه و أبو الشيخ عن مجاهد و عكرمة قالا:

كانت الأنفال للّه و الرسول حتى

نسخها آية الخمس: و اعلموا أنما غنمتم من شي ء.

الآية.» «3»

5- و فيه أيضا:

«و أخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا و رجلا من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ... فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ ... ثم نسخت هذه الآية فقال: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ. الآية.» «4»

6- و في تفسير القرطبي:

«هذه الآية ناسخة لأول السورة عند الجمهور. و قد ادّعى ابن عبد البرّ الإجماع على أن هذه الآية نزلت بعد قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ.» و أن أربعة أخماس الغنيمة

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 64.

(2)- الدّر المنثور 3/ 160.

(3)- الدّر المنثور 3/ 161.

(4)- الدّر المنثور 3/ 160.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 150

مقسومة على الغانمين على ما يأتي بيانه، و أن قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ» نزلت في حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر على ما تقدم في أول السورة ...

و قد قيل: إنها محكمة غير منسوخة و إن الغنيمة لرسول اللّه «ص»، و ليست مقسومة بين الغانمين، و كذلك لمن بعده من الأئمة. كذا حكاه المازري عن كثير من أصحابنا، و أن للإمام أن يخرجها عنهم. و احتجوا بفتح مكة و قصة حنين. و كان أبو عبيد يقول: افتتح رسول اللّه «ص» مكة عنوة و منّ على أهلها فردّها عليهم و لم يقسمها و لم يجعلها عليهم فيئا. و رأى بعض الناس أن هذا جائز للأئمة بعده.

قلت: و على هذا يكون معنى قوله- تعالى-: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ و الأربعة الأخماس للإمام، إن شاء حبسها، و إن شاء قسمها بين الغانمين. و هذا ليس بشي ء، لما ذكرناه، و لأن اللّه- سبحانه- أضاف الغنيمة

للغانمين فقال:

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ...» «1»

أقول: الظاهر أن القول بالنسخ كان اجتهادا من ابن عباس و سعيد بن جبير و مجاهد و عكرمة و من تبعهم لتوهم التهافت بين الآيتين، و قد عرفت عدم التهافت بينهما و أن محطّ النظر في آية الأنفال بيان حكم الأموال العامة بما هي أموال عامّة و ليس لها مالك شخصي يدبرها و يتصرف فيها، فتفيد أنها تكون تحت اختيار الرسول أو الإمام الذي هو ممثّل المجتمع فهو المتصرف فيها على حسب ما تقتضيه المصالح و بيّنه الشرع المبين. و آية الخمس ناظرة إلى تشريع الخمس في جميع الغنائم الواصلة إلى الأشخاص و منها غنائم الحرب بعد إخراج الجعائل و النوائب منها و إرادة تقسيمها بين المقاتلين، حيث إنها بلحاظ تقسيمها بينهم تصير غنيمة لهم و عائدة إليهم، فتأمّل.

و يظهر من السياق و من الأخبار الواردة نزول الآيتين في شأن غنائم بدر فيقرب زمان نزول إحداهما من الأخرى فيبعد جدّا النسخ في مثله، اللّهم إلا أن يراد

______________________________

(1)- تفسير القرطبي 8/ 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 151

بالنسخ تبيين مصرف الغنائم إجمالا في آية الخمس بالتخميس و التقسيم بعد ما كان غير مبين في الأخرى. و إن شئت قلت: إن النسبة بين الآيتين نسبة المجمل و المبيّن لا نسبة المنسوخ و الناسخ، فتدبّر.

فإن قلت: في مرسلة الوراق عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام. و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس. «1»»

و مفاد هذه المرسلة يختلف عما تقول من كون الغنيمة من الأنفال و كونها للإمام، إذ التفصيل

دليل التفاوت و قد أفتى بمضمونها الأصحاب.

قلت: نحن لا نأبى وجود تفاوت ما بين الغنيمتين بعد اشتراكهما في كونهما تحت اختيار الإمام، إذ لا تخميس و لا تقسيم فيما إذا كان الغزو بغير إذن الإمام لعدم احترام عمله بعد اشتراط الغزو بإذنه. و أما فيما وقع بإذنه فينفل منها و يتصرف فيها حسب المصالح الملزمة أو الراجحة و إن استوعبتها، فإن بقي منها شي ء وجب التخميس ثم التقسيم، حيث إنها جلب أسيافهم، فلهم نحو اختصاص بها بعد ما كان الغزو بإذن الإمام، فهذا هو الفارق كما مر. و الإمام هو المتصدّي لهما، فتدبّر.

فإن قلت: في رواية حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع» قوله: «قلت: فهل يجوز للإمام أن ينفل؟ فقال: له أن ينفل قبل القتال، فأما بعد القتال و الغنيمة فلا يجوز ذلك لأن الغنيمة قد أحرزت.» «2»

قلت: النفل كان يطلق غالبا على جعل يجعله الإمام لسريّة تغير على العدوّ زائدا على سهامها في الغنيمة، أو لمن يدلّه على مصلحة كسهولة طريق أو ماء في مفازة أو موضع فتح القلعة أو مال يغتنم أو عدوّ يغار عليه أو ثغر يدخل منه،

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 369، الباب 1 من أبواب الأنفال ...، الحديث 16.

(2)- الوسائل 11/ 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 152

فلا محالة لا يبقى له موضوع بعد القتال و الغنيمة.

و هذا بخلاف النوائب و المصالح العامة التي تنوب الإمام مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و نحوه، فإنها تعرض كثيرا بعد الاغتنام أيضا كما فيما صنعه النبي «ص» في حنين، و قد دلّت النصوص و الفتاوى التي مرت على جواز سدّ

الإمام إياها من الغنيمة.

فإن قلت: قد ورد في كتب السير و الحديث ما محصّله:

«أن وفد هوازن أتوا رسول اللّه «ص» بالجعرانة و قالوا: إنا أصل و عشيرة فامنن علينا منّ اللّه عليك، فقال لهم: اختاروا إحدى الطائفتين إما السبي و إما المال، قالوا فإنا نختار سبينا، فقام رسول اللّه «ص» في المسلمين و قال: إن إخوانكم قد جاؤوا تائبين و إني قد رأيت أن أردّ إليهم سبيهم فمن أحبّ منكم أن يطيّب ذلك فليفعل، و من أحبّ منكم أن يكون على حظّه حتى نعطيه من أول ما يفي ء اللّه علينا فليفعل. فقال الناس:

قد طيبنا ذلك يا رسول اللّه، فقال: إنا لا ندري من أذن منكم ممن لم يأذن، فارجعوا حتى يرفع إلينا عرفاؤكم، فكلّمهم عرفاؤهم فأخبروا أنهم طيّبوا و أذنوا.»

فيقال: لو كان أمر السبي و الغنائم إلى النبي «ص» فلم استأذن هو «ص» أصحابه في ردّ السبي؟

قلت: الظاهر أنه كان هذا بعد ما قسّم النساء و الذراري أو أكثرها و تملكها أصحابه، فاحتاج إلى الاستيذان قهرا، كما يشهد بذلك قوله على ما في المغازي:

«فمن كان عنده منهن شي ء فطابت نفسه أن يردّه فليرسل، و من أبى منكم و تمسك بحقه فليردّ عليهم و ليكن فرضا علينا ستّ فرائض من أول ما يفي ء اللّه به علينا». فراجع المغازي للواقدي و البخاري و ابن هشام و غيرها من الكتب. «1»

و من المحتمل أيضا أن يكون الاسترضاء عملا أخلاقيا عاطفيّا منه «ص» و إن لم يكن يجب، فتأمّل.

______________________________

(1)- المغازي 2/ 949 و ما بعدها (الجزء 3)؛ و صحيح البخاري 3/ 66؛ و سيرة ابن هشام 4/ 131.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 153

الجهة الثالثة: في كيفية تقسيم الغنائم:

[كلمات الفقهاء]

1- قال الشيخ الطوسي- قدّس سرّه- في كتاب الفي ء و قسمة الغنائم من الخلاف (المسألة 15):

«مال الغنيمة لا يخلو من ثلاثة أحوال: ما يمكن نقله و تحويله إلى بلد الإسلام مثل الثياب و الدراهم و الدنانير و الأثاث و العروض، أو يكون اخشاشا (احسانا خ. ل) مثل النساء و الولدان، أو كان مما لا يمكن نقله كالأرض و العقار و البساتين. فما يمكن نقله يقسم بين الغانمين بالسوية لا يفضل راجل على راجل و لا فارس على فارس.

و إنما يفضل الفارس على الراجل، و به قال الشافعي غير أنه لا يدفع الغنيمة إلى من لم يحضر الوقعة، و عندنا يجوز ذلك أن يعطى لمن يلحق بهم مددا لهم و إن لم يحضر الوقعة، و يسهم عندنا للصبيان و من يولد في تلك الحال و سيجي ء الخلاف فيه.

و قال أبو حنيفة: لا يجوز أن يعطى لغير الغانمين لكن يجوز أن يفضل بعض الغانمين على بعض.

و قال مالك: يجوز أن يفضل بعضهم على بعض، و يجوز أن يعطى منها لغير الغانمين.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

أقول: لم يتعرض هو لتخميس الغنيمة اعتمادا على وضوحه و ذكره في محله.

2- و قال في جهاد النهاية:

«كل ما غنمه المسلمون من المشركين ينبغي للإمام أن يخرج منه الخمس، فيصرفه إلى أهله و مستحقيه حسب ما قدمناه في كتاب الزكاة. و الباقي على ضربين: ضرب

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 331، و الظاهر أنه سقط من هذه الطبعة قوله: «و قال مالك: يجوز أن يفضل بعضهم على بعض و يجوز أن يعطي منها لغير الغانمين».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 154

منه للمقاتلة خاصة دون غيرهم من المسلمين، و

ضرب هو عام لجميع المسلمين:

مقاتلتهم و غير مقاتلتهم. فالذي هو عام لجميع المسلمين فكل ما عدا ما حوى العسكر من الأرضين و العقارات و غير ذلك، فإنه بأجمعه في ء للمسلمين: من غاب منهم و من حضر على السواء. و ما حوى العسكر يقسم بين المقاتلة خاصة و لا يشركهم فيه غيرهم.

فإن قاتلوا و غنموا فلحقهم قوم آخرون لمعاونتهم، كان لهم من القسمة مثل مالهم، يشاركونهم فيها.

و ينبغي للإمام أن يسوّى بين المسلمين في القسمة، و لا يفضّل أحدا منهم لشرفه أو علمه أو زهده على من ليس كذلك في قسمة الفي ء. و ينبغي أن يقسم للفارس سهمين و للراجل سهما، فإن كان مع الرجل أفراس جماعة لم يسهم منها إلّا لفرسين منها. و من ولد في أرض الجهاد كان له من السهم مثل ما للمقاتل على السواء.» «1»

3- و قال المحقق في جهاد الشرائع:

«الطرف الخامس في أحكام الغنيمة ... و هي أقسام ثلاثة:

[1]- ما ينقل كالذهب و الفضة و الأمتعة. [2]- و ما لا ينقل كالأرض و العقار.

[3]- و ما هو سبي كالنساء و الأطفال.

و الأول: ينقسم إلى ما يصحّ تملكه للمسلم و ذلك يدخل في الغنيمة، و هذا القسم يختص به الغانمون بعد الخمس و الجعائل، و لا يجوز لهم التصرف في شي ء منه إلّا بعد القسمة و الاختصاص.

و قيل: يجوز لهم تناول ما لا بدّ منه كعليق الدابة و أكل الطعام.

و إلى ما لا يصحّ تملكه كالخمر و الخنزير، و لا يدخل في الغنيمة بل ينبغي إتلافه كالخنزير أو يجوز إتلافه و إبقاؤه للتخليل كالخمر ...

و أما ما لا ينقل فهو للمسلمين قاطبة و فيه الخمس، و الإمام مخيّر بين إفراز خمسه لأربابه

و بين إبقائه و إخراج الخمس من ارتفاعه.

______________________________

(1)- النهاية/ 294.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 155

و أما النساء و الذراري فمن جملة الغنائم و يختصّ بهم الغانمون و فيهم الخمس لمستحقه ...

الثالث في قسمة الغنيمة: يجب أن يبدأ بما شرطه الإمام كالجعائل و السلب إذا شرط للقاتل، و لو لم يشرط لم يختص به، ثم بما يحتاج إليه من النفقة مدة بقائها حتى يقسم كأجرة الحافظ و الراعي و الناقل، و بما يرضخه للنساء و العبيد و الكفار إن قاتلوا بإذن الإمام، فإنه لا سهم للثلاثة، ثم يخرج الخمس. و قيل: بل يخرج الخمس مقدما عملا بالآية، و الأول أشبه. ثم يقسم الأربعة الأخماس بين المقاتلة و من حضر القتال و لو لم يقاتل حتى الطفل و لو ولد بعد الحيازة و قبل القسمة، و كذا من اتصل بالمقاتلة من المدد و لو بعد الحيازة و قبل القسمة. ثم يعطي الراجل سهما و الفارس سهمين، و قيل: ثلاثة، و الأول أظهر. و من كان له فرسان فصاعدا أسهم لفرسين دون ما زاد.» «1»

4- و في خراج أبي يوسف بعد ذكر آية الخمس قال:

«فهذا- و اللّه اعلم- فيما يصيب المسلمون من عساكر أهل الشرك، و ما أجلبوا به من المتاع و السلاح و الكراع فإن في ذلك الخمس لمن سمّى اللّه- عزّ و جلّ- في كتابه العزيز، و أربعة أخماسه بين الجند الذين أصابوا ذلك من أهل الديوان و غيرهم، يضرب للفارس منهم ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه و سهم له، و للراجل سهم على ما جاء في الأحاديث و الآثار و لا يفضل الخيل بعضها على بعض ...» «2»

5- و في

المغني لابن قدامة بعد قول الخرقي:

«و أربعة أخماس الغنيمة لمن شهد الوقعة؛ للراجل سهم و للفارس ثلاثة أسهم إلا أن يكون الفارس على هجين فيكون له سهمان: سهم له و سهم لهجينه.»

قال:

«أجمع أهل العلم على أن أربعة أخماس الغنيمة للغانمين، و قوله- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ» يفهم منه أن أربعة أخماسها لهم، لأنه أضافها

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 320- 324 (طبعة أخرى/ 244- 248).

(2)- الخراج/ 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 156

إليهم، ثم أخذ منها سهما لغيرهم فبقي سائرها لهم كقوله- تعالى-: «وَ وَرِثَهُ أَبَوٰاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ» و قال عمر: الغنيمة لمن شهد الوقعة.

و ذهب جمهور أهل العلم إلى أن للراجل سهما و للفارس ثلاثة أسهم. و قال أبو حنيفة للفارس سهمان، و خالفه أصحابه فوافقوا سائر العلماء، و قد ثبت عن ابن عمر: أن النبي «ص» أسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهم له و سهمان لفرسه. متفق عليه. و قال خالد الحذاء: إنه لا يختلف فيه عن النبي «ص» أنه أسهم للفرس سهمين و لصاحبه سهما و للراجل سهما. و الهجين من الخيل هو الذي أبوه عربي و أمّه غير عربية.» «1»

الأخبار الواردة في تقسيم الغنيمة:

1- صحيحة ربعي بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: كان رسول اللّه «ص» إذا أتاه المغنم أخذ صفوه و كان ذلك له، ثم يقسم ما بقي خمسة أخماس و يأخذ خمسه، ثم يقسم أربعة أخماس بين الناس الذين قاتلوا عليه، الحديث.» «2» و ظاهر الصحيحة استقرار عمل النبي «ص» على ذلك و استمراره.

2. مرسلة حماد الطويلة، عن العبد الصالح «ع»، قال: «الخمس من خمسة أشياء:

من الغنائم و الغوص و

من الكنوز و من المعادن و الملاحة، يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله اللّه له و يقسم الأربعة الأخماس بين من قاتل عليه و ولي ذلك ... و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و غير ذلك مما ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله، و قسم الباقي على من ولي ذلك، و إن لم يبق بعد سدّ النوائب

______________________________

(1)- المغني 7/ 312.

(2)- الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 157

شي ء فلا شي ء لهم.» «1»

3- صحيحة معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: «إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للّه و للرسول و قسم بينهم أربعة أخماس، و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام يجعله حيث أحبّ.» «2»

4- خبر هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن الغنيمة فقال:

يخرج منها خمس للّه و خمس للرسول، و ما بقي قسم بين من قاتل عليه و ولي ذلك.» «3»

5- خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في الغنيمة، قال: يخرج منه الخمس، و يقسم ما بقي بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و أما الفي ء و الأنفال فهو خالص لرسول اللّه «ص». «4»

و في المستدرك، عن العياشي في تفسيره، عن ابن سنان مثله. «5»

6- و في المستدرك، عن العياشي، عن ابن الطيار، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«يخرج خمس الغنيمة ثم

يقسم أربعة أخماس على من قاتل على ذلك و وليه.» «6»

7- و فيه أيضا، عن دعائم الإسلام، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال: «الغنيمة يقسم على خمسة أخماس فيقسم أربعة أخماس على من قاتل عليها، و الخمس لنا أهل البيت.

الحديث.» «7»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 358 و 365، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8، و الباب 1 من أبواب الأنفال ...، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 5.

(4)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال ...، الحديث 3.

(5)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدو ...، الحديث 1.

(6)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 2.

(7)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 158

8- و في سنن البيهقي بسنده، عن عبد اللّه بن عمرو، قال: «كان رسول اللّه «ص» إذا أصاب غنيمة أمر بلالا فينادي في الناس فيجيئون بغنائمهم فيخمسها و يقسمها، فجاء رجل بعد ذلك بزمام من شعر فقال: يا رسول اللّه، هذا فيما كنّا أصبناه من الغنيمة، فقال: أسمعت بلالا نادى ثلاثا؟ قال: نعم. قال: فما منعك أن تجي ء به؟

فاعتذر، فقال: كن أنت تجي ء به يوم القيامة، فلن أقبله عنك.» «1»

9- و فيه أيضا بسنده، عن رجل من بلقين، قال: «أتيت النبي «ص» و هو بوادي القرى و هو يعرض فرسا، فقلت: يا رسول اللّه، ما تقول في الغنيمة؟ قال: للّه خمسها و أربعة أخماس للجيش. قلت: فما

أحد أولى به من أحد؟ قال: لا، و لا السهم تستخرجه من جنبك ليس أنت أحق به من أخيك المسلم.» «2»

10- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس: «في سورة الأنفال قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ، قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ قال: الأنفال: المغانم، كانت لرسول اللّه «ص» خالصة ليس لأحد منها شي ء، ما أصاب سرايا المسلمين أتوا به فمن حبس منه إبرة أو سلكا فهو غلول، فسألوا رسول اللّه «ص» أن يعطيهم منها: قال اللّه- تبارك و تعالى-: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ، قُلِ الْأَنْفٰالُ لي جعلتها لرسولي ليس لكم منها شي ء، فاتقوا اللّه و أصلحوا ذات بينكم، إلى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. ثم أنزل اللّه- عزّ و جلّ-:

وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ. ثم قسم ذلك الخمس لرسول اللّه وَ لِذِي الْقُرْبىٰ يعني قرابة النبي «ص» وَ الْيَتٰامىٰ و المجاهدين في سبيل اللّه، و جعل أربعة أخماس الغنيمة بين الناس، الناس فيه سواء، للفرس سهمان و لصاحبه سهم و للراجل سهم. كذا وقع في الكتاب: «و المجاهدين»، و هو غلط إنما هو ابن السبيل.» «3»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 6/ 293، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب بيان مصرف الغنيمة ...

(2)- سنن البيهقي 6/ 324، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب إخراج الخمس من رأس الغنيمة و ...

(3)- سنن البيهقي 6/ 293، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب بيان مصرف الغنيمة ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 159

أقول: و قد مرت هذه الرواية عن الدرّ المنثور أيضا، فراجع. «1»

المشهور بيننا أنّ للفارس سهمين و للراجل سهما واحدا:

1- قال الشيخ في كتاب الفي ء و قسمة الغنائم من الخلاف (المسألة 24):

«للراجل سهم و للفارس سهمان: سهم له

و سهم لفرسه، و به قال أبو حنيفة. و في أصحابنا من قال: للفارس ثلاثة أسهم: سهم له و سهمان لفرسه، و به قال الشافعي، و في الصحابة علي «ع» و عمر، و في التابعين عمر بن عبد العزيز و الحسن البصري و ابن سيرين، و في الفقهاء مالك و أهل المدينة و الأوزاعي و أهل الشام و الليث بن سعد و أهل مصر و أحمد و إسحاق و أبو يوسف و محمد. دليلنا على الأول الأخبار التي رواها أصحابنا ...» «2»

2- و في الشرائع:

«ثم يعطى الراجل سهما و الفارس سهمين، و قيل ثلاثة، و الأول أظهر.» «3»

3- و في الجواهر في ذيل عبارة الشرائع قال:

«و أشهر، بل المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنيمة الإجماع عليه، و هو الحجة بعد خبر حفص بن غياث.» «4»

4- و في خراج أبي يوسف:

«يضرب للفارس منهم ثلاثة أسهم: سهمان لفرسه، و سهم له، و للراجل سهم على ما جاء في الأحاديث و الآثار، و لا يفضل الخيل بعضها على بعض ... قال أبو يوسف: حدثنا الحسن بن علي بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن

______________________________

(1)- الدّر المنثور 3/ 160.

(2)- الخلاف 2/ 335.

(3)- الشرائع 1/ 324 (طبعة أخرى/ 247).

(4)- الجواهر 21/ 201.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 160

عبد اللّه بن عباس أن رسول اللّه «ص» قسم غنائم بدر: للفارس سهمان و للراجل سهم. قال: و حدثنا قيس بن الربيع، عن محمد بن علي، عن إسحاق بن عبد اللّه، عن أبي حازم، قال: حدثنا أبو ذر الغفاري، قال: شهدت أنا و أخي مع رسول اللّه «ص» حنينا و معنا فرسان لنا فضرب لنا

رسول اللّه ستة أسهم: أربعة لفرسينا و سهمين لنا فبعنا الستة الاسهم بحنين ببكرين.

قال أبو يوسف: و كان الفقيه المقدم أبو حنيفة يقول: للرجل سهم و للفرس سهم، و قال: لا أفضل بهيمة على رجل مسلم، و يحتج بما حدثناه عن زكريا بن الحارث، عن المنذر بن أبي خميصة الهمداني أن عاملا لعمر بن الخطاب قسم في بعض الشام للفارس سهم و للرجل سهم فرفع ذلك إلى عمر فسلّمه و أجازه، فكان أبو حنيفة يأخذ بهذا الحديث و يجعل للفرس سهما و للرجل سهما ...» «1»

أقول: و يدل على القول المشهور بيننا:

1- خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سأله عن سريّة كانوا في سفينة فقاتلوا و غنموا و فيهم من معه الفرس، و إنما قاتلوهم في السفينة، و لم يركب صاحب الفرس فرسه، كيف تقسم الغنيمة بينهم؟ فقال: للفارس سهمان و للراجل سهم. قلت: و لم يركبوا و لم يقاتلوا على أفراسهم؟ قال: أ رأيت لو كانوا في عسكر فتقدم الرجالة فقاتلوا فغنموا كيف أقسم بينهم؟ أ لم أجعل للفارس سهمين و للراجل سهما، و هم الذين غنموا دون الفرسان. الحديث.» «2»

2- ما عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال: «أربعة أخماس الغنيمة لمن قاتل عليها: للفارس سهمان و للراجل سهم.» «3»

______________________________

(1)- الخراج/ 18.

(2)- الوسائل 11/ 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 161

3- ما عن عوالي اللئالي، عن النبي «ص»: «أنه قسم في النفل للفارس سهمين و للراجل سهما.» «1»

4- ما في

سنن البيهقي بسنده، عن مجمع بن جارية الأنصاري في حديث طويل يذكر فيه تقسيم النبي «ص» غنائم خيبر على أهل الحديبية، قال: «فأعطى الفارس سهمين و الراجل سهما.» «2»

5- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر: «أن النبي «ص» قسم يوم خيبر للفارس سهمين و للراجل سهما.» «3»

أقول: و لكن البيهقي ضعف سند الحديثين.

6- خبر ابن عباس الذي مرّ عن أبي يوسف في تقسيم رسول اللّه «ص» غنائم بدر. «4»

7- و في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 24) و الجواهر عن المقداد قال:

«أعطاني رسول اللّه «ص» سهمين: سهما لي و سهما لفرسي.» «5»

و أما القول الآخر فيدل عليه أخبار من طرقنا و أخبار كثيرة من طرق السنة:

1- خبر مسعدة بن زياد، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، قال: «كان رسول اللّه «ص» يجعل للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهما.» «6» قال في الوسائل: هذا محمول

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 8.

(2)- سنن البيهقي 6/ 325، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل و الفارس.

(3)- سنن البيهقي 6/ 325، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل و الفارس.

(4)- الخراج لأبي يوسف/ 18.

(5)- الخلاف 2/ 336؛ و الجواهر 21/ 201.

(6)- الوسائل 11/ 79، الباب 38 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 162

على تعدد الأفراس.

2- خبر إسحاق بن عمار، عن جعفر، عن أبيه: «أن عليا «ع» كان يجعل للفارس ثلاثة أسهم و للراجل سهما.» «1» قال في الوسائل: حمله الشيخ على تعدد الأفراس للفارس.

3- خبر أبي البختري، عن جعفر،

عن أبيه: «أن عليا «ع» كان يسهم للفارس ثلاثة أسهم: سهمين لفرسه و سهما له و يجعل للراجل سهما.» «2»

أقول: التعبير بالماضي الاستمراري في الأخبار الثلاثة يدلّ على الاستمرار في العمل، و الحمل على تعدد الأفراس خلاف الظاهر و لا سيما مع هذا التعبير.

و يحتمل أن يراد الجعل قبل القتال تشويقا فيه لا التقسيم بعد إحراز الغنيمة.

و يحتمل أيضا حملها على التقية، فإن هذا القول مشهور بين فقهاء السنة و استفاضت به أخبارهم، فراجع البيهقي. «3»

و يحتمل أيضا حمل اختلاف الأخبار على اختلاف المقامات من كثرة الأفراس و قلتها و شدة الحاجة إليها و ضعفها، فكان الاختيار في ذلك إلى الإمام حسب إحساس الحاجة إلى الخيل و محصول عملها و اختلافها في النفقات و العنصر و القوة و الضعف و نحو ذلك، و قد عرفت بالتفصيل أن الغنيمة بأجمعها تكون تحت اختيار الإمام.

و لو أبيت جميع ذلك فالشهرة مرجحة للطائفة الأولى من الأخبار، و هي أول المرجحات في باب تعارض الأخبار. و أما حديث تعدد الأفراس فرواه الكليني بسنده، عن حسين بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جده، قال: قال أمير المؤمنين «ع»:

«إذا كان مع الرجل أفراس في الغزو لم يسهم له إلا لفرسين منها.» و رواه الشيخ أيضا بسنده عن حسين بن عبد اللّه مثله. «4»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 88، الباب 42 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 89، الباب 42 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 3.

(3)- سنن البيهقي 6/ 325، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في سهم الراجل و الفارس.

(4)- الوسائل 11/ 88، الباب 42 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 163

و الذي يسهّل الخطب في المقام انتفاء موضوع هذه المسائل في أعصارنا، فإن الأفراس قد تبدّلت بالسيارات و الطائرات و الهليكوبترات العسكرية و سيأتي الإشارة إلى حكمها.

حكم المدد و الصبيان و النساء و العبيد و الكفار في هذا الباب:

1- قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 32):

«إذا انفلت أسير من يد المشركين فلحق بالمسلمين بعد تقضي القتال و حيازة المال قبل القسمة فإنه يسهم له، و عند الشافعي لا يسهم له. دليلنا إجماع الفرقة على أن من لحقهم مددا قبل القسمة فإنه يسهم له، و هذا منهم.» «1»

2- و فيه أيضا (المسألة 20):

«الصبيان يسهم لهم مع الرجال، و به قال الأوزاعي. و كذلك من يولد قبل القسمة. و أما النساء و العبيد و الكفار فلا سهم لهم، و إن شاء الإمام أن يرضخ لهم فعل، و عند الشافعي له أن يرضخ لهؤلاء الأربعة و لا سهم لهم. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «2»

3- و فيه أيضا (المسألة 21):

«النساء لا سهم لهن و إنما يرضخ لهن، و به قال جميع الفقهاء إلا الأوزاعي فإنه قال: يسهم للنساء. دليلنا إجماع الفرقة ...» «3»

4- و فيه أيضا (المسألة 22):

«الكفار لا سهم لهم مع المسلمين سواء قاتلوا بإذن الإمام أو بغير إذن الإمام، و إن قاتلوا بإذنه أرضخ لهم إن شاء الإمام و به قال الشافعي إلّا أنه قال: يرضخ لهم.

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 338.

(2)- الخلاف 2/ 334.

(3)- الخلاف 2/ 335.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 164

و قال الأوزاعي: يسهم لهم مع المسلمين. دليلنا إجماع الفرقة ...» «1»

5- و في الوسائل بسنده عن حفص بن غياث، قال: «كتب إليّ بعض إخواني أن أسأل أبا عبد اللّه «ع» عن مسائل من

السيرة (السنن خ. ل) فسألته و كتبت بها إليه، فكان فيما سألت: أخبرني عن الجيش إذا غزوا أرض الحرب فغنموا غنيمة ثم لحقهم جيش آخر قبل أن يخرجوا إلى دار الإسلام و لم يلقوا عدوّا حتى خرجوا إلى دار الإسلام هل يشاركونهم فيها؟ قال: نعم.» «2»

6- و فيه أيضا بسنده، عن طلحة بن زيد، عن جعفر، عن أبيه، عن علي «ع» في الرجل يأتي القوم و قد غنموا و لم يكن ممن شهد القتال؟ قال: فقال: «هؤلاء المحرمون (المحرمون خ. ل) فأمر أن يقسم لهم.» «3»

7- و في صحيح البخاري بسنده عن أبي موسى، قال: «بلغنا مخرج النبي و نحن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه أنا و أخوان لي أنا أصغرهم، أحدهما أبو بردة و الآخر أبو رهم، إما قال: في بضع و إما قال: في ثلاثة و خمسين أو اثنين و خمسين رجلا من قومي، فركبنا سفينة فألقتنا سفينتنا إلى النجاشي بالحبشة، و وافقنا جعفر بن أبي طالب و أصحابه عنده فقال جعفر: إن رسول اللّه «ص» بعثنا هاهنا و أمرنا بالإقامة فأقيموا معنا، فأقمنا معه حتى قدمنا جميعا فوافقنا النبي «ص» حين افتتح خيبر فأسهم لنا أو قال: فأعطانا منها، و ما قسّم لأحد غاب عن فتح خيبر منها شيئا إلا لمن شهد معه إلّا أصحاب سفينتنا مع جعفر و أصحابه قسم لهم معهم.» «4»

8- و في الوسائل بسنده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه، عن

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 335.

(2)- الوسائل 11/ 78، الباب 37 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 78، الباب 37 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 2.

(4)- صحيح البخاري 2/ 195، باب و من الدليل

على أن الخمس لنوائب المسلمين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 165

آبائه «ع» أن عليا «ع» قال: «إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء اللّه عليهم.» «1»

9- و فيه أيضا بسنده عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، عن علي «ع» قال: «إذا ولد المولود في أرض الحرب أسهم له.» «2»

10- و فيه أيضا بسند موثوق به، عن سماعة، عن أحدهما «ع»، قال: «إن رسول اللّه «ص» خرج بالنساء في الحرب يداوين الجرحى، و لم يقسم لهن من الفي ء شيئا و لكنه نفلهن.» «3»

11- و فيه أيضا في مرسلة حماد الطويلة، عن أبي الحسن «ع»، قال: «و ليس للأعراب من الغنيمة شي ء و إن قاتلوا مع الإمام، لأن رسول اللّه «ص» صالح الأعراب أن يدعهم في ديارهم و لا يهاجروا على أنه إن دهم رسول اللّه «ص» من عدوه دهم أن يستنفرهم فيقاتل بهم، و ليس لهم في الغنيمة نصيب، و سنته جارية فيهم و في غيرهم.» «4»

12- و فيه أيضا بسنده، عن عبد الكريم بن عتبة، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال لعمرو بن عبيد: «أ رأيت إن هم أبوا الجزية فقاتلتهم فظهرت عليهم كيف تصنع بالغنيمة؟» قال: أخرج الخمس و أقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه- إلى أن قال:- «أ رأيت الأربعة أخماس تقسمها بين جميع من قاتل عليها؟» قال: نعم. قال: «فقد خالفت رسول اللّه «ص» في سيرته؛ بيني و بينك فقهاء المدينة و مشيختهم و أسألهم، فإنهم لا يختلفون أن رسول اللّه «ص» صالح الأعراب على أن يدعهم في ديارهم و لا يهاجروا على أنه إن دهمهم من عدوه دهم أن يستنفرهم

فيقاتل بهم، و ليس لهم في القسمة (الغنيمة- الكافي) نصيب، و أنت تقول: بين جميعهم، فقد خالفت رسول اللّه «ص» في كل ما قلت في سيرته في المشركين.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 8.

(2)- الوسائل 11/ 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 9.

(3)- الوسائل 11/ 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(4)- الوسائل 11/ 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(5)- الوسائل 11/ 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 166

13- و في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع» أن رسول اللّه «ص» قال: «ليس للعبيد من الغنيمة شي ء. و إن حضر و قاتل عليها فرأى (فإن رأى- الدعائم) الإمام أو من أقامه الإمام أن يعطيه على بلائه إن كان منه أعطاه من خرثيّ المتاع ما يراه.» «1»

أقول: الخرثيّ: أردأ المتاع و سقطه.

و راجع في مسألة العبيد، الجواهر «2» و سنن البيهقي. «3»

و قد طوينا هذه المسائل لعدم الابتلاء به في أعصارنا و التفصيل يطلب من محله.

و اعلم أن المذكور في كلمات الفقهاء في المقام هو «الرضخ»، و فسر في اللغة بالعطاء القليل، و قال في المسالك:

«الرضخ: العطاء الذي ليس بالكثير. و المراد به هنا وجوب العطاء الذي لا يبلغ سهم الفارس إن كان المرضخ له فارسا و لا الراجل إن كان راجلا.» «4»

أقول: لا يخفى أن إقامة الدليل على هذا التحديد مشكلة. و لو فرض إشرابه في معناه لغة أمكن الإيراد على ذلك بأن المذكور في أخبار الباب ليس لفظ الرضخ، و إنما ذكر هذا في

كلمات الفقهاء، فتدبّر.

و هنا فروع ينبغي الإشارة إليها:
الأوّل: إن المتعارف في أعصارنا استعمال السيّارات و الطيّارات و الهليكوبترات العسكرية في الحروب.

فإذا فرض أن شارك أحد في الحرب بسيارته مثلا فهل

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 261، الباب 36 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6، عن الدعائم 1/ 387.

(2)- الجواهر 21/ 192.

(3)- سنن البيهقي 9/ 53، كتاب السير، باب العبيد و النساء و الصبيان يحضرون الوقعة.

(4)- المسالك 1/ 156.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 167

لا يسهم لسيارته أصلا لعدم الدليل على إلحاقها بالفرس، أو يسهم لها سهم الفرس بالأولوية القطعية، أو يعتبر مقدار تأثيرها في الظفر على العدوّ و مقدار نفقاتها، فلعلّ سيارة واحدة تساوي عشرة أفراس مثلا في الأثر المترقب منها و تقتضي نفقات كثيرة؟ وجوه.

و حيث اخترنا أن اختيار الغنيمة يكون بيد الإمام ينفل منها حسب ما يراه صلاحا فالأمر يدور مدار جعل الإمام أو من يقوم مقامه في ذلك.

الثاني: إن تقسيم الغنيمة بين المقاتلين كان في عصر كانت الجيوش متطوّعين

يشاركون في الحروب بداع إلهي، و كانت الآلات العسكرية و الأفراس ملكا لأنفسهم، فلعلّ تقسيم الغنيمة بينهم كان بلحاظ الجزاء لنشاطاتهم و تضحياتهم و الجبر لنفقاتهم، كما ربّما يشهد بذلك الفرق بين الراجل و الفارس، حيث إن الفرس كانت له مئونة و نفقة زائدة فناسب هذا الجزاء الأوفى و إن لم يتفق القتال عليه.

و على هذا، فإذا كانت الجيوش موظفين من قبل الحكومة أجراء على الأعمال العسكرية، و كانت النفقات و المراكب و الوسائل العسكرية أيضا ملكا للحكومة، كما هو الغالب في عصرنا، فهل يجب في هذه الصورة أيضا تقسيم الغنيمة بينهم، أو يجري حكم التقسيم في المتطوعين فقط؟ في المسألة و جهان.

و العمدة هي ما ذكرناه من عدم تعين التقسيم إذا كان هنا مصارف مهمّة و نوائب تنوب الإمام بحيث تستوعب الغنائم، فتدبّر.

الثالث: قال العلامة في جهاد المنتهى ما ملخصه:

«مسألة: لا يجوز التصرف في شي ء من الغنيمة، قيل: إلّا ما لا بدّ له منه كالطعام و علف الدوابّ. و قد أجمع العلماء على جواز التصرف في الطعام و علف الدوابّ إلّا من شذّ. و به قال سعيد بن المسيب و عطاء و الحسن البصري و الشعبي و الثوري و الأوزاعي و مالك و الشافعي و أحمد و أصحاب الرأي. و قال الزهري: لا يؤخذ إلّا بإذن الإمام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 168

لنا ما رواه الجمهور، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كنّا نصيب العسل و الفواكه في مغازينا فنأكله و لا نرفعه. و عن عبد اللّه بن أبي أوفى، قال: أصبنا طعاما يوم خيبر و كان الرجل يأخذ منه مقدار ما يكفيه ثم ينصرف. و كتب صاحب جيش الشام إلى عمر: إنا أصبنا أرضا

كثيرة الطعام و العلف، فكتب إليه عمر دع الناس يعلفون و يأكلون، فمن باع منهم شيئا بذهب أو فضة ففيه خمس اللّه و سهام المسلمين.

و من طريق الخاصة ما رواه الشيخ، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع» في وصية رسول اللّه «ص» لأمير السرية: «و لا تقطعوا شجرة مثمرة، و لا تحرقوا زرعا، لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه. و لا تعقّروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلّا ما لا بدّ لكم من أكله.» «1»

و لأن الحاجة يشتد إليه و في المنع مضرة عظيمة بالمسلمين و بدوابّهم، لتعسر نقل الطعام و العلف من بلاد الإسلام، و لا يجدون بدار الحرب ما يشرونه، و لو وجدوه لم يوجد الثمن ...

الثالث: إذا ذبحت الأنعام للأكل ردّ جلودها إلى المغنم و لم يجز استعمالها، لأنه ليس مما يدعو الحاجة إليه مع اشتراك الغانمين فيها، و لأنه ليس بطعام فلا يثبت فيه الترخص كغيره من أموال الغنيمة.

الرابع: لا يجوز تناول ما عدا الطعام و العلف و اللحم و استعماله و لا الانفراد به، لقوله «ع»: أدّوا الخيط و المخيط، فإن الغلول عار و نار و شنار يوم القيامة.

الخامس: الدهن المأكول يجوز استعماله في الطعام عند الحاجة، لأنه طعام فأشبه الحنطة و الشعير.

السادس: يجوز أن يأكل ما يتداوى به أو يشربه، كالجلاب و السكنجبين و غيرهما عند الحاجة، لأنه من الطعام. و قال أصحاب الشافعي ليس له تناوله، لأنه ليس من القوت و لا يصلح به القوت.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 169

السابع: لا يجوز أن يغسل ثوبه بالصابون، لأنه ليس

بطعام و لا علف و إنما يراد للتحسين و التزيين لا للضرورة.» «1» انتهى كلام المنتهى.

أقول: قد تعرّض لجواز التصرّف في الطعام و العلف في التذكرة أيضا، و تعرض له الشيخ أيضا في المبسوط. و عمدة الدليل فيه الإجماع المدعى و السيرة في عصر النبي «ص» في غزواته و سراياه. فإن ثبت بدليل قاطع فهو، و إلّا فالأصل يقتضي عدم الجواز إلّا في صورة الضرورة بمقدارها مع الضمان. و خبر مسعدة لا يدل على أزيد من مقدار الضرورة العرفية، و لا يستفاد منه عدم الضمان. و نسب الجواز فيما مر من عبارة الشرائع إلى القيل مشعرا بتمريضه. نعم، للإمام الإذن في ذلك بناء على ما مر من كون الغنائم من الأنفال و اختيارها بيد الإمام، فتدبّر.

الرابع: هل التخميس يقدّم على الجعائل و النوائب و النفقات و الرضخ،

أو يؤخر عنها، أو يفصّل بين الرضخ و غيره؟ وجوه:

من أن الغنيمة تصدق على الجميع، فيدل على تخميسه الآية الشريفة و الروايات.

و من أن الغنائم على ما مر تكون من الأنفال، أعني الأموال العامّة الواقعة تحت اختيار الإمام بما هو إمام، و لا يتعلق بمال الإمام الخمس و الزكاة و نحوهما، و إنما يتعلق بها الخمس بعد إرادة تقسيمها بين الأشخاص بلحاظ صيرورتها بالتقسيم غنيمة لهم و عائدة إليهم فيخرج خمسها. و في مرسلة حماد الطويلة: «و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و غير ذلك مما ينوبه. فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسمه في أهله.» «2» فيظهر منها أن الخمس يكون بعد النوائب و قبل التقسيم.

و من أن الرضخ في الحقيقة نوع من قسمة الغنيمة، غايته أنه ناقص عن

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 923.

(2)- الوسائل 6/ 365، الباب 1

من أبواب الأنفال من كتاب الخمس، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 170

السهام، فيتفاوت مع غيره بتقديم الخمس عليه. كما قواه في المسالك و الروضة، و لعلّه الأقوى.

قال في المسالك:

«تقديم السلب و الجعائل على الخمس متجه، لخروجها عن اسم الغنيمة التي أوجب اللّه- تعالى- فيها الخمس بالآية. و أما تقديم الرضخ عليه فغير واضح، لأن الرضخ في الحقيقة نوع من قسمة الغنيمة، غايته أنه ناقص عن السهام، و ذلك غير مانع. كما أن نقص سهم الراجل عن سهم الفارس غير مؤثر في تقديم الخمس عليه. و إطلاق اسم الغنيمة على المال المدفوع رضخا واضح، فوجوب الخمس فيه قوى.» «1»

______________________________

(1)- المسالك 1/ 156.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 171

الجهة الرابعة: في السَلَب:

اشارة

1- في سيرة ابن هشام في قصة غزوة حنين، عن ابن إسحاق بسنده، عن أبي قتادة ما ملخصه: «فلما وضعت الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا و فرقنا من القوم قال رسول اللّه «ص»: «من قتل قتيلا فله سلبه.» فقلت: يا رسول اللّه، و اللّه لقد قتلت قتيلا ذا سلب فأجهضني عنه القتال فما أدري من استلبه. فقال رجل من أهل مكة: صدق يا رسول اللّه، و سلب ذلك القتيل عندي. فقال رسول اللّه «ص»: اردد عليه سلبه. و عن أنس بن مالك، قال: لقد استلب أبو طلحة يوم حنين وحده عشرين رجلا.» «1»

و راجع في قصة أبي قتادة صحيح مسلم «2»، و البيهقي «3» و غيرهما من الكتب.

2- و في سنن أبي داود بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه «ص» يومئذ- يعني يوم حنين-: «من قتل كافرا فله سلبه.» فقتل أبو طلحة يومئذ عشرين رجلا و

أخذ أسلابهم. «4»

3- و في صحيح مسلم بسنده، عن عبد الرحمن بن عوف أنه قال ما ملخصه:

«بينا أنا واقف في الصف يوم بدر فإذا أنا بين غلامين من الأنصار فغمزني أحدهما فقال: يا عمّ، تعرف أبا جهل؟ قلت: نعم، و ما حاجتك إليه؟ قال: أخبرت أنه

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 4/ 91.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1370، كتاب الجهاد و السير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)، الحديث 1751.

(3)- سنن البيهقي 6/ 306، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب السلب للقاتل.

(4)- سنن أبي داود 2/ 65، كتاب الجهاد، باب في السلب يعطى القاتل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 172

يسبّ رسول اللّه «ص». فغمزني الآخر فقال مثلها. فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل، فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألان عنه، فابتدراه فضرباه بسيفيهما حتى قتلاه، ثم انصرفا إلى رسول اللّه «ص» فأخبراه، فقال: «أيّكما قتله؟» فقال كل واحد منهما: أنا قتلته، فقال «ص»: «مسحتما سيفيكما؟» قالا: لا. فنظر في السيفين فقال: «كلا كما قتله.» و قضى بسلبه لمعاذ بن عمرو بن الجموح. و الرجلان:

معاذ بن عمرو بن الجموح، و معاذ بن عفراء. «1»

و رواه البخاري «2»، و البيهقي في السنن «3».

و قد روى البيهقي في هذا الباب روايات كثيرة. و في بعضها: «فطعنت رجلا فقتلته فنفلني رسول اللّه «ص» سلبه.» و في بعضها: «فشددت على رجل فطعنته فقطرته و أخذت سلبه فنفلنيه رسول اللّه.» و في بعضها: «بارز عقيل بن أبي طالب رجلا يوم موتة فنفله رسول اللّه «ص» سيفه و ترسه.» و في بعضها أنه بعد ما هشم عتبة بن أبي وقاص في أحد وجه رسول اللّه «ص»

و دقّ رباعيته بحجر قال حاطب بن أبي بلتعة: «فمضيت حتى ظفرت به فضربته بالسيف فطرحت رأسه فهبطت فأخذت رأسه و سلبه و فرسه و جئت بها إلى النبي «ص» فسلّم ذلك إليّ و دعا لي.»

إلى غير ذلك من التعبيرات الواردة في أخبار الباب الدالّة على أن إعطاء السلب كان نفلا منه «ص» بعد الظفر على العدوّ.

إ ذا عرفت هذا فنقول: البحث في السلب يقع في مسائل شتّى نشير إلى بعضها إجمالا و نحيل التفصيل إلى الكتب الموسوعة:

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1372، كتاب الجهاد و السير، الباب 13، الحديث 1752.

(2)- صحيح البخاري 2/ 197، كتاب الجهاد و السير، باب من لم يخمّس الأسلاب ...

(3)- سنن البيهقي 6/ 305، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب السلب للقاتل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 173

المسألة الأولى: هل السلب للقاتل مطلقا، أو فيما إذا شرطه الإمام له؟

1- قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 8):

«السلب لا يستحقه القاتل إلّا أن يشرط له الإمام، و به قال أبو حنيفة و مالك.

و قال الشافعي: هو للقاتل و إن لم يشرط له الإمام، و به قال الأوزاعي و الثوري و أحمد بن حنبل.

دليلنا أنه إذا شرط استحقه بلا خلاف، و إذا لم يشرط له ليس على استحقاقه له دليل.» «1»

2- و قال في المبسوط:

«السلب لا يختص السالب إلّا بأن يشرط له الإمام، فإن شرطه له كان له خاصة، و لا يخمس عليه. و إن لم يشرط كان غنيمة.» «2»

3- و في المغني لابن قدامة الحنبلى في بحث السلب قال:

«الفصل السادس: إن القاتل يستحق السلب، قال ذلك الإمام أو لم يقل، و به قال الأوزاعي و الليث و الشافعي و إسحاق و أبو عبيد و أبو

ثور. و قال أبو حنيفة و الثوري: لا يستحقه إلّا أن يشرطه الإمام له. و قال مالك: لا يستحقه إلّا أن يقول الإمام ذلك. و لم ير أن يقول الإمام ذلك إلّا بعد انقضاء الحرب على ما تقدم من مذهبه في النفل ...

و لنا قول النبي «ص»: «من قتل قتيلا فله سلبه.» و هذا من قضايا رسول اللّه «ص» المشهورة التي عمل بها الخلفاء بعده. و أخبارهم التي احتجوا بها تدل على ذلك، فإن عوف بن مالك احتج على خالد حين أخذ سلب المدديّ، فقال له عوف: أما

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 330.

(2)- المبسوط 2/ 66، كتاب قسمة الفي ء و الغنائم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 174

تعلم أن رسول اللّه «ص» قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ...» «1»

أقول: قصة المدديّ رواها البيهقي بسنده، عن عوف بن مالك الأشجعي، قال ما ملخصه:

«خرجت مع زيد بن حارثة في غزوة موتة و رافقني مدديّ من أهل اليمن، فلقينا جموع الروم و فيهم رجل على فرس له أشقر عليه سرج مذهّب و سلاح مذهّب، فجعل الرومي يفري بالمسلمين، و قعد له المددي خلف صخرة فمرّ به الرومي فعرقب فرسه فخرّ و علاه فقتله و حاز فرسه و سلاحه، فلما فتح اللّه- عزّ و جلّ- للمسلمين بعث إليه خالد بن الوليد فأخذ السلب. قال عوف فأتيته فقلت: يا خالد، أما علمت أن رسول اللّه «ص» قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى و لكني استكثرته. قلت: لتردّنّه إليه أو لأعرفنكها (لأعرفنكما خ. ل) عند رسول اللّه «ص». قال: لن نردّ عليه.

قال عوف فاجتمعنا عند رسول اللّه «ص» فقصصت عليه قصة المدديّ و ما فعل خالد، فقال رسول اللّه

«ص»: يا خالد، ما حملك على ما صنعت؟ قال: استكثرته، فقال: رد عليه ما أخذت منه. قال عوف: فقلت: دونك يا خالد، أ لم أف لك؟ فقال رسول اللّه «ص»: و ما ذاك؟ فأخبرته. قال: فغضب رسول اللّه «ص» فقال: يا خالد، لا تردّ عليه، هل أنتم تاركوا لي أمرائي لكم صفوة أمرهم و عليهم كدره؟» «2»

و روى القصة أيضا مسلم، فراجع. «3»

و يظهر من احتجاج عوف على خالد بقضاء رسول اللّه «ص» أن الأصحاب فهموا من قضائه «ص» كونه حكما دائما لا مختصا بموارد خاصّة.

و يمكن أن يستدل لهذا أيضا بأن المتبادر من جعل النبي «ص» السلب للقاتل في

______________________________

(1)- المغني 10/ 426- 427.

(2)- سنن البيهقي 6/ 310، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في تخميس السلب.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1373، كتاب الجهاد و السير، الباب 13 (باب استحقاق القاتل سلب القتيل)، الحديث 1753.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 175

موارد كثيرة من غزواته، و كذا من قوله: «من قتل قتيلا فله سلبه»، أو «من قتل كافرا فله سلبه» أنه حكم كلي إلهي أجراه النبي «ص» و بيّنه بقوله على ما هو شأن النبوة، فإن شأن النبي بما هو نبي إنما هو تلقي الأحكام بالوحي و بيانه للأمّة.

و لو سلّم كون كلامه «ص» قضاء منه و حكما سلطانيا فلا دليل أيضا على حصره بعصره و غزواته، نظير قوله «ص»: «لا ضرر و لا ضرار»، بناء على كونه حكما سلطانيا منه على ما هو ظاهر لفظ القضاء.

و يؤيد ذلك أيضا مساعدة العرف و الاعتبار العقلائي لكون القاتل أولى بسلب مقتوله، و كأنه محصول عمله و نشاطه، و الإنسان يملك

محصول نشاطه و عمله. هذا.

و لكنّ الظاهر من الروايات بعد إرجاع بعضها إلى بعض كون السلب نفلا منه «ص» و حكما سلطانيا منه في الموارد الخاصّة تشويقا لأصحابه في أمر الجهاد و المبارزة.

و ليس في كلامه «ص» ما يشهد بكونه في مقام بيان حكم كلي ثابت لجميع الأعصار و الموارد حتى يخصص به عمومات تقسيم الغنيمة بين الجميع بالسوية.

و المخصص إذا كان مجملا مرددا أمره بين الأقل و الأكثر و كان منفصلا لم يسر إجماله إلى العام، فيكون العام حجة في الموارد المشكوكة، فتدبّر.

و قصة المدديّ أيضا تشهد بعدم تعيّن السلب للمقتول، فإن النبي «ص» و إن أمر في بادي الأمر بردّه إليه و لكنه في النهاية قال: «يا خالد، لا ترد عليه.» و لا يتوهم أنه وقع تعزيرا للمدديّ حيث استخف بالأمير، إذ المستخف به هو عوف لا المدديّ، فكيف يمنع حقه إن ثبت؟! اللّهم إلّا أن يقال: لعلّ المورد كان من الصفي و اختياره كان إلى النبي «ص». هذا.

و قد مرّ عن الشرائع قوله: «و السلب، إذا شرط للقاتل، و لو لم يشرط لم يختص به.» «1»

و نسبه في الجواهر إلى المشهور ثم قال: «بل لا أجد فيه خلافا إلّا من الإسكافي.» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 323 (ط. أخرى/ 247).

(2)- الجواهر 21/ 186.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 176

و هذا القول هو الأقوى و إن كان الاحتياط يقتضي الأخذ بالأول.

المسألة الثانية: هل القاتل يستحق السلب مطلقا، أو يعتبر في ذلك شروط؟

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 11):

«إذا شرط له الإمام السلب إذا قتله فإنه متى قتله استحق سلبه على أيّ حال قتله. و قال داود و أبو ثور: السلب للقاتل من غير مراعاة شرط. و قال الشافعي و بقية الفقهاء:

إن السلب لا يستحقه إلّا بشروط ثلاثة: أحدها: أن يقتله مقبلا مقاتلا و الحرب قائمة، و لا يقتله منهزما و قد انقضت الحرب. و الثاني: أن لا يقتله و هو مثخن بالجراح. و الثالث: لا يكون ممن يرمي سهما من صف المسلمين إلى صف المشركين فيقتله لأنه يحتاج أن يكون مغررا بنفسه.

دليلنا أنه إذا شرط الإمام السلب فالظاهر أنه متى حصل القتل استحق السلب، و لأن قول النبي «ص»: «من قتل كافرا فله سلبه» على عمومه، و من راعى شرطا زائدا فعليه الدلالة.» «1»

أقول: و قد يضاف إلى الشروط الثلاثة شروط أخر: الأول: أن يكون القاتل ممن يستحق السهم أو الرضخ. الثاني: أن يقتل أو يثخن بالجراح. فلو جرحه بجراح غير مثخن أو أسره و قيده لم يستحق سلبه. الثالث: أن يكون المقتول من المقاتلة الذين يجوز قتلهم. فلو قتل صبيا أو امرأة أو شيخا فانيا غير مقاتلين أو رجلا مستأمنا لم يستحق سلبه، للنهي عن قتلهم. هذا.

و لا يخفى أن البحث في اعتبار الشروط كان على القول باستحقاق السلب

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 330، كتاب الفي ء.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 177

شرعا، و أما على ما اخترناه من استحقاقه بشرط الإمام ذلك و أنه من مصاديق النفل الذي قد يجعله الإمام لبعض فالحكم تابع لجعله سعة و ضيقا، كما لا يخفى.

المسألة الثالثة: في المقصود من السلب:

قال الشيخ في المبسوط:

«و أما السلب الذي يستحقه القاتل فكل ما كان يده عليه و هو جنّة للقاتل أو سلاح كان له، مثل الفرس و البيضة و الخوذة و الجوشن و السيف و الرمح و الدرقة و الثياب التي عليه، فإن جميع ذلك كله له. و ما لم يكن

يده عليه، مثل المضرب و الرحل و الجنائب التي تساق خلفه و غير ذلك، فإنه يكون غنيمة و لا يكون سلبا.

و ما كان يده عليه و ليس بجنة للقتال، مثل المنطقة و الخاتم و السوار و الطوق و النفقة التي معه، فالأولى أن نقول: إنه له، لعموم الخبر.» «1»

و راجع في المسألة المنتهى «2»، و المغني «3»، و الجواهر «4».

و الذي يسهّل الخطب أن الاستحقاق عندنا يكون بجعل الإمام، فالأمر تابع لموضوع جعله سعة و ضيقا.

و على فرض كونه حكما كليا فلا محالة يكون المرجع في موارد الشك عمومات تقسيم الغنيمة على السواء كما مر نظيره، فتدبّر.

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 67، كتاب قسمة الفي ء.

(2)- المنتهى 2/ 945؛ و المغني لابن قدّامة 10/ 428؛ و الجواهر 21/ 190.

(3)- المنتهى 2/ 945؛ و المغني لابن قدّامة 10/ 428؛ و الجواهر 21/ 190.

(4)- المنتهى 2/ 945؛ و المغني لابن قدّامة 10/ 428؛ و الجواهر 21/ 190.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 178

المسألة الرابعة: هل السلب يخمّس خمس غنائم الحرب أم لا؟

قال الشيخ في الخلاف (المسألة 9):

«إذا شرط له الإمام السلب لا يحتسب عليه من الخمس و لا يخمّس. و عند أبي حنيفة يحتسب عليه من الخمس. و قال الشافعي: لا يخمّس، و به قال سعد بن أبي وقاص. و قال ابن عباس: يخمّس السلب، قليلا كان أو كثيرا. و قال عمر: إن كان قليلا لا يخمّس و إن كان كثيرا خمّس.

دليلنا أنه ينبغي أن يكون لشرط الإمام تأثير، و لو احتسب عليه من الخمس لم يكن فيه فائدة، و كذلك لو خمس. على أن ظاهر شرط الإمام يقتضي أنه له، و من قال إنه يحتسب عليه أو يخمس فعليه الدلالة.» «1»

و في

المغني لابن قدامة:

«الفصل الخامس: إن السلب لا يخمّس. روي ذلك عن سعد بن أبي وقاص، و به قال الشافعي و ابن المنذر و ابن جرير. و قال ابن عباس: يخمّس، و به قال الأوزاعي و مكحول، لعموم قوله- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ.» و قال إسحاق: إن استكثر الإمام السلب خمّسه، و ذلك إليه، لما روى ابن سيرين أن البراء بن مالك بارز مرزبان الزارة بالبحرين، فطعنه فدقّ صلبه و أخذ سواريه و سلبه، فلما صلّى عمر الظهر أتى أبا طلحة في داره فقال: إنا كنّا لا نخمّس السلب، و إن سلب البراء قد بلغ مالا و أنا خامسه، فكان أول سلب خمّس في الإسلام سلب البراء. رواه سعيد في السنن. و فيها إن سلب البراء بلغ ثلاثين ألفا.

و لنا ما روى عوف بن مالك و خالد بن الوليد أن رسول اللّه «ص» قضى بالسلب للقاتل و لم يخمّس السلب. رواه أبو داود. و عموم الأخبار التي ذكرناها. و خبر عمر

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 330، كتاب الفي ء و قسمة الغنائم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 179

حجة لنا، فإنه قال: إنا كنّا لا نخمّس السلب ...» «1»

أقول: قد مرّ أن السلب إنما يستحقه القاتل بجعل الإمام، و قد عرفت منّا تقديم الجعائل على الخمس.

و لكن مع ذلك يمكن أن يقال بافتراق السلب عنها كما في الجواهر باندراجه تحت اسم الغنيمة بالمعنى الأخص بالنسبة إلى السالب دونها، فيشمله عموم آية الخمس و الروايات. و مثله ما ينفله الإمام من الغنيمة لبعض المقاتلين زائدا على سهمه، و كذلك الرضخ كما مرّ.

اللّهم إلّا أن يقال بانصراف أدلّة خمس الغنيمة

بالمعنى الأخص عن مثله.

أو يقال بأن الظاهر من جعل الإمام إياه للسالب جعل مجموعه لا أربعة أخماسه، و خمس الغنيمة بالمعنى الأخص يأخذه الإمام قبل تقسيمها.

و على هذا فالمتّبع ظاهر الجعل؛ فإن كان ظاهرا في كونه له بأجمعه بلا خمس فهو، و إلّا فعموم دليل خمس الغنيمة محكّم فيأخذ الإمام خمسه و يعطيه البقية، فتدبّر.

و على فرض العدم فالظاهر شمول أدلة خمس الفائدة له، كما لا يخفى.

______________________________

(1)- المغني 10/ 425.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 180

الجهة الخامسة: في الصفايا و أنها للإمام:

قد كان من المتعارف في جميع الأعصار اصطفاء الملوك و الأمراء من بين غنائم العدوّ الأشياء القيّمة النفيسة منها لأنفسهم أو لبيوت أموالهم و متاحفهم، و كان يطلق عليها الصفايا.

و هذا الصنف من الأشياء النفيسة لا تقبل التقسيم غالبا. و إيثار البعض بها دون بعض تورث الخلاف و الضغائن. فلا مجال إلّا لإبقائها ذخرا لمستقبل الأمّة تحت اختيار إمامهم. و ربما يستفيد منها الإمام الّذي هو مقبول الأمّة جميعا و يكون أحق الأشخاص بالاستفادة منها. و نحن نحيل البحث التفصيلي في الصفايا إلى فصل الأنفال لمناسبتها لها و إن ناقشنا في إطلاق لفظ الأنفال عليها، و الغرض هنا هو الإشارة إليها و أنها مما يستثنى من الغنائم قبل التقسيم، فانتظر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 181

الجهة السادسة: في حكم الأراضي المفتوحة عنوة:

اشارة

و قبل البحث فيها نشير إلى أقسام الأرضين و أحكامها، فنقول:

[أقسام الأرضين و أحكامها]

الأرض إما موات و إما عامرة، و كل منهما إما أن تكون كذلك بالأصالة أو عرض لها ذلك، فهي أربعة أقسام:

أما الموات بالأصالة، فلا إشكال و لا خلاف منّا في كونها من الأنفال و كونها للإمام بما هو إمام. و مثلها العامرة بالأصالة، أي لا من معمر، سواء كانتا في بلاد الإسلام أو في بلاد الكفر، إذ لم يتحقق فيهما ما هو الملاك لتملك الشخص و هو الإحياء. و سيأتي البحث فيهما في فصل الأنفال.

و أما الموات بالعرض، فإن كانت العمارة السابقة فيها أصلية أو من معمر بقصد الملك و لكن باد أهلها بالكلية أو أعرض عنها كذلك فهي أيضا للإمام، و صار حكمها حكم الموات بالأصالة.

و إن كانت من معمر بقصد الملك و لم يبد أهلها و لم يعرض عنها ففي بقائها بعد الموت على ملك معمرها أو خروجها عن ملكه، أو يفصل بين ما كان الملك بغير الإحياء كالميراث و الشراء و نحوهما فيبقى أو بالإحياء فيزول؟ وجوه سيأتي تفصيله في فصل الأنفال.

و أما العامرة بالعرض، فإن كانت العمارة بنفسها فهي أيضا للإمام.

و إن كانت من معمر بقصد التملك فهي له و يملكها المحيي إجمالا إما لرقبتها أو لحيثية الإحياء فقط، كما سيأتي.

و حينئذ فإن كان المحيي مسلما أو أسلم عليها فلا تخرج عن ملكه إلّا بالإعراض أو المعاملات الناقلة أو النواقل القهرية كالميراث مثلا أو صيرورتها مواتا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 182

على الخلاف فيه كما مرّ. و كذلك الذميّ و المعاهد.

و إن كان المالك لها كافرا محاربا فملكه يزول بما يزول به ملك المسلم،

و بالاغتنام عنوة كسائر أموالهم فتصير ملكا للمسلمين بما هم مسلمون.

و كذلك إن صولح عليها على أن تكون للمسلمين بما هم مسلمون، و المتولي للتصرف فيها و تقبيلها هو الإمام يصرف حاصلها في مصالحهم.

و إن أخذت بغير حرب و عنوة أو صولح عليها على أن تكون للإمام صارت للإمام و تكون من الأنفال.

[حكم الأراضي المفتوحة عنوة و قهرا]
اشارة

إذا عرفت هذا فنقول: البحث هنا في الأراضي المفتوحة عنوة و قهرا التي هي قسم من غنائم الحرب. و في حكمها ما صولح عليها على أنها للمسلمين. و لا إشكال عندنا في عدم تقسيمها بين المقاتلين، بل يجب أن تبقى وقفا على مصالح المسلمين.

و قد تطابقت على ذلك فتاوى أصحابنا و رواياتهم، و إن كانت المسألة خلافية بين فقهاء السنة:

[كلمات الفقهاء]

1- قال الشيخ في كتاب الزكاة من النهاية:

«الأرضون على أربعة أقسام: ضرب منها يسلم أهلها عليها طوعا من قبل نفوسهم من غير قتال، فتترك في أيديهم و يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر، و كانت ملكا لهم يصح لهم التصرف فيها بالبيع و الشرى و الوقف و سائر أنواع التصرف. و هذا حكم أراضيهم إذا عمروها و قاموا بعمارتها، فإن تركوا عمارتها و تركوها خرابا كانت للمسلمين قاطبة ...

و الضرب الآخر من الأرضين ما أخذ عنوة بالسيف، فإنها تكون للمسلمين بأجمعهم.

و كان على الإمام أن يقبلها لمن يقوم بعمارتها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع، و كان على المتقبل إخراج ما قد قبل به من حق الرقبة، و فيما يبقى في يده و خاصّه العشر أو نصف العشر. و هذا الضرب من الأرضين لا يصح التصرف فيه بالبيع و الشرى و التملك و الوقف و الصدقات. و للإمام أن ينقله من متقبل إلى غيره عند انقضاء مدة ضمانه. و له التصرف فيه بحسب ما يراه من مصلحة المسلمين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 183

و هذه الأرضون للمسلمين قاطبة، و ارتفاعها يقسم فيهم كلهم: المقاتلة و غيرهم، فإن المقاتلة ليس لهم على جهة الخصوص إلّا ما يحويه العسكر من

الغنائم.

و الضرب الثالث كل أرض صالح أهلها عليها، و هي أرض الجزية يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الربع، و ليس عليهم غير ذلك.

فإذا أسلم أربابها كان حكم ارضيهم حكم أرض من أسلم طوعا ابتداء، و يسقط عنهم الصلح لأنه جزية بدل من جزية رءوسهم و أموالهم و قد سقطت عنهم بالإسلام ...

و الضرب الرابع كل أرض انجلى أهلها عنها، أو كانت مواتا فأحييت، أو كانت آجاما و غيرها مما لا يزرع فيها فاستحدثت مزارع، فإن هذه الأرضين كلها للإمام خاصة ليس لأحد معه فيها نصيب، و كان له التصرف فيها بالقبض و الهبة و البيع و الشرى حسب ما يراه، و كان له أن يقبلها بما يراه من النصف أو الثلث أو الربع ...» «1»

أقول: لم يتعرض هو- قدّس سرّه- لمسألة الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة، خلافا لما يأتي عنه في الخلاف.

و في قوله في الأراضي التي أسلم أهلها و تركوها خرابا: إنها للمسلمين، كلام.

إذ الظاهر أنها بالإعراض عنها تصير من الأنفال و تكون للإمام. و كأن الشيخ أخذ هذا من خبر صفوان و البزنطي، و يأتي الكلام في ذلك.

و ما ذكره في ارتفاع الأراضي المفتوحة عنوة من أنه يقسم فيهم كلهم، قابل للمناقشة، إذ لا يتعين فيه التقسيم بل يكون مفوضا إلى نظر الإمام. و كأنه أخذ ذلك مما ورد من تقسيم رسول اللّه «ص» ارتفاع أراضي خيبر، فراجع.

و ما ذكره في الضرب الثالث من كونها أرض الجزية و سقوط حق القبالة عنهم بإسلامهم، إنما يصح إذا وقع الصلح على أن تبقى رقبة الأرض ملكا لأنفسهم. و أما

______________________________

(1)- النهاية/ 194.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3،

ص: 184

إذا وقع الصلح على أن تقع الأرض ملكا للمسلمين أو لإمام المسلمين فلا وجه لرجوعها إليهم بالإسلام، كما لا يخفى وجهه.

2- و قال في الخلاف في كتاب الفي ء (المسألة 18):

«ما لا ينقل و لا يحوّل من الدور و العقارات و الأرضين عندنا أن فيه الخمس فيكون لأهله، و الباقي لجميع المسلمين: من حضر القتال و من لم يحضر، فيصرف ارتفاعه إلى مصالحهم.

و عند الشافعي أن حكمه حكم ما ينقل و يحوّل: خمسه لأهل الخمس و الباقي للمقاتلة الغانمين، و به قال ابن الزبير.

و ذهب قوم إلى أن الإمام مخير فيه بين شيئين: بين أن يقسمه على الغانمين، و بين أن يقفه على المسلمين. ذهب إليه عمر و معاذ و الثوري و عبد اللّه بن المبارك.

و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أن الإمام مخير فيه بين ثلاثة أشياء: بين أن يقسمه على الغانمين، و بين أن يقفه على المسلمين، و بين أن يقرّ أهلها عليها و يضرب عليهم الجزية باسم الخراج؛ فإن شاء أقرّ أهلها الذين كانوا فيها، و إن شاء أخرج أولئك و أتى بقوم آخرين من المشركين و أقرّهم فيها و ضرب عليهم الجزية باسم الخراج.

و ذهب مالك إلى أن ذلك يصير وقفا على المسلمين بنفس الاغتنام و الأخذ من غير إيقاف الإمام، فلا يجوز بيعه و لا شراؤه.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و روي أن النبي «ص» فتح هوازن و لم يقسم أرضها بين الغانمين. فلو كانت للغانمين لقسمها فيهم. و روي أن عمر فتح قرى بالشام فقال له بلال: اقسمها بيننا، فأبى عمر ذلك و قال: اللّهم اكفني شر بلال و ذريته.

فلو كانت القسمة واجبة لكان يفعلها عمر.

و روي

أن عمر استشار عليا «ع» في ارض السواد، فقال علي «ع»: دعها عدّة للمسلمين و لم يأمره بقسمتها. و لو كان واجبا لكان يشير عليه بالقسمة.» «1»

و تعرض في كتاب السير (المسألة 23) من الخلاف أيضا للمسألة، فراجع. «2»

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 333.

(2)- الخلاف 3/ 235.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 185

أقول: قد مرّ منّا في بحث خمس الغنائم الإشكال في وجوب الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة، فراجع. و معقد الإجماع المدعى هو أصل المسألة أعني عدم تقسيم الأراضي عندنا، كما يستفاد من سائر ما ذكره دليلا، لا مسألة الخمس فإنها ذكرت تطفلا.

3- و قال في جهاد المبسوط:

«ظاهر المذهب أن النبي «ص» فتح مكة عنوة بالسيف ثم آمنهم بعد ذلك، و إنما لم يقسم الأرضين و الدور لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة إذا لم يمكن نقله إلى بلد الإسلام، فإنه يكون للمسلمين قاطبة. و منّ النبي «ص» على رجال من المشركين فأطلقهم، و عندنا أن للإمام أن يفعل ذلك. و كذلك أموالهم منّ عليهم بها لما رآه من المصلحة.

و أما أرض السواد فهي الأرض المغنومة من الفرس التي فتحها عمر، و هي سواد العراق. فلما فتحت بعث عمر عمار بن ياسر أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا على بيت المال، و عثمان بن حنيف ماسحا فمسح عثمان الأرض. و اختلفوا في مبلغها فقال البياجي (الساجي خ. ل): اثنان و ثلاثون ألف ألف جريب. و قال أبو عبيدة: ستة و ثلاثون ألف ألف جريب. و هي ما بين عبّادان و الموصل طولا، و بين القادسية و حلوان عرضا. ثم ضرب على كل جريب نخل ثمانية دراهم،

و الرطبة ستة، و الشجر كذلك، و الحنطة اربعة، و الشعير درهمين. و كتب إلى عمر فأمضاه. و روي أن ارتفاعها كان في عهد عمر مأئة و ستين ألف ألف درهم، فلما كان في زمن الحجاج رجع إلى ثمانية عشر ألف ألف درهم، فلما وليّ عمر بن عبد العزيز رجع إلى ثلاثين ألف ألف درهم في أول سنة، و في الثانية بلغ ستين ألف ألف، فقال: لو عشت سنة أخرى لرددتها إلى ما كان في أيّام عمر، فمات تلك السنة. و كذلك أمير المؤمنين «ع» لما أفضي الأمر إليه أمضى ذلك، لأنه لم يمكنه أن يخالف و يحكم بما يجب عنده فيه.

و الذي يقتضيه المذهب أن هذه الأراضي و غيرها من البلاد التي فتحت عنوة أن يكون خمسها لأهل الخمس و أربعة أخماسها يكون للمسلمين قاطبة: للغانمين و غير

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 186

الغانمين في ذلك سواء. و يكون للإمام النظر فيها و تقبيلها و تضمينها بما شاء، و يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالح المسلمين و ما ينوبهم من سد الثغور و معونة المجاهدين و بناء القناطر و غير ذلك من المصالح. و ليس للغانمين في هذه الأرضين خصوصا شي ء بل هم و المسلمون فيها سواء.

و لا يصح بيع شي ء من هذه الأرضين و لا هبته و لا معاوضته و لا تمليكه و لا وقفه و لا رهنه و لا إجارته و لا إرثه.

و لا يصح أن يبنى دورا و منازل و مساجد و سقايات و لا غير ذلك من أنواع التصرف الذي يتبع الملك. و متى فعل شي ء من ذلك كان التصرف باطلا و هو باق

على الأصل. و على الرواية التي رواها أصحابنا: «أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصة» هذه الأرضون و غيرها مما فتحت بعد الرسول إلّا ما فتحت في أيام أمير المؤمنين «ع» إن صح شي ء من ذلك تكون للإمام خاصة و تكون من جملة الأنفال التي له خاصة لا يشركه فيها غيره.» «1»

أقول: لم يفصل الشيخ- قدّس سرّه- في عباراته الثلاث بين المحياة من أراضيهم وقت الفتح و الموات منها، و لكن الظاهر كما يأتي اختصاص الحكم بالمحياة منها وقت الفتح، إذ الموات ليس ملكا للكفّار حتى يغنم منهم، اللّهم إلّا أن يقال: إن الموات منها أيضا يكون تحت استيلاء دولة الكفر، فيشمله عموم ما أخذت بالسيف المذكور في بعض أخبار الباب. و في موضع آخر من جهاد المبسوط فرق بين المحياة وقت الفتح و الموات، فقال:

«و أما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، و للإمام النظر فيها ... فأمّا الموات فإنها لا تغنم و هي للإمام خاصة، فإن أحياها أحد من المسلمين كان أولى بالتصرف فيها و يكون للإمام طسقها.» «2»

و لم يفرق الشيخ بين المحياة قبل نزول آية الأنفال و المحياة بعده، و هو الحق

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 33.

(2)- المبسوط 2/ 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 187

و سيأتي البحث فيه.

و ما نقله عن أبي عبيدة في مقدار أراضي السواد يحتمل فيه كون أبي عبيدة مصحف أبي عبيد؛ ففي كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن الشعبي:

«أن عمر بعث عثمان بن حنيف فمسح السواد فوجده ستة و ثلاثين ألف ألف جريب.» «1»

و قوله: «و لا يصح أن يبنى دورا و منازل ...»، أراد به

لا محالة الاستبداد بالتصرف فيها بدون إذن الإمام أو الاستيجار منه.

و ما ذكره أخيرا في المبسوط مبني على عدم إذن أمير المؤمنين «ع» للغزوات التي وقعت في عصره بعد النبي «ص» و القول بشمول الرواية التي أشار اليها للأرضين أيضا، و سيأتي الكلام في ذلك.

4- و قال العلامة في المنتهى:

«الأرضون أربعة أقسام: أحدها ما يملك بالاستغنام و يؤخذ قهرا بالسيف، فإنها تكون للمسلمين قاطبة فلا يختص بها المقاتلة، بل يشاركهم غير المقاتلة من المسلمين. و كما لا يختصون بها كذلك لا يفضلون، بل هي للمسلمين قاطبة. ذهب إليه علماؤنا أجمع، و به قال مالك. و قال الشافعي: إنها تقسم بين الغانمين كسائر الأموال ...» «2»

5- و فيه أيضا:

«أرض السواد هي الأرض المغنومة من الفرس، التي فتحها عمر بن الخطاب، و هي سواد العراق. و حدّه في العرض من منقطع الجبال بحلوان إلى طرف القادسية المتصل بعذيب من أرض العرب، و من تخوم الموصل طولا إلى ساحل البحر ببلاد عبّادان من شرقي دجلة. فأما الغربي الذي يليه البصرة فإنما هو إسلامي مثل شط عثمان بن أبي العاص. و ما والاها كانت سباخا و مواتا فأحياها عثمان بن أبي العاص. و سمّيت هذه الأرض سوادا لأن الجيش لما خرجوا من البادية و رأوا هذه

______________________________

(1)- الأموال/ 88.

(2)- المنتهى 2/ 934.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 188

الأرض و التفاف شجرها سمّوها السواد لذلك. و هذه الأرض فتحت عنوة فتحها عمر بن الخطاب ثم بعث إليها بعد فتحها ثلاثة أنفس: عمّار بن ياسر على صلاتهم أميرا، و ابن مسعود قاضيا و واليا على بيت المال، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، و فرض

لهم في كل يوم شاة: شطرها مع السواقط لعمّار، و شطرها للآخرين. و قال: ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلّا سريع في خرابها ...» «1»

6- و في جهاد الشرائع:

«كل أرض فتحت عنوة و كانت محياة فهي للمسلمين قاطبة، و الغانمون في الجملة.

و النظر فيها إلى الإمام، و لا يملكها المتصرف على الخصوص، و لا يصح بيعها و لا هبتها و لا وقفها، و يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر.» «2»

7- و في الجواهر في شرح الجملتين الأوليين قال:

«بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك بيننا ... بل في الغنية و المنتهى و قاطعة اللجاج للكركي و الرياض و موضعين من الخلاف بل و التذكرة على ما حكي عن بعضها الإجماع عليه بل هو محصل.» «3»

8- و في خراج أبي يوسف:

«قال أبو يوسف: و حدثني بعض مشايخنا عن يزيد بن أبي حبيب أن عمر كتب إلى سعد حين افتتح العراق: أما بعد، فقد بلغني كتابك، تذكر فيه أن الناس سألوك أن تقسم بينهم مغانمهم و ما أفاء اللّه عليهم. فإذا أتاك كتابي هذا فانظر ما أجلب الناس عليك به إلى العسكر من كراع و مال فاقسمه بين من حضر من المسلمين، و اترك الأرضين و الأنهار لعمّالها ليكون ذلك في أعطيات المسلمين، فإنك إن قسمتها بين من حضر لم يكن لمن بعدهم شي ء ...

قال أبو يوسف: و حدثني غير واحد من علماء أهل المدينة، قالوا: لما قدم على

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 937.

(2)- الشرائع 1/ 322 (ط. أخرى/ 245).

(3)- الجواهر 21/ 157.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 189

عمر بن الخطاب جيش

العراق من قبل سعد بن أبي وقاص شاور أصحاب محمد في تدوين الدواوين ...

و شاورهم في قسمة الأرضين التي أفاء اللّه على المسلمين من أرض العراق و الشام، فتكلم قوم فيها و أرادوا أن يقسم لهم حقوقهم و ما فتحوا. فقال عمر: فكيف بمن يأتي من المسلمين فيجدون الأرض بعلوجها قد اقتسمت و ورثت عن الآباء و حيزت؟ ما هذا برأى ... فإذا قسمت أرض العراق بعلوجها و أرض الشام بعلوجها فما يسدّ به الثغور، و ما يكون للذرية و الأرامل بهذا البلد و بغيره من أرض الشام و العراق؟ فأكثروا على عمر و قالوا: أ تقف ما أفاء اللّه علينا بأسيافنا على قوم لم يحضروا و لم يشهدوا ...

و رأى عثمان و علي و طلحة و ابن عمر رأي عمر. فأرسل إلى عشرة من الأنصار:

خمسة من الأوس و خمسة من الخزرج من كبرائهم و أشرافهم، فلما اجتمعوا حمد اللّه و أثنى عليه بما هو أهله ثم قال: ... و قد رأيت أن أحبس الأرضين بعلوجها و أضع عليهم فيها الخراج و في رقابهم الجزية يؤدونها فتكون فيئا للمسلمين: المقاتلة و الذرية و لمن يأتي من بعدهم. أ رأيتم هذه الثغور لا بدّ لها من رجال يلزمونها، أ رأيتم هذه المدن العظام- كالشام و الجزيرة و الكوفة و البصرة و مصر- لا بد لها من أن تشحن بالجيوش و إدرار العطاء عليهم، فمن أين يعطى هؤلاء إذا قسمت الأرضون و العلوج؟ فقالوا جميعا: الرأي رأيك، فنعم ما قلت و ما رأيت، إن لم تشحن هذه الثغور و هذه المدن بالرجال و تجري عليهم ما يتقوون به رجع أهل الكفر إلى مدنهم.

فقال: قد بان لي الأمر

فمن رجل له جزالة و عقل يضع الأرض مواضعها، و يضع على العلوج ما يحتملون؟ فاجتمعوا له على عثمان بن حنيف و قالوا: تبعثه إلى أهمّ ذلك، فإن له بصرا و عقلا و تجربة، فأسرع إليه عمر فولّاه مساحة أرض السواد، فأدت جباية سواد الكوفة قبل أن يموت عمر بعام مأئة ألف ألف درهم. و الدرهم يومئذ درهم و دانقان و نصف، و كان وزن الدرهم يومئذ وزن المثقال ...» «1»

______________________________

(1)- الخراج/ 24- 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 190

9- و في كتاب الخراج أيضا:

«و حدثني محمد بن إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن عمر بن الخطاب أنه أراد أن يقسم السواد بين المسلمين فأمر بهم أن يحصوا، فوجد الرجل يصيب الاثنين و الثلاثة من الفلّاحين، فشاور أصحاب محمد «ص»، فقال علي: «دعهم يكونوا مادة للمسلمين.» فبعث عثمان بن حنيف فوضع عليهم ثمانية و أربعين درهما، و أربعة و عشرين درهما، و اثني عشر درهما.» «1»

و في كتاب الأموال لأبي عبيد عن إسماعيل بن جعفر، عن إسرائيل، عن ابن إسحاق نحو ذلك، فراجع. «2»

10- و في تاريخ اليعقوبي:

«و شاور عمر أصحاب رسول اللّه «ص» في سواد الكوفة فقال له بعضهم: تقسمها بيننا، فشاور عليا «ع» فقال: «إن قسمتها اليوم لم يكن لمن يجي ء بعدنا شي ء، و لكن تقرّها في أيديهم يعملونها فتكون لنا و لمن بعدنا.» فقال: وفّقك اللّه، هذا الرأي.» «3»

أقول: ظاهر هذه القصة التي تعرض لها أبو يوسف و أبو عبيد و غيرهما باختلاف في بعض الجزئيات هو أن حفظ الأرض المفتوحة عنوة لمستقبل المسلمين و عدم تقسيمها بين المقاتلين كان أمرا خاصا اقترحه عمر في خصوص ما

افتتح في عصره، و استشار أمير المؤمنين و أعاظم الصحابة في ذلك فصوّبوا رأيه، أو رأيا ألقاه أمير المؤمنين «ع» فصوّبه عمر.

فيستفاد من ذلك أن الأراضي تكون تحت اختيار إمام المسلمين و لكن الظاهر من فتاوى فقهائنا و من الأخبار الكثيرة الآتية أن إبقاءها للمسلمين كان حكما إلهيا كليا أو حكما سلطانيا كليا نافذا في جميع الأعصار لجميع الأراضي التي فتحت أو تفتح في كل عصر. و بين الأمرين فرق ظاهر، كما لا يخفى. إذ لو كان

______________________________

(1)- الخراج/ 36.

(2)- الأموال/ 74.

(3)- تاريخ اليعقوبي 2/ 129.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 191

حكما كليا ثابتا لم يحتج إلى الشور و النظر. هذا.

11- و في كتاب الأموال أيضا بسنده، عن أبي مجلز- لا حق بن حميد-:

«أن عمر بن الخطاب بعث عمّار بن ياسر إلى أهل الكوفة على صلاتهم و جيوشهم، و عبد اللّه بن مسعود على قضائهم و بيت مالهم، و عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، ثم فرض لهم في كل يوم شاة بينهم. قال: أو قال: جعل لهم في كل يوم شاة:

شطرها و سواقطها لعمّار، و الشطر الآخر بين هذين، ثم قال: ما أرى قرية يؤخذ منها كل يوم شاة إلّا سريعا في خرابها ...» «1»

أقول: السواقط، يراد به مثل الكبد و الكرش و أمثالهما. قيل: و يظهر بذلك أن عمّارا كان أكثر عيالا من صاحبيه، فخصّه عمر بنصف الشاة و سواقطها. هذا.

و لا حظ كيف استكثر عمر شاة واحدة على أهل ثلاثة بيوت كان يمثلون الهيئة الحاكمة على مدينة كبيرة مثل الكوفة و توابعها. و عليك بالمقايسة بين هذا و بين الإسرافات و التبذيرات التي ربما ترتكب في أعصارنا

في قاعات الحكّام و دوائرهم.

12- و في كتاب الأموال أيضا:

«قال أبو عبيد: وجدنا الآثار عن رسول اللّه «ص» و الخلفاء بعده قد جاءت في افتتاح الأرضين بثلاثة أحكام: أرض أسلم عليها أهلها، فهي لهم ملك أيمانهم، و هي أرض عشر لا شي ء عليهم فيها غيره. و أرض افتتحت صلحا على خرج معلوم، فهم على ما صولحوا عليه لا يلزمهم أكثر منه. و أرض أخذت عنوة، فهي التي اختلف فيها المسلمون: فقال بعضهم: سبيلها سبيل الغنيمة فتخمس و تقسم فيكون أربعة أخماسها خططا بين الذين افتتحوها خاصة، و يكون الخمس الباقي لمن سمّى اللّه- تبارك و تعالى-. و قال بعضهم: بل حكمها و النظر فيها إلى الإمام: إن رأى أن يجعلها غنيمة فيخمّسها و يقسمها كما فعل رسول اللّه «ص» بخيبر، فذلك له. و إن رأى أن يجعلها فيئا فلا يخمسها و لا يقسمها و لكن تكون موقوفة على المسلمين عامة

______________________________

(1)- الأموال/ 86.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 192

ما بقوا، كما صنع عمر بالسواد، فعل ذلك.» «1»

11- و فيه أيضا بإسناده، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، قال:

«سمعت عمر يقول: لو لا آخر الناس ما فتحت قرية إلّا قسمتها كما قسم رسول اللّه «ص» خيبر.» «2»

و رواه البخاري أيضا «3». و راجع في أحكام الأراضي الماوردي أيضا «4».

ما ورد من الروايات في الأراضي المفتوحة عنوة و حكم بيعها و شرائها:

1- ما عن الكليني، عن عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن علي بن أحمد بن أشيم، عن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر جميعا قالا: «ذكرنا له الكوفة و ما وضع عليها من الخراج و ما سار فيها أهل بيته. فقال: من أسلم طوعا

تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر مما سقت السماء و الأنهار، و نصف العشر مما كان بالرشا فيما عمروه منها.

و ما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين. و على المتقبلين في حصصهم العشر و نصف العشر. و ليس في أقلّ من خمسة أوساق شي ء من الزكاة.

و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالّذي يرى، كما صنع رسول اللّه «ص» بخيبر: قبّل سوادها و بياضها- يعني أرضها و نخلها-، و الناس يقولون: لا يصلح قبالة الأرض و النخل، و قد قبّل رسول اللّه «ص» خيبر. و على المتقبلين سوى قبالة الأرض العشر و نصف العشر في حصصهم.

و قال: إن أهل الطائف أسلموا و جعلوا عليهم العشر و نصف العشر، و إن مكة دخلها

______________________________

(1)- الأموال/ 69.

(2)- الأموال/ 71.

(3)- صحيح البخاري 2/ 193، كتاب الجهاد و السير، باب الغنيمة لمن شهد الوقعة.

(4)- الأحكام السلطانية/ 146 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 193

رسول اللّه «ص» عنوة فكانوا أسراء في يده فأعتقهم و قال: اذهبوا، فأنتم الطلقاء.» «1»

أقول: لا يخفى أن صفوان بن يحيى و أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي كليهما من أعاظم أصحاب الرضا «ع»، فالضمير المجرور عائد إليه «ع» ظاهرا، كما يشهد بذلك الرواية الآتية التي يقرب جدّا اتحادها مع هذه الرواية.

و لا إشكال في رجال الحديث إلّا في علي بن أحمد بن أشيم، حيث عدّه الشيخ في أصحاب الرضا «ع» و قال: إنه مجهول. «2»

و لكن العلامة المجلسي في مرآة العقول «3» صحح الحديث. و قال العلامة الوحيد البهبهاني في تعليقته على منهج المقال:

«حكم خالي العلامة بحسنه، لوجود طريق

للصدوق إليه، و الرواية عنه كثيرة.

و يؤيده رواية أحمد بن محمد بن عيسى عنه.» «4» هذا.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 193

و الأراضي المفتوحة عنوة كانت تسمى أراضي خراجية. و الخراج و المقاسمة كانا يطلقان على الطسق الذي كان يؤخذ منها: فإن كان التقبيل بمال معين بنحو الإجارة سمّي خراجا، و إن كان بسهم مشاع من عائدة الأرض بنحو المزارعة سمّي مقاسمة. و ربما أطلق على كليهما الخراج.

و قد كان خراج الأراضي الخراجية من أهمّ المنابع المالية للحكومة الإسلامية على ما يشهد به التواريخ، فراجع.

و الظاهر أن المراد بقوله «ع»: «و ما لم يعمروه منها»، هو الموات من الأراضي، و يأتي أنه يعدّ من الأنفال الّتي تكون للإمام بما هو إمام. فقوله «ع»: «و كان للمسلمين» أقوى شاهد على ما نصرّ عليه من عدم تفاوت أساسي بين الأرض المفتوحة عنوة و أرض

______________________________

(1)- الكافي 3/ 513، كتاب الزكاة، باب أقلّ ما يجب فيه من الحرث، الحديث 2؛ و الوسائل 11/ 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- رجال الشيخ/ 384.

(3)- مرآة العقول 16/ 26 (ط. القديم 3/ 187).

(4)- راجع التعليقة (المطبوعة بهامش منهج المقال)/ 225؛ و راجع أيضا تنقيح المقال 2/ 265.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 194

النفل، و أن كليهما من الأموال العامة المتعلقة بالمسلمين، و أن المتولي لهما و المتصدي للتصرف فيهما هو الإمام بما أنه إمام و ممثل للمجتمع، و عليه أن يراعي في ذلك مصالح المسلمين و

يصرف الخراج فيما يصلحهم.

و كما يكون للإمام تقبيل الأراضي المفتوحة عنوة و أخذ الطسق منها يجوز له ذلك في أرض الموات أيضا، كما دلت عليه صحيحة أبي خالد الكابلي و غيرها.

نعم، يجوز له تحليلها لمن أحياها أيضا إذا رآه صلاحا، و سيأتي تفصيل ذلك في مبحث الأنفال، فانتظر.

و يطلق على هذا السنخ من الأموال المتعلقة بالمجتمع مال اللّه و مال الإمام و مال المسلمين، و مآل الجميع واحد. هذا.

و الشيخ الطوسي و أكثر الفقهاء حملوا قوله: «و ما لم يعمروه منها» في الحديث على ما كان ملكا لمن أسلم، بالإحياء أو غيره ثم ترك عمرانها، و اختلفوا في حكمها فقال الشيخ في زكاة المبسوط إن الإمام يقبّلها ممن يعمرها و يعطي صاحب الرقبة طسقها. و قال ابن حمزة إنها صارت للمسلمين، أي بحكم الموات التي يأخذ الإمام طسقها للمسلمين. و قال ابن إدريس إنه لا يجوز التصرف فيها بغير إذن صاحبها، فراجع جهاد المختلف. «1»

و المتبادر من قوله: «و ما أخذ بالسيف»، المحياة من أراضيهم لا مطلق الأراضي و إن توهم. و هل يراد به طبيعة ما أخذ بالسيف بإطلاقها، أو يكون إشارة إلى خصوص ما أخذ بالسيف من أراضي الكوفة و سواد العراق المذكورة في السؤال؟ لعلّ الأظهر هو الأوّل.

و قوله: «و الناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض و النخل»، إشارة إلى منع أبي حنيفة للمساقاة، و منع مالك و أبي حنيفة و الشافعي للمزارعة أيضا، و الإمام «ع» استدلّ بعمل النبي «ص» على صحة كلا العقدين.

و قد تعرض في الحديث لفتح مكة عنوة و أن رسول اللّه «ص» أعتق أهلها، فهل منّ عليهم بأراضيها أيضا أو أنه أبقاها للمسلمين؟ قد مرّ من المبسوط

قوله: «و إنما

______________________________

(1)- المختلف 1/ 332، عن المبسوط 1/ 235؛ و الجوامع الفقهية/ 717 (ط. أخرى 681)؛ و السرائر/ 110.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 195

لم يقسم الأرضين و الدور لأنها لجميع المسلمين، كما نقوله في كل ما يفتح عنوة.» «1»

و لكنه من المحتمل أنه «ص» منّ عليهم بها أيضا. و عليه فلا يتعين إبقاء الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين بل تكون تحت اختيار الإمام كسائر الغنائم كما مرّ، و الإبقاء أحد شقوق اختياره، فتدبّر.

2- ما عن الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا «ع» الخراج و ما سار به أهل بيته، فقال: «العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر و نصف العشر فيما عمر منها، و ما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين. و ليس فيما كان أقل من خمسة أوساق شي ء. و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى، كما صنع رسول اللّه «ص» بخيبر: قبّل أرضها و نخلها. و الناس يقولون: لا تصلح قبالة الأرض و النخل إذا كان البياض أكثر من السواد، و قد قبّل رسول اللّه «ص» خيبر و عليهم في حصصهم العشر و نصف العشر.» «2»

أقول: من اتحاد الراوي و المروي عنه و المضمون ربما يحدث اتحاد الروايتين.

و السند في هذه الرواية و إن كان بحسب الظاهر صحيحا و لكن يحتمل جدا سقوط ابن أشيم من سندها، فيأتي فيها ما مرّ في السابقة، فتدبّر.

و كيف كان فالروايتان ظاهرتان في عدم تقسيم الأراضي المفتوحة عنوة بل

وجوب إبقائها للمسلمين.

3- مرسلة حماد الطويلة التي رواها الكليني و الشيخ: ففي أواخر كتاب الحجة من أصول الكافي: علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع»، قال: «... و ليس لمن قاتل شي ء من الأرضين و لا ما غلبوا عليه إلّا ما احتوى عليه العسكر ...

و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل و رجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها و يقوم

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 33.

(2)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 196

عليها، على ما يصالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو الثلثين، و على قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرّهم. فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، و نصف العشر مما سقي بالدوالي و النواضح، فأخذه الوالي فوجّهه في الجهة التي وجهها اللّه على ثمانية أسهم ...

و يؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها، فيدفع إليهم أنصباؤهم على ما صالحهم عليه. و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة، ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير.» «1»

أقول: العنوة: الخضوع و الذلّ، و منه قوله- تعالى-: «وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ.» «2»

و المراد كون الفتح بالقهر و إخضاع الطرف. و هذه المرسلة قد عمل بها الأصحاب

في الأبواب المختلفة. و حمّاد من أصحاب الإجماع الذين أجمع الأصحاب على تصحيح ما يصح عنهم. و التعبير عن الشخص المبهم ببعض أصحابنا يشعر بنحو إجلال له، فلعلّ الرواية مع إرسالها لا تنقص عن رواية حسنة. و الدلالة على المقصود واضحة.

و قوله «ع»: «ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير»، فالظاهر أنه لا يراد به إلّا تأكيد كون الأرضين لجميع المسلمين و أنه تصرف عوائدها في مصالحهم، دفعا لتوهم كون بعضها ملكا لشخص الإمام. و على هذا فلا يدلّ على منع استفادة شخصه منها إذا فرض احتياجه إليها، حيث إن سدّ خلّات الإمام و عائلته من أهمّ مصالح العامة.

و يشهد لذلك الروايات المستفيضة الدالّة على أن النبي «ص» صرف من عوائد خيبر في مصارف نفسه و أزواجه. و خيبر فتحت عنوة.

فمن هذه الروايات ما رواه أبو داود في السنن بسنده، عن بشير بن يسار: «أن رسول اللّه «ص» لمّا أفاء اللّه عليه خيبر قسمها ستة و ثلاثين سهما جمع: فعزل للمسلمين الشطر

______________________________

(1)- الكافي 1/ 539، كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال ...، الحديث 4.

(2)- سورة طه (20)، الآية 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 197

ثمانية عشر سهما يجمع كل سهم مأئة، النبي «ص» معهم له سهم كسهم أحدهم. الحديث.» «1»

فراجع السنن و الأموال لأبي عبيد «2» و غيرهما.

و قد يناقش في المرسلة بأن الظاهر منها كون التقبيل بنحو المزارعة و الشركة في العوائد و قد حكم فيها بتقديم الزكاة على تقسيم العوائد، مع أن المحقق عندنا أن النصاب في المال المشترك يراعى بعد التقسيم لاعتباره في نصيب كل واحد منهما.

و يدل على ذلك خبر صفوان و البزنطي أيضا.

اللّهم إلّا أن يحمل ما في المرسلة على الغالب من كون نصيب كل منهما يبلغ النصاب. هذا. مع أن الظاهر أن حق الإمام لا يتعلق به زكاة، إذ الزكاة إنما تتعلق بأموال الناس بنفع بيت المال، فتدبّر.

4- صحيحة محمد الحلبي، قال: سئل أبو عبد اللّه «ع» عن السواد ما منزلته؟

فقال: «هو لجميع المسلمين: لمن هو اليوم، و لمن يدخل في الإسلام بعد اليوم، و لمن لم يخلق بعد.»

فقلت: الشراء من الدهاقين؟ قال: «لا يصلح، إلّا أن يشتري منهم على أن يصيرها للمسلمين، فإذا شاء ولي الأمر أن يأخذها أخذها.» قلت: فإن أخذها منه؟ قال: «يردّ عليه رأس ماله و له ما أكل من غلتها بما عمل.» «3»

أقول: المراد بالسواد أرض العراق، كما مرّ. و الظاهر أن المقصود من ذيل الحديث عدم صحة اشتراء رقبة الأرض، و لكن يجوز اشتراء حق الزارع فيها من بناء أو مرز أو غيرهما، و لا أقلّ من حق اختصاصه بها، و ينتقل حق المسلمين إلى عهدته.

5- رواية أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا تشتر من أرض السواد (أراضي أهل السواد خ. ل) شيئا إلّا من كانت له ذمّة، فإنما هو في ء للمسلمين.» «4»

و المراد أنه لا يجوز اشتراؤها إلّا لمن تقبل الخراج على ذمته، أو أنه لا يناسب اشتراؤه لغير أهل الذمة، حيث إنه كان يعد ذلك عيبا في تلك الأعصار، كما

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 143، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

(2)- الأموال/ 71.

(3)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 4.

(4)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع

و شروطه، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 198

يشهد به الخبر التالي، أو أن أهل الذمة كانت تترك أراضيهم لهم لقبولهم الجزية فيجوز شراؤها منهم، فتأمّل.

6- خبر محمد بن شريح، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن شراء الأرض من أرض الخراج، فكرهه و قال: «إنما أرض الخراج للمسلمين.» فقالوا له: فإنه يشتريها الرجل و عليه خراجها؟ فقال: «لا بأس، إلّا أن يستحي من عيب ذلك.» «1»

7- رواية أبي بردة بن رجاء، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: كيف ترى في شراء أرض الخراج؟ قال: «و من يبيع ذلك، هي أرض المسلمين؟» قال: قلت: يبيعها الذي هي في يده. قال: «و يصنع بخراج المسلمين ما ذا؟» ثم قال: «لا بأس، اشترى حقّه منها و يحوّل حق المسلمين عليه، و لعلّه يكون أقوى عليها و أملى بخراجهم منه.» «2»

أقول: في الوسائل و التهذيب و الاستبصار أبو بردة بن رجاء، و ليس منه اسم في كتب الرجال. و في رجال الشيخ في أصحاب الصادق «ع»: «بردة بن رجاء.» «3»

و لم يذكر في الرجال بمدح و لا قدح، فهو مجهول. نعم يمكن أن يكون نقل صفوان عنه في الحديث جابرا لضعفه.

و قوله: «اشترى حقه فيها» يحتمل أن يراد به حق البائع في الأرض، و يحتمل أن يراد حق المشتري من جهة أن لكل مسلم حقا فيها، كما يظهر من بعض الأخبار الآتية.

و هل يكون أرض الجزية و أرض الخراج في روايات الباب إشارة إلى أراضي خاصة كان عليها الخراج في تلك الأعصار كأرض السواد مثلا، أو يراد بهما طبيعة الأرض المفتوحة عنوة بإطلاقها في أيّ عصر فتحت؟ كل محتمل. و قد مرّ

تطرق الاحتمالين في خبري صفوان و البزنطي أيضا. نعم ظاهر مرسلة حماد هو الاحتمال الثاني.

و قد عرفت أنه يحتمل أن يكون الحكم بكون الأراضي المفتوحة عنوة للمسلمين

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 9.

(2)- الوسائل 11/ 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1، عن التهذيب 4/ 146، و الاستبصار 3/ 109.

(3)- رجال الشيخ/ 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 199

حكما كليا إلهيا أو سلطانيا كليا ثابتا، كما يحتمل أن يكون الحكم فيها هو أنها في اختيار الإمام في كل عصر، و إبقاؤها للمسلمين يكون أحد شقوق اختياره، كما هو المستفاد من قصة صنع الخليفة الثاني في أرض السواد و تصويب أمير المؤمنين «ع» له كما مرّ. نعم، ظاهر أصحابنا الإجماع على الأول، فتدبّر.

8- موثقة محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه «ص» عن الشراء من أرض اليهود و النصارى؟ فقال: «ليس به بأس، قد ظهر رسول اللّه «ص» على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها و يعمرونها، فلا أرى بها بأسا لو أنك اشتريت منها شيئا. و أيّما قوم أحيوا شيئا من الأرض و عملوها فهم أحق بها و هي لهم.» «1»

أقول: الظاهر أن منشأ السؤال أن أراضي اليهود و النصارى لم تكن لأنفسهم بل للمسلمين و هم كانوا زرّاعها و أكرتها. و أراضي خيبر كانت كذلك، لأنها فتحت عنوة، فمتعلق الاشتراء فيها لا محالة لم يكن رقبتها بل حق الإحياء الثابت لليهود فيها بالنسبة إلى ما حصل بعد الفتح.

و يستفاد من هذا الحديث أمران ينبغي الالتفات اليهما:

الأول: أن الإحياء يوجب الأحقية و لو كان المحيي

غير مسلم، و هو الّذي يقتضيه الطبع أيضا، حيث إن حياة الأرض محصول عمل المحيي، و عمله محصول فكره و قواه، و الإنسان مالك لفكره و قواه تكوينا فيملك محصولها أيضا، إذ نظام التشريع الصحيح تابع لنظام التكوين.

الثاني: ما يأتي منا في محله من أن إحياء الأرض لا يستلزم ملكية الرقبة، و إنما يستلزم ملكية ما صدر عن المحيي، و هو حيثية الإحياء و العمران فقط. و يستفاد هذا المعنى من تطبيق الإمام «ع» قوله: «و أيّما قوم أحيوا ...» على أرض خيبر، مع أن رقبتها خرجت عن ملك اليهود بالاغتنام. و على هذا فالاستدلال بهذا التعبير على ملكية الرقبة محل نظر و إشكال، فتدبّر.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 200

9- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن شراء أرضهم، فقال: «لا بأس أن

تشتريها، فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدي فيها كما يؤدون فيها.» «1»

10- صحيحته الأخرى، عن أبي جعفر «ع»، قال: سألته عن شراء أرض أهل الذمة فقال: «لا بأس بها، فتكون إذا كان ذلك بمنزلتهم تؤدي عنها كما يؤدون.» «2»

و نحو ذلك موثقة محمد بن مسلم و عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه «ع». «3»

11- خبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية، قال: فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «4»

12- خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، و الساباطي و زرارة، عن أبي عبد اللّه «ع» أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية، فقال: «إنه إذا كان ذلك

انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج؟» قال عمّار: ثم أقبل عليّ فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «5»

13- خبر إسماعيل بن الفضل الهاشمي، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل اشترى (اكترى خ. ل) أرضا من أرض أهل الذمة من الخراج و أهلها كارهون، و إنما يقبّلها من السلطان لعجز أهلها أو غير عجز؟ فقال: «إذا عجز أربابها عنها فلك أن تأخذها إلّا أن يضارّوا، و إن أعطيتهم شيئا فسخت أنفس أهلها لكم فخذوها.»

قال: و سألته عن رجل اشترى أرضا من أرض الخراج فبنى بها أو لم يبن غير أن أناسا من أهل الذمة نزلوها، له أن يأخذ منهم أجرة البيوت إذا أدّوا جزية

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 7.

(2)- الوسائل 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 8.

(3)- راجع الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(4)- الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(5)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 201

رءوسهم؟ قال: «يشارطهم، فما أخذ بعد الشرط فهو حلال.» «1»

14- ما عن الجعفريات، بسنده، عن علي «ع»، قال: «لا تشتر من عقار أهل الذمّة و لا من أرضهم شيئا، لأنه في ء المسلمين.» «2»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال، فراجع.

و المستفاد من هذه الأخبار

أن الأرض المفتوحة عنوة لا تقسم بين المقاتلين، بل تكون لجميع المسلمين و يجب أن تبقى عدّة لهم و تكون في اختيار الإمام و لا يجوز

بيع و لا اشتراء رقبتها، نعم يجوز نقل الآثار المحدثة فيها و الحق المتعلق بها لكل متصرف مع التزام المشتري بخراجها، و على هذا استقرت فتاوى أصحابنا و حكي عليه إجماعهم.

فإن قلت: نعم، و لكن ينافي هذا أولا إطلاق آية الغنيمة، حيث إن ظاهرها تخميس الغنيمة مطلقا و كون البقية للغانمين كالأموال المنقولة. و ثانيا ما هو المأثور من سيرة رسول اللّه «ص» في تقسيم غنائم خيبر:

ففي سيرة ابن هشام:

«قال ابن إسحاق: و كانت المقاسم على أموال خيبر على الشق و نطاة و الكتيبة، فكانت الشق و نطاة في سهمان المسلمين، و كانت الكتيبة خمس اللّه و سهم النبي «ص» و سهم ذوي القربى و اليتامى و المساكين (و ابن السبيل- الطبري) و طعم أزواج النبي «ص» و طعم رجال مشوا بين رسول اللّه «ص» و بين أهل فدك بالصلح ... فأخبرني ابن شهاب أن رسول اللّه «ص» افتتح خيبر عنوة بعد القتال، و كانت خيبر مما أفاء اللّه على رسول اللّه «ص»، خمّسها رسول اللّه «ص» و قسمها بين المسلمين» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 275، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 10.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 462، الباب 13 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

(3)- سيرة ابن هشام 3/ 363 و 371.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 202

و روى صدر الحديث الطبري أيضا. «1» و روى خبر ابن شهاب أبو عبيد «2» أيضا.

قلت: أمّا آية الغنيمة فيجاب عنها أولا بأن تخميس الغنيمة لا يدل على كون الباقي لخصوص المقاتلين. و ثانيا بأن المطلق صالح للتقييد، فلا يقاوم الأخبار التي مرت. و ثالثا بأن الخطاب في الآية

متوجه إلى كل من غنم بشخصه بكسب أو باغتنام في حرب أو نحوهما. فإذا فرض دلالة الأخبار على أن الأراضي لا تعود إلى الأشخاص بل تعود إلى عنوان المسلمين، فالآية تنصرف عنها قهرا.

قال الماوردي: «و أما الأموال المنقولة فهي الغنائم المألوفة.» «3»

و أما ما ذكرت من تقسيم رسول اللّه «ص» غنائم خيبر و أراضيها فيرد عليه:

أولا: أنه لو ثبت تقسيمه لنفس الأراضي فلعلّه لأن الحكم الشرعي في بادئ الأمر كان تقسيم الأراضي أو تخيير الإمام بينه و بين إبقائها عدّة للمسلمين ثم نسخ بعد ذلك أو أنه تعين بعد ذلك الإبقاء بالحكم الولائي الدائم عن النبي «ص» أو عن أمير المؤمنين «ع» في عصر عمر بعد ما استشار هو إيّاه و جمعا من الصحابة كما مرّ، فتدبّر.

و ثانيا: أن من المحتمل بل الظاهر أن رسول اللّه «ص» لم يقسم رقبة الأراضي في خيبر بحيث يملكها الأشخاص و إن أوهم ذلك بعض التعبيرات الواقعة في التواريخ، و إنما قسم عوائدها و خراجها. و هو «ص» بما أنه كان وليّ أمر المسلمين و إمامهم قبّل الأراضي و صرف عوائدها في مصالح المسلمين و نوائبهم، و إن كان من أهمّ المصالح و النوائب أيضا سدّ خلّات نفسه و عائلته و أزواجه و فقراء المسلمين و المجاهدين في سبيل اللّه.

و هذا هو الذي ربما يتحصل من الجمع بين الأخبار المختلفة الواردة في المقام:

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 3/ 588 (من ط. ليدن).

(2)- الأموال/ 70.

(3)- الأحكام السلطانية/ 138.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 203

1- فقد مرّ في خبر صفوان و البزنطي قوله «ع»: «و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه

«ص» بخيبر: قبّل سوادها و بياضها- يعني أرضها و نخلها- و الناس يقولون: لا يصلح قبالة الأرض، و قد قبّل رسول اللّه «ص» خيبر. الحديث.» «1»

2- و نحو ذلك صحيحة البزنطي التي مرّت. «2»

3- و مرّ في موثقة محمد بن مسلم قول الصادق «ع»: «قد ظهر رسول اللّه «ص» على أهل خيبر فخارجهم على أن يترك الأرض في أيديهم يعملونها و يعمرونها. الحديث.» «3»

4- و في البخاري بسنده، عن عبد اللّه، قال: «أعطى رسول اللّه «ص» خيبر اليهود أن يعملوها و يزرعوها و لهم شطر ما يخرج منها.» «4»

5- و في سنن أبي داود بسنده، عن ابن عمر: «أن رسول اللّه «ص» عامل أهل خيبر بشطر ما يخرج من ثمر أو زرع.» «5»

6- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر: «أن النبي «ص» دفع إلى يهود خيبر نخل خيبر و أرضها على أن يعتملوها من أموالهم و أن رسول اللّه «ص» شطر ثمرتها.» «6»

7- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: «افتتح رسول اللّه «ص» خيبر و اشترط أن له الأرض و كل صفراء و بيضاء. قال أهل خيبر: نحن أعلم بالأرض منكم فأعطناها على أن لكم نصف الثمرة و لنا نصف. فزعم أنه أعطاهم على ذلك، فلما كان حين يصرم النخل بعث إليهم عبد اللّه بن رواحة فحزر عليهم

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 118، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(4)- صحيح البخاري 2/ 76، كتاب المظالم، باب مشاركة الذّمي و المشركين في المزارعة.

(5)- سنن أبي داود 2/ 235، كتاب البيوع،

باب في المساقاة.

(6)- سنن أبي داود 2/ 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 204

النخل. الحديث.» «1»

أقول: حزر الشي ء بالمهملة ثم المعجمة ثم المهملة: قدّره بالحدس و التخمين.

8- و فيه أيضا بسنده، عن سهل بن أبي حثمة، قال: «قسم رسول اللّه «ص» خيبر نصفين: نصفا لنوائبه و حاجته، و نصفا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما.» «2»

9- و فيه أيضا بسنده، عن بشير بن يسار، عن رجال من أصحاب النبي «ص»:

«أن رسول اللّه «ص» لما ظهر على خيبر قسمها على ستة و ثلاثين سهما، جمع كل سهم مأئة سهم، فكان لرسول اللّه «ص» و للمسلمين النصف من ذلك، و عزل النصف الباقي لمن نزل به من الوفود و الأمور و نوائب الناس.» «3»

10- و فيه أيضا بسنده، عن بشير بن يسار أيضا: «أن رسول اللّه «ص» لما أفاء اللّه عليه خيبر قسمها ستة و ثلاثين سهما جمع: فعزل للمسلمين الشطر ثمانية عشر سهما يجمع كل سهم مأئة، النبي «ص» معهم له سهم كسهم أحدهم، و عزل رسول اللّه «ص» ثمانية عشر سهما- و هو الشطر- لنوائبه و ما ينزل به من أمر المسلمين، فكان ذلك الوطيح و الكتيبة و السلالم و توابعها، فلما صارت الأموال بيد النبي «ص» و المسلمين لم يكن لهم عمّال يكفونهم عملها، فدعا رسول اللّه «ص» اليهود فعاملهم.» «4»

و نحو ذلك روايات أخر. و راجع في ذلك كتاب الأموال لأبي عبيد أيضا «5»، و سيرة ابن هشام «6»، و فتوح البلدان للبلاذري «7».

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 235، كتاب البيوع، باب في المساقاة.

(2)- سنن أبي داود 2/ 142، كتاب الخراج

و الفي ء و الإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

(3)- سنن أبي داود 2/ 142، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

(4)- سنن أبي داود 2/ 143، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

(5)- الأموال/ 70 و ما بعدها.

(6)- سيرة ابن هشام 3/ 364.

(7)- فتوح البلدان/ 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 205

فالجمع بين هذه الأخبار و غيرها مما وردت في هذا المجال يقتضي الحكم بأن تقبيل جميع أراضي خيبر كان بتصدي رسول اللّه «ص» بما أنه كان وليّ أمر المسلمين و الأراضي المفتوحة عنوة كانت لهم. و التقسيم كان يقع على عوائدها و خراجها حسب الحاجات و المصالح و النوائب، و لا مانع من وقوع التقسيم و التسهيم بحسب القرى و المزارع، كما هو المذكور في بعض هذه الأخبار، و لم يقصد بذلك تقسيم رقبة الأراضي و تمليكها للأشخاص.

و ما ذكر في بعض الروايات من تخميسها أيضا لعلّه كان من جهة توهم الرواة أن صرفه «ص» لبعض العوائد في مصارف نفسه و عائلته كان من باب الخمس المذكور في آية الخمس، و قد مرّ منّا الإشكال في ثبوت الخمس في الأراضي المفتوحة عنوة في رقبتها و في عوائدها، فإنها من الأموال العامة الواقعة تحت اختيار الإمام و لا ضريبة في الضرائب، فراجع ما ذكرناه في باب خمس الغنائم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 206

البحث في أمور:
اشارة

إذا عرفت ما ذكرناه من الفتاوى و الأخبار في الأراضي المفتوحة عنوة فلنبحث في أمور:

الأمر الأول: [المفتوحة عنوة لجميع المسلمين لا يراد بها صيرورتها كالمباحات الأصلية]

لا يخفى أن صيرورة الأرض المفتوحة عنوة لجميع المسلمين لا يراد بها صيرورتها كالمباحات الأصلية التي الناس فيها شرع سواء، و لا مالكيتهم لها و لبنائها و عمرانها بنحو الإشاعة و الشركة، بل صيرورتها ملكا للعنوان و الجهة، نظير ملك الفقراء للزكاة، و يتصدى للتصرف فيها ممثل المسلمين و إمامهم.

و الملكية أمر اعتباري يصح اعتبارها للعناوين و الجهات أيضا، كما يصح اعتبارها للبقاع و الأمكنة كالمساجد و المدارس و المعاهد و نحوها. و هذا هو المراد من قولهم: «إنها للمسلمين قاطبة: من وجد و من سيوجد إلى يوم القيامة.» و يدل عليه صحيحة محمد الحلبي كما مرّت.

بل يمكن أن يقال: إنها تصير بمنزلة الوقف على الجهة لا ملكا لها، فتكون إضافتها إلى المسلمين إضافة حق لا ملك. نظير العين الموقوفة و الموصى بها كذلك.

و عليه فيشكل بيع رقبتها و تبديلها حتى لإمام المسلمين أيضا، بل يجب إبقاؤها و صرف حاصلها و عوائدها في مصالحهم على ما أفتى به الأصحاب، و يشهد له مرسلة حمّاد.

قال المقدّس الأردبيلي في الجهاد من مجمع البرهان ما ملخصه:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 207

«معنى كون هذه الأرض للمسلمين كونها معدّة لمصالحهم العامة مثل بناء القناطر و المساجد و نفقة الأئمة و القضاة و الكتّاب و مئونة الغزاة و غيرها من المصالح العامة.

و الناظر عليها هو الإمام، فيوجرها و يأخذ قبالتها و يصرفها في المصالح حتى لا يحل للمستأجر حصة من الأرض و الأجرة لأنه ليس مالكا بالحقيقة، بل هي أرض جعلها اللّه- تعالى- كالوقف على مصالح المستأجر و غيره من

المسلمين، لا أنها ملك للمسلمين على الشركة.» «1»

و في إحياء الموات من الكفاية:

«المراد بكونها للمسلمين أن الإمام يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالحهم على حسب ما يراه، لا أن من شاء من المسلمين له التسلط عليها أو بعضها بلا خلاف في ذلك.» «2»

أقول: فظاهر هاتين العبارتين أن وزانها وزان الأرض الموقوفة للمصالح العامة.

و القول بأن خروجها عن ملك الكفّار بالاغتنام يستلزم دخولها في ملك غيرهم إذ لا يتصور الملك بلا مالك ممنوع، لاحتمال كون اغتنامها موجبا لانفكاكها عن الملكية بالكلية. و هو أحد الاحتمالين في الوقف و لا سيما الأوقاف العامة.

و مفاد اللام هو الاختصاص و هو اعمّ من الملكية، فتأمّل.

بل يمكن أن يقال إنها لو كانت ملكا للجهة لجاز للإمام تمليكها للشخص بتطبيق الجهة عليه كما في الزكاة، و الظاهر عدم جوازه، فيتعين كونها نظير الوقف.

و الحق في الوقف أنه لا يصير ملكا للموقوف عليه، بل الواقف كأنه يجعله على رأس الموقوف عليه لتدّر منافعه عليه كالسحابة الممطرة. و لذا يتعدى بعلى، فيكون باقيا على ملك الواقف أو يكون فكّا للملكية. و للبحث فيه محل آخر.

______________________________

(1)- مجمع الفائدة و البرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.

(2)- كفاية الأحكام/ 239.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 208

الأمر الثاني: [هل المراد بالأرض المفتوحة ما استولت عليها دولة الكفر من الأراضي]

هل المراد بالأرض المفتوحة عنوة في الأخبار و الفتاوى مطلق ما استولت عليها دولة الكفر من الأراضي: من الموات و العامرة بالأصالة أو بالعرض، أو خصوص العامرة منها بالإحياء؟ الأقوى هو الثاني، إذ الظاهر من الأخبار و الفتاوى إرادة انتقال ما كان ملكا للكفّار إلى المسلمين. و الموات و كذا العامرة بالأصالة كالآجام و الغابات الطبيعية لم تكن ملكا للكفّار حتى تغتنم منهم.

فهي باقية على اشتراكها الأصلي و تكون كسائر الموات و الآجام من الأنفال المتعلقة بالإمام، و سيأتي البحث فيها.

1- قال الشيخ في إحياء الموات من الخلاف (المسألة 1):

«الأرضون الغامرة في بلاد الإسلام التي لا يعرف لها صاحب معين للإمام خاصة ... دليلنا إجماع الفرقة على أن أرض الموات للإمام خاصة و أنها من جملة الأنفال و لم يفصلوا بين ما يكون في دار الإسلام و بين ما يكون في دار الحرب».

و (المسألة 2):

«الأرضون الغامرة في بلد الشرك التي لم يجر عليها ملك أحد للإمام خاصة. و قال الشافعي: كل من أحياها من مشرك و مسلم فإنه يملك بذلك. دليلنا ما قلناه في المسألة الأولى سواء.» «1»

2- و في جهاد المبسوط:

«و أما الأرضون المحياة فهي للمسلمين قاطبة، و للإمام النظر فيها ... فأما الموات فإنها لا تغنم و هي للإمام خاصة.» «2»

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 222.

(2)- المبسوط 2/ 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 209

3- و في جهاد الشرائع:

«كل أرض فتحت عنوة و كانت محياة فهي للمسلمين ... و ما كانت مواتا وقت الفتح فهو للإمام خاصة.» «1»

4- و في الجواهر في شرح العبارة الأخيرة:

«بلا خلاف أجده، بل الإجماع بقسميه عليه ...» «2» و نحو ذلك في إحياء الموات منه، فراجع «3».

5- و في إحياء الموات من الكفاية:

«و ما كان مواتا وقت الفتح فهو للإمام «ع» بلا خلاف.» «4»

6- و قال في مجمع البرهان:

«و سيظهر لك كون المراد بما كان له هذا الحكم المعمورة منها حال الفتح و القهر و الغلبة دون مواتها حينئذ، فإنها للإمام «ع» كسائر الموات التي ليست ملكا لأحد و لم تجر عليه يد الملكية بالاتفاق.» «5» هذا.

و

يشهد لذلك- مضافا إلى وضوحه و الإجماع و الاتفاق و عدم الخلاف المذكورات- عموم ما دل على أن الموات من الأرض و كذا ما لا ربّ له للإمام.

و لا يعارضه إطلاق قوله «ع» في خبر صفوان و البزنطي: «و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله ...» «6»، لانصرافه إلى خصوص ما كان ملكا للكفّار و اغتنم منهم. هذا.

و لكن قد يقال: إن الموات و العامرة بالأصالة و إن لم يكونا ملكا لأحد شرعا، و لكنهما بعد ما كانتا تحت استيلاء دولة الكفر و تحررتا بالسيف لا نرى مانعا من شمول عموم الموصول لهما، فيكون بين الدليلين عموم من وجه، و لا نرى وجها لتقديم أحدهما على الآخر.

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 322. (ط. أخرى/ 245).

(2)- الجواهر 21/ 169، و 38/ 18.

(3)- الجواهر 21/ 169، و 38/ 18.

(4)- كفاية الأحكام/ 239.

(5)- مجمع الفائدة و البرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.

(6)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 210

بل يمكن أن يقال: إن قوله: «و ما أخذ بالسيف ...»، يكون واردا على ما في موثقة عمار «1» من عدّ كل أرض لا ربّ لها من الأنفال، إذ عنوان المسلمين يصير ربّا لها.

أقول: سيأتي منّا في مبحث الأنفال أن الملكية الشرعية لا تتحقق إلّا بالإنتاج أو الانتقال ممن أنتج، و أن كون المشتركات كأرض الموات و الجبال و الأودية و نحوها للإمام و تحت اختيار قائد الأمّة ليس أمرا أبدعه الشرع المبين، بل هو أمر يحكم به عقلاء الأمم و استقرت عليه سيرتهم في جميع الأعصار. و ارتكاز هذا في الأذهان يوجب انصراف

قوله: «ما أخذ بالسيف» إلى خصوص ما ملكه الكفّار، فتبقى المشتركات و الأموال العامة على ما كانت عليه، غاية الأمر أن الإمام الحقّ يخلف الإمام الباطل في ذلك، فتدبّر.

و الذي يسهّل الخطب في المقام أنه لا يوجد عندنا فرق بيّن أساسي بين ما يكون للمسلمين بما هم مسلمون و بين ما يكون للإمام بما هو إمام و قائم بأمورهم. و سيأتي في مبحث الأنفال أن الأنفال ليست لشخص الإمام المعصوم، بل هي أموال عامة مشتركة خلقها اللّه- تعالى- لمصالح العباد و جعلت تحت اختيار الإمام الصالح العادل، فانتظر.

الأمر الثالث: [كون الأرض المفتوحة للمسلمين أنه ينتقل إليهم بالفتح]

لا يخفى أن معنى كون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين أنه ينتقل إليهم بالفتح ما كان يملكه الكفّار في الأراضي و العقارات، فإن قلنا بأنهم بإحياء الأرض يملكون رقبتها و عمرانها معا فلا محالة هما بالفتح ينتقلان إلى المسلمين. و إن قلنا بأن الإحياء يوجب ملكية العمران فقط مطلقا أو في صورة إذن الإمام و أن الذي يثبت للمحيي

______________________________

(1)- راجع الوسائل 6/ 371، الباب 1 من أبواب الأنفال من كتاب الخمس، الحديث 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 211

بالنسبة إلى الرقبة هو الحق فقط فالمنتقل إلى المسلمين هو العمران و الحق فقط.

و سيأتي منّا في مبحث الأنفال تقريب أن الثابت بالإحياء هو الحق فقط لا الملكية.

و كيف كان فالظاهر أن الحكم بكون الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين حكم عام يجري في جميع الأعصار و في جميع الأراضي، سواء كان الإحياء قبل نزول آية الأنفال أو بعده.

و ربما يتوهم اختصاص الحكم بما إذا كان الإحياء قبل نزول الآية، إذ مقتضى الآية الشريفة أن موات الأرض للإمام، فلو أحياها الكافر بعد نزولها لم يملكها حتى

تنتقل منه إلى المسلمين، بل تبقى على ملك الإمام.

قال صاحب الجواهر في مبحث الأنفال منه:

«نعم لا يعتبر فيما له «ع» من الموات بقاؤه على صفة الموت، للأصل و ظاهر صحيح الكابلي السابق. فلو اتفق حينئذ إحياؤه كان له «ع» أيضا من غير فرق بين المسلمين و الكفّار إلّا مع إذنه «ع». و إطلاق الأصحاب و الأخبار ملكية عامر الأرض المفتوحة عنوة للمسلمين يراد به ما أحياه الكفّار من الموات قبل أن جعل اللّه الأنفال لنبيه «ص» و إلّا فهو له أيضا و إن كان معمورا وقت الفتح.» «1»

أقول: مورد كلامه- قدّس سرّه- صورة عدم إذن الإمام في الإحياء، فيصح ما ذكره بالنسبة إلى رقبة الأرض ملكا و حقا، و أما العمران المتحقق بالإحياء فأيّ مانع من القول بملكية الكافر له و انتقاله منه إلى المسلمين؟! و أما إذا فرض إذن الإمام للكافر أيضا و لو بعموم أدلّة الإحياء فلا إشكال و إن اخترنا عدم ملكية الرقبة لانتقال الحق و العمران حينئذ إلى المسلمين، لإطلاق قوله: «و ما أخذ بالسيف ...»،

فتأمل.

و قال في كتاب إحياء الموات من الجواهر في تقريب عدم اشتراط الإسلام في المحيي ما هذا لفظه:

______________________________

(1)- الجواهر 16/ 118.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 212

«كل ذلك مضافا إلى ما يمكن القطع به من ملك المسلمين ما يفتحونه عنوة من العامر في أيدي الكفّار و إن كان قد ملكوه بالإحياء. و لو أن إحياءهم فاسد لعدم الإذن لوجب أن يكون على ملك الإمام «ع»، و لا أظنّ أحدا يلتزم به.» «1» هذا.

و كأن القائلين بالتفصيل بين كون الإحياء قبل نزول آية الأنفال أو بعده توهموا أن الحكم بكون الأنفال أي

الأموال العامة للّه و الرسول و للإمام بعده أمر حادث أبدعه الإسلام، و قبل هذا الحكم كانت الأموال العامة بلا ربّ و صاحب شرعا و كان يملكها كل من غلب عليها بلا ملاك.

و لكن ستعرف منّا في مبحث الأنفال أن كون الأموال العامة في اختيار الإمام بما أنه إمام و حاكم أمر عرفي عقلائي كان ثابتا في جميع القرون و الأعصار، و شرع الإسلام قد أمضاه بالآية. و الأرض لم تخل في عصر من الأعصار من حجة اللّه- تعالى- و وليّه في أرضه و عباده، و إنما الناس اشتبه عليهم الأمر فيعاملون مع حكّام الجور و الطواغيت معاملة أئمة العدل و ولاة اللّه في أرضه، فتدبّر.

و قد عرفت أيضا أن الذي يسهّل الخطب في المقام و نظائره أنه لا يوجد عندنا فرق بيّن أساسي بين ما يكون للمسلمين بما هم مسلمون و بين ما يكون للإمام بما أنه إمام، إذ كلاهما من الأموال العامة و تحت اختيار الإمام فيقبّلهما و يصرف حاصلهما في مصالح المسلمين، فتأمّل.

الأمر الرابع: [عدم جواز بيع رقبة الأرض المفتوحة عنوة و لا شرائها]

ظاهر ما مرّ من الأخبار و الفتاوى عدم جواز بيع رقبة الأرض المفتوحة عنوة و لا شرائها على أن تكون جزء من البيع. نعم، يجوز نقل الآثار و الأبنية المحدثة فيها بعد الاغتنام، بل و الحق المتعلق بها للمتصرف. فتصير الأرض للمشتري على وجه

______________________________

(1)- الجواهر 38/ 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 213

كانت للبائع من ثبوت حق الأولوية و عدم جواز المزاحمة إذا فرض كون التصرف و إحداث الآثار بإذن الإمام، أو بإجازته العامة للشيعة على القول بها، أو بإذن نائبه الخاص أو العام، أو بتقبيل السلطان الجائر بناء على إمضائهم «ع» لذلك

كما يأتي.

1- قال ابن إدريس في أواخر الزكاة من السرائر (باب أحكام الأرضين):

«و هذا الضرب من الأرضين لا يصح التصرف فيه بالبيع و الشراء و الوقف و الهبة و غير ذلك، أعني نفس الرقبة. فإن قيل: نراكم تبيعون و تشترون و تقفون أرض العراق و قد أخذت عنوة. قلنا: إنما نبيع و نقف تصرفنا فيها و تحجيرنا و بناءنا، فأما نفس الأرض لا يجوز ذلك فيها.» «1»

2- و في المنتهى:

«و إذا تصرف فيها أحد بالبناء و الغرس صح له بيعها على معنى أنه يبيع ماله فيها من الآثار و حق الاختصاص بالتصرف لا الرقبة، لأنها ملك المسلمين قاطبة.» «2»

3- و في المسالك عند قول المصنف: «و لا يجوز بيعها و لا وقفها و لا هبتها»، قال:

«أي لا يصح شي ء من ذلك في رقبتها مستقلة، أما لو فعل ذلك بها تبعا لآثار المتصرف من بناء و غرس و زرع فجائز على الأقوى. فإذا باعها بائع مع شي ء من هذه الآثار دخلت في البيع على سبيل التبع، و كذا الوقف و غيره. و يستمر كذلك ما دام شي ء من الآثار باقيا، فإذا ذهبت أجمع انقطع حق المشتري و الموقوف عليه و غيرهما عنها. هكذا ذكره جمع من المتأخرين، و عليه العمل.» «3»

و بالجملة فرقبة الأرض و كذا الآثار و الأبنية الموجودة حين الاغتنام تصير للمسلمين و تكون بحكم العين الموقوفة، فلا يصح نقلها و لا وقفها، و تكون تحت اختيار امام المسلمين يقبّلها لمن رآه صلاحا بما رآه و يصرف حاصلها في مصالحهم، و لكن

______________________________

(1)- السرائر/ 111.

(2)- المنتهى 2/ 936.

(3)- المسالك 1/ 155.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 214

المتصرف بإذنه له

حق اختصاص بها و يملك الآثار المحدثة فيها بإذنه و له نقلها و وقفها و يتبعها الأرض أيضا في الانتقال و الوقفية، نظير ما تعارف بين الفلّاحين من بيع الآثار في أراضي الزراعة التي هي للغير.

و سيأتي منّا في مبحث الأنفال تقوية نظير ذلك في أرض الموات التي يتصدى الإنسان لإحيائها أيضا، فيملك حيثية الإحياء الذي هو أثر فعله و قواه و فكره لا الرقبة، نعم هو أحق بها ما دامت الآثار باقية فيها و لم يتركها. و اختار هذا الشيخ أيضا و ابن زهرة، و يدلّ عليه أخبار مستفيضة كما يأتي. هذا.

و لكن ظاهر كلام الشيخ «ره» في التهذيب جواز شراء الأرض المفتوحة عنوة في عصر الغيبة دون أراضي الأنفال. قال في زيادات الزكاة:

«فأما الأرضون فكل أرض تعين لنا أنها مما قد أسلم أهلها عليها فإنه يصح لنا التصرف فيها بالشراء منهم و المعاوضة و ما يجري مجراهما.

و أما أراضي الخراج و أراضي الأنفال و التي قد انجلى أهلها عنها فإنا قد أبحنا أيضا التصرف فيها ما دام الإمام «ع» مستترا، فإذا ظهر يرى هو «ع» في ذلك رأيه.

فنكون نحن في تصرفنا غير آثمين. و قد قدمنا ما يدل على ذلك. و الذي يدل عليه أيضا ما رواه ...

فإن قال قائل: إن جميع ما ذكرتموه إنما يدل على إباحة التصرف لكم في هذه الأرضين، و لم يدل على أنه يصح لكم تملكها بالشراء و البيع، فإذا لم يصح الشراء و البيع فما يكون فرعا عليه أيضا لا يصح، مثل الوقف و النحلة و الهبة و ما يجري مجرى ذلك.

قيل له: إنا قد قسمنا الأرضين فيما مضى على ثلاثة أقسام: أرض يسلم أهلها عليها، فهي

تترك في أيديهم و هي ملك لهم، فما يكون حكمه هذا الحكم صح لنا شراؤها و بيعها.

و أما الأرضون التي تؤخذ عنوة أو يصالح أهلها عليها فقد أبحنا شراءها و بيعها، لأن لنا في ذلك قسما لأنها أراضي المسلمين. و هذا القسم أيضا يصح الشراء و البيع

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 215

فيه على هذا الوجه.

و أما الأنفال و ما يجري مجراها فليس يصح تملكها بالشراء و البيع، و إنما أبيح لنا التصرف حسب. و الذي يدل على القسم الثاني ما رواه ...» «1»

ثم ذكر خبر أبي بردة، و موثقة محمد بن مسلم اللتين مرّتا، و صحيحة محمد بن مسلم و عمر بن حنظلة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سألته عن ذلك فقال: «لا بأس بشرائها، فإنها إذا كانت بمنزلتها في أيديهم يؤدي عنها كما يؤدي عنها.» و خبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية، قال: فقال:

«اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» إلى غير ذلك من الأخبار. «2»

أقول: من الدقة في جميع كلامه و من استدلاله بخبر أبي بردة، و صحيحة محمد بن مسلم و عمر بن حنظلة يظهر أن مراده- قدّس سرّه- من جواز الشراء شراء حق التصرف لا شراء نفس الرقبة، نعم يقع الإشكال في تفريقه بينها و بين أراضي الأنفال مع صحة ذلك في أراضي الأنفال أيضا بعد إحيائها. اللّهم إلّا أن يقال إن مقصوده منع بيع و شراء الأنفال قبل التصرف فيها بالإحياء، فيصح ما ذكره و وجهه واضح.

و في جهاد الدروس:

«و لا يجوز التصرف في المفتوحة عنوة إلّا بإذن الإمام

«ع»، سواء كان بالوقف أو بالبيع أو غيرهما، نعم في حال الغيبة ينفذ ذلك. و أطلق في المبسوط أن التصرف فيها لا ينفذ. و قال ابن إدريس: إنما يباع و يوقف تحجيرنا و بناؤنا و تصرفنا لا نفس الأرض.» «3»

فظاهره أيضا جواز البيع و الوقف في حال الغيبة.

______________________________

(1)- التهذيب 4/ 144 و ما بعدها.

(2)- التهذيب 4/ 147، كتاب الزكاة، الباب 39 (باب الزيادات)، الحديث 30 و 31. و نقل عنه الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3 و 4.

(3)- الدروس/ 163.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 216

و في جهاد جامع المقاصد أيضا في ذيل قول المصنف:

«و لا يصح بيعها و لا وقفها و لا هبتها» قال:

«هذا في حال ظهور الإمام «ع»، أما في حال الغيبة فينفذ ذلك كله، كما صرّح به في الدروس و صرح به غيره.» «1»

و اعترض عليهما المحقق الأردبيلي- طاب ثراه- في مجمع البرهان بقوله:

«و فيه تأمل، لأنها ملك للغير، و البيع و الوقف موقوفان على كونها ملكا للبائع و الواقف. بل يحصل الشبهة في جواز هذه حال الحضور، لبعد حصول الإذن بذلك عنه «ع» إلّا أن يقتضي مصالح العامة ذلك بأن يجعل قطعة منها مسجدا لهم أو حصل الاحتياج إلى ثمنها. و مع ذلك الظاهر أنه لا يبعد قول الدروس مع المصلحة، إذ قد تكون المصلحة في ذلك مع غيبته «ع». و أيضا قد يؤول إلى التصرف فيما له من البناء و العمارة و الأحقية.» «2»

أقول: الأظهر أن تحمل العبارات و كذا الروايات الموهمة لجواز البيع و الشراء على ما ذكره أخيرا من نقل البناء و العمارة و الأحقية من غير فرق

بين زمان الحضور و الغيبة

و لعل نظر من فرق بينهما إلى أنه في عصر الظهور لا يصح التصرف بدون الإذن، بخلاف عصر الغيبة لوجود الإذن العام فيه للشيعة على القول به.

و أما رقبة الأرض و كذا الآثار و الأبنية الموجودة حال الفتح و الاغتنام فقد مرّ كونها للمسلمين قاطبة: من وجد و من يوجد، فلا يجوز بيعها و لا نقلها و لا وقفها، بل يشكل بيع نفس الإمام أيضا لها في حال الظهور و بسط اليد.

بل يمكن الإشكال في جعلها مساجد أيضا. اللّهم إلّا أن يقال: إنها بنفسها من المصالح العامة التي جعلت مصرفا لها. و يؤيد ذلك السيرة المستمرة في عصر

______________________________

(1)- جامع المقاصد 3/ 403 (ط. القديم 1/ 190).

(2)- مجمع الفائدة و البرهان، كتاب الجهاد، المطلب الثالث من المقصد الثالث.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 217

الخلفاء من إحداث المساجد و غيرها من المشاريع العامة في العراق و مكة و غيرهما مما فتحت عنوة من دون أن نقف في ذلك على ردع من الأئمة «ع» و من أصحابهم، و لو كان لبان قطعا.

و اشتراط كون أرض المسجد ملكا شخصيا حتى يصح وقفه لذلك مما لم يقم عليه دليل، و إلّا لم يصح إحداثها في أرض الموات أيضا إلّا بعد إحيائها و تملكها، و المستفاد من بعض الأخبار خلاف ذلك:

ففي صحيحة أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر «ع» أنه قال: «من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة.» قال أبو عبيدة: و مر بي و أنا بين مكة و المدينة أضع الأحجار فقلت: هذا من ذاك؟ قال: نعم. «1»

و نحوها صحيحته الأخرى عن أبي عبد اللّه

«ع». «2»

و في خبر آخر قال أبو الصباح لأبي عبد اللّه «ع»: ما تقول في هذه المساجد التي بنتها الحاج في طريق مكة؟ فقال: «بخ بخ، تيك أفضل المساجد. من بنى مسجدا كمفحص قطاة بنى اللّه له بيتا في الجنة.» «3»

فليس في هذه الأخبار دلالة على وجوب تملك الأرض ثم وقفها مسجدا، فتأمّل.

الأمر الخامس: [المتصدي للتصرف في هذه الأراضي هو الإمام أو نائبه]

إن المتصدي للتصرف في هذه الأراضي بالتقبيل و الإجارة و الإجازة هو الإمام أو نائبه، فإنه وليّ أمر المسلمين و الأولى بهم من أنفسهم.

______________________________

(1)- الوسائل 3/ 486، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 2.

(2)- الوسائل 3/ 485، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 1.

(3)- الوسائل 3/ 486، الباب 8 من أبواب أحكام المساجد، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 218

و تدل على ذلك مضافا إلى وضوحه ما مرّ من رواية صفوان و البزنطي و مرسلة حمّاد الطويلة و غير ذلك من الأخبار. و لا يجوز لأحد أن يتصرف فيها جزافا بلا إذن. و ما مرّ من المبسوط من قوله: «و لا يصح أن يبنى دورا و منازل و مساجد و سقايات و لا غير ذلك من أنواع التصرف»، يحمل لا محالة على صورة عدم الإذن أو ما إذا تصرف فيها بقصد تملك الأرض غصبا. هذا في حال حضور الامام و التمكن منه.

و أما في عصر الغيبة فالقاعدة تقتضي أن يكون المتصدي لها هو الفقيه الجامع لشرائط الحكم و الولاية، على ما مرّ بيانه من عموم ولايته. و لو لم يوجد أو تعذر الرجوع إليه تصدى لها عدول المؤمنين، لكونه من الأمور الحسبية التي لا مجال لإهمالها.

و لا وجه للرجوع فيها إلى حكام الجور و

الطواغيت في حال الاختيار مع ما نراه من تحذير الأئمة «ع» من الرجوع إليهم.

و ربما يستفاد من بعض العبارات- مثل ما مرّ في الأمر السابق من التهذيب و الدروس و جامع المقاصد و نحو ذلك من الكلمات- القول بإباحة الأئمة «ع» لشيعتهم التصرف فيها في عصر الغيبة تسهيلا لهم، كما أباحوا التصرف في سائر الأنفال، إما بلا خراج أو مع الالتزام بخراجها و صرفه في مصالح المسلمين.

قال في الحدائق:

«و احتمال التصرف فيها للشيعة مطلقا و الحال هذه لا يخلو من قوة، لأنها و إن كانت منوطة بنظر الإمام «ع» كما هو مدلول خبري أحمد بن محمد بن أبي نصر المتقدمين و كذا رواية حمّاد بن عيسى، مع وجوده و تمكنه، إلّا أنه مع عدم ذلك لا يبعد سقوط الحكم و جواز التصرف. و ليس الرجوع إلى حاكم الجور- بعد تعذر الرجوع إليه «ع» كما عليه ظاهر الأصحاب- بأولى من الرجوع إلى المسلمين يتصرفون كيف شاءوا و أرادوا، لا سيما مع استلزام ما ذكروه المعاونة على الإثم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 219

و العدوان و تقوية الباطل و تشييد معالمه، للنهي عنه كتابا و سنة.» «1»

أقول: أولا: نحن لا نقول بجواز الرجوع إلى حاكم الجور في حال الاختيار حتى يقال بأن الرجوع إلى المسلمين أولى منه.

و ثانيا: لو فرض أن الجائر يصرف الفوائد في مصالح المسلمين و حفظ نظامهم فلعله يكون أولى من تصرف المسلمين فيها تصرف الملّاك في أملاكهم الشخصية، كيفما أرادوا بلا خراج و طسق.

و قد روي عن النبي «ص» أنه قال: «إن اللّه- تبارك و تعالى- سيؤيد هذا الدين بأقوام لأخلاق لهم.» «2»

و في رواية أخرى عنه

«ص»: «إن اللّه- عزّ و جلّ- يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.» «3»

و في رواية طويلة عن أبي عبد اللّه «ع» قال في آخرها: «إن اللّه ينصر هذا الدين بأقوام لأخلاق لهم.» «4»

و ثالثا: إذا فرض التمكن من الفقيه العادل الواجد لشرائط الحكم فلم لا يرجع إليه في أمر يرتبط بالإمام بما أنه إمام؟! و قد مرّ منّا بالتفصيل أن وظائف الإمامة لا تتعطل بغيبة الإمام الثاني عشر «ع». بل قد أشرنا إلى احتمال وجوب الرجوع إلى عدول المؤمنين و الاستيجار منهم مع عدم التمكن من الفقيه، حيث إن حفظ مصالح المسلمين و ثغورهم من أهمّ الأمور الحسبية التي لا يجوز إهمالها.

و في المسالك:

«و ليس هذا من باب الأنفال التي أذنوا «ع» لشيعتهم من التصرف فيه حال

______________________________

(1)- الحدائق 18/ 301.

(2)- مسند أحمد 5/ 45.

(3)- مسند أحمد 2/ 309.

(4)- الوسائل 11/ 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 220

الغيبة، لأن ذلك حقهم فلهم الإذن فيه مطلقا. بخلاف الأرض المفتوحة عنوة، فإنها للمسلمين قاطبة و لم ينقل عنهم «ع» الإذن في هذا النوع.» «1»

و في مكاسب الشيخ الأعظم في مبحث شرائط العوضين قال:

«و أما في زمان الغيبة ففي عدم جواز التصرف إلّا فيما أعطاه السلطان الذي حل قبول الخراج و المقاسمة منه، أو جوازه مطلقا نظرا إلى عموم ما دلّ على تحليل مطلق الأرض للشيعة لا خصوص الموات التي هي مال الإمام «ع»، و ربما يؤيده جواز قبول الخراج الذي هو كأجرة الأرض فيجوز التصرف في عينها مجانا، أو عدم جوازه إلّا بإذن الحاكم الذي هو نائب الإمام، أو التفصيل بين من يستحق أجرة هذه

الأرض فيجوز له التصرف فيها لما يظهر من قوله «ع» للمخاطب في بعض أخبار حل الخراج: «و إن لك نصيبا في بيت المال» و بين غيره الذي يجب عليه حق الأرض و لذا أفتى غير واحد على ما حكي بأنه لا يجوز حبس الخراج و سرقته عن السلطان الجائر و الامتناع عنه، و استثنى بعضهم ما إذا دفعه إلى نائب الإمام «ع»، أو بين ما عرض له الموت من الأرض المحياة حال الفتح و بين الباقية على عمارتها من حين الفتح فيجوز إحياء الأوّل لعموم أدلّة الإحياء و خصوص رواية سليمان بن خالد و نحوها وجوه، أوفقها بالقواعد الاحتمال الثالث ثم الرابع ثم الخامس.» «2»

أقول: و من الأخبار التي استدل بها لتحليل الأراضي و لو كانت خراجية للشيعة خبر عمر بن يزيد أو صحيحته:

ففي أصول الكافي: «محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عمر بن يزيد، قال: رأيت مسمعا بالمدينة و قد كان حمل إلى أبي عبد اللّه «ع» تلك السنة مالا، فردّه أبو عبد اللّه «ع»، فقلت له: لم ردّ عليك أبو عبد اللّه «ع» المال الذي حملته إليه؟ قال: فقال لي: إني قلت له حين حملت إليه المال: إني كنت ولّيت

______________________________

(1)- المسالك 1/ 155.

(2)- المكاسب/ 163 (ط. أخرى 10/ 81).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 221

البحرين الغوص، فأصبت أربعمائة ألف درهم، و قد جئتك بخمسها: بثمانين ألف درهم و كرهت أن أحبسها عنك و أن أعرض لها و هي حقك الذي جعله اللّه- تبارك و تعالى- في أموالنا. فقال: «أو ما لنا من الأرض و ما أخرج اللّه منها إلّا الخمس؟

يا أبا سيّار!

إن الأرض كلها لنا، فما أخرج اللّه منها من شي ء فهو لنا.» فقلت له:

و أنا أحمل إليك المال كله؟ فقال: «يا أبا سيّار، قد طيّبناه لك و أحللناك منه، فضمّ إليك مالك. و كلّ ما كان في أيدي شيعتنا من الأرض فهم فيه محللون حتى يقوم قائمنا فيجبيهم طسق ما كان في أيديهم فيترك الأرض في أيديهم. و أما ما كان في أيدي غيرهم فإن كسبهم من الأرض حرام عليهم حتى يقوم قائمنا، فيأخذ الارض من أيديهم و يخرجهم صغرة.» «1»

و رواه الشيخ أيضا في التهذيب بتفاوت ما، فراجع. «2»

أقول: الاستدلال بالخبر للمقام إما بإطلاق لفظ الأرض و عمومه أو بذكر الطسق الظاهر في الخراج.

و لكن يمكن أن يقال: إن مورد الخبر هو البحرين، فلعلّ اللام في قوله: «من الأرض» تكون للعهد. و البحرين مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب كما في موثقة سماعة «3»، فتكون خالصة للإمام، و لا مانع من أخذ الطسق من الأنفال أيضا، كما يأتي بيانه في مبحث الأنفال.

هذا مضافا إلى أن الغوص يكون في البحر و هو أيضا من الأنفال التي تكون خالصة للإمام، فتدبّر.

و من الأخبار التي يستدل بها للإباحة و التحليل في المقام أيضا ما رواه الكليني بسنده، عن يونس بن ظبيان أو المعلى بن خنيس، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»:

مالكم من هذه الأرض؟ فتبسم ثم قال: «إن اللّه- تبارك و تعالى- بعث جبرئيل «ع» و أمره أن يخرق بإبهامه ثمانية أنهار في الأرض: منها سيحان و جيحان و هو نهر بلخ، و الخشوع و هو نهر

______________________________

(1)- الكافي 1/ 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلّها للإمام «ع»، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 382، الباب

4 من أبواب الأنفال ...، الحديث 12، عن التهذيب 4/ 144.

(3)- الوسائل 6/ 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 222

الشاش، و مهران و هو نهر الهند، و نيل مصر، و دجلة، و الفرات. فما سقت أو استقت فهو لنا، و ما كان لنا فهو لشيعتنا، و ليس لعدوّنا منه شي ء إلّا ما غصب عليه، و إن وليّنا لفي أوسع فيما بين ذه إلى ذه.

يعني بين السماء و الأرض. ثم تلا هذه الآية: «قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا (المغصوبين عليها) خٰالِصَةً (لهم) يَوْمَ الْقِيٰامَةِ (بلا غصب).» «1»

بتقريب أن ذكر الفرات و دجلة شاهد على شمول الأرض المحللة لأراضي الخراج أيضا.

و في دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد «ع» أنه سئل عن الأرض تفتح عنوة- أي قهرا- قال: «توقف ردء للمسلمين: لمن في ذلك اليوم و لمن يأتي من بعدهم إن رأى ذلك الإمام، و إن رأى قسمتها قسمها. و الأرض و ما فيها للّه و لرسوله، و الإمام في ذلك بعد الرسول يقوم مقامه.»

ثم قال لمن حضره من أصحابه: «احمدوا اللّه، فإنكم تأكلون الحلال و تلبسون الحلال و تطؤون الحلال، لأنكم على المعرفة بحقنا و الولاية لنا، أخذتم شيئا طبنا لكم به نفسا. و من خالفنا و دفع حقنا يأكل الحرام و يلبس الحرام و يطأ الحرام.» «2»

فظاهر الحديث أن الأرض المذكورة فيه يعمّ أرض الخراج أيضا و أن التحليل يشملها و إنما ذكر الأكل و غيره من باب المثال.

و من هذا القبيل أيضا الأخبار الدالّة على جواز شرائهم لأرض الخراج، معللا بأن لهم من الحق ما هو أكثر من ذلك،

كخبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية. قال: فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «3» و نحوه خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر، و عمّار و زرارة، عن أبي عبد اللّه؛ و صحيحة عبد اللّه بن سنان، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه؛ و صحيحة أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه «ع». و يأتي ذكرها و بيان مفادها في الأمر

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 384، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 17، عن أصول الكافي 1/ 409.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 386، كتاب الجهاد- ذكر قسمة الغنائم.

(3)- الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 223

التاسع، فانتظر «1».

و يؤيد ذلك أيضا الأخبار الكثيرة الواردة في تحليل الخمس و الأنفال، و ما دل على تحليل المناكح و المساكن و المتاجر، مما يستفاد منها عناية الأئمة «ع» بشيعتهم و تسهيل الأمر عليهم، فيشمل التحليل كل ما كان تحت اختيارهم سواء كان للإمام بما هو إمام أو للمسلمين بما هم مسلمون. هذا. و لكن الأحوط مع ذلك الرجوع إلى الفقيه الواجد لشرائط الحكم، لما مرّ من أدلّة ولايته و عدم تعطل الحكومة في عصر من الأعصار.

الأمر السادس: [إذا كانت هذه الأراضي تحت استيلاء حكام الجور]

قد عرفت أن المتصدي للتصرف في هذه الأراضي بالتقبيل و نحوه هو الإمام أو نائبه الخاص أو العام أو عدول المؤمنين حسبة. و لا وجه للرجوع فيها إلى حكام الجور و عمالهم، فنقول: هذا كله في حال الاختيار.

و أما إذا كانت هذه الأراضي تحت استيلائهم و تصرفهم و بليت الشيعة بالمعاملة معهم و الرجوع إليهم

في قبالة الأرض و دفع الخراج أو أخذه منهم مجانا أو بعوض، فمقتضى القاعدة و إن كان حرمتها و بطلانها لعدم استحقاق الجائر لذلك و كون التراضي معه نظير تراضي مستأجر دار الغير مع ظالم في دفع الأجرة إليه، حيث لا تبرأ ذمته قطعا، و لو قهره على أخذ شي ء منه بهذه العناوين ففساده أوضح، لكن الظاهر من الأخبار و الفتاوى إجازة الأئمة «ع» لذلك تسهيلا لشيعتهم بل حكي الإجماع و عدم الخلاف في ذلك عن كثير من الأصحاب:

1- قال الشيخ في النهاية:

«و لا بأس بشراء الأطعمة و سائر الحبوب و الغلات على اختلاف أجناسها من

______________________________

(1)- راجع ص 234 من هذا الجزء من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 224

سلاطين الجور و إن علم من أحوالهم أنهم يأخذون ما لا يستحقون و يغصبون ما ليس لهم ما لم يعلم في ذلك شيئا بعينه غصبا، فإن علمه كذلك فلا يتعرض لذلك. فأما ما يأخذونه من الخراج و الصدقات، و إن كانوا غير مستحقين لها جاز له شراؤها منهم.» «1»

2- و قال المحقق في تجارة الشرائع:

«السابعة: ما يأخذه السلطان الجائر من الغلات باسم المقاسمة، و الأموال باسم الخراج عن حق الأرض، و من الأنعام باسم الزكاة يجوز ابتياعه و قبول هبته، و لا يجب إعادته على أربابه و إن عرف بعينه.» «2»

3- و ذيل ذلك في المسالك بقوله:

«ما يأخذه الجائر في زمن الغيبة قد أذن أئمتنا «ع» في تناوله منه. و أطبق عليه علماؤنا لا نعلم فيه مخالفا و إن كان ظالما في أخذه، و لاستلزام تركه و القول بتحريمه الضرر العظيم و الحرج العظيم على هذه الطائفة. و لا يشترط

رضا المالك، و لا يقدح فيه تظلمه ما لم يتحقق الظلم بالزيادة عن المعتاد أخذه من عامة الناس في ذلك الزمان ...

و لا يشترط قبض الجائر له و إن أفهمه قوله: «ما يأخذه الجائر.» فلو أحاله به أو وكله في قبضه أو باعه هو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى و وجب على المالك الدفع، و كذا القول فيما يأخذه باسم الزكاة.» «3»

4- و في المختصر النافع:

«يجوز أن يشتري من السلطان ما يأخذه باسم المقاسمة و اسم الزكاة من ثمرة و حبوب و نعم و إن لم يكن مستحقا له.» «4»

5- و ذيله في التنقيح بقوله:

______________________________

(1)- النهاية/ 358.

(2)- الشرائع 2/ 13 (ط. أخرى/ 266).

(3)- المسالك 1/ 168.

(4)- المختصر النافع/ 118.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 225

«و إنما قلنا بجواز الشراء من الجائر مع كونه غير مستحق، للنص الوارد عنهم «ع» بذلك و الإجماع و إن لم يعلم مستنده. و يمكن أن يكون مستنده أن ما يأخذ الجائر حق لأئمة العدل و قد أذنوا لشيعتهم في شراء ذلك، فيكون تصرف الجائر كتصرف الفضولي إذا انضمّ إليه إذن المالك.» «1»

6- و في الرياض:

«و الأصل في المسألة بعد عدم الخلاف في الطائفة و الإجماع المستفيض حكايته في كلام جماعة: المعتبرة المستفيضة.» «2»

7- و في جامع المقاصد:

«و لا فرق بين قبض الجائر إياها و إحالته بها إجماعا. و لا يعتبر رضا المالك قطعا، لأن ذلك حق عليه لا يجوز له منعه بحال. و الجائر و إن كان ظالما بالتصرف فيه إلّا أن الإجماع من فقهاء الإمامية و الأخبار المتواترة عن الأئمة «ع» دلت على جواز أخذ أهل الحق لها عن قول

الجائر، تفصيا من الحرج العظيم ...» «3»

إلى غير ذلك من الكلمات الحاوية لا دعاء الإجماع في المسألة.

و يدل على الحكم- بعد الإجماع، و السيرة القطعية من الأئمة «ع» و أصحابهم في الدولتين: الأموية و العباسية من المعاملة معهم في قبالة الأراضي و استيجارها و دفع خراجها و أخذها منهم معاملة الدولة العادلة من غير نكير، و لزوم الحرج العظيم بل اختلال النظام من الاجتناب عن هذه الأموال بالكلية- الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المجال و في أخذ الجوائز منهم، فلنذكر بعضها:

1- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال في حديث: «لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض و أهلها من السلطان.» و عن مزارعة أهل الخراج بالربع و النصف

______________________________

(1)- التنقيح الرائع 2/ 19.

(2)- الرياض 1/ 508.

(3)- جامع المقاصد 4/ 45 (ط. القديم 1/ 207)، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف: و الّذي يأخذه الجائر ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 226

و الثلث؟ قال: نعم، لا بأس به، قد قبّل رسول اللّه «ص» خيبر، أعطاها اليهود حين فتحت عليه بالخبر. و الخبر هو النصف.» «1»

إذ الظاهر أن السلطان في الحديث إشارة إلى سلاطين الجور الموجودين في عصره، فيدل على صحة التقبل منهم و أن حكمه حكم التقبل من الإمام العادل.

و بالجملة القضية في الرواية تشبه القضية الخارجية. و يشهد لذلك صدر الحديث أيضا، فراجع.

و أما احتمال أن يراد طبيعة السلطان بشرائطه التي منها العدالة بنحو القضية الحقيقية فبعيد جدا، فتدبّر.

2- موثقة إسماعيل بن الفضل الهاشمي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «سألته عن الرجل استأجر من السلطان من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام مسمّى، ثم آجرها و شرط لمن

يزرعها أن يقاسمه النصف أو أقلّ من ذلك أو أكثر، و له في الأرض بعد ذلك فضل، أ يصلح له ذلك؟ قال: نعم، إذا حفر لهم نهرا أو عمل لهم شيئا يعينهم بذلك فله ذلك.

قال: و سألته عن الرجل استأجر أرضا من أرض الخراج بدراهم مسمّاة أو بطعام معلوم فيؤاجرها قطعة قطعة أو جريبا جريبا بشي ء معلوم، فيكون له فضل فيما استأجر من السلطان، و لا ينفق شيئا، أو يؤاجر تلك الأرض قطعا على أن يعطيهم البذر و النفقة، فيكون له في ذلك فضل على إجارته، و له تربة الأرض أو ليست له؟ فقال له: إذا استأجرت أرضا فأنفقت فيها شيئا أو رممت فيها فلا بأس بما ذكرت.» «2»

إذ الظاهر منها كون الاستيجار من السلطان مفروض الجواز و الصحة، و إنما الشبهة كانت في حلية الفضل الباقي. و السلطان كما مر إشارة إلى السلاطين الموجودين من الأموية و العباسية و نحوها من السلاطين المبتلى بهم خارجا و لو في الأعصار المستقبلة.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 7/ 202، كتاب التجارات، الباب 19 (باب المزارعة)، الحديث 34.

(2)- الوسائل 13/ 261، الباب 21 من كتاب الإجارة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 227

و حمله على السلطان العادل الحق بعيد جدّا، لاستلزام حمله على موضوع فرضي لا وجود له خارجا.

3- موثقته الأخرى عنه «ع»: «في الرجل يتقبل بجزية رءوس الرجال و بخراج النخل و الآجام و الطير، و هو لا يدري لعلّه لا يكون من هذا شي ء أبدا أو يكون، أ يشتريه و في أيّ زمان يشتريه و يتقبل منه؟ قال: إذا علمت أن من ذلك شيئا واحدا أنه قد أدرك فاشتره و تقبل به

(منه).»

و رواه الصدوق نحوه إلّا أنه قال: «بخراج الرجال و جزية رءوسهم و خراج النخل و الشجر و الآجام و المصايد و السمك و الطير.» «1»

حيث إن التقبل من سلطان الجور كان مفروض الجواز، و الشبهة كانت في إمكان عدم حصول الثمر و الطير و نحوهما.

4- رواية الفيض بن المختار، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: جعلت فداك، ما تقول في أرض أتقبلها من السلطان ثمّ أؤاجرها أكرتي على أن ما أخرج اللّه منها من شي ء كان لي من ذلك النصف أو الثلث بعد حق السلطان؟ قال: لا بأس به، كذلك أعامل أكرتي.» «2»

و الظاهر أن محطّ النظر في السؤال بقرينة الجواب هو صحة المزارعة المخالف لها أكثر فقهاء السنة. و يظهر بذلك أن صحة التقبل من السلطان كانت مفروغا عنها، و الحمل على التقية لا يحتمل مع هذا الفرض و هذا الجواب.

5- موثقة إسحاق بن عمّار، قال: سألته عن الرجل يشتري من العامل و هو يظلم؟ قال: «يشتري منه ما لم يعلم أنه ظلم فيه أحدا.» «3»

بتقريب أن الظاهر من الشراء من العامل هو شراء ما هو عامل فيه من قبل

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 264، الباب 12 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 4.

(2)- الوسائل 13/ 208، الباب 15 من كتاب المزارعة و المساقاة، الحديث 3.

(3)- الوسائل 12/ 163، الباب 53 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 228

السلطان و منه الخراج.

6- صحيحة أبي عبيدة الحذاء، عن أبي جعفر «ع»، قال: سألته عن الرجل منّا يشتري من السلطان من إبل الصدقة و غنم الصدقة و هو يعلم أنهم يأخذون منهم أكثر من

الحق الذي يجب عليهم؟ قال: فقال «ع»: «ما الإبل إلّا مثل الحنطة و الشعير و غير ذلك، لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه.»

قيل له: فما ترى في مصدق يجيئنا فيأخذ منّا صدقات أغنامنا فنقول: بعناها، فيبيعناها، فما تقول في شرائها منه؟ فقال: «إن كان قد أخذها و عزلها فلا بأس.» قيل له:

فما ترى في الحنطة و الشعير، يجيئنا القاسم فيقسم لنا حظّنا و يأخذ حظّه فيعزله بكيل، فما ترى في شراء ذلك الطعام منه؟ فقال: «إن كان قبضه بكيل و أنتم حضور ذلك فلا بأس بشرائه منه من غير كيل.» «1»

تدل هذه الصحيحة على أن شراء الصدقات و الخراج من السلطان و عمّاله كان مفروغ الجواز عند السائل إجمالا، و إنما سأل أولا عن الجواز مع العلم الإجمالي بحصول الحرام أيضا في أيديهم. و ثانيا عن جواز الاشتراء منه بتوهم مرجوحية شراء ما أخرج في الصدقة. و ثالثا عن جواز الاعتماد على الكيل الأول.

و الظاهر من السؤال الأخير السؤال عن حكم المقاسمة التي هي قسم من الخراج بالمعنى الأعم.

و بالجملة ففي الصحيحة سؤالا و جوابا إشعار بأن الجواز كان من الواضحات غير المحتاجة إلى السؤال، و إلّا لكان أصل الجواز أولى بالسؤال.

و لكن يظهر من المحقق الأردبيلي في المتاجر من مجمع البرهان التأمّل في دلالة الحديث، فقال:

«و في الدلالة عليه أيضا تأمّل، إذ لا دلالة في قوله: «لا بأس به حتى تعرف الحرام بعينه» إلّا على أنه يجوز شراء ما كان حلالا بل مشتبها أيضا، و لا يجوز شراء ما هو معروف أنه حرام. و لا يدل على جواز شراء الزكاة بعينها صريحا، نعم ظاهرها ذلك

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 162، الباب 52 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 229

و لكن لا ينبغي الحمل عليه لمنافاته للعقل و النقل. و يحتمل أن يكون سبب الإجمال التقية. و يؤيد عدم الحمل على الظاهر أنه غير مراد بالاتفاق، إذ ليس بحلال ما أخذه الجائر، فتأمّل.» «1»

و اعترض عليه الشيخ الأعظم في المكاسب بقوله:

«و أنت خبير بأنه ليس في العقل ما يقتضي قبح الحكم المذكور. و أيّ فارق بين هذا و بين ما أحلّوه لشيعتهم مما فيه حقوقهم؟ و لا في النقل إلّا عمومات قابلة للتخصيص بمثل هذا الصحيح و غيره المشهور بين الأصحاب رواية و عملا، مع نقل الاتفاق عن جماعة. و أما الحمل على التقية فلا يجوز بمجرد معارضة العمومات، كما لا يخفى.» «2»

أقول: و الروايات التي يمكن الاستدلال بها للمقام كثيرة متفرقة في الأبواب المختلفة، و منها ما دلت على حلّ جوائز السلاطين و قد كان جلّها من الخراج. و ابتلي بها الأئمة «ع» و الصحابة و أصحاب أئمتنا «ع»، و ربما كانوا يقبلونها كما تدل عليه التواريخ و الروايات، فراجع الوسائل «3» و غيره من الكتب.

الأمر السابع: [هل وزان الجائر في خراج الأراضي التي تسلط عليها وزان الإمام العادل مطلقا]

هل الحكم الذي مرّ مختصّ بما أخذه الجائر و قبضه من الخراج فقبل أخذه له لا يصح شراؤه منه و لا قبوله بحوالة منه، أو يعمّ جميع الصور فيكون وزان الجائر في خراج الأراضي التي تسلط عليها وزان الإمام العادل مطلقا؟ وجهان، بل قولان.

و الظاهر هو التعميم، و هو المستفاد من الروايات الواردة في تقبل الأرض و خراج الرجال و النخل و الشجر و نحوهما، فراجع. و قد مرّ عن المسالك قوله:

______________________________

(1)- مجمع الفائدة و البرهان، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف:

و ما يأخذه السلطان الجائر ...

(2)- المكاسب/ 73 (ط. أخرى 5/ 251).

(3)- الوسائل 12/ 156، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 230

«و لا يشترط قبض الجائر له و إن أفهمه قوله: «ما يأخذه الجائر»، فلو أحاله به أو وكّله في قبضه أو باعه هو في يد المالك أو ذمته حيث يصح البيع كفى و وجب على المالك الدفع.» «1»

و عن جامع المقاصد قوله: «و لا فرق بين قبض الجائر إياها و إحالته بها إجماعا.» «2»

الأمر الثامن: هل يختص حكم الجواز بمن ينتقل إليه الخراج،

فلا استحقاق للجائر في أخذه أصلا و لم يمض الشارع من هذه المعاملة إلا حلّ ذلك المال للمنتقل إليه بل في بعض كلمات الشيخ الأعظم أن المال باق على ملك المأخوذ منه و مع ذلك يجوز قبضه عن الجائر بلا خلاف، أو يكون الشارع قد أمضى سلطنة الجائر عليه، فيكون منعه عنه أو عن بدله المعوض عنه حراما؟ و جهان:

فعن رسالة المحقق الكركي أنه قال:

«ما زلنا نسمع من كثير ممن عاصرناهم- لا سيما شيخنا الأعظم الشيخ علي بن هلال «قده»- أنه لا يجوز لمن عليه الخراج سرقته و لا جحوده و لا منعه و لا شي ء منه، لأن ذلك حق واجب عليه.» «3»

و في المسالك:

«و قد ذكر الأصحاب أنه لا يجوز لأحد جحدها و لا منعها و لا التصرف فيها إلّا بإذنه، بل ادعى بعضهم الاتفاق عليه ... و كيف كان فظاهر الأصحاب أن الخراج و المقاسمة لازمة للجائر حيث يطلبه أو يتوقف على إذنه.» «4»

______________________________

(1)- المسالك 1/ 168.

(2)- جامع المقاصد 4/ 45 (ط. القديم 1/ 207)، كتاب المتاجر، ذيل قول المصنف: و الّذي يأخذه الجائر ...

(3)- المكاسب/ 74

(ط. أخرى 5/ 270)؛ و كلمات المحققين/ 190 (آخر الرسالة الخراجية).

(4)- المسالك 1/ 155.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 231

أقول: قال الشيخ الأعظم في المكاسب:

«إن أريد منع الحصة مطلقا فيتصرف في الأرض من دون أجرة فله وجه، لأنها ملك المسلمين فلا بد لها من أجرة تصرف في مصالحهم.

و إن اريد منعها من خصوص الجائر فلا دليل على حرمته، لأن اشتغال ذمة مستعمل الأرض بالأجرة لا يوجب دفعها إلى الجائر، بل يمكن القول بأنه لا يجوز مع التمكن لأنه غير مستحق فيسلّم إلى العادل أو نائبه الخاص أو العام، و مع التعذر يتولى صرفه في المصالح حسبة. مع أن في بعض الأخبار ظهورا في جواز الامتناع، مثل صحيحة زرارة، قال: اشترى ضريس بن عبد الملك و أخوه من هبيرة أرزا بثلاثمائة ألف. قال: فقلت له: ويلك- أو ويحك!- انظر إلى خمس هذا المال فابعث به إليه و احتبس الباقي، فأبى علي. قال: فأدى المال و قدم هؤلاء فذهب أمر بني أمية. قال: فقلت ذلك لأبي عبد اللّه «ع»، فقال مبادرا للجواب: هوله، هوله.

فقلت له: إنه قد أداها، فعضّ على إصبعه.» «1»

و لا يخفى أن ما ذكره الشيخ الأعظم أوفق بالقواعد.

و الظاهر أنه لا إشكال في أن الجائر يحرم عليه التصرف تكليفا و يثبت عليه الضمان وضعا، و إن جاز للآخذ الأخذ منه و التصرف.

و ربما يتوهم عدم ضمانه بوجهين: الأول: أن المستفاد من الأخبار أن أئمتنا «ع» أجازوا له التصرف في هذا المال بعد ما تقمص الخلافة و غصبها بنحو الترتب حفظا لمصالح المسلمين.

الثاني: أن صحة المعاملة من طرف يستدعي الصحة من الطرف الآخر، إذ لا يتصور أن تكون معاملة واحدة

صحيحة من طرف و فاسدة من طرف آخر، فإذا صحّ الشراء من الجائر صحّ البيع أيضا.

و كلا الوجهين قابلان للمناقشة، إذ الأول ادعاء محض لا دليل عليه. و يرد على الثاني أن إذن الإمام الذي هو وليّ المال لمن أخذه من شيعته لا يستلزم إجازته لما

______________________________

(1)- المكاسب/ 74 (ط. أخرى 5/ 272). و الرواية في الوسائل 12/ 161، الباب 52 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 232

صدر عن الجائر و تصحيح معاملاته حتى يرتفع عنه الضمان، و ليس في الأخبار دلالة على ذلك. فإذن الإمام للآخذ من شيعته نظير اجازة المالك لعقد الفضولي، حيث لا يستلزم ذلك، رفع الإثم عنه في تصرفه و غصبه و انتقال العوض إليه، فتدبّر.

و الحاصل أن المحتملات في المسألة ثلاثة:

الأول: أن يقال: إن المال باق على ملك المأخوذ منه، و مع ذلك أجيز للآخذ التصرف فيه، كما هو ظاهر ما حكيناه عن الشيخ.

الثاني: أن الإمام «ع» أجاز تصرفات الجائر و معاملاته، و أمر أن يعامل معه معاملة الإمام العادل حتى إنه يحرم منع الجائر من أجرة الأرض بعد ما كان هو المتصدي لإجارته.

الثالث: أن يقال: إن وزان الجائر في المقام وزان الفضولي، فتصرفه حرام و لو أتلف المال أو ثمنه يكون ضامنا، غاية الأمر أن الإمام الذي هو وليّ أمر المسلمين أجاز التصرفات و المعاملات بالنسبة إلى شيعتهم، فالمال انتقل إلى الآخذ و لكن بإجازته، كما أنه في المعاملات الفضولية ينتقل المال بإجازة المالك إلى المشتري و الثمن إلى المالك من دون أن يقتضي ذلك رفع الحرمة أو الضمان بالنسبة إلى الفضولي أو انتقال العوض إليه. و أقوى

المحتملات هو الثالث، فتدبّر.

الأمر التاسع: هل الحكم الذي مضى يختص بالسلطان المخالف

المعتقد لاستحقاق أخذ الخراج، أو يعم كلا من المؤمن و المخالف بل و الكافر أيضا؟:

من اختصاص موارد الأخبار بالمخالف المعتقد لاستحقاقه التقبيل و الأخذ و الإعطاء، فيقتصر في الحكم المخالف للقواعد عليه. و كأنه من قبيل إلزام الناس بما ألزموا به أنفسهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 233

و من لزوم الحرج و الضرر و تنقيح المناط القطعي، بل و إطلاق بعض الأخبار على ما قيل:

كصحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»: «لا بأس بأن يتقبل الرجل الأرض و أهلها من السلطان. الحديث» «1»

و صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» أنهما قالا له: هذه الأرض التي يزارع أهلها ما ترى فيها؟ فقال: «كل أرض دفعها إليك السلطان فما حرثته فيها فعليك مما أخرج اللّه منها الذي قاطعك عليه. الحديث.» «2»

و غير ذلك من الأخبار التي وقع فيها الحكم على طبيعة السلطان فيؤخذ بإطلاقه.

في المسألة قولان: قال الشهيد في المسالك:

«و الظاهر أن الحكم مختص بالجائر المخالف للحق، نظرا إلى معتقده من استحقاقه ذلك عندهم. فلو كان مؤمنا لم يحلّ أخذ ما يأخذه منهما، لاعترافه بكونه ظالما فيه، و إنما المرجع حينئذ إلى رأي حاكمهم الشرعي. مع احتمال الجواز مطلقا، نظرا إلى إطلاق النص و الفتوى. و وجه التقييد أصالة المنع إلّا ما أخرجه الدليل، و تناوله للمخالف متحقق، و المسؤول عنه للأئمة «ع» إنما كان مخالفا للحق فيبقى الباقي، و إن وجد مطلقا فالقرائن دالة على إرادة المخالف منه التفاتا إلى الواقع أو الغالب.» «3»

و اعترض عليه في كفاية الأحكام بقوله:

«ما يظهر من كلام الشهيد الثاني من الميل إلى اختصاص حكم حل الخراج

بالمأخوذ من المخالفين فلا وجه له، إذ الظاهر أن ترخيص الأئمة «ع» إنما هو لغرض

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام 7/ 202، كتاب التجارات، الباب 19 (باب المزارعة)، الحديث 34.

(2)- الوسائل 6/ 129، الباب 7 من أبواب زكاة الغلات، الحديث 1.

(3)- المسالك 1/ 169.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 234

توصل الشيعة إلى حقوقهم في بيت مال المسلمين لعلمهم بأن ذلك غير مقدور لهم لعجزهم و استيلاء السلاطين على الأموال، كما يشير إليه رواية عبد اللّه بن سنان، عن أبيه و رواية أبي بكر الحضرمي. و اعتقاد الجائر إباحته بالنسبة إليه جهلا غير مؤثر في جواز الأخذ منه، لأن الجهل ليس بعذر، و لو كانت مؤثرة لكان تأثيرها في تسويغه بالنسبة إليه أولى.» «1»

أقول: الظاهر أنه أراد بالروايتين ما رواه الشيخ بسند صحيح، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبيه، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: إن لي أرض خراج و قد ضقت بها، أ فأدعها؟ قال: فسكت عني هنيهة ثم قال: «إن قائمنا لو قد قام كان نصيبك من الأرض أكثر منها.» و قال: «لو قد قام قائمنا كان للإنسان أفضل من قطائعهم.» و روى نحوها الكليني أيضا.» «2»

و ما رواه الشيخ أيضا بسند صحيح، عن أبي بكر الحضرمي، قال: دخلت على أبي عبد اللّه «ع» و عنده إسماعيل ابنه، فقال: «ما يمنع ابن أبي سماك أن يخرج شباب الشيعة فيكفونه ما يكفيه الناس و يعطيهم ما يعطي الناس؟» ثم قال لي: «لم تركت عطاءك؟» قال: قلت: مخافة على ديني. قال: «ما منع ابن أبي سماك أن يبعث إليك بعطائك؟ أما علم أن لك في بيت المال نصيبا؟» «3»

و يشهد لهذا المضمون

أيضا خبر إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية. قال: فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «4»

و خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، و الساباطي و زرارة، عن أبي

______________________________

(1)- كفاية الأحكام/ 79.

(2)- الوسائل 11/ 121، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

(3)- الوسائل 12/ 157، الباب 51 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(4)- الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 235

عبد اللّه «ع» أنهم سألوهما عن شراء أرض الدهاقين من أرض الجزية، فقال: «إنه إذا كان ذلك انتزعت منك أو تؤدي عنها ما عليها من الخراج.» قال عمّار: ثم أقبل عليّ فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «1»

فيستفاد من هذه الأخبار أن من كان له حق في الزكاة أو الخراج أو نحوهما يجوز له استنقاذ حقه و لو كان من يد الجائر الغاصبة. فكأن الإمام «ع» بولايته أجاز و أنفذ تصرف الجائر و أخذه و إعطاءه بالنسبة إلى حق من له حق و يصل إليه حقه، و لا سيما إذا كان من شيعتهم تسهيلا لهم و تعطفا عليهم. و مقتضى ذلك تحليل جوائز السلطان و الأراضي و الأموال المأخوذة منه لخصوص من كان مستحقا لها و مصرفا لها شرعا، و إن لم تحل لغيره.

و لعلّه إلى هذا المعنى أشار العلامة في بيع التذكرة، حيث قال:

«ما يأخذ الجائر من الغلات باسم المقاسمة، و من الأموال باسم الخراج عن حق الأرض، و من الأنعام باسم الزكاة يجوز شراؤه و اتّهابه،

و لا تجب إعادته على أصحابه و إن عرفوا، لأن هذا مال لا يملكه الزارع و صاحب الأنعام و الأرض فإنه حق للّه أخذه غير مستحقه فبرئت ذمته و جاز شراؤه.» «2» هذا.

و يمكن أن يوجّه المورد و أمثاله بأنها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع الحكيم بتعطّلها و إهمالها، فإذا لم يتمكن الإمام من إقامتها و لا الحاكم الشرعي و لا عدول المؤمنين صحت إقامتها من حكّام الجور و عمّالهم بل كل جائر و فاسق تصدى لها، سواء كان مؤمنا أو مخالفا.

و بهذا البيان يصحح جميع تصرفاتهم التي تكون من وظائف الإمامة الحقة، مثل ما يقع منهم في حفظ بيضة الإسلام و حفظ الثغور و الدفاع عن حرمات المسلمين و حقوقهم، و إيجاد الأمن في السبل و إحداث المساجد و المستشفيات و المشاريع العامة و بسط المعروف و قطع جذور الفساد و غير ذلك، و إن عوقبوا لتصدي الخلافة و تقمصها و عدم تفويضها إلى أهلها، و وجب على الأمة أيضا السعي في إقامة

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

(2)- التذكرة 1/ 583.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 236

الدولة الحقة العادلة، إذ لا منافاة بين الوظيفتين: فعلى الأمة السعي في إرجاع الحكم إلى أهله و وجب عليه أيضا تفويض الأمر إليه، و لكنه مع ذلك يجب عليه بعد تقمص الخلافة و تحصيل القدرة التصدي للأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها من باب الحسبة، و يجب على الأمة أيضا إطاعته و إعانته في هذا السنخ من الأمور إلى أن تستقر الدولة الحقة فيرجع الأمور إليها، فتدبّر.

و يمكن أن يناقش في

الأدلة التي ذكرت للتعميم في المسألة:

اولا: بانصراف لفظ السلطان في الروايات إلى سلاطين عصرهم من الأموية و العباسية المدعين للخلافة، و اللام للعهد، و القضايا قضايا خارجية لا حقيقية، كيف؟! و إلّا حملت على السلطان الواجد للشرائط الشرعية.

و ثانيا: بمنع الإطلاق، لكون ما توهم إطلاقه مسوقا لبيان حكم آخر كجواز إدخال أهل الأرض الخراجية في تقبلها في صحيحة الحلبي، و جواز التقبيل بالأكثر مما تقبل به الأرض من السلطان في رواية الفيض بن المختار و نحو ذلك.

و ثالثا: بمنع لزوم الحرج و الضرر المدعى، لكون حرمة الأخذ مختصة بما علم تفصيلا كونه زكاة أو خراجا، و ليس جميع ما في أيديهم كذلك لاحتمال وجود الحلال في ما بأيديهم، و مجرد الاحتمال يكفي في جواز الأخذ. و لا يضر العلم الإجمالي بعد كون بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء، نظير الأخذ ممن لا يؤدي الحقوق الواجبة.

و رابعا: بالنقض بلزوم الحرج بالامتناع عن سائر ما يأخذونه ظلما من العشور و الضرائب أيضا، فلا بدّ من الحكم بجوازه و لم يقل به أحد.

و خامسا: بما في كلام الشيخ الأعظم، من أن عنوان المسألة في كلامهم ما يأخذه الجائر لشبهة المقاسمة أو الزكاة كما في المنتهى أو باسم الخراج أو المقاسمة كما في غيره، و ما يأخذه الجائر المؤمن ليس لشبهة الخراج و المقاسمة، لأن المراد بشبهتهما شبهة استحقاقهما الحاصلة في مذهب العامة دون مذهب الشيعة.

و على هذا فالأحوط الرجوع إلى الحاكم الشرعي و الاستيذان منه في كل مورد

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 237

شك في الحلية و الجواز.

الأمر العاشر: [ما ورد في أرض السواد من كونها للمسلمين]

ربما أشكل الاستدلال للحكم في المقام بما ورد في أرض السواد من كونها للمسلمين،

بتقريب أن سواد العراق لم يفتح بأمر الإمام و إذنه، و المشهور بين أصحابنا بل قيل لا خلاف فيه: أن ما يغنمه المقاتلون بغير إذن الإمام يكون من الأنفال و يكون للإمام خاصة.

و يشهد له مرسل الورّاق، عن رجل سمّاه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إذا غزا قوم بغير إذن الإمام فغنموا كانت الغنيمة كلها للإمام، و إذا غزوا بأمر الإمام فغنموا كان للإمام الخمس.» «1»

و قد مرّ عن مبسوط الشيخ- قدّس سرّه- قوله:

«و على الرواية التي رواها أصحابنا: «أن كل عسكر أو فرقة غزت بغير أمر الإمام فغنمت يكون الغنيمة للإمام خاصة»، هذه الأرضون و غيرها مما فتحت بعد الرسول إلّا ما فتح في أيام أمير المؤمنين «ع» إن صح شي ء من ذلك تكون للإمام خاصة.» «2»

و على هذا فيجب أن تحمل لا محالة أخبار أرض السواد على التقية. هذا.

و أجيب عن هذا الإشكال أولا: بأن المتبادر من المرسل خصوص الغنيمة التي تخمّس و تقسم، فلا تشمل الأراضي التي لا خمس فيها و لا تقسيم كما مرّ.

و ثانيا: بأن عمر استشار أمير المؤمنين «ع» في ذلك. و يدل على ذلك فعل

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 369، الباب 1 من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام، الحديث 16.

(2)- المبسوط 2/ 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 238

عمّار، حيث كان من خواص أصحابه «ع» و لم يكن يصدر إلّا عن أمره. اللّهم إلّا أن يقال: إن مجرد الرضا و الإذن لا يكفي في ذلك، بل يعتبر أن يكون الغزاء بأمر الإمام و تحت قيادة أمير أمّره.

و في كفاية الأحكام بعد تضعيف المرسل قال:

«ثم لو صحت لا تضرّ، لأن الظاهر أن الفتوح

التي وقعت في زمن عمر كانت بإذن أمير المؤمنين «ع» لأن عمر كان يشاور الصحابة خصوصا أمير المؤمنين «ع» في تدبير الحروب و غيرها، و كان لا يصدر إلّا عن رأيه «ع». و النبي «ص» أخبره بالفتوح و غلبة المسلمين على أهل الفرس و الروم. و قبول سلمان تولية المدائن و عمّار إمارة العساكر مع ما روي فيهما قرينة على ما ذكرنا.

و مع ذلك وقع التصريح بحكم أرض السواد و كونها للمسلمين في النص الصحيح كما ذكرنا.

و قد روى الشيخ، عن محمد بن مسلم في الصحيح، عن أبي جعفر «ع»، قال:

سألته عن سيرة الإمام «ع» في الأرض التي فتحت بعد رسول اللّه «ص»، فقال:

إن أمير المؤمنين «ع» قد سار في أهل العراق بسيرة، فهم إمام لسائر الأرضين.

الحديث.» «1»

و في الجواهر بعد نقل كلام الكفاية قال:

«و عن الصدوق أنه روى مرسلا استشارة عمر عليا «ع» في هذه الأراضي فقال:

«دعها عدة للمسلمين».

و عن بعض التواريخ أن عمر لما رأى المغلوبية في عسكر الإسلام في غالب الأسفار و الأوقات استدعى من أمير المؤمنين «ع» أن يرسل الحسن «ع» إلى محاربة يزدجرد، فأجابه و أرسله. و حكي أنه ورد ري و شهريار، و في المراجعة ورد قم، و ارتحل منها إلى كهنك، و منها إلى أردستان، و منها إلى قهبان و منها إلى أصفهان، و صلّى في المسجد الجامع العتيق، و اغتسل في الحمام الذي كان متصلا بالمسجد، ثم نزل

______________________________

(1)- كفاية الأحكام/ 79. و الرواية في الوسائل 11/ 117، الباب 69 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 239

لنبان و صلّى في مسجده. إلّا أن ذلك كما ترى لا

يعول عليه بعد عدم كونه بسند معتبر.

و يحتمل بعضه أو جميعه غير صدور الإذن.

لكن قد يقال بأن الحكم في النصوص المعتبرة السابقة بكون هذه الأراضي للمسلمين بعد معلومية اعتبار الإذن فيها شاهد على صدورها منهم- عليهم السلام-.

و لعله أولى من الحمل على التقية خصوصا بعد عدم معروفيته بين العامة، و إنما يحكى عن مالك منهم و لم يكن مذهبه معروفا كي يتقى منه، خصوصا بعد مخالفة الشافعي و أبي حنيفة له.» «1»

أقول: و الحق الصحيح هو ما ذكره أخيرا.

و يشهد لذلك أيضا ما رواه الصدوق في الأبواب السبعة من الخصال بسنده، عن أبي جعفر «ع» في حديث طويل يذكر فيه أن عليا «ع» قال لرأس اليهود عند منصرفه عن النهروان: «إن اللّه- عزّ و جلّ- يمتحن الأوصياء في حياة الأنبياء في سبعة مواطن ... ثم يمتحن الأوصياء بعد وفاة الأنبياء «ع» في سبعة مواطن- إلى أن قال: «و أما الرابعة يا أخا اليهود، فإن القائم بعد صاحبه (يعني عمر بعد أبي بكر) كان يشاورني في موارد الأمور فيصدرها عن أمرى و يناظرني في غوامضها فيمضيها عن رأيي، لا أعلم أحدا و لا يعلمه أصحابي يناظره في ذلك غيري. الحديث.» «2»

و لا يخفى أن عموم الأمور يشمل مثل الخروج إلى الكفّار و دعائهم إلى الإسلام، و إنما الإشكال في سند الحديث، إلّا أن يقال أن اعتماد الصدوق عليه جابر لضعفه. هذا.

و الذي يسهّل الخطب ما مرّ منّا من عدم تفاوت أساسي بين كون الأرض للإمام بما أنه إمام، أو للمسلمين بما هم مسلمون، حيث إن الإمام يقبل كليهما

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 161.

(2)- الخصال/ 365 و 374 (الجزء 2)، باب السبعة، الحديث 58.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 240

و يصرف حاصلهما في مصالح المسلمين و سدّ خلّاتهم. نعم، يوجد التفاوت بين وجود الإذن و عدمه بالنسبة إلى المنقولات، حيث إن ما غنم بالإذن يقسم ما زاد منه عن النوائب و الخمس بين المقاتلين بخلاف ما غنم بغير إذن. و قد مرّ احتمال كون الموضوع في مرسل الورّاق هو المنقولات فقط فلا يشمل الأراضي أصلا، فتدبّر.

الأمر الحادي عشر: [إثبات الأمور الثلاثة مع تقادم الزمان و تقلب الأحوال في غاية الإشكال]

قد ظهر مما مر إلى هنا أن كون الأرض خراجية و كونها للمسلمين بما هم مسلمون يتوقف على أمور ثلاثة: الأول: كونها مفتوحة عنوة أو صلحا على أنها للمسلمين. الثاني: كونها محياة حال الفتح. الثالث: كون الفتح بإذن الإمام على ما هو المشهور، و يستدل عليه بمرسل الورّاق و سيأتي بيانه في مبحث الأنفال. و لا يخفى أن إثبات هذه الأمور الثلاثة مع تقادم الزمان و تقلب الأحوال و الأراضي في غاية الإشكال.

قال الشيخ الأعظم- قدّس سرّه- في المكاسب:

«يثبت الفتح عنوة بالشياع الموجب للعلم، و بشهادة العدلين، و بالشياع المفيد للظن المتاخم للعلم، بناء على كفايته في كل ما يعسر إقامة البيّنة عليه، كالنسب و الوقف و الملك المطلق. و أما ثبوتها بغير ذلك من الأمارات الظنية حتى قول من يوثق به من المؤرخين فمحل إشكال، لأن الأصل عدم الفتح عنوة و عدم تملك المسلمين. نعم، الأصل عدم تملك غيرهم أيضا، فإن فرض دخولها بذلك في الأنفال و ألحقناها بأرض الخراج في الحكم فهو، و إلّا فمقتضى القاعدة حرمة تناول ما يؤخذ قهرا من زرّاعها. و أما الزرّاع فيجب عليهم مراجعة حاكم الشرع فيعمل فما معهم على طبق ما يقتضيه القواعد عنده من كونه مال الإمام «ع» أو مجهول المالك أو غير

ذلك.» «1»

______________________________

(1)- المكاسب/ 77 (ط. أخرى 5/ 337).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 241

و قال الشهيد في المسالك:

«و يثبت كونها مفتوحة عنوة بنقل من يوثق بنقله، و اشتهاره بين المؤرخين. و قد عدّوا من ذلك مكة المشرفة و سواد العراق و بلاد خراسان و الشام. و جعل بعض الأصحاب من الأدلة على ذلك ضرب الخراج من الحاكم و إن كان جابرا، و أخذ المقاسمة من ارتفاعها، عملا بأنّ الأصل في تصرفات المسلمين الصحة، و كونها عامرة وقت الفتح بالقرائن المفيدة للظن المتاخم للعلم كتقادم عهد البلد و اشتهار تقدمها على الفتح، و كون الأرض مما يقضي القرائن المذكورة بكونها مستعملة في ذلك الوقت لقربها من البلد و عدم المانع من استعمالها عادة و نحو ذلك مما لا يضبطه إلّا الأمارات المفيدة للعلم أو ما يقاربه.» «1»

أقول:

هاهنا نكات و مناقشات ينبغي الإشارة إليها:
الأولى: أن ما في كلام الشيخ من الثبوت بشهادة العدلين يمكن أن يورد عليه

بأنهما إن شهدا على السماع من بينة سابقة عليهما، و السابقة أيضا على السماع من سابقتها، و هكذا إلى زمان الواقعة فلا إشكال في حجيتها، و لكن تحقق مثلها مقطوع العدم.

و أما الشهادة المستندة إلى ما في التواريخ أو ما على الأفواه أو غيرهما من الأمارات الظنية فيشكل الاعتماد عليها بعد عدم الاعتماد على مستنداتها.

و الحاصل أنه يعتبر في الشهادة المعتبرة أن تكون عن حس لا عن حدس و اجتهاد.

الثانية: قد يقال: إن الاشتهار بين المؤرخين إن أفاد العلم فلا إشكال في حجيته،

و لكن يبعد جدا تحقق ذلك مع كثرة الاختلاف بينهم، و تأخر زمانهم عن الحوادث، و ابتناء اكثر آرائهم على الحدسيات و النقليات الضعيفة. و أما إن أورث الظن فقط فلا دليل على حجيته. هذا.

______________________________

(1)- المسالك 1/ 155.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 242

و ربما يقرب حجيته بوجهين: الأول: أن قول المؤرخ الثبت الثقة نظير قول اللغوي في اللغة و الطبيب في طبه و الصانع في صنعته، و قد استقرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار حتى في عصر الأئمة «ع» على الأخذ بقول أهل الخبرة في كل فن و حرفة. و لم يرد عنهم ردع عن ذلك.

الثاني: أن في هذا السنخ من الموضوعات الشرعية التي يكثر الابتلاء بها و يعسر تحصيل العلم فيها و لا يجوز إهمالها بالكلية لا محيص عن العمل بالظن، و إلّا لزم تعطيل الأحكام، و يطلق على هذا الانسداد الصغير.

و تقريبه أنا نعلم إجمالا بثبوت التكليف فيها و عدم جواز إهمالها و انسداد باب العلم فيها غالبا. و لا يمكن الاحتياط فيها غالبا، لدوران الأمر بين المتباينين، أو كونه موجبا لاختلال النظام، أو مرجوحا قطعا لمخالفته لسهولة الشريعة السمحة.

و تقديم المرجوح على الراجح قبيح عقلا فيتعين

العمل بالظن دون الوهم.

و يظهر من الكفاية اعتماده على الظن لذلك ثم قال:

«و الظن قد يحصل بالتواريخ المعتبرة إذا كان صاحب الكتاب اشتهر بصحة النقل و الاعتماد على كتابه و العمل بقوله بين الناس، كابن جرير الطبري، و صاحب المغازي: الواقدي، و البلاذري، و المدائني، و ابن الأثير، و المسعودي و أضرابهم. و قد يحصل باستمرار أخذ السلاطين الخراج منه و أخذ المسلمين من السلاطين، إذ الظاهر أن أخذ الخراج من ذلك البلد إذا كان مستمرا في الأعصار التي نعلمها لم يكن شيئا حادثا من بعد سلاطين الجور، بل كان شيئا مستمرا من الصدر الأول من غير نكير، و أنه لو كان حادثا فالظاهر أنه كان ذلك منقولا في كتب التواريخ و الأخبار لاعتناء أهل التواريخ ببيان أمثال هذه المبتدعات و الحوادث. و أخذ الناس ذلك الخراج من السلاطين مستمرا شاهد على ذلك، فإن الظاهر جريان أفعال المسلمين على وجه الصحة و المشروعية ما لم يعلم خلاف ذلك.» «1»

______________________________

(1)- كفاية الأحكام/ 79.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 243

أقول: ثبوت الحجية لمطلق الظن و لا سيما إذا كان في قباله أمارة معتبرة كاليد المدعية للملك أو المتصرفة تصرف الملاك في أموالهم ممنوع. نعم، إذا بلغ حد الوثوق و سكون النفس بحيث لا يعتني العقلاء باحتمال خلافه فالظاهر حينئذ حجيته و يعدّ هذا علما عاديا. و كثيرا ما يحصل ذلك من استفاضة نقل المؤرخين بل من نقل مؤرخ واحد إذا كان ثقة ثبتا. و بناء العقلاء في جميع مراحل الحياة على العمل بالوثوق و سكون النفس، و لا يلتزمون بتحصيل العلم بنحو المائة في المائة، و التشكيك في ذلك يعد وسواسا.

و أما

استقرار السيرة على العمل بقول أهل الخبرة في كل فن، فإن أريد بذلك تعبد العقلاء به عملا و إن لم يحصل لهم وثوق بصدقه نظير ما نلتزم به في حجية البينة شرعا، ففيه أن الظاهر عدم وجود الحجية التعبدية عند العقلاء بما هم عقلاء.

و حجية البينة شرعا إنما ثبتت بالروايات الدالة عليها تعبدا.

و إن أريد به أخذهم به بعد ما حصل لهم الوثوق بقوله كما هو الغالب، فهو الذي أشرنا إليه من كونه علما عاديا عندهم. فإذا رجع شخص إلى الطبيب و حصل له الوثوق و سكون النفس برأيه و تشخيصه أخذ به و إلّا رجع إلى طبيب آخر أو شورى طبية، اللّهم إلّا أن يعمل به رجاء و احتياطا إذا أمن الضرر و الخطر من ناحيته.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 243

ثم لو فرض وجود التعبد عند العقلاء و جواز الأخذ بسيرتهم في ذلك فيجب أن يتصل السيرة في كل شي ء بخصوصه إلى عصر الأئمة «ع» حتى ينكشف إمضاؤهم لها، و لم يثبت استقرار السيرة على العمل بقول اللغوي أو المؤرخ في أعصارهم.

و لا يكفي تحقق السيرة في بعض الأمور في أعصارهم لإثبات حجية ما لم يثبت استقراره في أعصارهم، فتدبّر.

الثالثة: و أما ما ذكر من إثبات كون الأرض خراجية بضرب الخراج عليها

من السلطان الجائر و أخذه منها حملا لتصرف المسلم على الصحة، ففيه أنه إن أريد بفعل المسلم تصرف الجائر بأخذ الخراج فلا ريب أن تصرفه و أخذه حرام و إن علم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 244

كون الأرض خراجية و

لا اعتبار بعقده و عقد عمّاله مع العلم بعدم ولايته على الأرض فكيف يصح فعله؟!

و دعوى أنّ أخذه الخراج من أرض الخراج أقل فسادا يدفعها أولا: عدم الفرق لأن مناط الحرمة في المقامين واحد و هو أخذ مال الغير بلا استحقاق. و اشتغال ذمة المأخوذ منه بالخراج لا يهون الحرمة بالنسبة الى الآخذ.

و ثانيا: أنه لا دليل على وجوب حمل الفاسد على الأقل فسادا فيما إذا لم يتعدد عنوان الفساد، كما إذا دار الأمر بين كون الزنا بإكراه المرأة أو برضاها، حيث إن الظلم محرم آخر غير الزنا.

هذا مضافا إلى أن الحمل على الصحة إنما يكون فيما إذا احتمل اعتناء الفاعل بالموازين الشرعية، و أما إذا علم من طبعه و سيرته أنه لا يريد إلّا ما استهواه فيشكل الحمل على الصحة.

و إن أريد بفعل المسلم تصرف المسلمين فيما يأخذونه من الجائر من خراج الأرض ففيه أنه لا عبرة بفعلهم إذا علمنا بأنهم مثلنا في الجهل بحال هذه الأراضي.

و ربما يقال: إن الجائر الذي يرى نفسه وليّا على المسلمين إذا ضرب الخراج على أرض بهذا العنوان فبعمله تقع الأرض تحت يد المسلمين، و هي أمارة الملكية نظير ما إذا وقع ملك في تصرف الوقف عملا و إن كان المتصدي له غير المتولي الشرعي.

و فيه مالا يخفى، إذ الموجود خارجا هي اليد الغاصبة، و إثباتها الملكية للجهة المنتحلة محل إشكال، فتدبّر.

الرابعة: و أما ما ذكره الشهيد من كون سواد العراق و بلاد خراسان و الشام مما فتحت عنوة

فقد ناقشه في الكفاية، حيث حكى عن بعض التواريخ ما ملخصه:

«إن حيرة بقرب الكوفة فتحت صلحا، و نيشابور و بلخ و هرات و فوسخ و التوابع من بلاد خراسان فتحت صلحا و بعضها فتحت عنوة، فحال بلاد خراسان مختلفة، و كذلك بلاد الشام، فحكي أن حلب

و حماة و حمص و طرابلس فتحت صلحا. و أن أهل طبرستان صالحوا أهل الإسلام، و آذربايجان فتحت صلحا، و أهل أصفهان

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 245

عقدوا أمانا، و الري فتح عنوة ...» «1»

أقول: غالب بلاد الإسلام فتحت عنوة، و منها مكة المكرمة على ما مرّ و سواد العراق و أكثر بلاد الشام و أكثر بلاد إيران و بلاد السند و شمال إفريقا و مصر و بلاد أندلس و نحوها. و تحقيق حال البلاد يحتاج إلى تتبع كثير لا يناسب وضع هذا الكتاب، فراجع.

و قوله: «فوسخ» في الجواهر: «قوسيخ» و في حاشية المكاسب للسيد «ترشيج» «2»، و لعلّه الأصح. و يراد به «كاشمر» الفعلي.

الخامسة: و أما ما ذكره الشيخ الأعظم من أصالة عدم التملك فنقول:

إن كان الشك في أصل التملك فبأصالة عدم التملك تدخل الأرض في أرض لا ربّ لها، و قد عدّ هذا العنوان من الأنفال، كما في خبر أبي بصير، عن أبي جعفر «ع» المروي في المستدرك من كتاب عاصم بن حميد. «3»

و أما إن علم التملك إجمالا و شك في كونها للمسلمين أو للأشخاص فالأصلان يتعارضان، و تصير الأرض من مصاديق مجهول المالك، و مصرفه التصدق به، و اختيارها إلى الإمام. و لو أريد بالتصدق في مجهول المالك معناه الأعم، بحيث يشمل الصرف في المصارف الثمانية التي منها سبل الخير كما لعلّه المستفاد من آية مصرف الصدقات، فلا يبقى إشكال في البين، إذ الصرف في المصالح العامة صرف في مصرف مشترك، و إلّا فالأحوط إعطاؤه لفقير يقوم ببعض المصالح العامة.

و مقتضى صحيحة الكابلي و غيرها كما يأتي أن للإمام تقبيل الأنفال و ضرب الطسق عليها أيضا.

و لعلّ المستفاد مما دلّ على تنفيذ الأئمة «ع» لأعمال

الجائر بالنسبة إلى شيعتهم المبتلاة بهم تسهيلا لهم و إجازة أن يعامل معهم في هذا السنخ من الأمور معاملة

______________________________

(1)- كفاية الأحكام/ 76.

(2)- الجواهر 21/ 167؛ و حاشية المكاسب/ 53.

(3)- مستدرك الوسائل 1/ 553، الباب 1 من أبواب الأنفال ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 246

الإمام العادل هو جواز ما يعطونه للشيعة من خراج هذه الأراضي أيضا، كما أجازوا التصرف فيما يأخذونه من الخراج و المقاسمة و الزكوات، فتدبّر.

السادسة: في مكاسب الشيخ الأعظم أيضا:

«ثم إنه يثبت الحياة حال الفتح بما كان يثبت به الفتح عنوة. و مع الشك فيها فالأصل العدم و إن وجدناها الآن محياة لأصالة عدمها حال الفتح، فيشكل الأمر في كثير من محياة أراضي البلاد المفتوحة عنوة. نعم، ما وجد منها في يد مدع للملكية حكم بها له. أما إذا كانت بيد السلطان أو من أخذها منه فلا يحكم لأجلها بكونها خراجية، لأن يد السلطان عادية على الأراضي الخراجية أيضا.

و ما لا يد لمدعي الملكية عليها كان مرددا بين المسلمين و مالك خاص مردد بين الإمام لكونها تركة من لا وارث له و بين غيره، فيجب مراجعة حاكم الشرع في أمرها. و وظيفة الحاكم في الأجرة المأخوذة منها إما القرعة و إما صرفها في مصرف مشترك بين الكل، كفقير يستحق الإنفاق من بيت المال لقيامه ببعض مصالح المسلمين.» «1»

أقول: ظاهر كلامه- قدّس سرّه- أن ميراث من لا وارث له يكون لشخص الإمام، مع أنه من الأنفال كما دلّت عليه أخبار مستفيضة، و الأنفال للإمام بما أنه إمام لا لشخصه، و إن شئت قلت: إنها أموال عامة و إنما الإمام وليّ أمرها فله التصرف فيها بما رآه صلاحا، و سيأتي

تحقيقه في محله.

السابعة: و فيه أيضا:

«ثم اعلم أن ظاهر الأخبار تملك المسلمين لجميع أرض العراق المسمى بأرض السواد، من غير تقييد بالعامر، فينزل على أن كلها كانت عامرة حال الفتح ...

______________________________

(1)- المكاسب/ 78، (ط. أخرى 5/ 362).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 247

فما قيل من أن البلاد المحدثة بالعراق، مثل البغداد و الكوفة و الحلّة و المشاهد المشرفة إسلامية بناها المسلمون و لم تفتح عنوة و لم يثبت أن أرضها يملكها المسلمون بالاستغنام، و التي فتحت عنوة و أخذت من الكفار قهرا قد انهدمت، لا يخلو عن نظر، لأن المفتوحة عنوة لا يختص بالأبنية حتى يقال إنها انهدمت. فإذا كانت البلاد المذكورة و ما يتعلق بها من قراها غير مفتوحة عنوة فأين أرض العراق المفتوحة عنوة المقدرة بستة و ثلاثين ألف ألف جريب؟ و أيضا من البعيد عادة أن يكون بلد المدائن على طرف العراق بحيث يكون الخارج منها مما يليه البلاد المذكورة مواتا غير معمورة وقت الفتح.» «1»

أقول: قد مر أن السواد كان يطلق عليها باعتبار أشجارها و نخيلها، و سواد العراق لا يدل على كون جميع الأرض سوادا و عامرة، فلعلّه من إضافة الجزء إلى الكل لا الصفة إلى الموصوف.

نعم، كون أراضي العراق أراضي سهلة واقعة بين النهرين العظيمين يوجب الحدس القوي بكون أكثرها محياة حال الفتح و لو بالزراعة، فإن الاحياء لا يختص بإحداث الأبنية.

و احتمال كون جميع المشاهد المشرفة و البلاد المبتلى بها في أعصارنا محدثة في الموات حال الفتح بعيد جدا. فهذا أمر واضح ظاهر. و لكن تأييد الشيخ- قدّس سرّه- ذلك بالمساحة التي نقلها أمر غريب، فإن مساحة العراق أزيد من ذلك بكثير:

ففي الجغرافية المطبوعة أخيرا

المسمّاة: «گيتاشناسي» أن مساحتها:

438446 كم. «2» و هكذا حكي عن جغرافية العراق.

و في أعلام المنجد: 448742 كم «3». فلو جعلنا الجريب ألف مترا كما هو

______________________________

(1)- المكاسب/ 78، (ط. أخرى 5/ 364 و 367).

(2)- گيتاشناسي/ 202 (من الطبعة الرابعة بالفارسية).

(3)- المنجد في الأعلام/ 458.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 248

المعروف صارت مساحتها على الأول: 438446000 جريبا، و على الثاني:

448742000 جريبا.

فلعل المساحة المنقولة كانت لخصوص الأراضي المجاورة منها لأرض الحجاز المفتوحة بدوا. نعم، العراق الفعلي شاملة لبلاد الكرد أيضا.

و كيف كان فاحتمال خروج البلاد المعمورة فعلا عما كانت محياة حال الفتح بعيد جدا، و لكن في كتاب البيع للأستاذ الإمام- مدّ ظلّه-:

«فعلى ما ذكر تكون أرض الأعتاب المقدسة و سائر ما حدثت فيه العمارة في عصر الخلفاء و من بعدهم باقية تحت الأصل الذي قدمناه من كونها للإمام «ع» و أن من أحياها فهي له فلا يبقى إشكال فيها. و توهم العلم الإجمالي بأن كثيرا من أرض العراق كانت محياة فلا بد من الاحتراز عن الجميع مدفوع بأن كثيرا من البلاد معلوم حياتها في عصر الفتح تفصيلا، و هي التي كانت في صدر الإسلام معروفة مذكورة في جميع الكتب و التواريخ، و ليس لنا علم زائد على ما ذكر. هذا مع الغضّ عن عدم منجزية العلم الإجمالي فيما إذا كان بعض الأطراف خارجا عن محل الابتلاء ...» «1»

أقول: و قد ظهر بما ذكرنا ما فيه، فلا نعيد. هذا.

و هنا فروع أخر في مسألة الأراضي المفتوحة عنوة نحيلها إلى الكتب الموسوعة و يأتي الإشارة إلى بعضها في مبحث الأنفال. و قد خرجنا في هذه المسألة عن طور الاختصار المناسب لهذا الكتاب، فمن

القرّاء الكرام أعتذر.

______________________________

(1)- كتاب البيع 3/ 76.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 249

الجهة السابعة: في الأسارى:

قال الراغب في المفردات:

«الأسر: الشدّ بالقيد، من قولهم: أسرت القتب. و سمّي الأسير بذلك، ثم قيل لكل مأخوذ و مقيد و إن لم يكن مشدودا ذلك، و قيل في جمعه اسارى و أسارى و اسرى.» «1»

[الإسلام و الاسترقاق]

و قد كانت الأسارى في جميع البلدان و الأعصار مما يرغب فيها المقاتلون كثيرا و يعدونها من أوفر الغنائم و أنفعها. بل ربما كانت القبائل يشنّون الإغارات كثيرا لأخذ الأسارى و استعبادهم و يهاجمون على الضعفاء و يسترقّونهم لتوفير الأموال و الثروات. و قد استمرت هذه الخصلة السيئة الظالمة إلى قرب أعصارنا، فكان المتمكنون من الغربيين يهاجمون على قبائل السود في إفريقيا بخشونة و قسوة و يسترقّونهم للبيع في الأسواق أو الاستخدام في المزارع و المصانع.

و لكن نظر الشريعة الإسلامية بالنسبة إلى الحروب و الغنائم و الأسارى نظر آخر يباين هذه الطريقة المشؤومة بالكلية، فليس بناء الجهاد الإسلامي على أساس أن يسمح للمسلمين الاستبداد بالتغلب على الأناسي و البلدان بداع الاستغنام و الاستعباد.

نعم، فرض الإسلام على متابعيه السعي في بسط التوحيد و العدالة و الدفاع عن الحق و الإنسانية. و إذا فرض أن وقفت أمام هذا الهدف الصالح المهم سلطات كافرة أو ظالمة اتخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا أوجب حينئذ على المسلمين أن

______________________________

(1)- المفردات/ 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 250

يجاهدوا في سبيل اللّه و يدافعوا عن الحق تحت لواء النبي «ص» أو الإمام العادل.

و أوّل حدود الجهاد على ما عن أبي جعفر «ع»: «الدعاء إلى طاعة اللّه من طاعة العباد، و إلى عبادة اللّه من عبادة العباد، و إلى ولاية اللّه من ولاية العباد ... و ليس الدعاء من طاعة عبد إلى طاعة

عبد مثله.» «1»

فشرع الجهاد للدعاء إلى طاعة اللّه، و فرض أن يكون تحت إشراف النبي «ص» أو الإمام العادل الصالح، لئلا يتخطى المقاتلون عن موازين الشرع و الأهداف الأساسية.

نعم، الغنائم و الأسارى نتائج طبيعية قهرية للحروب و الغزوات، و لكنها أيضا جعلت تحت اختيار الإمام، فله أن يصرف جميع الغنائم في نوائب المسلمين و لا يقسم منها شيئا بين المقاتلين كما مرّ بالتفصيل، و له أيضا أن يطلق الأسارى إن رآه صلاحا كما صنع رسول اللّه «ص» في فتح مكة و حنين. فليس تقسيم الغنائم و الأسارى حكما إلزاميا.

و لو قسمت الأسارى فلا يراد به إلّا هضم بقيّة السيف من الفئة الكافرة المعاندة و ذراريهم و نسائهم في خلال بيوتات الإسلام ليتعلموا بالتدريج موازين الإسلام و يكتسبوا جنسية إسلامية، و لئلا يتمكنوا من التجمع و التشكل ثانيا ضد الإسلام و الحق.

ثم بعد ذلك شرع الإسلام طرقا عديدة لتحريرهم، و حكم بالإعتاق أو الانعتاق القهري في موارد كثيرة بعد ما حصل لهم بالطبع الانعطاف و التربية الإسلامية و انصبغوا بصبغته.

و قد أمر اللّه- تعالى- نبيّه باستمالتهم و تسليتهم، فقال: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ، قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرىٰ إِنْ يَعْلَمِ اللّٰهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمّٰا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللّٰهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» «2» و أوصى النبي «ص» و الأئمة «ع» بحسن معاشرتهم و السعي في إعتاقهم.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 7، الباب 1 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 70.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 251

و قد أعتق أمير المؤمنين «ع» ألف مملوك من كد يده. «1»

فهذا ما شرعه الشريعة الإسلامية في الأسارى. و هذا

أمر يحكم بحسنه العقل و الفطرة. و المعيار في هذه الأمور أحكام الإسلام و موازينه المقررة في الكتاب و السنة، لا ما كان يصنعه الملوك و الطواغيت المنتحلة به في الأعصار المختلفة باسم الإسلام.

و لأجل ذلك كله لم يشرع الأسر إلّا في حق النساء و الأطفال، حيث لا قتال لها و يغلب على طباعها الانهضام في المجتمع قهرا. و لم يجز عندنا أسر الرجال الكبار من الكفّار المقاتلين و إبقاؤهم بالمن أو الفداء إلّا بعد ما غلب المسلمون، و صارت الفئة الكافرة المقاتلة مقهورة مثخنة، بحيث ارتفع خطر تجمعهم و هجمتهم ثانيا.

قال اللّه- تعالى- في سورة الأنفال: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ، تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «2»

و قال في سورة محمد «ص»: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا. الآية.» «3»

فيظهر من الآيتين الشريفتين منع إبقاء الأسير من الكفّار المقاتلين حيا بالمنّ أو الفداء إلّا بعد إثخانهم، و المراد به إكثار القتل و الجرح فيهم بحيث لا يقدرون ثانيا على النهوض و التهاجم.

قال في المفردات:

«يقال: ثخن الشي ء فهو ثخين: إذا غلظ فلم يسل و لم يستمرّ في ذهابه. و منه استعير قولهم: أثخنته ضربا و استخفافا.» «4»

______________________________

(1)- راجع الوسائل 16/ 4، الباب 1 من أبواب كتاب العتق، الحديث 6.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 67.

(3)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 4.

(4)- المفردات/ 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 252

و آية سورة الأنفال على ما قالوا يرتبط بقصة البدر. و يظهر من الأخبار و السير

أن أصحاب النبي «ص» اختلف أنظارهم في قتل أسارى بدر أو أخذ الفداء منهم، و النبي «ص» كان يكره أخذ الفداء:

ففي سورة الأنفال من تفسير علي بن إبراهيم:

«فلما قتل رسول اللّه «ص» النضر و عقبة خافت الأنصار أن يقتل الأسارى كلهم فقاموا إلى رسول اللّه «ص» فقالوا: يا رسول اللّه، قد قتلنا سبعين و أسرنا سبعين و هم قومك و أساراك، هبهم لنا يا رسول اللّه و خذ منهم الفداء و أطلقهم ...» «1»

و في كنز العرفان:

«روي ان النبي «ص» كان يكره أخذ الفداء، و لما رأى سعد بن معاذ كراهته في وجهه قال: يا رسول اللّه، هذا أول حرب لقينا فيه المشركين أردت أن تثخن فيهم القتل حتى لا يطمع أحد منهم في خلافك و قتالك، فقال: كرهت ما كرهت، و لكن رأيت ما صنع القوم.

و استدل جماعة من مخالفينا كأحمد بن حنبل و غيره بهذه القصة على جواز الاجتهاد على النبي «ص» فإن أخذ الفداء لم يكن بالوحي و إلّا لما أنكره اللّه. و الجواب: جاز أنه كان مخيرا بين القتل و الفداء، و كان القتل أولى و العتاب على تركه.» «2» هذا.

و كيف كان فنساء الكفّار و صبيانهم لا تقتل بلا خلاف و لا إشكال، بل تسبى و يكون حكمها حكم الغنائم التي تنقل: يقسمها الإمام بعد التخميس. نعم، لو أقدمن على القتال جاز قتالهن

و أما الرجال المقاتلون منهم إذا أسروا فقد فصل فيهم فقهاؤنا بين ما إذا أسروا و الحرب قائمة و بين ما إذا أسروا بعد ما وضعت الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا. و فتاوى فقهاء السنة خالية من هذا التفصيل. نعم، لهم خلاف في حكم الأسارى البالغين.

______________________________

(1)- تفسير علي بن إبراهيم

(القميّ)/ 247 (ط. أخرى 1/ 270).

(2)- كنز العرفان 1/ 368.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 253

فهنا مسألتان:
المسألة الأولى: في حكم النساء و الذراريّ:
[كلمات الفقهاء]

1- قال الشيخ في جهاد المبسوط:

«الآدميّون على ثلاثة أضرب: نساء و ذرّيّة، و مشكل، و بالغ غير مشكل. فأما النساء و الذرية فإنهم يصيرون مماليك بنفس السبي. و أما من أشكل بلوغه فإن كان أنبت الشعر الخشن حول الذكر حكم ببلوغه، و إن لم ينبت ذلك جعل في جملة الذرية لأن سعدا حكم في بني قريظة بهذا فأجازه النبي «ص».» «1»

2- و قال المحقق في الشرائع:

«الطرف الرابع في الأسارى. و هم ذكور و إناث. فالإناث يملكن بالسبي و لو كانت الحرب قائمة. و كذا الذراريّ. و لو اشتبه الطفل بالبالغ اعتبر بالإنبات، فمن لم ينبت و جهل سنه ألحق بالذراريّ.» «2»

أقول: و في إيجاب الاعتبار بالإنبات إشعار بوجوب الفحص في الشبهات الموضوعية حتى مع جريان الاستصحاب. نعم، لا إشكال في عدم الوجوب في باب الطهارة و النجاسة، كما حقق في محله.

3- و فيه أيضا:

«و أما النساء و الذراريّ فمن جملة الغنائم. و يختص بهم الغانمون، و فيهم الخمس لمستحقه.» «3»

4- و في الجواهر في شرح العبارة الأولى في ذيل قول المصنف: «و كذا الذراريّ» قال:

«أي غير البالغين، بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك كما اعترف به في المنتهى،

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 19.

(2)- الشرائع 1/ 317 (ط. أخرى/ 241).

(3)- الشرائع 1/ 322 (ط. أخرى/ 245).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 254

بل عن الغنية و التذكرة الإجماع عليه. و هو الحجة مع ما أرسله في المنتهى من أن النبي «ص» نهى عن قتل النساء و الولدان، و كان يسترقّهم إذا سباهم.

نعم،

يعتبر في التملك تحقق صدق السبي و القهر لأصالة عدمه مع عدمهما، فلا يكفي مجرد النظر، و لا وضع اليد و لا غير ذلك مما لا يتحقق معه صدقهما. نعم، لا يعتبر استمرار القهر، فيبقى على الملك لو هرب، كالصيد الذي ما نحن فيه نحوه بعد أن أباح الشارع تملكهم بذلك. بل الظاهر عدم اعتبار نيّة التملك بعد الاستيلاء على الوجه المزبور، كما قلناه في حيازة المباح ...» «1»

5- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«و جملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب: أحدها: النساء و الصبيان، فلا يجوز قتلهم و يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي، لأن النبي «ص» نهى عن قتل النساء و الولدان. متفق عليه. و كان «ع» يسترقهم إذا سباهم.» «2»

و أما أخبار المسألة:

1- فعن الكليني بسند صحيح، عن معاوية بن عمّار، قال: أظنه عن أبي حمزة الثمالي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان رسول اللّه «ص» إذا أراد أن يبعث سريّة دعاهم فأجلسهم بين يديه ثم يقول: سيروا باسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملة رسول اللّه، لا تغلوا و لا تمثلوا و لا تغدروا، و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيا و لا امرأة، و لا تقطعوا شجرا إلّا أن تضطروا إليها. الحديث.» «3»

2- و في فروع الكافي بسند لا بأس به، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «كان رسول اللّه «ص» إذا بعث سريّة دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه و أجلس أصحابه بين يديه ثم قال:

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 120.

(2)- المغني 10/ 400.

(3)- الوسائل 11/ 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2، عن الكافي 5/ 27.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 3، ص: 255

سيروا باسم اللّه و باللّه و في سبيل اللّه و على ملة رسول اللّه «ص». لا تغدروا و لا تغلوا، و لا تمثلوا، و لا تقطعوا شجرة إلّا أن تضطروا إليها، و لا تقتلوا شيخا فانيا و لا صبيا و لا امرأة. الحديث.» «1»

و رواه الشيخ أيضا في التهذيب. «2»

3- و في دعائم الإسلام: «روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي «ع» أن رسول اللّه «ص» كان إذا بعث جيشا أو سريّة أوصى صاحبها بتقوى اللّه ... و قال:

اغزوا باسم اللّه و في سبيل اللّه ... و لا تقتلوا وليدا و لا شيخا كبيرا و لا امرأة- يعني: إذا لم يقاتلوكم-، و لا تمثلوا و لا تغلوا و لا تغدروا.» «3»

و رواه عنه في المستدرك. «4»

4- و في الوسائل بسنده، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه «ع» أن النبي «ص» قال: «اقتلوا المشركين، و استحيوا شيوخهم و صبيانهم.» «5»

5- و فيه أيضا بسنده، عن حفص بن غياث أنه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن و رفعت عنهن؟ قال: فقال: «لأن رسول اللّه «ص» نهى عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب إلّا أن يقاتلن، فإن قاتلن أيضا فأمسك عنها ما أمكنك و لم تخف خللا. الحديث.» «6»

6- و فيه أيضا بسنده، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال: «ان رسول اللّه «ص» عرضهم يومئذ على العانات، فمن وجده أنبت قتله، و من لم يجده أنبت ألحقه بالذراريّ.» «7»

______________________________

(1)- الكافي 5/ 30، كتاب الجهاد، باب وصيّة رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» في السرايا، الحديث 9.

(2)- تهذيب

الأحكام 6/ 139، كتاب الجهاد، باب ما ينبغي لوالي الإمام أن يفعله ...، الحديث 3.

(3)- دعائم الإسلام 1/ 369، كتاب الجهاد- ذكر الأفعال الّتي ينبغي فعلها قبل القتال.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 249، الباب 14 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(5)- الوسائل 11/ 48، الباب 18 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(6)- الوسائل 11/ 47، الباب 18 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(7)- الوسائل 11/ 112، الباب 65 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 256

7- و في دعائم الإسلام: «روينا عن جعفر بن محمد «ع» أن بني قريظة نزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ، فأمر رسول اللّه «ص» بأن يحكم سعد، فحكم بأن تقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريّهم، فقال رسول اللّه «ص» لسعد: لقد حكمت بحكم اللّه- تعالى- من فوق سبعة أرقعة.» «1»

أقول: في المنجد:

«الرقيع: السماء عموما، أو السماء الأولى في عرف الأقدمين.» «2»

8- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر: «أن يهود بني النضير و قريظة حاربوا رسول اللّه «ص» فأجلى رسول اللّه «ص» بني النضير، و أقرّ قريظة و منّ عليهم حتى حاربت قريظة بعد ذلك فقتل رجالهم و قسم نساءهم و أولادهم و أموالهم بين المسلمين إلّا بعضهم لحقوا برسول اللّه «ص» فأمنهم و أسلموا. الحديث.» «3»

9- و فيه أيضا بسنده، عن عامر بن سعد، عن أبيه أن سعد بن معاذ حكم على بني قريظة أن يقتل منهم كل من جرت عليه الموسى و أن تقسم أموالهم و ذراريّهم.

فذكر ذلك لرسول اللّه «ص» فقال: «لقد حكم اليوم فيهم بحكم اللّه الذي حكم به من فوق سبع سماوات.» «4»

10- و فيه

أيضا بسنده، عن أبي سعيد الخدري، و فيه عن سعد بن معاذ أنه قال: فإني أحكم فيهم أن يقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريّهم. قال: فقال رسول اللّه «ص»: «حكمت بحكم الملك.» و ربما قال: «حكمت بحكم اللّه.» «5»

11- و فيه أيضا بسنده عن عطية القرظي، قال: «كنت فيمن حكم فيهم

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 377، كتاب الجهاد- ذكر الحكم في الأسارى.

(2)- المنجد/ 275.

(3)- سنن البيهقي 6/ 323، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في قتل من رأى الإمام منهم.

(4)- سنن البيهقي 6/ 323، كتاب السير، باب ما يفعله بذراريّ من ظهر عليه.

(5)- سنن البيهقي 9/ 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراريّ من ظهر عليه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 257

سعد بن معاذ، فأمر رسول اللّه «ص» أن يقتل مقاتلتهم و تسبى ذراريّهم.» قال:

«فجاءوا بي و لا أراني إلا سيقتلونني، فكشفوا عانتي فوجدوها لم تنبت، فجعلوني في السبي.» «1»

12- و فيه أيضا بسنده، عن نافع أن عبد اللّه بن عمر أخبره: «أن امرأة وجدت في بعض مغازى رسول اللّه «ص» مقتولة، فانكر رسول اللّه «ص» قتل النساء و الصبيان.» «2» رواه عن البخاري و مسلم.

13- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عمر، قال: «وجدت امرأة مقتولة في بعض تلك المغازي، فنهى رسول اللّه «ص» عن قتل النساء و الصبيان.» «3» رواه أيضا عنهما.

14- و فيه أيضا بسنده، عن الأسود بن سريع، قال: أتيت رسول اللّه «ص» فغزوت معه، فأصبنا ظفرا فقتل الناس يومئذ حتى قتلوا الذريّة، فبلغ ذلك رسول اللّه «ص» فقال: «ما بال أقوام جاوز بهم القتل حتى قتلوا الذريّة؟» فقال رجل:

يا رسول اللّه، إنما هي (هم

خ. ل) أبناء المشركين. قال: «ألا إن خياركم أبناء المشركين.» ثم قال: «لا تقتلوا الذريّة.» قالها ثلاثا و قال: «كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها و ينصرانها.» «4»

15- و فيه أيضا بسنده، عن ابن كعب بن مالك، عن عمه أن النبي «ص» لما بعث إلى ابن أبي الحقيق نهى عن قتل النساء و الولدان. «5»

16- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: أخبرني الصعب بن جثامة أنه

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراريّ من ظهر عليه.

(2)- سنن البيهقي 9/ 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء و الولدان بالقتل.

(3)- سنن البيهقي 9/ 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء و الولدان بالقتل.

(4)- سنن البيهقي 9/ 77، كتاب السير، باب النهي عن قصد النساء و الولدان بالقتل.

(5)- سنن البيهقي 9/ 78، كتاب السير، باب قتل النساء و الصبيان في التبييت ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 258

سمع النبي «ص» يسأل عن أهل الدار من المشركين يبيّتون فيصاب من نسائهم و ذراريهم، فقال النبي «ص»: «هم منهم.» و زاد عمرو بن دينار عن الزهري: «هم من آبائهم.» ...

قال الشافعي: فكان سفيان يذهب إلى أن قول النبي «ص»: «هم منهم» إباحة لقتلهم و أن حديث ابن أبي الحقيق ناسخ له. قال (أبو عبد اللّه): و كان الزهري إذا حديث بحديث الصعب بن جثامة أتبعه حديث ابن كعب بن مالك. «1»

أقول: المستفاد من حديث التبييت هو أن الضرورة في الحرب إن أدّت إلى التبييت جاز الإقدام عليه و إن استلزم تلف بعض النساء و الولدان قهرا، فلا يدل على جواز التعمد

لقتلهن.

المسألة الثانية: في حكم الأسارى البالغين من الكفّار:
[الفرق بين ما إذا كانت الحرب قائمة و بين غيره]

و قد مرّ أن فقهاءنا الإمامية فرّقوا فيها بين ما إذا كانت الحرب قائمة و بين غيره:

1- قال اللّه- تعالى- في سورة الأنفال: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيٰا وَ اللّٰهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «2»

2- و قال في سورة محمد: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا.» «3»

فظاهر الآيتين عدم جواز إبقاء من أسر قبل إثخان العدوّ.

3- و في المجمع في تفسير الآية الثانية قال:

«و اختلف في ذلك: فقيل: كان الأسر محرما بآية الأنفال ثم أبيح بهذه الآية، لأن هذه السورة نزلت بعدها. فإذا أسروا فالإمام مخيّر بين المنّ و الفداء بأسارى المسلمين و بالمال و بين القتل و الاستعباد، و هو قول الشافعي و أبي يوسف و محمد بن إسحاق.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 78، كتاب السير، باب قتل النساء و الصبيان في التبييت ...

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 67.

(3)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 259

و قيل: إن الإمام مخير بين المنّ و الفداء و الاستعباد و ليس له القتل بعد الأسر، عن الحسن. و كأنه جعل في الآية تقديما و تأخيرا، تقديره فضرب الرقاب حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، ثم قال: حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً.

و قيل: إن حكم الآية منسوخ بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ»، «1» و بقوله:

«فَإِمّٰا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ.» «2» عن قتادة و السدّي و ابن جريج.

و قال ابن عباس و الضحاك: الفداء منسوخ.

و قيل: إن حكم الآية ثابت

غير منسوخ، عن ابن عمر و الحسن و عطاء. قالوا: لأن النبي «ص» منّ على أبي عزة، و قتل عقبة بن أبي معيط، و فادى اسارى بدر.

و المروي عن أئمة الهدى «ص» أن الاسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال و الحرب قائمة، فهؤلاء يكون الإمام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتى ينزفوا، و لا يجوز المنّ و لا الفداء. و الضرب الآخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال، فالإمام مخير فيهم بين المنّ و الفداء إما بالمال أو بالنفس و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب. فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين. «حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا»، أي حتى يضع أهل الحرب أسلحتهم فلا يقاتلون. و قيل: حتى لا يبقى أحد من المشركين، عن ابن عباس. و قيل: حتى لا يبقى دين غير دين الإسلام، عن مجاهد ...» «3»

أقول: حكمه بجواز ضرب الرقاب فيمن أخذ بعد انقضاء القتال مخالف لما هو المشهور بيننا، كما سيأتي.

4- و قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 17):

» الأسير على ضربين: ضرب يؤسر قبل أن تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فالإمام مخير فيه

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 5.

(2)- سورة الأنفال (8)، الآية 57.

(3)- مجمع البيان 5/ 97 (الجزء 9).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 260

بين شيئين: إما أن قتله، أو يقطع يديه و رجليه و يتركه حتى ينزف. و أسير يؤخذ بعد أن تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا، فهو مخير بين ثلاثة أشياء: المنّ و الاسترقاق و المفاداة.

و قال الشافعي: هو مخير بين أربعة أشياء: القتل و المنّ و

المفاداة و الاسترقاق، و لم يفصل.

و قال أبو حنيفة: هو مخير بين القتل و الاسترقاق، دون المنّ و المفاداة.

و قال أبو يوسف و محمد: هو مخير بين القتل و الاسترقاق و المفاداة على الرجال دون الأموال. و أجمعوا كلهم على أن المفاداة على الأموال لا تجوز، أعني أهل العراق.

دليلنا: إجماع الفرقة و أخبارهم، و قد ذكرناها في الكتاب الكبير. و يدل على جواز المنّ قوله- تعالى-: «فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ، فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا.» و من ادعى نسخ هذه الآية فعليه الدلالة.

و روى الزهري، عن جبير بن مطعم، عن أبيه (محمد بن جبير، عن أبيه- البخاري)، عن النبي «ص» قال في اسارى بدر: «لو كان مطعم بن عدي حيّا و كلّمني في هؤلاء السبي لأطلقتهم.» و في هؤلاء النتنى لتركتهم له- البخاري.) فأخبر أنه لو كان مطعم حيّا لمنّ عليهم، لأنه كان له عنده يد لو سأله في أمرهم فأطلقهم.

فدلّ على جواز المنّ.

و روى أبو هريرة: أن النبي «ص» بعث سرية قبل نجد، فأسروا رجلا يقال له ثمامة بن أثال الحنفي سيد يمامة فأتوا به و شدّوه إلى سارية من سواري المسجد، فمرّ به النبي «ص» فقال: ما عندك؟ يا ثمامة! فقال: خير، إن قتلت قتلت ذا رحم (ذا دم خ. ل) و إن مننت مننت (و إن أنعمت أنعمت خ. ل) على شاكر، و إن أردت مالا فاسأل تعط ما شئت. فتركه و لم يقل شيئا. فمرّ به اليوم الثاني فقال له مثل ذلك، فمرّ به اليوم الثالث فقال له مثل ذلك و لم يقل النبيّ «ص» شيئا، ثم قال:

أطلقوا ثمامة. فأطلقوه فمرّ و اغتسل

و جاء فأسلم، و كتب إلى قومه فجاءوا مسلمين.

و هذا نص في جواز المنّ، لأنه أطلقه من غير شي ء.

و روي أن أبا عزة الجهني (الجمحي خ. ل) وقع في الأسر يوم بدر، فقال: يا محمد،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 261

إني ذو عيلة فامنن علي، فمنّ عليه على أن لا يعود إلى القتال. فمرّ إلى مكة فقال:

إني سخرت بمحمد. و عاد إلى القتال يوم أحد، فدعا رسول اللّه «ص» أن لا يفلت، فوقع في الأسر، فقال: إني ذو عيلة فامنن علي، فقال النبي «ص»: أمنّ عليك حتى ترجع إلى مكة فتقول في نادي قريش: إني سخرت بمحمد مرتين؟ لا يلسع المؤمن من جحر مرتين، فقتله «ص» بيده. و هذا نص في جواز المنّ.

و أما الدليل على جواز المفاداة بالرجال ما رواه أبو قلابة، عن أبي المهلب، عن عمران بن الحصين: أن النبي «ص» فادى رجلا برجلين.

و أما الدليل على جواز المفاداة بالمال ما فعله النبي «ص» يوم بدر؛ فإنه فادى جماعة من كفار قريش بمال. و القصة مشهورة. قيل: إنه فادى كل رجل بأربعمائة، و قال ابن عباس بأربعة آلاف، و فيهم نزل قوله- تعالى-: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ- إلى قوله- عَذٰابٌ عَظِيمٌ.» و روي أن أبا العاص زوج زينب بنت رسول اللّه «ص» كان ممن وقع في الأسر، و كانت هي بمكة فأنفذت مالا له لتفكّه من الأسر، و كانت فيه قلادة كانت لخديجة أدخلت بها زينب على أبي العاص، فلما رآها رسول اللّه «ص» عرفها، فرق لها رقة شديدة، فقال: لو خليتم أسيرها و رددتم مالها. قالوا: نعم: ففعلوا ذلك. و

هذا نصّ، لأنهم فادوه بالمال ثم منّوا عليه بردّ المال عليه.» «1»

أقول: راجع للروايات التي ذكرها الشيخ في هذه المسألة سنن البيهقي. «2»

5- و في صحيح البخاري بسنده، عن الزهري، عن محمد بن جبير، عن أبيه أن النبي «ص» قال في أسارى بدر: «لو كان المطعم بن عدي حيّا ثم كلّمني في هؤلاء النتنى لتركتهم له.» «3»

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 332.

(2)- سنن البيهقي 6/ 319 و ما بعدها، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في منّ الإمام ...، و باب ما جاء في مفاداة رجال منهم بالمال.

(3)- صحيح البخاري 2/ 196، كتاب الجهاد، باب ما منّ النبيّ «ص» على الأسارى من غير أن يخمس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 262

6- و في نهاية الشيخ:

«و الأسارى على ضربين: ضرب منهم هو كل أسير أخذ قبل أن تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا و ينقضي القتال، فإنه لا يجوز للإمام استبقاؤهم، و يكون مخيرا بين أن يضرب رقابهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم و يتركهم حتى ينزفوا و يموتوا. و الضرب الآخر هو كل أسير أخذ بعد أن وضع الحرب أوزارها، فإنه يكون الإمام فيه مخيرا: إن شاء منّ عليه فأطلقه، و إن شاء استعبده، و إن شاء فاداه.» «1»

7- و في المبسوط بعد العبارة التي حكيناها عنه في المسألة السابقة قال:

«و أما من لم يشكل أمر بلوغه فإن كان أسر قبل تقضي القتال فالإمام فيه بالخيار بين القتل و قطع الأيدي و الأرجل و يتركهم حتى ينزفوا، إلّا أن يسلموا فيسقط ذلك عنهم.

و إن كان الأسر بعد انقضاء الحرب كان الإمام مخيرا بين الفداء و المنّ و الاسترقاق، و ليس له قتلهم، أيّ

هذه الثلاثة رأى صلاحا و حظّا للمسلمين فعله.

و إن أسلموا لم يسقط عنهم هذه الأحكام الثلاثة، و إنما يسقط عنهم القتل لا غير. و قد قيل: إنه إن أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الأسر ففاداه النبي «ص» و لم يسرقه ...

و إن أسر الرجل بالغ فإن كان من أهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب فالإمام مخير فيه على ما مضى بين الثلاثة أشياء، و إن كان من عبدة الأوثان فإن الإمام مخير فيه بين المفاداة و المنّ، و سقط الاسترقاق. لأنّه لا يقرّ على دينه بالجزية كالمرتدّ.» «2»

أقول: التفصيل الأخير لم يكن في الخلاف و النهاية، و لا دليل عليه أيضا. و عدم الجزية لا يستلزم عدم الاسترقاق، كما ترى انفكاكهما في النساء و الولدان.

8- و في الشرائع:

«و الذكور البالغون يتعين عليهم القتل إن كانت الحرب قائمة ما لم يسلوا، و الإمام

______________________________

(1)- النهاية/ 296.

(2)- المبسوط 2/ 20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 263

مخير: إن شاء ضرب أعناقهم، و إن شاء قطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و تركهم ينزفون حتى يموتوا. و إن أسروا بعد تقضي الحرب لم يقتلوا و كان الإمام مخيرا بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و لو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم.» «1»

و بالجملة، لا خلاف بيننا في القسم الأولى في تعين القتل و حرمة الإبقاء.

و يساعده الاعتبار العقلي أيضا، لبقاء خطر انضوائه إلى جيش الكفار.

و في القسم الثاني أمره مفوض إلى الإمام، فيختار المنّ أو الفداء أو الاسترقاق حسب ما يراه صلاحا. و في المنتهى و التذكرة «2» نسب هذا إلى علمائنا أجمع. و المشهور بيننا عدم

جواز القتل في هذه الصورة و أفتى بعض أصحابنا بجوازه أيضا، كما أفتى به الشافعي و سيأتي. و صريح الكتاب العزيز يدلّ على جواز المنّ و الفداء، و لا دليل على نسخه و إن قيل. و إطلاق الفداء يعمّ الفداء بالمال و بالرجال، و يدلّ عليهما أيضا عمل النبي «ص» كما مرّ عن الخلاف. و لم يذكر الشيخ في الخلاف دليلا للاسترقاق.

و يدل على حكم المسألة

مضافا إلى ما مرّ:

1- ما رواه في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن محمد بن يحيى، عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: كان أبي «ع» يقول:

«إن للحرب حكمين: إذا كانت الحرب قائمة لم تضع أوزارها و لم يثخن أهلها فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار: إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف بغير حسم و تركه يتشحّط في دمه حتى يموت. و هو قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ، ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ عَظِيمٌ.» «3»

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 317 (ط. أخرى/ 242).

(2)- راجع المنتهى 2/ 927؛ و التذكرة 1/ 424.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 264

ألا ترى أن المخير الذي خير اللّه الإمام على شي ء واحد و هو الكفر، و ليس هو على أشياء مختلفة. فقلت لأبي عبد اللّه «ع»: قول اللّه- عزّ و جلّ-: أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ؟ قال: ذلك الطلب؛ أن

تطلبه الخيل حتى يهرب، فإن أخذته الخيل حكم عليه ببعض الأحكام التي وصفت لك.

و الحكم الآخر إذا وضعت الحرب أوزارها و أثخن أهلها، فكل أسير أخذ في تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار: إن شاء منّ عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا.»

و روى الشيخ أيضا بإسناده، عن طلحة بن زيد، عنه «ع» نحوه. «1»

و السند إلى طلحة صحيح، و طلحة و إن كان بتريا و لكن عمل برواياته الأصحاب، و قال الشيخ إن كتابه معتمد. «2»

و الحسم: الكيّ بعد قطع العرق لئلا يسيل دمه.

و قوله: «و هو الكفر»، قال في حاشية الكافي المطبوع:

«المراد بالكفر هاهنا: الإهلاك بحيث لا يرى أثره. قال في الصحاح: الكفر- بالفتح-: التغطية. و كفرت الشي ء- بالفتح- كفرا: إذا سترته. و روى الشيخ هذا الخبر بإسناده في التهذيب. و فيه مكان الكفر الكلّ باللام المشددة، و هو كما في القاموس: السيف.» «3»

و كيف كان فالحديث دليل على المسألة بشقّيها. و لا يضرّ بالاستدلال به عدم وضوح المراد بهذه الكلمة، كما لا يضر به الاستشهاد بآية المحاربة الشاملة بإطلاقها للمحارب المسلم و المشتملة على غير القتل أيضا على الظاهر.

2- و في الوسائل بإسناده، عن الزهري، عن علي بن الحسين «ع» في حديث قال: «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله و لا تقتله، فإنك لا تدري

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1، عن الكافي 5/ 32، و التهذيب 6/ 143.

(2)- راجع الفهرست/ 86 (ط. أخرى/ 112).

(3)- الكافي 5/ 32، كتاب الجهاد.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 265

ما

حكم الإمام فيه.» و قال: «الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه و صار فيئا.» «1»

ففي صدر الرواية إشعار بجواز القتل أيضا و لكن بحكم الإمام. و في الذيل دلالة على جواز الاسترقاق.

3- و روى البيهقي بسنده، عن ابن عباس في قوله: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»: «و ذلك يوم بدر، و المسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا و اشتد سلطانهم أنزل اللّه- تعالى- هذا في الأسارى: «فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً». فجعل اللّه النبي و المؤمنين بالخيار في أمر الأسارى: إن شاءوا قتلوهم، و إن شاءوا استعبدوهم، و إن شاءوا فادوهم.» «2»

بل لعل الاسترقاق هو الأصل في الأسير عند العرف و المتشرعة، و غيره من القتل أو المنّ أو الفداء يحتاج إلى دليل.

بل ربما ورد في بعض الأخبار جواز إجراء حكم الرقّ على ما سباه و سرقه بعض الظلمة من أولاد أهل الحرب، معللا بأنهم أخرجوهم بذلك من الشرك إلى دار الإسلام، يعني أنهم ينهضمون بالطبع في المجتمعات الإسلامية و يكتسبون جنسية إسلامية:

ففي صحيحة رفاعة النخّاس، قال: قلت لأبي الحسن «ع»: إن الروم يغيرون على الصقالبة فيسرقون أولادهم من الجواري و الغلمان فيعمدون إلى الغلمان فيخصونهم ثم يبعثون بهم إلى بغداد إلى التجار، فما ترى في شرائهم و نحن نعلم أنهم قد سرقوا و إنما أغاروا عليهم من غير حرب كانت بينهم؟ فقال: «لا بأس بشرائهم، إنما أخرجوهم من الشرك إلى دار الإسلام.» «3»

أقول: في حاشية الكافي:

«الصقالبة- بالصاد و السين- جيل من الناس حمر الألوان كانوا بين بلغر و قسطنطنية.»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- سنن البيهقي 6/ 324، كتاب قسم الفي ء

و الغنيمة، باب ما جاء في استعباد الأسير.

(3)- الكافي 5/ 210، كتاب المعيشة، باب شراء العقيق، الحديث 9؛ و في الوسائل 13/ 27.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 266

و ليس في الصحيحة إمضاء لسرقتهم و إخصائهم للغلمان، بل إمضاء للشراء منهم فقط، فتأمّل.

و في خبر اللحّام، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل يشتري من رجل من أهل الشرك ابنته فيتخذها (أمة خ. ل). قال: «لا بأس.» و في خبر آخر له قال:

سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل يشتري امرأة رجل من أهل الشرك يتخذها؟

قال: فقال: «لا بأس.» «1»

أقول: شراء المرأة يوجب التحاقها بدار الإسلام و اكتسابها بالتدريج جنسية إسلامية، و المفروض أن أباها أو زوجها قد أقدم على بيعها فجاز إلزامهم بما ألزموا به أنفسهم، و أهل الشرك لا حرمة لهم أصلا، و لأجل ذلك لم يجز ذلك في أهل الذمة كما في خبر زكريا بن آدم، قال: و سألته (الرضا «ع») عن أهل الذمة أصابهم جوع فأتاه رجل بولده فقال: هذا لك أطعمه و هو لك عبد، فقال «ع»: «لا تبتع حرّا، فإنه لا يصلح لك و لا من أهل الذمّة.» «2»

و كيف كان فأصحابنا الإمامية فصّلوا في الأسير البالغ بين من أسر قبل إثخان العدوّ، و من أسر بعده، فيتعيّن في الأول القتل أو تقطيع اليد و الرجل حتى يموت إلّا أن يسلم، و في الثاني يتخير الإمام بين ثلاث خصال أو أربع. و لا نرى لهذا التفصيل أثرا في كلمات فقهاء السنة، مع أن الآيتين الشريفتين ربما تشعران بذلك كما مرّ.

و قد مرّ عن الخلاف و المجمع ذكر أقوالهم، فلنذكر هنا كلام ابن قدّامة

الحنبلي أيضا و الماوردي تتميما للفائدة:

قال في المغني:

«و جملته أن من أسر من أهل الحرب على ثلاثة أضرب:

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 28، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان من كتاب التجارة، الحديث 2 و 3.

(2)- الوسائل 13/ 28، الباب 3 من أبواب بيع الحيوان، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 267

أحدها: النساء و الصبيان. فلا يجوز قتلهم، و يصيرون رقيقا للمسلمين بنفس السبي، لأن النبي «ص» نهى عن قتل النساء و الولدان. متفق عليه. و كان «ع» يسترقهم إذا سباهم.

الثاني: الرجال من أهل الكتاب و المجوس الذين يقرّون بالجزية. فيخيّر الإمام فيهم بين أربعة أشياء: القتل و المنّ بغير عوض و المفاداة بهم و استرقاقهم.

الثالث: الرجال من عبدة الأوثان و غيرهم ممن لا يقرّ بالجزية. فيتخير الإمام فيهم بين ثلاثة أشياء: القتل أو المنّ و المفاداة، و لا يجوز استرقاقهم. و عن أحمد جواز استرقاقهم، و هو مذهب الشافعي. و بما ذكرنا في أهل الكتاب قال الأوزاعي و الشافعي و أبو ثور. و عن مالك كمذهبنا. و عنه: لا يجوز المنّ بغير عوض لأنه لا مصلحة فيه، و إنما يجوز للإمام فعل ما فيه المصلحة.

و حكي عن الحسن و عطاء و سعيد بن جبير كراهة قتل الأسرى و قالوا لو منّ عليه أو فاداه. كما صنع بأسارى بدر. و لأن اللّه- تعالى- قال: «فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً»، فخير بين هذين بعد الأسر لا غير.

و قال أصحاب الرأي: إن شاء ضرب أعناقهم، و إن شاء استرقّهم لا غير، و لا يجوز منّ و لا فداء لأن اللّه- تعالى- قال: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» بعد قوله:

«فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ

وَ إِمّٰا فِدٰاءً.» و كان عمر بن عبد العزيز و عياض بن عقبة يقتلان الأسارى.

و لنا على جواز المنّ و الفداء قول اللّه- تعالى-: «فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً»، و أن النبي «ص» منّ على ثمامة بن أثال و أبي عزة الشاعر و أبي العاص بن الربيع، و قال في أسارى بدر: «لو كان مطعم بن عدي حيّا ثم سألني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له.»

وفادى أسارى بدر و كانوا ثلاثة و سبعين رجلا كلّ رجل منهم بأربعمائة، وفادى يوم بدر رجلا برجلين و صاحب العضباء برجلين.

و أما القتل فلأن النبي «ص» قتل رجال بني قريظة و هم بين الستمائة و السبعمائة، و قتل يوم بدر النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط صبرا، و قتل أبا عزة يوم أحد.

و هذه قصص عمّت و اشتهرت و فعلها النبي «ص» مرات و هو دليل على جوازها،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 268

و لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى ...» «1»

و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«فأما الأسرى فهم الرجال المقاتلون من الكفّار إذا ظفر المسلمون بأسرهم أحياء، فقد اختلف الفقهاء في حكمهم:

فذهب الشافعي إلى أن الإمام أو من استنابه الإمام عليهم في أمر الجهاد مخير فيهم إذا أقاموا على كفرهم في الأصلح من أحد أربعة أشياء: إما القتل، و إما الاسترقاق، و إما الفداء بمال أو أسرى، و إما المنّ عليهم بغير فداء. فإن أسلموا سقط القتل عنهم و كان على خياره في أحد الثلاثة.

و قال مالك: يكون مخيرا بين ثلاثة أشياء: القتل أو الاسترقاق أو المفاداة بالرجال دون المال، و ليس له المنّ.

و قال

أبو حنيفة: يكون مخيرا بين شيئين: القتل أو الاسترقاق، و ليس له المنّ و لا المفاداة بالمال ...» «2»

______________________________

(1)- المغني 10/ 400.

(2)- الأحكام السلطانية/ 131.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 269

و هاهنا أمور ينبغي التعرض لها إجمالا:
الأول: [حكم تعيين قتل الأسارى مختص بما إذا كان في إبقائهم محذور و خطر]

يمكن أن يقال: إن الحكم بتعين قتل الأسارى و الحرب قائمة مختص بما إذا كان في إبقائهم محذور و خطر تجمع و هجمة، كما كان الأمر كذلك في غزوات صدر الإسلام، حيث إن الإمكانيات كانت محدودة جدّا فكان يعسر عليهم حفظ الأسارى و الحرب قائمة، ففي كل وقت و ظرف كان الأمر كذلك تعين قتلهم لا محالة حذرا من الخطر المحتمل.

و يمكن أن يستفاد ذلك من قوله- تعالى-: «حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»، و قوله: «حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ»، حيث يظهر منهما أن الغرض إثخان العدوّ و إضعافه بحيث لا يقوى على التعرض و الهجمة.

فإذا فرض أن كان المسلمون أقوياء و كثرت إمكانياتهم لنقل الأسارى و حفظهم و لم يكن في قتلهم تقوية للمسلمين و إضعاف لعدوّهم فالآيات و الأخبار ربما تنصرف عنه فجاز إبقاؤهم بل ربما كان كثرة الأسارى موجبة لتسليم العدوّ و خضوعه و انعطافه.

و قد أشار إلى هذه النكتة الجصاص في أحكام القرآن، فقال في تفسير سورة محمد:

«إن اللّه- تعالى- أمر نبيّه «ص» بالإثخان بالقتل و حظر عليه الأسر إلّا بعد إذلال المشركين و قمعهم، و كان ذلك في وقت قلة عدد المسلمين و كثرة عدد عدوهم من المشركين، فمتى أثخن المشركون و أذلّوا بالقتل و التشريد جاز الاستبقاء، فالواجب أن يكون هذا حكما ثابتا إذا وجد مثل الحال التي كان عليها المسلمون في أول الإسلام.» «1»

______________________________

(1)- أحكام القرآن 3/ 481.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 3، ص: 270

و في تفسير المنار في تفسير آية الأنفال:

«فإذا التقى الجيشان فالواجب علينا بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى، لئلا يفضي ذلك إلى ضعفنا و رجحانهم علينا، إذا كان هذا القتل قبل أن نثخن في الأرض بالعزة و القوة التي ترهب أعداءنا، حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا و قتلا و تمّ لنا الرجحان عليهم فعلا، رجحنا الأسر المعبر عنه بشد الوثاق، لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية و جعل الحرب ضرورة تقدر بقدرها، لا ضراوة بسفك الدماء و لا تلذذا بالقهر و الانتقام.» «1»

و قد مرّ خبر البيهقي بسنده، عن ابن عباس في قوله- تعالى-: «مٰا كٰانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرىٰ حَتّٰى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ»، قال: «و ذلك يوم بدر و المسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا و اشتد سلطانهم أنزل اللّه- تعالى- هذا في الأسارى: «فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً»، فجعل اللّه النبي و المؤمنين بالخيار في أمر الأسارى إن شاءوا قتلوهم، و إن شاءوا استعبدوهم، و إن شاءوا فادوهم.» «2»

الثاني: [رواية طلحة تدلّ على تخيير الإمام]

قد أشرنا إلى أن المشهور بيننا في من أسر بعد إثخان العدوّ و تقضي القتال هو تخيير الإمام بين المنّ و الفداء و الاسترقاق. و يدل على ذلك رواية طلحة.

و صرح الأكثر بعدم جواز قتلهم حينئذ، و ادعى في مجمع البرهان عدم الخلاف فيه، بل ظاهر التذكرة و المنتهى الإجماع عليه.

و لكن صرح بعض أصحابنا بجواز القتل أيضا، كما أفتى به الشافعي، فيقع التخيير في أمور أربعة:

قال الشيخ في تفسير سورة محمد من التبيان:

«و الذي رواه أصحابنا أن الأسير إن أخذ قبل انقضاء الحرب ...

و إن كان أخذ بعد وضع الحرب أوزارها و انقضاء الحرب و القتال

كان مخيرا بين المنّ و المفاداة إما بالمال أو النفس، و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب. فإن أسلموا

______________________________

(1)- المنار 10/ 84.

(2)- سنن البيهقي 6/ 324، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في استعباد الأسير.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 271

في الحالين سقط جميع ذلك، و صار حكمه حكم المسلم.» «1»

و قد مر نحو ذلك عن المجمع أيضا و نسبه إلى المرويّ عن أئمة الهدى «ع» فراجع «2».

و قال القاضي ابن البراج في المهذب:

«إن شاء قتلهم، و إن شاء فاداهم، و إن شاء من عليهم، و إن شاء استرقهم.» «3»

فجوز هؤلاء الأعاظم من أصحابنا القتل أيضا.

نعم، يمكن أن ينسب كلام الشيخ و الطبرسي- قدّس أسرارهما- إلى سهو القلم، إذ لم نعثر على رواية عن أئمتنا «ع» تشتمل على التخيير بين أربع خصال، و الشيخ قد أفتى في كتبه الثلاثة الفتوائية كما مر بالتخيير بين ثلاث خصال، لا أربع.

و كيف كان فيمكن أن يقال: إن الكافر المعاند الذي صفّ في قبال الإسلام و أهدر اللّه دمه بقوله: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» و غيره من الآيات كيف صار محقون الدم محرم القتل بمجرد الأسر، مع أنه لم يسلم بعد و لم يتب، بل يكون باقيا على كفره و عناده؟! و غلبة المسلمين في هذه الغزوة الخاصة لا توجب رفع خطر هجمته في المآل مع بقائه على ما كان من الكفر و العناد، بل لعلّه بالأسر و القهر ازداد عنادا و حقدا.

و أما قوله: «فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً»، فلعلّ المقصود منه بيان عدم تعين ضرب الرقاب حتى بعد الإثخان. و قد ذكر المنّ و الفداء من جهة شدة توهم

الحظر بالنسبة إليهما. فسوق الكلام لرفع الحظر المتوهم، فلا ظهور له في تعينهما و نفي ضرب الرقاب بالكلية، كما لا ينفى الاسترقاق أيضا.

و لعلّ الإمام يرى الشخص الأسير ذا قوة و حزم و حقد للإسلام و المسلمين

______________________________

(1)- تفسير التبيان 2/ 592.

(2)- مجمع البيان 5/ 97 (الجزء 9).

(3)- المهذّب 1/ 316.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 272

و يشاهد فيه روح التجري و الإفساد، بحيث لا ينهضم في مجتمع المسلمين، و مثله لا يصلح لأن يبقى فيهم.

و خبر طلحة و إن كان ظاهرا في التخيير بين ثلاث خصال لا أربع، و لكنه ليس بصريح في نفي القتل بحيث يعارض ما يأتي من الشواهد على جواز القتل أيضا، بل يمكن أن يحمل أيضا على رفع الحظر المتوهم حيث حكم بتعين القتل في القسم الأول.

و قد قتل رسول اللّه «ص» يوم بدر عقبة بن أبي معيط و النضر بن الحارث، و الظاهر أنه كان بعد تقضي القتال.

و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لم يقتل رسول اللّه «ص» صبرا قط غير رجل واحد: عقبة بن أبي معيط. و طعن أبيّ بن أبي خلف فمات بعد ذلك.» «1»

و قتل أبا عزة الجمحي بعد ما أسر مرة ثانية في احد. «2»

و أصحابنا لم يفرّقوا بين الأسر الأول و الثاني، و هكذا في خبر طلحة.

و لما حاصر رسول اللّه «ص» بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ و بذلك تم القتال و أثخن العدوّ، فحكم سعد بأن يقتل مقاتلتهم و تقسم أموالهم و ذراريّهم، فقال رسول اللّه «ص» في حقه: «لقد حكم اليوم فيهم بحكم اللّه الذي حكم به من

فوق سبع سماوات.» «3» و لعلّه دلّ على هذه القصة خبر أبي البختري أيضا، كما مرّ. «4» و استفاض نقل هذه القصة، و قد قتل في هذه الواقعة ستمائة أو سبعمائة من اليهود على ما روي.

و في التذكرة قال في مسألة التحكيم:

«فإن حكم بقتل الرجال و سبي النساء و الذرية و غنيمة المال نفذ إجماعا، كقضية سعد.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 113، الباب 66 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- راجع سنن البيهقي 6/ 320، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في منّ الإمام ...

(3)- سنن البيهقي 9/ 63، كتاب السير، باب ما يفعله بذراريّ من ظهر عليه.

(4)- الوسائل 11/ 112، الباب 65 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(5)- التذكرة 1/ 418.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 273

فنقول: كيف يجوز للحكم قتلهم و لا يجوز للإمام الأبصر بالأشخاص و المصالح ذلك؟! و المحقون لا يصير مهدورا باختيار نفسه، اللّهم إلّا أن يقال: إنهم حيث عاهدوا النبي «ص» ثم غدروا به كان هذا جزاء غدرهم، فتدبّر. هذا.

و لكن بعد ذلك كله يشكل مخالفة المشهور، اللّهم إلّا أن ينطبق عنوان آخر مجوز للقتل، و الاحتياط حسن على كل حال، و لا سيما في الدماء و الفروج و الأموال.

الثالث: [التخيير بين الخصال يختص بالأسارى من أهل الكتاب]

قد يقال: إن التخيير بين الخصال الثلاث أو الأربع يختص بالأسارى من أهل الكتاب، و أما غيرهم من المشركين و الوثنيين و غيرهما ممن لا يقرّ بالجزية فلا يجوز استرقاقهم، و قد مرّ هذا التفصيل في كلام ابن قدامة. و مرّ عن المبسوط أيضا قوله:

«و إن أسر رجل بالغ فإن كان من أهل الكتاب أو ممن له شبهة كتاب فالإمام مخير فيه على

ما مضى بين الثلاثة أشياء، و إن كان من عبدة الأوثان فإن الإمام مخير فيه بين المفاداة و المنّ، و سقط الاسترقاق لأنه لا يقرّ على دينه بالجزية كالمرتد.» «1»

و في المختلف بعد نقل هذا الكلام من المبسوط قال: «و هو حق.» «2» و أفتى بالتفصيل ابن حمزة في الوسيلة أيضا «3»، و لكن الشيخ في النهاية و الخلاف و كذا المحقق في الشرائع لم يفصلا بين أهل الذمة و غيرهم، كما مرّ. «4»

و في التذكرة:

«و هذا التخيير ثابت في كلّ أصناف الكفّار، سواء كانوا ممن يقرّ على دينه بالجزية كأهل الكتاب أو لا كأهل الحرب، و به قال الشافعي، لأن الحربي كافر أصلي فجاز استرقاقه كالكتابي، و لأن حديث الصادق «ع» عام في كل أسير.» ثم نقل

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 20.

(2)- المختلف 1/ 331، كتاب الجهاد.

(3)- الوسيلة/ 202؛ و في الجوامع الفقهية/ 732 (ط. أخرى/ 696).

(4)- راجع ص 259 و ما بعدها من هذا الجزء من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 274

كلام المبسوط ثم قال: «و به قال أبو سعيد الإصطخري. و عن أحمد روايتان، و قال أبو حنيفة: يجوز في العجم دون العرب، و هو قول الشافعي في القديم.

و احتج الشيخ «ره» بأنه لا يجوز له إقرارهم بالجزية فلا يجوز له إقرارهم بالاسترقاق، و نمنع الملازمة و تبطل بالنساء و الصبيان فإنهم يسترقون و لا يقرّون بالجزية.» «1»

و نحو ذلك في المنتهى أيضا. «2»

أقول: و مراد العلامة بحديث الصادق ما مرّ من خبر طلحة، عنه «ع». و الأقوى عدم الفرق بين أهل الكتاب و غيرهم في جواز الاسترقاق أيضا، لإطلاق الأخبار و أكثر الفتاوى، فتدبّر.

الرابع: هل التخيير في المقام تخيير شهوة أو مصلحة؟

قد مرّ

عن المبسوط قوله:

«أيّ هذه الثلاثة رأى صلاحا و حظّا للمسلمين فعله.» «3»

و في التذكرة:

«و هذا التخيير تخيير مصلحة و اجتهاد لا تخيير شهوة، فمتى رأى الإمام المصلحة في خصلة من هذه الخصال تعينت عليه و لم يجز العدول عنه. و لو تساوت المصالح تخير تخيير شهوة. و قال مالك: القتل أولى.» «4» و نحو ذلك في المنتهى أيضا. «5»

و في التذكرة أيضا في مقام التعليل للخصال الأربع قال:

«و لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح من غيرها في بعض الأسرى:

فإن ذا القوة و النكاية في المسلمين قتله أنفع و بقاؤه أضرّ، و الضعيف ذا المال لا قدرة له على الحرب ففداؤه أصلح للمسلمين، و منهم من هو حسن الرأي في

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 424.

(2)- المنتهى 2/ 927.

(3)- المبسوط 2/ 20.

(4)- التذكرة 1/ 424.

(5)- المنتهى 2/ 928.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 275

الإسلام و يرجى إسلامه فالمنّ عليه أولى، أو يرجى بالمنّ عليه المنّ على الأسارى من المسلمين، أو يحصل بخدمته نفع يؤمن ضرره كالصبيان و النساء فاسترقاقه أولى. و الإمام أعرف بهذه المصالح فكان النظر إليه في ذلك كله.» «1»

و نحوه في المنتهى أيضا. «2»

و العلامة في هذين الكتابين أفتى بالتخيير بين الخصال الثلاث و صرح بعدم جواز القتل بل ادعى عليه إجماع علمائنا، فتعرضه في مقام التعليل للقتل أيضا لا بدّ أن يحمل على سهو القلم، أو يراد به قتل من أسر قبل تقضي الحرب أو ذكره على وجه المماشاة.

و في المغني لابن قدامة قال:

«و لأن كل خصلة من هذه الخصال قد تكون أصلح في بعض الأسرى، فإن منهم من له قوة و نكاية في المسلمين و

بقاؤه ضرر عليهم فقتله أصلح، و منهم الضعيف الذي له مال كثير ففداؤه أصلح، و منهم حسن الرأي في المسلمين يرجى إسلامه بالمنّ عليه أو معونته للمسلمين بتخليص أسراهم و الدفع عنهم فالمنّ عليه أصلح، و منهم من ينتفع بخدمته و يؤمن شره فاسترقاقه أصلح كالنساء و الصبيان. و الإمام أعلم بالمصلحة فينبغي أن يفوض ذلك إليه.» «3»

فيستفاد من هذه الكلمات أن التخيير عندهم تخيير مصلحة.

و لكن الشيخ في الخلاف و النهاية و كذا المحقق في الشرائع أطلقا التخيير، كما مرّ. و رواية طلحة أيضا مطلقة من هذه الجهة.

اللّهم إلّا أن يقال: إن تخيير الإمام بما هو إمام المسلمين و وليّهم بما اعتبر فيه الإسلام من العصمة أو العدالة ينصرف لا محالة إلى تخيير مصلحتهم، فإنه مقتضى ولاية الأمر، مضافا إلى كونه مطابقا للاحتياط، فتدبّر.

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 424.

(2)- المنتهى 2/ 927.

(3)- المغني 10/ 401.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 276

الخامس: قال في الجواهر:

«و مع اختيار الاسترقاق أو المال فداء فلا ريب في أنه من الغنيمة التي يتعلق بها حق الغانمين، كما صرح به الفاضل و الشهيدان و غيرهم.

و لا ينافيه تخيير الإمام «ع» بين ما يكون غنيمة و غيره بعد أن كانوا هم الذين أسروه و قهروه. و أقصى تخيير الإمام أن له المنّ عليه باعتبار كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. فمع فرض اختياره المالية بالاسترقاق أو الفداء تعلق به حق الغانمين كأولياء القصاص إذا اختاروا الدية، فإنه يتعلق بها حق الدين و غيره.» «1»

أقول: قد مرّ في أوائل بحث الغنائم أنه لا يتعين فيها التقسيم، بل للإمام أن ينفلها أو يهبها إذا رأى ذلك صلاحا، و له أيضا أن يسد بها

النوائب و إن استوعبت جميعها، فلم لا يجري ذلك في الفداء و المسترق أيضا؟

السادس: قد مرّ عن المبسوط قوله:

«و إن أسلموا لم يسقط عنهم هذه الأحكام الثلاثة، و إنما يسقط عنهم القتل لا غير.

و قد قيل: إنه إن أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلا أسلم بعد الأسر ففاداه النبي «ص» و لم يسترقه.» «2»

و مر عن الشرائع قوله: «و لو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم.» «3» يعني الحكم بالخصال الثلاث.

و في المغني:

«و إن أسلم الأسير صار رقيقا في الحال و زال التخيير و صار حكمه حكم النساء، و به قال الشافعي في أحد قوليه، و في الآخر: يسقط القتل و يتخير بين الخصال

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 127.

(2)- المبسوط 2/ 20.

(3)- الشرائع 1/ 318 (ط. أخرى/ 242).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 277

الثلاث، لما روي أن أصحاب رسول اللّه «ص» أسروا رجلا من بني عقيل فمر به النبي «ص»، فقال: يا محمد، علام أخذت و أخذت سابقة الحاج؟ فقال: أخذت بجريرة حلفائك من ثقيف، فقد أسرت رجلين من أصحابي. فمضى النبي «ص» فناداه يا محمد، يا محمد، فقال له: ما شأنك؟ فقال: إني مسلم، فقال: «لو قلتها و أنت تملك أمرك لأفلحت كل الفلاح.» و فادى به النبي «ص» الرجلين. رواه مسلم و لأنه سقط القتل بإسلامه، فبقي باقي الخصال على ما كانت عليه.» «1»

و في المنتهى:

«إذا أسلم الأسير بعد الأسر سقط عنه القتل إجماعا، سواء أخذ قبل تقضي الحرب أو بعده. و لا نعلم فيه خلافا، لقوله «ص»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا:

لا إله إلّا اللّه، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم و أموالهم إلّا بحقها.»

و روى الشيخ، عن عيسى

بن يونس، عن الأوزاعي، عن الزهري، عن علي بن الحسين «ع»، قال: الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه و صار فيئا.» «2»

ثم تعرض لأقوال فقهاء السنة و ذكر قصة الرجل من بني عقيل على ما مرّت من المغني. «3»

و الحديث الذي رواه عن النبي «ص» رواه البيهقي بإسناده، عن البخاري و مسلم، بإسنادهما عن أبي هريرة، عنه «ص» بتفاوت ما، فراجع. «4» و قصة الرجل من بني عقيل رواها البيهقي عن مسلم. «5»

و في التذكرة: «لو أسلم الأسير بعد الأسر سقط عنه القتل إجماعا.» ثم ذكر نحو ما في المنتهى. «6»

______________________________

(1)- المغني 10/ 402.

(2)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(3)- راجع المنتهى 2/ 928.

(4)- سنن البيهقي 9/ 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.

(5)- راجع سنن البيهقي 6/ 320، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب ما جاء في مفاداة الرجال منهم بمن أسرمنا؛ و 9/ 72، كتاب السير، باب جريان الرّق على الأسير و إن أسلم ...

(6)- راجع التذكرة 1/ 424.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 278

أقول: لا إشكال و لا خلاف في عدم جواز قتله بعد إسلامه، لوضوح حقن الدم بالإسلام، و لما في المنتهى و التذكرة من الإجماع و الحديثين، و لا فرق في ذلك بين من أسر قبل تقضي الحرب أو بعده.

و أما غير القتل من الخصال فنقول: إن كان الأسر بعد تقضي الحرب فالظاهر بقاء التخيير بين الخصال الثلاث، و به أفتى في المبسوط و الشرائع، كما مرّ.

و في الجواهر قال:

«بلا خلاف معتد به أجده فيه، بل و لا إشكال للأصل و الإطلاق.» «1»

و مراده بالأصل

استصحاب حكمه قبل إسلامه، و بالإطلاق إطلاق خبر طلحة، و كذا خبر الزهري بالنسبة إلى الاسترقاق.

و ما مرّ من المبسوط من أن النبي «ص» فادى عقيلا و لم يسترقه لا يدل على عدم جواز الاسترقاق، إذ لعله «ص» اختار المفاداة من جهة كونها احد أطراف التخيير و رآها أصلح.

و أما من أسر قبل تقضي الحرب ثم أسلم فربّما يقال فيه أيضا بالتخيير بين الخصال الثلاث.

و يستدل لجواز استرقاقه بإطلاق خبر الزهري، و لجواز المفاداة بما مرّ من أن النبي «ص» فادى بالرجل الذي أسلم من بني عقيل الرجلين الأسيرين من أصحابه، و لجواز المنّ بأولويته بذلك ممن أسر بعد تقضي الحرب و لما يسلم كما في الجواهر.

و لكن يمكن أن يناقش ما ذكر بأن خبر الزهري و خبر المفاداة لم يجمعا لشرائط الحجية، و لم يثبت كون أسر الرجل العقيلي قبل تقضي القتال، و استرقاق المسلم إهانة به، و الأصل في كل إنسان الحرية. و لا يقاس المقام بمن أسر بعد تقضي الحرب، إذ الإسلام هناك وقع بعد تعلق حق الاسترقاق به و لو على نحو التخيير

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 128.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 279

فيستصحب، بخلاف المقام. و المفاداة بالمسلم أيضا خلاف الأصل و خلاف حرمة الإسلام، إذ هي فرع تعلق حق به. هذا مضافا إلى أن ردّ المسلم إلى الكفّار مفاداة إضرار بالمسلم و خطر على دينه، اللّهم إلا أن يكون ذا عشيرة تمنعه منهم. فالاحتياط يقتضي الاقتصار على المنّ، فتدبّر. هذا.

و للأسارى أحكام كثيرة ذكروها في الكتب الفقهية الموسوعة، كحكم من أسلم ثم أسر، و حكم الزوجين إذا أسرا معا، و حكم مشرك أو كتابي أسر

و له زوجة لم تؤسر، و حكم الطفل الذي أسر بدون والديه، و حكم التفريق بين الولد و والده أو والدته، إلى غير ذلك من الفروع. و البحث في هذه الفروع لا يناسب هذا الكتاب، فنحيلها إلى تلك الكتب، و للّه الحمد و المنّة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 280

الجهة الثامنة: في غنائم أهل البغي و أساراهم:

قال في الجواهر في معنى البغي:

«هو لغة: مجاوزة الحدّ، و الظلم، و الاستعلاء، و طلب الشي ء. و في عرف المتشرعة:

الخروج عن طاعة الإمام العادل «ع» على الوجه الآتي. و المناسبة بينه و بين الجميع واضحة. و إن كانت هي في الظلم أتمّ.» «1»

[في موارد البغي و حكمه]

أقول: يشبه أن يرجع جميع المعاني إلى المعنى الأول، أعني المجاوزة و التجاوز عن الحد. حتى إن الطلب أيضا لا يسمّى بغيا و ابتغاء إلّا إذا جاوز الحد المتوسط.

و يمكن إرجاع الجميع إلى الطلب أيضا، فيراد هنا طلب المجاوزة و الظلم.

و الظاهر عدم اختصاص البغي و أحكامه شرعا بتجاوز الأمة على الإمام العادل، و إن كان هذا من أظهر مصاديقه، لعموم الآية و بعض الأخبار الواردة:

قال اللّه- تعالى- في سورة الحجرات: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «2»

فحكم القتال في الآية قد علق على صفة البغي، و تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية بل يدل عليها، فيعلم بذلك أن الملاك في وجوب القتال أو جوازه هو البغي و التجاوز، سواء كان من فئة على فئة، أو دولة على دولة، أو فئة على الإمام العادل، أو الإمام الجائر بجنوده على الأمة. و الطائفة تصدق على الثلاثة فما فوقها،

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 322.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 281

بل على الاثنين و الواحد أيضا على ما قالوه في تفسير قوله- تعالى-: «وَ لْيَشْهَدْ عَذٰابَهُمٰا طٰائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.» «1» و رواه في المجمع عن أبي جعفر «ع» «2». هذا مضافا إلى أن الحكم دائر مدار

العلة، و هي البغي.

و يشهد للتعميم ما ورد في مورد نزول الآية، ففي المبسوط:

«قيل نزلت في رجلين اقتتلا. و قيل في فئتين، و ذلك أن النبي «ص» كان يخطب فنازعه عبد اللّه بن أبيّ بن سلول المنافق، فعاونه قوم و أعان عليه آخرون، فأصلح النبيّ «ص» بينهم، فنزلت هذه الآية. و الطائفتان: الأوس و الخزرج.» «3»

و في المجمع:

«نزل في الأوس و الخزرج، وقع بينهما قتال بالسعف و النعال، عن سعيد بن جبير.

و قيل: نزل في رهط عبد اللّه بن أبيّ بن سلول من الخزرج و رهط عبد اللّه بن رواحة من الأوس.» «4»

و بالجملة ليس في الآية التي هي الأصل في هذا الحكم اسم من الإمام. نعم، القتال مطلقا يتوقف خارجا على وجود إمام أو أمير يقود المقاتلين و يجمع أمرهم و كلمتهم. و لكنه شرط للوجود فيجب انتخابه و تحصيله لا للوجوب، كما مر في بحث الجهاد إجمالا، فراجع. «5»

و من لفظ الآية الشريفة اقتبس الفقهاء اسم البغاة للخارجين على الإمام.

و البغي عندنا صفة ذم و يكون محرما بلا إشكال، خلافا لبعض حيث حملوه على الاجتهاد الخطأ تصحيحا لعمل كل صحابي.

و التعبير عن الباغي بالمؤمن محمول على ضرب من المجاز باعتبار حاله قبل

______________________________

(1)- سورة النور (24)، الآية 2.

(2)- مجمع البيان 4/ 124 (الجزء 7).

(3)- المبسوط 7/ 262، كتاب قتال أهل البغي.

(4)- مجمع البيان 5/ 132 (الجزء 9).

(5)- راجع ص 125 من الجزء 1 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 282

البغي أو بلحاظ اعتقاد نفسه، أو أن الفسق لا ينافي الإيمان ببعض مراتبه، فتأمّل.

فالمقام نظير قوله- تعالى-: «إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكٰارِهُونَ* يُجٰادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مٰا تَبَيَّنَ

كَأَنَّمٰا يُسٰاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ.» «1»

فإن المقصود به المنافقون بلا خلاف. هذا.

و في المبسوط:

«و لا يجب قتال أهل البغي و لا تتعلق بهم أحكامهم إلّا بثلاثة شروط:

أحدها: أن يكونوا في منعة لا يمكن كفهم و تفريق جمعهم إلّا بإنفاق و تجهيز جيوش و قتال. فأما إن كانوا طائفة قليلة و كيدها كيد ضعيف فليسوا بأهل البغي. فأما قتل عبد الرحمن بن ملجم أمير المؤمنين «ع» عندنا كفر، و تأويله غير نافع له، و عندهم هو و إن تأوّل فقد أخطأ و وجب قتله قودا.

و الثاني: أن يخرجوا عن قبضة الإمام منفردين عنه في بلد أو بادية. فأما إن كانوا معه و في قبضته فليسوا أهل البغي، و روي أن عليا «ع» كان يخطب فقال رجل من باب المسجد «لا حكم إلا للّه»، تعريضا بعلي «ع» أنه حكّم في دين اللّه فقال عليّ «ع»: كلمة حق يراد بها باطل، لكم علينا ثلاث: أن لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا فيها اسم اللّه، و لا نمنعكم الفي ء ما دامت أيديكم معنا، و لا نبدأكم بقتال. فقال:

«ما دامت أيديكم معنا»، يعني لستم منفردين.

و الثالث: أن يكونوا على المباينة بتأويل سائغ عندهم. و أما من باين و انفرد بغير تأويل فهؤلاء قطّاع الطريق، حكمهم حكم المحاربين.» «2»

أقول: لا يخفى أن الظاهر من قوله: «ما دامت أيديكم معنا»، كونهم معهم في قبال العدوّ المشترك، فلا يكفي في صدقه عدم انفرادهم منهم.

و في الجواهر بعد التعرض لأخبار المسألة الواردة في قصتي الجمل و صفين قال ما ملخصه:

«و لعلّه لهذه النصوص و نحوها قال الشيخ و ابنا إدريس و حمزة- فيما حكي عنهم- أنه

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآيتان 5

و 6.

(2)- المبسوط 7/ 264.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 283

يعتبر في جريان حكم البغاة كونهم في منعة و كثرة، فأما إن كانوا نفرا يسيرا و كيدهم ضعيف لم يجر عليهم حكم البغي. و هو المحكي عن الشافعي. مستدلين عليه بأن أمير المؤمنين «ع» أوصى بالإحسان إلى ابن ملجم. و لكن عن بعض الجمهور جريان حكم البغاة حتى على الواحد إذا خرج بالسيف، بل في المنتهى و عن التذكرة أنه قوي، بل قيل: إنه مقتضى إطلاق المتن و غيره. و إن كان قد يناقش بانسياق غيره من الإطلاق، خصوصا بعد ذكر الفئة الظاهر في الاجتماع المعتد به، و لا أقلّ من الشكّ فيبقى الأصل بحاله. نعم، يجري حكم المحارب لو فرض الإشهار للسلاح.

و حكي عن الشيخ و ابني حمزة و إدريس أيضا اشتراط الخروج عن قبضة الإمام منفردين عنه، أما لو كانوا معه و في قبضته فليسوا أهل بغي. و لعلّه للمرسل: «أن عليّا كان يخطب فقال رجل بباب المسجد: «لا حكم الّا للّه» تعريضا بعليّ «ع» أنه حكّم في دين اللّه الرجال، فقال علي «ع»: «كلمة حق أريد بها باطل. لكم عندنا ثلاث: لا نمنعكم مساجد اللّه أن تذكروا اسم اللّه فيها، و لا نمنعكم الفي ء ما دامت أيديكم معنا، و لا نبدأكم بقتال.» «1»

إذ المراد من قوله «ع»: «ما دامت أيديكم معنا» عدم الانفراد. و لكنه مرسل غير جامع لشرائط الحجية.

و ربما حكي عنهم أيضا اشتراط أن يكونوا على المباينة بتأويل يعتقدونه. و لم نجد لهم ما يدل عليه.» «2»

أقول: لا نرى وجها لاعتبار الشرط الأول و الثالث بعد إطلاق الآية، و لا سيما بملاحظة ما ذكر في

شأن نزولها. و لا دليل على دخل الخصوصيات الموجودة في أصحاب الجمل و صفين و النهروان في الأحكام المعلقة على عنوان البغي و الباغي.

______________________________

(1)- روى نحو ذلك في مستدرك الوسائل 2/ 254، الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 9، عن الدعائم 1/ 393.

(2)- الجواهر 21/ 331.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 284

نعم، لو فرض تعليق الحكم على عنوان آخر أخص لم يسر منه إلى مطلق الباغي.

و صدق عنوان المحارب على مورد خاص لا ينافي صدق عنوان الباغي أيضا، فيكون مجمعا للعنوانين و محكوما بحكمين، و نظائره في الفقه كثيرة.

و ابن ملجم في بادئ الأمر كان باغيا وجب قتاله، و لكن بعد القبض عليه و صيرورته تحت اختيار الإمام «ع» كان للإمام العفو عنه، حيث كان هو المبغى عليه، فتدبّر.

و كيف كان فلا خلاف بين المسلمين في وجوب قتال الباغي إجمالا، و أن التأخر عنه كبيرة من الكبائر. و الحروب الثلاث التي اتفقت لأمير المؤمنين «ع» في البصرة و صفين و النهروان كانت من هذا القبيل، و لكن لسنا نحن هنا بصدد البحث في وجوب قتال البغاة و شرائطه، فإن له محلا آخر، بل نريد هنا البحث في بعض آثاره و توابعه الشرعية.

فنتعرض لمسألتين:
اشارة

الأولى: حكم المدبر و الجريح و المأسور منهم. الثانية: حكم النساء و الذراريّ و حكم أموالهم مما حواها العسكر و ما لم يحوها. و لا يخفى أن الموضوع في المسألة الأولى ليس أمرا ماليا و لكن لشدة الارتباط بين المسألتين نبحث فيها استطرادا.

المسألة الأولى: في حكم المدبر، و الجريح، و المأسور منهم:
اشارة

فهي في الحقيقة ثلاث مسائل جعلناها واحدة لتشابكها رواية و فتوى:

[كلمات العلماء]

1- قال الشيخ في كتاب الباغي من الخلاف (المسألة 4):

«إذا ولّى أهل البغي إلى غير فئة، أو ألقوا السلاح أو قعدوا أو رجعوا إلى الطاعة حرم قتالهم بلا خلاف. و إن ولّوا منهزمين إلى فئة لهم جاز أن يتبعوا و يقتلوا، و به قال أبو حنيفة و أبو إسحاق المروزي. و قال باقي أصحاب الشافعي: إنه لا يجوز

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 285

قتالهم و لا اتباعهم. دليلنا قوله- تعالى-: «فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ».

و هؤلاء ما فاءوا إلى أمر اللّه. و لا ينافي ذلك ما روي أن عليا «ع» يوم الجمل نادى أن لا يتبع مدبرهم، لأن أهل الجمل لم يكن لهم فئة يرجعون إليها. و على ما قلناه إجماع الفرقة، و أخبارهم واردة به.» «1»

2- و فيه أيضا (المسألة 6):

«إذا وقع أسير من أهل البغي في المقاتلة كان للإمام حبسه و لم يكن له قتله، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: له قتله. دليلنا إجماع الفرقة، و أيضا روى عبد اللّه بن مسعود، قال: قال لي رسول اللّه «ص»: يا ابن أمّ عبد، ما حكم من بغى من أمتي؟

قال: قلت: اللّه و رسوله أعلم، فقال: لا يتبع و لا يجاز على جريحهم، و لا يقتل أسيرهم، و لا يقسم فيئهم. و هذا نصّ ...» «2»

3- و قال في جهاد النهاية:

«و أهل البغي على ضربين: ضرب منهم يقاتلون و لا تكون لهم فئة يرجعون إليه، و الضرب الآخر تكون لهم فئة يرجعون إليه. فإذا لم يكن لهم فئة يرجعون إليه فإنه لا

يجاز على جريحهم، و لا يتبع مدبرهم، و لا تسبى ذراريّهم، و لا يقتل أسيرهم. و متى كان لهم فئة يرجعون إليه جاز للإمام أن يجيز على جرحاهم، و أن يتبع مدبرهم، و أن يقتل أسيرهم. و لا يجوز سبي الذراريّ على حال.» «3»

4- و قال في المبسوط:

«إذا عاد أهل البغي إلى الطاعة و تركوا المباينة حرم قتالهم، و هكذا إن قعدوا فألقوا السلاح، و هكذا إن ولّوا منهزمين إلى غير فئة. الحكم في هذه المسائل الثلاث واحد؛ لا يقتلون، و لا يتبع مدبرهم، و لا يذفّف على جرحاهم بلا خلاف فيه، لقوله- تعالى-: «فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ». فأوجب القتال إلى غاية، و قد وجدت، فوجب أن يحرم قتالهم. فأما إن ولّوا منهزمين إلى فئة لهم يلجئون إليها

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 166.

(2)- الخلاف 3/ 166.

(3)- النهاية/ 297.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 286

فلا يتبعون أيضا. و قال قوم: يتبعون و يقتلون، و هو مذهبنا، لأنا و لم لو لم نقتلهم ربما عادوا إلى الفئة و اجتمعوا و رجعوا للقتال.» «1»

5- و فيه أيضا:

«إذا وقع أسير من أهل البغي في أيدي أهل العدل فإن كان من أهل القتال، و هو الشابّ و الجلد الّذي يقاتل، كان له حبسه و لم يكن له قتله. و قال بعضهم: له قتله. و الأول مذهبنا. فإذا ثبت أنه لا يقتل فإنه يحبس، و تعرض عليه المبايعة، فإن بايع على الطاعة و الحرب قائمة قبل ذلك منه و أطلق، و إن لم يبايع ترك في الحبس، فإذا انقضت الحرب فإن أتوا تائبين أو طرحوا السلاح و تركوا القتال أو ولّوا مدبرين إلى

غير فئة أطلقناه. و إن ولّوا مدبرين إلى فئة لا يطلق عندنا في هذه الحالة. و قال بعضهم: يطلق لأنه لا يتبع مدبرهم. و قد بينا أنه يتبع مدبرهم إذا ولّوا منهزمين إلى فئة.» «2»

أقول: و في كلامه في الأسير في المبسوط و الخلاف نحو تهافت مع ما ذكره في النهاية، إذ حكم فيهما بعدم قتل الأسير مطلقا و نسبه إلى مذهبنا، و في النهاية فصل فيه بين من له فئة و غيره نظير المدبر.

6- و في الشرائع:

«و من كان من أهل البغي لهم فئة يرجع إليها جاز الإجهاز على جريحهم و إتباع مدبرهم و قتل أسيرهم. و من لم يكن له فئة فالقصد بمحاربتهم تفريق كلمتهم، فلا يتبع لهم مدبر، و لا يجهز على جريحهم، و لا يقتل لهم مأسور.» «3»

7- و ذيّل هذا في الجواهر بقوله:

«بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك. نعم، في الدروس: «و نقل الحسن أنهم يعرضون على السيف، فمن تاب منهم ترك و إلّا قتل.» إلّا أنه لم نعرف القائل به.

بل المعلوم من فعل عليّ «ع» في أهل الجمل خلافه. و حينئذ فلا خلاف معتدّ به

______________________________

(1)- المبسوط 7/ 268.

(2)- المبسوط 7/ 271.

(3)- الشرائع 1/ 336 (ط. أخرى/ 256).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 287

فيه، بل في المنتهى و محكي التذكرة نسبته إلى علمائنا. بل عن الغنية الإجماع عليه صريحا و هو الحجة ...» «1»

8- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«المالكية قالوا: يمتاز قتال البغاة عن قتال الكفّار بأحد عشر وجها: 1- أن يقصد الإمام بالقتال ردعهم لا قتلهم. 2- و أن يكفّ عن مدبرهم. 3- و لا يجهز على جريحهم. 4- و لا

تقتل أسراهم. 5- و لا تغنم أموالهم. 6- و لا تسبى ذراريّهم. 7-

و لا يستعان عليهم بمشرك. 8- و لا يوادعهم على مال. 9- و لا تنصب عليهم الردعات. 10- و لا تحرق مساكنهم. 11- و لا يقطع شجرهم ...

الحنفية قالوا: فإن كانت لهم فئة أجهز على جريحهم، و أتبع مولّيهم، دفعا لشرهم كيلا يلحقوا بهم، و إن لم يكن لهم فئة لم يجهز على جريحهم، و لم يتبع موليهم لاندفاع الشر بدون ذلك و هو المطلوب ...

الشافعية و الحنابلة قالوا: لا يجوز الإجهاز على الجريح، و لا إتباع المولّي في حالتي الفئة و عدمها.» «2»

أقول: الردع: الزعفران. و الظاهر أنهم كانوا يلطخون بدن الأسارى و ألبستهم بالزعفران و نحوه ليمتازوا عن غيرهم في المجتمعات.

و بالجملة فأصحابنا الإمامية فصّلوا في المدبر و الجريح و المأسور من البغاة بين من لا يكون لهم فئة يرجعون إليها و رئيس يلجئون إليه، نظير أهل الجمل، حيث انكسرت شوكتهم و تفرقت أياديهم، و بين من لهم فئة و رئيس ربما يرجعون إليهما و يتجهزون ثانيا للقتال و الهجمة، نظير جنود معاوية في صفين. و بهذا التفصيل أفتى أبو حنيفة أيضا، و لكن أكثر فقهاء السنة لم يفصلوا في المسألة.

[الأخبار]

و يدل على التفصيل بعض الأخبار، فلنتعرض لأخبار المسألة:

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 328.

(2)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 419.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 288

1- ما رواه الكليني بسنده، عن حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الطائفتين من المؤمنين: إحداهما باغية و الأخرى عادلة، فهزمت العادلة الباغية؟ فقال: «ليس لأهل العدل أن يتبعوا مدبرا، و لا يقتلوا أسيرا، و لا يجهزوا على

جريح.

و هذا إذا لم يبق من أهل البغي أحد و لم يكن لهم فئة يرجعون إليها. فإذا كان لهم فئة يرجعون إليها فإن أسيرهم يقتل، و مدبرهم يتبع، و جريحهم يجهز.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده، عن حفص. «1»

أقول: أجزت على الجريح و أجهزت عليه: أسرعت في قتله. و بهذا المعنى أيضا ذفّفت و أذففت بالذال المعجمة.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 288

و حيث نهى في الفقرة الأولى عن الإتباع و القتل و الإجهاز فلا محالة لا يستفاد من الفقرة الثانية إلّا الجواز، كما هو الشأن في كل أمر وقع عقيب الحظر أو توهمه.

و الرواية اشتملت على المسائل الثلاث، أعني حكم المدبر و الجريح و المأسور، و قد حكم في الجميع بالتفصيل بين وجود الفئة و غيره.

2- ما رواه الكليني أيضا بسنده، عن عبد اللّه بن شريك، عن أبيه، قال: لمّا هزم الناس يوم الجمل قال أمير المؤمنين «ع»: «لا تتبعوا موليا، و لا تجيزوا على جريح. و من أغلق بابه فهو آمن.» فلمّا كان يوم صفين قتل المقبل و المدبر، و أجاز على جريح.

فقال أبان بن تغلب لعبد اللّه بن شريك: هذه سيرتان مختلفتان؟ فقال: إن أهل الجمل قتل طلحة و الزبير، و إن معاوية كان قائما بعينه و كان قائدهم.» و رواه الشيخ أيضا بإسناده. «2»

3- و عن تحف العقول، عن أبي الحسن الثالث «ع» أنه قال في جواب مسائل يحيى بن أكثم: و أما قولك: إن عليّا «ع» قتل أهل صفين مقبلين و مدبرين، و

أجاز على

______________________________

(1)- الكافي 5/ 32، كتاب الجهاد، و رواه عنه و عن التهذيب 6/ 144 في الوسائل 11/ 54، الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 55، الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 289

جريحهم، و أنه يوم الجمل لم يتبع موليا، و لم يجز على جريح، و من ألقى سلاحه آمنه، و من دخل داره آمنه، فإن أهل الجمل قتل إمامهم و لم يكن لهم فئة يرجعون إليها، و إنما رجع القوم إلى منازلهم غير محاربين و لا مخالفين و لا منابذين، (و) رضوا بالكف عنهم، فكان الحكم فيهم رفع السيف عنهم و الكف عن أذاهم، إذ لم يطلبوا عليه أعوانا. و أهل صفين كانوا يرجعون إلى فئة مستعدة و إمام يجمع لهم السلاح (و) الدروع و الرماح و السيوف، و يسني لهم العطاء و يهيئ لهم الأنزال، و يعود مريضهم و يجبر كسيرهم و يداوي جريحهم، و يحمل راجلهم، و يكسو حاسرهم، و يردهم فيرجعون إلى محاربتهم و قتالهم، فلم يساو بين الفريقين في الحكم لما عرف من الحكم في قتال أهل التوحيد، لكنه شرح ذلك لهم، فمن رغب عرض على السيف أو يتوب عن ذلك.» «1»

أقول: يقال: أسنى له الجائزة: جعلها سنية أي رفيعة. و النزل بفتحين: الفضل و العطاء. و الحاسر: العاري.

4- و في الكافي أيضا بسنده، عن أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لعلي بن الحسين «ع»: إن عليّا «ع» سار في أهل القبلة بخلاف سيرة رسول اللّه «ص» في أهل الشرك؟ قال: فغضب «ع» ثم جلس ثم قال: «ساروا اللّه فيهم بسيرة رسول اللّه «ص»

يوم الفتح، إنّ عليّا «ع» كتب إلى مالك و هو على مقدمته في يوم البصرة بأن لا يطعن في غير مقبل و لا يقتل مدبرا، و لا يجيز على جريح، و من أغلق بابه فهو آمن. فأخذ الكتاب فوضعه بين يديه على القربوس من قبل أن يقرأه، ثم قال: اقتلوهم فقتلهم حتى أدخلهم سكك البصرة، ثم فتح الكتاب فقرأه ثم أمر مناديا فنادى بما في الكتاب.» و رواه الشيخ أيضا عنه. «2»

5- و في خبر الأسياف الخمسة الذي رواه حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه، عن أبيه- عليهما السلام-: «و أما السيف المكفوف فسيف على أهل البغي و التأويل. قال اللّه- عزّ و جلّ-: و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما، فإن بغت إحداهما ...

و كانت السيرة فيهم من أمير المؤمنين «ع» ما كان من رسول اللّه «ص» في أهل مكة يوم فتح مكة، فإنه لم يسب لهم ذريّة، و قال: من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه أو دخل دار أبي

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 56، الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4، عن تحف العقول/ 480.

(2)- الوسائل 11/ 55، الباب 24 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 290

سفيان فهو آمن. و كذلك قال أمير المؤمنين «ع» يوم البصرة؛ نادى لا تسبوا لهم ذرية، و لا تجهزوا على جريح، و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه و ألقى سلاحه فهو آمن.» «1»

أقول: الظاهر من هذا الحديث بل و من سابقه أن هذا الحكم من أمير المؤمنين «ع» وقع منه منّا على أهل البصرة، كما وقع نظيره من رسول اللّه

«ص» على أهل مكة، و إلّا كان لهم الإجهاز على جريحهم و إتباع مدبرهم، و سيأتي بيان ذلك.

6- و في المستدرك، عن المفيد بسنده، عن كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى أهل الكوفة بعد واقعة الجمل: «فلما هزمهم اللّه أمرت أن لا يتبع مدبر و لا يجاز على جريح، و لا يكشف عورة و لا يهتك ستر و لا يدخل دار إلّا بإذن و آمنت الناس. الخبر.» «2»

7- و فيه أيضا، عن أمالي المفيد بسنده، عن حبة العرني في واقعة الجمل: فولّى الناس منهزمين، فنادى منادي أمير المؤمنين «ع»: «لا تحيزوا على جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من أغلق بابه فهو آمن و من ألقى سلاحه فهو آمن.» «3»

و فيه أيضا بهذا المضمون روايات أخر. فراجع.

8- و فيه أيضا، عن غيبة النعماني بسنده، عن أبي بصير، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: لما التقى أمير المؤمنين «ع» و أهل البصرة نشر الراية- راية رسول اللّه «ص»- فتزلزلت أقدامهم، فما اصفرّت الشمس حتى قالوا: آمنّا يا بن أبي طالب. فعند ذلك قال: «لا تقتلوا الأسراء، و لا تجهزوا على جريح، و لا تتبعوا مولّيا، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فهو آمن.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 16، الباب 5 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 291

9- و فيه أيضا، عن كتاب صفين بإسناده، في قصة وقعت بين

مالك الأشتر و الأصبغ بن ضرار الذي أسره مالك في صفين، و فيها: «و كان علي «ع» ينهى عن قتل الأسير الكافّ ... قال «ع»: هو لك يا مالك، فإذا أصبت أسير أهل القبلة فلا تقتله، فإن أسير أهل القبلة لا يفادى و لا يقتل.» «1»

أقول: ظاهر هذا الخبر على فرض صحته حرمة قتل الأسير من أهل القبلة مطلقا و لو كان له فئة كما في صفين، و مورد الرواية حرب صفين. اللّهم إلّا أن يحمل على الأسير الكافّ، كما يشهد به الفقرة الأولى من الرواية.

10- و فيه أيضا، عن كتاب صفين بسنده، عن الشعبي، قال: لما أسر علي «ع» الأسرى يوم صفين فخلّى سبيلهم أتوا معاوية، و قد كان عمرو بن العاص يقول لأسرى أسرهم معاوية: اقتلهم. فما شعروا إلّا بأسراهم قد خلّى سبيلهم علي «ع»، فقال معاوية: يا عمرو، لو أطعناك في هؤلاء الأسرى لوقعنا في قبيح من الأمر.

ألا ترى قد خلّى سبيل أسرانا؟ فأمر بتخلية من في يديه من أسرى علي «ع». و قد كان علي «ع» إذا أخذ أسيرا من أهل الشام خلّى سبيله إلّا أن يكون قد قتل من أصحابه أحدا فيقتله به. فإذا خلّى سبيله فإن عاد الثانية قتله و لم يخلّ سبيله.» «2»

أقول: ليس في الخبر دلالة على عدم جواز قتل الأسير منهم، إذ لعل تخليته «ع» لسبيلهم كان في مورد خاص و وقع منه منّا لحكمة خاصة، فالأمر موكول إلى نظر الإمام. و يشهد لذلك الخبر التالي:

11- و في دعائم الإسلام: «أتي بأسير يوم صفين، فقال: لا تقتلني يا أمير المؤمنين. قال: أ فيك خير تبايع؟ قال: نعم. فقال للذي جاء به: لك سلاحه و خلّ

______________________________

(1)-

مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 9.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 21 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 292

سبيله. و أتاه عمّار بن ياسر بأسير فقتله علي «ع».» «1» و رواه عنه في المستدرك. «2»

12- و في الدعائم أيضا: «و إذا انهزم أهل البغي و كانت لهم فئة يلجئون إليها أتبعوا و طلبوا و أجهز جرحاهم، و قتلوا بما أمكن قتلهم. و كذلك سار علي «ع» في أصحاب صفين، لأن معاوية كان وراءهم. و إذا لم يكن لهم فئة لم يتبعوا بالقتل، و لم يجهز على جرحاهم، لأنهم إذا ولّوا تفرّقوا. و كذلك روينا عن علي «ع» أنه سار في أهل الجمل لما قتل طلحة و الزبير و أخذ عائشة و هزم أصحاب الجمل نادى مناديه: لا تجهزوا على جريح و لا تتبعوا مدبرا، و من ألقى سلاحه فهو آمن. ثم دعا ببغلة رسول اللّه «ص» الشهباء فركبها ... حتى انتهى إلى دار عظيمة، فاستفتح ففتح له، فإذا هو بنساء يبكين بفناء الدار، فلما نظرن إليه صحن صيحة واحدة و قلن: هذا قاتل الأحبّة. قال: فلم يقل لهن شيئا و سأل عن حجرة عائشة، ففتح له بابها، فسمع منها كلام شبيه بالمعاذير ... قال: ... و لو قتلت الأحبّة لقتلت من في هذه الحجرة، و من في هذه الحجرة، و من في هذه الحجرة. و أومأ إلى ثلاث حجرات ... قال الأصبغ:

و كان في إحدى الحجر عائشة و من معها من خاصتها، و في الأخرى مروان بن الحكم و شباب من قريش، و في الأخرى عبد اللّه بن الزبير

و أهله.

فقيل له: فهلا بسطتم أيديكم على هؤلاء فقتلتموهم؟ أ ليس هؤلاء كانوا أصحاب القرحة فلم استبقاهم؟ قال الأصبغ: قد ضربنا و اللّه بأيدينا على قوائم السيوف و حددنا أبصارنا نحوه لكي يأمرنا فيهم بأمر فما فعل و وسعهم عفوه.» «3»

و رواه عنه في المستدرك. «4»

13- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن عمر، قال: قال رسول اللّه «ص» لعبد اللّه بن مسعود: يا ابن مسعود أ تدري ما حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمة؟ قال ابن مسعود:

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 393، كتاب الجهاد- ذكر قتال أهل البغي.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 21 من أبواب جهاد لعدوّ، الحديث 2.

(3)- دعائم الإسلام 1/ 394، كتاب الجهاد- ذكر قتال أهل البغي.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 293

اللّه و رسوله أعلم. قال: فإن حكم اللّه فيهم أن لا يتبع مدبرهم، و لا يقتل أسيرهم، و لا يذفّف على جريحهم ...

و في رواية الخوارزمي: و لا يجاز على جريحهم. زاد: و لا يقسم فيئهم.» «1»

14- و فيه أيضا بسنده، عن علي بن الحسين «ع»، قال: «دخلت على مروان بن الحكم فقال: ما رأيت أحدا أكرم غلبة من أبيك، ما هو إلّا أن ولّينا يوم الجمل فنادى مناديه:

لا يقتل مدبر، و لا يذفّف على جريح.» «2»

15- و فيه أيضا بسنده، عن حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: أمر علي «ع» مناديه فنادى يوم البصرة: «لا يتبع مدبر، و لا يذفّف على جريح، و لا يقتل أسير، و من أغلق بابه فهو آمن، و من ألقى سلاحه فهو

آمن. و لم يأخذ من متاعهم شيئا.» «3»

16- و فيه أيضا بسنده، عن يزيد بن ضبيعة العبسي، قال: نادى منادي عمّار- أو قال علي- يوم الجمل و قد ولّى الناس: ألا لا يذافّ على جريح و لا يقتل مولّ، و من ألقى السلاح فهو آمن. فشقّ علينا ذلك.» «4»

17- و فيه أيضا بسنده، عن أبي أمامة، قال: «شهدت صفين و كانوا لا يجيزون على جريح، و لا يقتلون مولّيا، و لا يسلبون قتيلا.» «5»

أقول: الروايات الكثيرة الواردة في قصة الجمل لا تنافي التفصيل الذي دلت عليه أخبار حفص و شريك و تحف العقول و الدعائم و أفتى به أصحابنا الإمامية،

______________________________

(1)- سنن البيهقي 8/ 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(2)- سنن البيهقي 8/ 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(3)- سنن البيهقي 8/ 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(4)- سنن البيهقي 8/ 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(5)- سنن البيهقي 8/ 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 294

لأنها متعرضة لشقّ واحد من المسألة. و إطلاق خبر ابن مسعود على فرض صحته أيضا يحمل عليه. نعم، خبر أبي أمامة الوارد في قصة صفين ربما ينافي ذلك. و يمكن أن يقال على فرض صحته إن أبا أمامة لم يكن شاهدا لجميع مشاهد صفين.

و حرب صفين وقعت في منطقة واسعة و قد طال زمانها، فلعل أبا أمامة يحكي عما شاهده بنفسه في منطقة خاصة و زمان خاص، فتدبّر.

ثم لا يخفى أن الظاهر من الفتاوى و

بعض الأخبار التي مرت تعين التفصيل و أن من ليس لهم فئة يرجعون إليها لا يجوز الإجهاز على جريحهم و إتباع مدبرهم و قتل أسيرهم، و من لهم فئة يجوز ذلك فيهم.

و لكن المستفاد من بعض الأخبار الأخر أن النهي عن الإجهاز و الإتباع و القتل في أهل البصرة وقع من أمير المؤمنين «ع» عفوا و منّا منه عليهم، كما منّ رسول اللّه «ص» على أهل مكة و عفا عنهم، و ظاهر ذلك كونه حكما موسميا في مورد خاص و أن الحكم الأولي جواز الإتباع و الإجهاز و القتل إذا لم يكن المورد محلا للعفو و الإغماض و لم يره الإمام صلاحا، فيكون الأمر موكولا إلى نظره:

1- ففي خبر أبي حمزة الثمالي، قال: قلت لعلي بن الحسين «ع»: بما سار علي بن أبي طالب «ع»؟ فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا حادّا- رحمه اللّه- فقال: يا أمير المؤمنين، بما تسير في هؤلاء غدا؟ فقال: بالمنّ، كما سار رسول اللّه «ص» في أهل مكة.» «1»

2- و في دعائم الإسلام: «و سأله عمّار حين دخل البصرة فقال: يا أمير المؤمنين، بأيّ شي ء تسير في هؤلاء؟ فقال: بالمنّ و العفو، كما سار النبي «ص» في أهل مكة حين افتتحها بالمنّ و العفو.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 394، كتاب الجهاد- ذكر قتال أهل البغي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 295

3- و قد مر هذا المضمون في خبر الأسياف أيضا، فراجع. «1»

4- و في خبر عبد اللّه بن سليمان، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و لو قتل علي «ع» أهل البصرة جميعا و اتخذ

أموالهم لكان ذلك له حلالا، و لكنه منّ عليهم ليمنّ على شيعته من بعده.» «2»

5- و في نهج البلاغة في ذكر أصحاب الجمل: «فو اللّه لو لم يصيبوا من المسلمين إلّا رجلا واحدا معتمدين لقتله بلا جرم جره لحلّ لي قتل ذلك الجيش كله، إذ حضروه فلم ينكروا و لم يدفعوا عنه بلسان و لا بيد. دع ما أنهم قد قتلوا من المسلمين مثل العدّة التي دخلوا بها عليهم.» «3»

6- و عن غيبة النعماني بسنده، عن أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال:

«إن عليا «ع» قال: «كان لي أن أقتل المولّي و أجهز على الجريح، و لكن تركت ذلك للعافية من أصحابي إن خرجوا لم يقتلوا. و القائم «ع» له أن يقتل المولّي و يجهز على الجريح.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار، و سيأتي بعضها في المسألة الثانية.

و بالجملة فمقتضى هذه الأخبار الكثيرة أن الحكم الأولي في المدبر و الجريح و المأسور من البغاة كان هو جواز الإتباع و الإجهاز و القتل، و عمل أمير المؤمنين «ع» و أمره بالمنّ فيها وقع منه عفوا و منّا، فكيف جعل المنّ حكما مستمرا في جميع الأعصار و أفتى به أصحابنا؟

اللّهم إلّا أن يقال: إن حكمه «ع» بالعفو و المنّ و إن كان حكما ولائيا و لكنه لم يكن موسميا في مورد خاص بل كان حكما ولائيا مستمرا إلى عصر ظهور

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 16 و 18، الباب 5 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 58- 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 556؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 172.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 22 من أبواب

جهاد العدوّ، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 296

القائم «ع» لحكمة حفظ شيعته و الإرفاق بهم و إتمام الحجة على أعدائه في مواجهتهم للشيعة إلى عصر ظهوره «ع»، و يستفاد هذا من بعض الأخبار الآتية في المسألة الآتية. و في كلام الأصبغ بن نباتة: «إنا لما هزمنا القوم نادى مناديه: لا يذفّف على جريح، و لا يتبع مدبر، و من ألقى سلاحه فهو آمن، سنّة يستنّ بها بعد يومكم هذا.» «1»

و ظاهر الأخبار التي مرّت في صدر المسألة كخبر حفص و نحوه كون الحكم بالتفصيل حكما دائما مستمرا، و قد أفتى به جميع أصحابنا، فلا يجوز رفع اليد عنه.

هذا.

و يظهر من المبسوط و الخلاف كما مرّ عدم جواز قتل الأسير من البغاة مطلقا و أنه يجوز حبسه، و قد مرّ دلالة بعض الأخبار على عدم جواز القتل مطلقا، و لكن لم نجد فيما رأيناه من الأخبار ما يدلّ على جواز الحبس، فتتبع. و فتوى الشيخ- قدّس سرّه- ينبغي أن يؤخذ من نهايته، كما لا يخفى على أهله. و سيأتي في المسألة الآتية ماله نفع في المقام.

تنبيه

لا يخفى أن كثيرا من أفراد الفئة الباغية ربما كانوا حضروا المعركة كارهين مكرهين، كما في الحرب المفروضة علينا من قبل طاغوت العراق، فاللازم حينئذ الاجتناب عن قتل النفوس إلّا بمقدار الضرورة في أثناء المعركة و الهجمة. ففي دعائم الإسلام، قال: «روينا عن علي «ع» أنه قال: قال رسول اللّه «ص» يوم بدر: من استطعتم أن تأسروه من بني عبد المطلب فلا تقتلوه، فإنهم إنما أخرجوا كرها.» «2» و رواه في المستدرك. «3»

فإذا كان هذا حكم المشرك المخرج كرها فكيف بمن كان مسلما

محقون الدم.

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 22 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 7.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 376، كتاب الجهاد- ذكر قتال المشركين.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 251، الباب 21 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 297

المسألة الثانية: في حكم نساء البغاة، و ذراريّهم، و حكم أموالهم مما حواها العسكر، و ما لم يحوها:
اشارة

فتشتمل هذه المسألة أيضا على ثلاث مسائل، و لكن لما كان أكثر أخبار المسائل مشتركة و المسائل متشابكة رواية و فتوى جعلناها مسألة واحدة، حذرا من التكرار.

و قد حكي إجماع أصحابنا الإمامية، بل إجماع المسلمين على عدم جواز سبي النساء و الذراريّ، و عدم اغتنام ما لم يحوها العسكر من أموالهم، و اختلف فيما حواها العسكر منها.

[كلمات العلماء]

1- قال في كتاب الباغي من الخلاف (المسألة 7):

«إذا أسر من أهل البغي من ليس من أهل القتال مثل النساء و الصبيان و الزمنى و الشيوخ الهرمى لا يحبسون. و للشافعي فيه قولان: نص في الأمّ على مثل ما قلناه، و من أصحابه من قال: يحبسون كالرجال الشباب المقاتلين.

دليلنا أن الأصل براءة الذمة، و إيجاب الحبس عليهم يحتاج إلى دليل.» «1»

2- و قال فيه أيضا (المسألة 17):

«ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه و الانتفاع به، و يكون غنيمة يقسم في المقاتلة.

و ما لم يحوه العسكر لا يتعرض له.

و قال الشافعي: لا يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدوابّ أهل البغي و لا بسلاحهم و لا يركبونها للقتال و لا يرمون بنشّابهم حال القتال و لا في غير حال القتال. و متى حصل من ذلك شي ء عندهم كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت الحرب يردّ عليهم.

و قال أبو حنيفة: يجوز الاستمتاع بدوابّهم و بسلاحهم و الحرب قائمة، فإذا انقضت

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 166.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 298

كان ذلك ردّا عليهم.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم، و أيضا قوله- تعالى-: «فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ.» فأمر بقتالهم و لم يفرق بين أن يقاتلوا بسلاحهم و على دوابّهم أو بغير ذلك.» «1»

أقول: و لا

يخفى ما في دليله الأخير، إذ الآية ليست في مقام بيان ما يقاتل به و أنه يجب القتال و لو بسلاح الغير.

3- و في باب قتال أهل البغي من النهاية:

«و لا يجوز سبي الذراريّ على حال، و يجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حوى العسكر و يقسم على المقاتلة حسب ما قدمناه. و ليس له ما لم يحوه العسكر و لا له إليه سبيل على حال.» «2»

4- و في المبسوط:

«إذا انقضت الحرب بين أهل العدل و البغي إما بالهزيمة أو بأن عادوا إلى طاعة الإمام، و قد كانوا أخذوا الأموال و أتلفوا و قتلوا نظرت؛ فكل من وجد عين ماله عند غيره كان أحقّ به، سواء كان من أهل العدل أو أهل البغي، لما رواه ابن عباس أنّ النبي «ص» قال: «المسلم أخو المسلم، لا يحل دمه و ماله إلّا بطيبة من نفسه.»

و روي أن عليا «ع» لما هزم الناس يوم الجمل قالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تأخذ أموالهم؟ قال: «لا، لأنهم تحرموا بحرمة الإسلام فلا يحل أموالهم في دار الهجرة.»

و روى أبو قيس أن عليا «ع» نادى: «من وجد ماله فليأخذه.» فمرّ بنا رجل فعرف قدرا يطبخ فيها فسألناها أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل و رمى برجله فأخذها.

و قد روى أصحابنا: أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يغنم، و هذا يكون إذا لم يرجعوا إلى طاعة الإمام، فأما إن رجعوا إلى طاعته فهم أحقّ بأموالهم.» «3»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 169.

(2)- النهاية/ 297.

(3)- المبسوط 7/ 266.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 299

5- و فيه أيضا:

«يجوز لأهل العدل أن يستمتعوا بدوابّ أهل البغي و سلاحهم يركبونها

للقتال، و يرمون بنشّاب لهم حال القتال و في غير حال القتال، متى حصل شي ء من ذلك مما يحويه العسكر كان غنيمة، و لا يجب ردّه على أربابه.

و قال قوم: لا يجوز شي ء من ذلك، و متى حصل شي ء منه كان محفوظا لأربابه، فإذا انقضت الحرب ردّ عليهم.

و قال بعضهم: يجوز الاستمتاع بدوابّهم و سلاحهم و الحرب قائمة، فإذا انقضت كان ذلك ردّا عليهم.

و من منع منه قال: لا يجوز ذلك حال الاختيار، فأما حال الاضطرار مثل أن وقعت هزيمة و احتاج الرجل إلى دابّة ينجو عليها فإذا وجد دابّة لهم حلّ ذلك له، و كذلك إذا لم يجد ما يدفع به عن نفسه إلّا سلاحهم جاز ذلك لما أوجبته الحال. لأنها أموال أهل البغي، و أموال أهل البغي و غيرهم فيها سواء، كما لو اضطرّ إلى طعام الغير جاز له أكله.» «1»

أقول: فظاهر كلامه الأول عدم جواز تملك أموالهم مطلقا و إنما نسب الجواز فيما يحويه العسكر إلى رواية أصحابنا. و ظاهر كلامه الثاني جواز التملك فيما حواه العسكر كما في الخلاف و النهاية.

6- و قال السيد المرتضى «قده» في الناصريات (المسألة 206) بعد ما حكى عن الناصر تقسيم ما احتوت عليه عساكر أهل البغي-:

«هذا غير صحيح، لأن أهل البغي لا يجوز غنيمة أموالهم و قسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب. و لا أعلم خلافا بين الفقهاء في ذلك. و مرجع الناس كلهم في هذا الموضع على ما قضى به أمير المؤمنين «ع» في محاربي البصرة، فإنه منع من غنيمة أموالهم. فلما رجع «ع» في ذلك قال: «أيّكم يأخذ عائشة في سهمه؟» و ليس يمنع أن يخالف حكم قتال أهل البغي لقتال أهل دار

الحرب في هذا الباب، كما

______________________________

(1)- المبسوط 7/ 280.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 300

يخالف في أننا لا نتبع مولّيهم و إن كان إتباع المولّي من باقي المحاربين جائزا.

و إنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدوابّ أهل البغي و بسلاحهم في حال قيام الحرب، فقال الشافعي: لا يجوز ذلك. و قال أبو حنيفة: يجوز ما دامت الحرب قائمة.

و ليس يمنع عندي أن يجوز قتالهم بسلاحهم لا على وجه التملك له، كأنهم رموا حربة إلى جهة أهل الحق فيجوز أن يرموا بها على سبيل المدافعة و المقابلة.» «1»

7- و في السرائر بعد نقل كلمات الشيخ و كلام السيد قال:

«الصحيح ما ذهب إليه المرتضى «رض». و هو الذي أختاره و أفتي به. و الّذي يدل على صحة ذلك ما استدل به «رض». و أيضا فإجماع المسلمين على ذلك، و إجماع أصحابنا منعقد على ذلك، و قد حكينا في صدر المسألة أقوال شيخنا أبي جعفر الطوسي «رض» في كتبه، و لا دليل على خلاف ما اخترناه، و قول الرسول «ص»:

لا يحل مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفس منه. و هذا الخبر قد تلقته الأمة بالقبول، و دليل العقل يعضده و يشيّده لأن الأصل بقاء الأملاك على أربابها و لا يحل تملكها إلّا بالأدلة القاطعة للأعذار.» «2»

8- و في جهاد الشرائع:

«مسائل: الأولى: لا يجوز سبي ذراريّ البغاة، و لا تملك نسائهم إجماعا. الثانية:

لا يجوز تملك شي ء من أموالهم التي لم يحوها العسكر، سواء كانت مما ينقل كالثياب و الآلات، أو لا ينقل كالعقارات، لتحقق الإسلام المقتضي لحقن الدم و المال. و هل يؤخذ ما حواه العسكر مما ينقل و يحوّل؟ قيل: لا، لما ذكرناه

من العلة، و قيل: نعم، عملا بسيرة علي «ع»، و هو الأظهر.» «3»

9- و في الجواهر في ذيل المسألة الأولى قال:

«محصلا و محكيا عن التحرير و غيره، بل عن المنتهى: «نفي الخلاف فيه بين أهل العلم»، و عن التذكرة: «بين الأمة». لكن في المختلف و المسالك نسبته إلى

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 261 (ط. أخرى/ 225).

(2)- السرائر/ 159.

(3)- الشرائع 1/ 337 (ط. أخرى/ 257).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 301

المشهور. و لعلّه لما في الدروس، قال: «و نقل الحسن: أن للإمام ذلك إن شاء، لمفهوم قول علي «ع»: إني مننت على أهل البصرة كما منّ رسول اللّه «ص» على أهل مكة. و قد كان لرسول اللّه «ص» أن يسبي فكذا الإمام «ع»، و هو شاذّ.» «1»

10- و فيه أيضا في ذيل المسألة الثانية في حكم ما لم يحوها العسكر من الأموال قال:

«بلا خلاف أجده في شي ء من ذلك، بل في المسالك هو موضع وفاق، بل في صريح المنتهى و الدروس و محكي الغنية و التحرير الإجماع عليه، بل يمكن دعوى القطع به بملاحظة ما وقع من أمير المؤمنين «ع» في حرب أهل البصرة و النهر بعد الاستيلاء عليهم.» «2»

11- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«الحنفية و المالكية قالوا: لا يجوز أن يسبى للبغاة ذرية لأنهم مسلمون. و لا يقسم لهم مال لعدم الاستغنام فيها، لقول الإمام علي «رض» يوم الجمل: «و لا يقتل أسير، و لا يكشف ستر، و لا يؤخذ مال.» و هو القدوة لنا في هذا الباب، و لأنهم مسلمون، و الإسلام يعصم النفس و المال. و لا بأس بأن يقاتلوا بسلاحهم إن احتاج المسلمون إليه، لأن الإمام عليا

«رض» قسم السلاح فيما بين أصحابه بالبصرة، و كانت قسمته للحاجة لا للتملك ... و روى ابن أبي شيبة أن عليّا لما هزم طلحة و أصحابه أمر مناديه فنادى: أن لا يقتل مقبل و لا مدبر- يعني بعد الهزيمة- و لا يفتح باب، و لا يستحل فرج و لا مال ...

الشافعية قالوا ...: و يحبس أسيرهم و إن كان صبيّا أو امرأة أو عبدا حتى تنقضي الحرب و يفرق جمعهم و قالوا: إذا انقضت الحرب يجب على الإمام أن يردّ إلى البغاة سلاحهم و خيلهم و غيرها، و يحرم استعمال شي ء من سلاحهم و خيلهم و غيرها من أموالهم إلّا لضرورة ...

الحنفية قالوا: و يحبس الإمام أموال البغاة، فلا يردّها عليهم و لا يقسمها حتى يتوبوا

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 334.

(2)- الجواهر 21/ 339.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 302

فيردها عليهم. أما عدم القسمة فلأنها ليست غنائم، و أما الحبس فلدفع شرهم بكسر شوكتهم و لهذا يحبسها عنهم ...» «1»

أقول: من المحتمل كون كلمة «الحنفية» الأخيرة مصحف «الحنابلة».

12- و في مختصر الخرقي في فقه الحنابلة:

«و إذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر و لا يجاز على جريحهم و لم يقتل لهم أسير، و لم يغنم لهم مال و لم تسب لهم ذرية.» «2»

و في المغني شرح المختصر:

«فصل: فأما غنيمة أموالهم و سبي ذريتهم فلا نعلم في تحريمه بين أهل العلم خلافا، و قد ذكرنا حديث أبي أمامة و ابن مسعود، و لأنهم معصومون و إنما أبيح من دمائهم و أموالهم ما حصل من ضرورة دفعهم و قتالهم، و ما عداه يبقى على أصل التحريم.

و قد روي أن عليا «ع» يوم الجمل قال:

«من عرف شيئا من ماله مع أحد فليأخذه.» و كان بعض أصحاب عليّ قد أخذ قدرا و هو يطبخ فيها، فجاء صاحبها ليأخذها فسأله الذي يطبخ فيها إمهاله حتى ينضج الطبيخ فأبى و كبّه و أخذها ...

و لأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم و ردّهم إلى الحق لا لكفرهم، فلا يستباح منهم إلّا ما حصل ضرورة الدفع كالصائل و قاطع الطريق، و بقي حكم المال و الذريّة على أصل العصمة.

و ما أخذ من كراعهم و سلاحهم لم يردّ إليهم حال الحرب لئلا يقاتلونا به.

و ذكر القاضي: أن أحمد أومأ إلى جواز الانتفاع به حال التحام الحرب و لا يجوز في غير قتالهم. و هذا قول أبي حنيفة، لأن هذه الحال يجوز فيها إتلاف نفوسهم و حبس سلاحهم و كراعهم فجاز الانتفاع به كسلاح أهل الحرب.

و قال الشافعي: لا يجوز ذلك إلّا من ضرورة إليه، لأنه مال مسلم فلم يجز الانتفاع به بغير إذنه كغيره من أموالهم ...» «3»

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 421.

(2)- المغني 10/ 63.

(3)- المغني 10/ 65.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 303

و بالجملة، فالظاهر إجماع أصحابنا الإمامية بل جميع الفقهاء من الفريقين على حرمة سبي النساء و الذراريّ منهم، و كذا حرمة اغتنام أموالهم التي لم يحوها العسكر.

و إنما وقع الاختلاف من فقهائنا في أموالهم التي حواها العسكر، فأحلّها بعضهم و حرّمها آخرون.

فالمسألة تنحل إلى ثلاث مسائل:
[الدليل من الأخبار على المسألتين الأوليين]

و يدلّ على المسألتين الأوليين- مضافا إلى الإجماع و عدم الخلاف بين المسلمين و الأصل المسلّم في نفس المسلم و ماله و عرضه المستفاد من الكتاب و السنة- أخبار كثيرة:

1- خبر حفص، عن جعفر، عن أبيه، عن جدّه، عن مروان بن الحكم، قال:

لما

هزمنا علي «ع» بالبصرة ردّ على الناس أموالهم، من أقام بيّنة اعطاه، و من لم يقم بيّنة أحلفه. قال: فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، اقسم الفي ء بيننا و السبي. قال: فلما أكثروا عليه قال: «أيّكم يأخذ أمّ المؤمنين في سهمه؟» فكفّوا. «1»

2- مرسلة صدوق، قال: «و قد روي أنّ الناس اجتمعوا إلى أمير المؤمنين «ع» يوم البصرة فقالوا: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا غنائمهم. قال: أيّكم يأخذ أمّ المؤمنين في سهمه؟» «2»

3- و قد مرّ عن المبسوط قوله: «و روي أن عليّا «ع» لمّا هزم الناس يوم الجمل قالوا له: يا أمير المؤمنين، ألا تأخذ أموالهم؟ قال: لا، لأنهم تحرّموا بحرمة الإسلام فلا يحلّ أموالهم في دار الهجرة.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

(2)- الوسائل 11/ 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 7.

(3)- المبسوط 7/ 266.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 304

4- و مرّ عنه أيضا قوله: «و روى أبو قيس أنّ عليّا «ع» نادى: من وجد ماله فليأخذه، فمرّ بنا رجل فعرف قدرا يطبخ فيها فسألناه أن يصبر حتى ينضج فلم يفعل و رمى برجله فأخذها.» «1»

5- و في دعائم الإسلام: «روينا عن علي «ع»: أنه لمّا هزم أهل الجمل جمع كل ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمّسه و قسم أربعة أخماسه على أصحابه و مضى. فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا ذراريّهم و أموالهم. قال: ليس لكم ذلك. قالوا: و كيف أحللت لنا دماءهم و لا تحلّ لنا سبي ذراريّهم؟ قال: حاربنا الرجال فحاربناهم، فأما النساء و الذراريّ فلا سبيل لنا

عليهنّ، لأنهنّ مسلمات و في دار هجرة، فليس لكم عليهنّ سبيل. فأما ما أجلبوا عليكم به و استعانوا به على حربكم و ضمّه عسكرهم و حواه فهو لكم، و ما كان في دورهم فهو ميراث على فرائض اللّه لذراريّهم، و على نسائهم العدّة، و ليس لكم عليهن و لا على الذراريّ من سبيل. فراجعوه في ذلك، فلمّا أكثروا عليه قال: هاتوا سهامكم و اضربوا على عائشة أيّكم يأخذها فهي رأس الأمر.

قالوا: نستغفر اللّه. قال: و أنا أستغفر اللّه. فسكتوا. و لم يعرض لما كان في دورهم، و لا لنسائهم، و لا لذراريّهم. و هذه السيرة في أهل البغي.» «2»

و رواه عنه في المستدرك. «3» إلى غير ذلك، و سيأتي بعضها في المسألة الثالثة.

6- و في سنن البيهقي بسنده، عن حمير بن مالك، قال: سمعت عمّار بن ياسر سأل عليا «ع» عن سبي الذرية، فقال: «ليس عليهم سبي، إنما قاتلنا من قاتلنا.» قال:

لو قلت غير ذلك لخالفتك. «4»

7- و قد مرّ عن البيهقي أيضا في ذيل خبر عبد اللّه بن مسعود عن رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- المبسوط 7/ 266.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 395، كتاب الجهاد- ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(4)- سنن البيهقي 8/ 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 305

برواية الخوارزمي: «و لا يقسم فيئهم.» «1»

8- و مرّ عنه أيضا خبر حفص بن غياث، عن جعفر بن محمد، عن أبيه «ع»، قال: أمر علي «ع» مناديه فنادى يوم البصرة ... و لم يأخذ من متاعهم شيئا. «2»

9- و

في البيهقي أيضا بسنده، عن شقيق بن سلمة، قال: «لم يسب علي «ع» يوم الجمل و لا يوم النهروان.» «3» هذا.

و لكن يظهر من أخبار كثيرة أن ما صنعه أمير المؤمنين «ع» أو أمر به في أهل البصرة وقع منه منّا عليهم كما منّ رسول اللّه «ص» على أهل مكة، و أنه «ع» أراد بذلك أن يقتدى به بالنسبة إلى شيعته، لما كان يعلم من غلبة الدول الباطلة الظالمة عليهم في الأزمنة اللاحقة، و إلّا كان له- عليهم السلام- السبي و الاستغنام.

و إذا انقضى زمان الهدنة و ظهر القائم «ع» سار فيهم بالسيف و السبي و الاستغنام:

1- ففي الوسائل بسند لا بأس به، عن أبي بكر الحضرمي، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: لسيرة علي «ع» في أهل البصرة كانت خيرا لشيعته مما طلعت عليه الشمس، إنه علم أن للقوم دولة فلو سباهم لسبيت شيعته. قلت: فأخبرني عن القائم «ع» يسير بسيرته؟ قال: لا، إن عليا «ع» سار فيهم بالمنّ لما علم من دولتهم، و إن القائم يسير فيهم بخلاف تلك السيرة لأنه لا دولة لهم.» «4»

2- و فيه أيضا بسنده، عن الحسن بن هارون بيّاع الأنماط، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» جالسا فسأله معلى بن خنيس أ يسير الإمام (القائم خ. ل) بخلاف سيرة علي «ع»؟ قال: «نعم، و ذلك أن عليا «ع» سار بالمنّ و الكفّ، لأنه علم أن شيعته سيظهر

______________________________

(1)- سنن البيهقي 8/ 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(2)- سنن البيهقي 8/ 181، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل البغي إذا فاءوا ...

(3)- سنن البيهقي 8/ 182، كتاب قتال أهل البغي، باب أهل

البغي إذا فاءوا ...

(4)- الوسائل 11/ 56، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 306

عليهم، و أن القائم «ع» إذا قام سار فيهم بالسيف و السبي، لأنه يعلم أن شيعته لن يظهر عليهم من بعده أبدا.» «1»

3- و فيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة الثمالي، قال: «قلت لعلي بن الحسين «ع»: بما سار علي بن أبي طالب «ع»؟ فقال: إن أبا اليقظان كان رجلا حادّا- رحمه اللّه- فقال:

يا أمير المؤمنين، بما تسير في هؤلاء غدا؟ فقال: بالمنّ، كما سار رسول اللّه «ص» في أهل مكة.» «2»

4- و فيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع»، قال: «لو لا أن عليّا «ع» سار في أهل حربه بالكفّ عن السبي و الغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما. ثم قال: و اللّه لسيرته كانت خيرا لكم مما طلعت عليه الشمس.» «3»

5- و فيه أيضا بسنده، عن عبد اللّه بن سليمان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»:

إن الناس يروون أن عليا «ع» قتل أهل البصرة و ترك أموالهم، فقال: إن دار الشرك يحلّ ما فيها، و إن دار الإسلام لا يحلّ ما فيها. فقال «ع»: «إن عليّا «ع» إنما منّ عليهم كما منّ رسول اللّه «ص» على أهل مكة. و إنما ترك علي «ع» أموالهم لأنه كان يعلم أنه سيكون له شيعة، و أن دولة الباطل ستظهر عليهم، فأراد أن يقتدى به في شيعته، و قد رأيتم آثار ذلك، هو ذا يسار في الناس بسيرة علي «ع» و لو قتل علي «ع» أهل البصرة جميعا و اتخذ أموالهم لكان ذلك له حلالا، لكنه منّ عليهم

ليمنّ على شيعته من بعده.» «4»

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة بهذا المضمون.

[العمدة في المسألتين هي الإجماعات المدعاة]

أقول: العمدة في المسألتين هي الإجماعات المدعاة فيهما و تسالم الفريقين على المنع، بل كأنه من ضروريات الفقه. و لو لا ذلك أمكن المناقشة في أخبار المنع- مضافا إلى ضعف السند أو الإرسال فيها و عدم دلالة بعضها- باحتمال صدورها

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 57، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(2)- الوسائل 11/ 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(3)- الوسائل 11/ 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(4)- الوسائل 11/ 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 307

تقية أو لمصلحة خاصة موسمية، يشهد لها ما يعلم من وضع أمير المؤمنين «ع» في عصره من كثرة المخالفين له المنتهزين للفرصة على النقاش و الاعتراض، و ظهور مثل قوله «ع»: «أيّكم يأخذ أم المؤمنين في سهمه»، في كونه جوابا إسكاتيا. و يشهد لذلك كله الأخبار الكثيرة الدالة على وقوع الحكم هدنة و منّا على ما مرّ. هذا.

و لكن يستفاد من الجواهر أن المستفاد من هذه الأخبار أن التقية جعلت الحكم بالمنع ثابتا في جميع زمان الهدنة إلى عصر ظهور القائم بالحق. «1»

و مقتضى ذلك أن الحكم الأولي و إن اقتضى عدم الاحترام لمن بغى على الإمام العادل لا لنفسه و لا لماله و ذريته، و كونه في ذلك بحكم الكفار، و لكن التقية و الضرورة المستمرتين أوجبتا إجراء أحكام الإسلام عليهم و احترام نفوسهم و أموالهم في جميع زمان الهدنة. فالمنّ الصادر عن أمير المؤمنين «ع» و إن كان حكما ولائيا و لكنه حكم ولائي مستمر

لا يختص بأهل البصرة و نحوهم.

و قد مرّ منّا مرارا أن الأحكام السلطانية الصادرة عن النبي «ص» و الأئمة «ع» على قسمين: بعضها أحكام خاصة موسمية، و بعضها أحكام سلطانية مستمرة، نظير ما احتملناه في قول النبيّ «ص»: «لا ضرر» من كونه حكما سلطانيا له «ص»، و نظير وضع رسول اللّه «ص» الزكاة في تسعة و عفوه عما سواها على ما في بعض الأخبار و أفتى به المشهور، فتدبّر.

و كيف كان فالظاهر إجماع الفقهاء من الشيعة و السنة على المنع في النساء و الذراريّ و أموالهم التي لم يحوها العسكر. و إنما الإشكال و الخلاف في أموالهم التي حواها العسكر، و لا سيما وسائل الحرب و أدواتها.

قال العلامة في جهاد المختلف:

«مسألة: اختلف علماؤنا في قسمة ما حواه العسكر من أموال البغاة: فذهب السيد المرتضى في المسائل الناصرية إلى أنها لا تقسم و لا تغنم. قال: و مرجع الناس في

______________________________

(1)- راجع الجواهر 21/ 335.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 308

ذلك كله إلى ما قضى به أمير المؤمنين «ع» في محاربي أهل البصرة، فإنه منع من غنيمة أموالهم و قسمتها كما تقسم أموال أهل الحرب. و لا أعلم خلافا من الفقهاء في ذلك ...

و إنما اختلف الفقهاء في الانتفاع بدوابّ أهل البغي و سلاحهم في دار الحرب.

و قال الشافعي: لا يجوز. و جوزه أبو حنيفة ... و ابن إدريس وافق السيد المرتضى.

و قال ابن أبي عقيل: يقسم أموالهم التي حواها العسكر.

و قال الشيخ في الخلاف: ما يحويه عسكر البغاة يجوز أخذه و الانتفاع به و يكون غنيمة يقسم في المقاتلة، و ما لم يحوه العسكر لا يتعرض له، و استدل على

ذلك بإجماع الفرقة و أخبارهم ...

و قال في النهاية: يجوز للإمام أن يأخذ من أموالهم ما حواه العسكر و يقسم في المقاتلة حسب ما قدمناه، و ليس له ما لم يحوه. و جوز ابن الجنيد قسمة ما حواه العسكر أيضا، و هو اختيار ابن البراج و أبي الصلاح.

و استدل ابن أبي عقيل بما روي أن رجلا من عبد القيس قام يوم الجمل فقال:

يا أمير المؤمنين، ما عدلت حين تقسم بيننا أموالهم و لا تقسم بيننا نساءهم و لا أبناءهم، فقال له: إن كنت كاذبا فلا أماتك اللّه حتى تدرك غلام ثقيف، و ذلك إن دار الهجرة حرمت ما فيها و دار الشرك أحلّت ما فيها، فأيّكم يأخذ أمه من سهمه؟ ...

و الأقرب ما ذهب إليه الشيخ في النهاية. لنا ما رواه ابن أبي عقيل، و هو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله لعدالته و معرفته ...» «1»

أقول: و ذكر هو- قدّس سرّه- للجواز أدلّة غير مقنعة، فراجع. فالعلّامة في المختلف جعل المسألة ذات قولين، كما ترى. و قد مرّ في صدر المسألة بعض كلمات الفقهاء: فالسيّد المرتضى في الناصريات أفتى بالمنع، و تبعه ابن إدريس في السرائر و ادّعى عليه إجماع أصحابنا و إجماع المسلمين.

و ظاهر الشيخ في موضع من المبسوط أيضا المنع، و في النهاية و الخلاف و موضع

______________________________

(1)- المختلف 1/ 336.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 309

من المبسوط الجواز، و ادعى عليه في الخلاف إجماع الفرقة و أخبارهم.

و في الغنية:

«و لا يغنم ممن أظهر الإسلام و من البغاة و المحاربين إلّا ما حواه العسكر من الأموال و الأمتعة التي تخصهم ... كل ذلك بدليل الإجماع المشار إليه.» «1»

و في الشرائع أيضا استظهر الجواز، كما مرّ.

و في المسالك:

«القول بالجواز للأكثر و منهم المصنف و العلامة في المختلف. و من حججهم سيرة علي «ع» في أهل الجمل، فإنه قسمه بين المقاتلين ثم رده على أربابه.» «2»

و في الدروس:

«و يقسم أموالهم التي لم يحوها العسكر إجماعا. و جوز المرتضى قتالهم بسلاحهم على دوابّهم، لعموم قوله- تعالى-: «فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ.» و ما حواه العسكر إذا رجعوا إلى طاعة الإمام حرام أيضا. و إن أصرّوا فالأكثر على أن قسمته كقسمة الغنيمة. و أنكره المرتضى و ابن إدريس، و هو الأقرب عملا بسيرة علي «ع» في أهل البصرة، فإنه أمر بردّ أموالهم فأخذت حتى القدور.» «3»

و في التذكرة بعد ذكر القولين في المسألة و نسبتهما إلى الشيخ أيضا قال:

«احتج الشيخ بسيرة علي «ع» و لأنهم أهل قتال فحلّت أموالهم كأهل الحرب.

و السيرة معارضة بمثلها، و الفرق ما تقدم.

و لا استبعاد في الجمع بين القولين و تصديق نقلة السيرتين، فيقال بالقسمة للأموال إذا كان لهم فئة يرجعون إليها، إضعافا لهم و حسما لمادة فسادهم، و بعدمها فيما إذا لم تكن لهم فئة لحصول الغرض فيهم من تفريق كلمتهم و تبدد شملهم، هذا هو الذي اعتمده.» «4»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 522 (ط. أخرى/ 584).

(2)- المسالك 1/ 160.

(3)- الدروس/ 164.

(4)- التذكرة 1/ 456.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 310

و ما ذكره من التفصيل إحداث قول ثالث، و كأنه نحو قياس للمسألة على سابقتها، و السيرتان كلتاهما نقلتا في حرب البصرة أيضا. هذا.

و فقهاء السنة جميعا على منع القسمة و التملك. نعم، أجاز بعضهم الانتفاع بمالهم من آلات الحرب و أدواتها من دون

تملك لها، و ارتضاه المرتضى أيضا كما مرّ.

أقول: فأنت ترى أن المسألة مختلف فيها و أن كلا من القولين استدل له بالإجماع و بسيرة علي «ع» في أهل البصرة، و روى في المبسوط مراسيل بعضها يدل على الجواز و بعضها على المنع.

و لا يخفى أن ادعاء الإجماع في كل من الطرفين موهون بوجود الخلاف و بادعائه في الطرف الآخر. و المراسيل لا يعتمد عليها إلّا إذا ضمّ بعضها إلى بعض بحيث حصل العلم الإجمالي بصدور بعضها، و نعبر عن ذلك بالتواتر الإجمالي.

و يظهر من الروايات المستفيضة و من كتب التواريخ أن أمير المؤمنين «ع» في حرب البصرة أجاز قسمة الأموال التي حواها العسكر أولا أو قسمها بنفسه ثم أمر بردّها. فلو ثبت ذلك بنحو القطع دلّ على الجواز و الحلّ و أن الردّ ثانيا وقع منه منّا و عفوا. فالعمدة إذا إثبات تحقق التقسيم منه «ع» أو بإجازته أولا. هذا.

[الأخبار التي يستفاد منها الجواز إجمالا أو إجازة التقسيم]

و الأخبار التي يستفاد منها الجواز إجمالا أو إجازة التقسيم و إنفاذه كثيرة، فلنذكر ما عثرنا عليه، و لعلّه يحصل القطع بصدور بعضها:

1- ففي الوسائل، عن الكافي، قال: و في حديث مالك بن أعين قال: حرّض أمير المؤمنين «ع» بصفين فقال: «... و إذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا و لا تدخلوا دارا و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، و لا تهيّجوا امرأة بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم. الحديث.» «1»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 71، الباب 34 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 311

و مورده كما ترى حرب صفّين، و ما في العسكر أعمّ من

آلات الحرب و غيرها.

2- و في كتاب صفين: عمر بن سعد و حدثني رجل، عن عبد اللّه بن جندب، عن أبيه أن عليا «ع» كان يأمرنا في كل موطن لقينا معه عدوه يقول: «لا تقاتلوا القوم حتى يبدءوكم ... فإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا سترا، و لا تدخلوا دارا إلّا بإذني، و لا تأخذوا شيئا من أموالهم إلّا ما وجدتم في عسكرهم، و لا تهيّجوا امرأة بأذى و إن شتمن أعراضكم.

الحديث.» «1» و رواه عنه في المستدرك. «2»

3- المرسل الذي مرّ من المبسوط، حيث قال: «و قد روى أصحابنا أن ما يحويه العسكر من الأموال فإنه يغنم.» «3»

4- مرسل ابن أبي عقيل الذي مرّ آنفا عن المختلف، و قد اعتمد عليه العلامة و قال: هو شيخ من علمائنا تقبل مراسيله لعدالته و معرفته. و لكن يمكن أن يقال:

إن مجرد عدالة الرجل و معرفته لا يوجبان حجية مراسيله إلّا إذا احتفّت بما يوجب الوثوق بالصدور، نعم تصلح للتأييد.

5- و في دعائم الإسلام: «روينا عن علي «ع» أنه لمّا هزم أهل الجمل جمع كل ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمّسه و قسم أربعة أخماسه على أصحابه و مضى، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه: يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا ذراريّهم و أموالهم. قال: ليس لكم ذلك. قالوا: و كيف أحللت لنا دماءهم و لا تحلّ لنا سبي ذراريّهم؟ قال: حاربنا الرجال فحاربناهم، فأما النساء و الذراريّ فلا سبيل لنا عليهنّ لأنهن مسلمات و في دار هجرة فليس لكم عليهن سبيل، فأما ما أجلبوا عليكم به و استعانوا به على

______________________________

(1)- وقعة صفين/ 203.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 259، الباب 32 من أبواب جهاد

العدوّ، الحديث 9.

(3)- المبسوط 7/ 266.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 312

حربكم و ضمّه عسكرهم و حواه فهو لكم. الحديث.» «1» و قد مرّ بتمامه. و رواه عنه في المستدرك. «2»

6- و فيه أيضا بعد هذا الحديث بلا فصل: و عنه «ع» أنّه قال: «ما أجلب به أهل البغي من مال و سلاح و كراع و متاع و حيوان و عبد و أمة و قليل و كثير فهو في ء يخمّس و يقسم، كما تقسم غنائم المشركين.» «3» و رواه عنه في المستدرك. «4»

7- و في المستدرك، عن شرح الأخبار لصاحب الدعائم، عن موسى بن طلحة بن عبيد اللّه- و كان فيمن أسر يوم الجمل و حبس مع من حبس من الأسارى بالبصرة- فقال: كنت في سجن علي «ع» بالبصرة حتى سمعت المنادي ينادي: أين موسى بن طلحة بن عبيد اللّه، قال: فاسترجعت و استرجع أهل السجن و قالوا:

يقتلك، فأخرجني إليه فلمّا وقفت بين يديه قال لي: يا موسى، قلت: لبيك يا أمير المؤمنين، قال: قل: أستغفر اللّه، قلت أستغفر اللّه و أتوب اليه- ثلاث مرات- فقال لمن كان معي من رسله: خلّوا عنه، و قال لي: اذهب حيث شئت و ما وجدت لك في عسكرنا من سلاح أو كراع فخذه و اتّق اللّه فيما تستقبله من أمرك و اجلس في بيتك. فشكرت و انصرفت. و كان علي «ع» قد أغنم أصحابه ما أجلب به أهل البصرة إلى قتاله- أجلبوا به يعني: أتوا به في عسكرهم- و لم يعرض لشي ء غير ذلك لورثتهم، و خمّس ما أغنمه مما أجلبوا به عليه، فجرت أيضا بذلك السنة.» «5»

8- و فيه أيضا عن شرح

الأخبار، عن إسماعيل بن موسى بإسناده، عن أبي البختري، قال لمّا انتهى علي «ع» إلى البصرة ... فأمر علي «ع» مناديا ينادي:

لا تطعنوا في غير مقبل ... و ما كان بالعسكر فهو لكم مغنم، و ما كان في الدور فهو ميراث ... فقالوا:

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 395، كتاب الجهاد- ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(3)- دعائم الإسلام 1/ 396، كتاب الجهاد- ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.

(4)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(5)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 313

يا أمير المؤمنين، من أين أحللت لنا دماءهم و أموالهم و حرمت علينا نساءهم؟

الحديث.» «1»

9- و في كتاب الجمل للشيخ المفيد- قدّس سرّه-: «روى مطر بن خليفة، عن منذر الثوري، قال: لما انهزم الناس يوم الجمل أمر أمير المؤمنين «ع» مناديا ينادي:

أن لا تجهزوا على جريح و لا تتبعوا مدبرا. و قسم ما حواه العسكر من السلاح و الكراع.

و روى سفيان بن سعد، قال: قال عمّار لأمير المؤمنين «ع»: ما ترى في سبي الذرية؟ قال: ما أرى عليهم من سبيل، إنما قاتلنا من قاتلنا. و لمّا قسم ما حواه العسكر قال له بعض القرّاء من أصحابه: اقسم من ذراريّهم لنا و اموالهم، و إلّا فما الذي أحلّ دماءهم و لم يحلّ أموالهم؟ ...

و روى سعد بن جشم، عن خارجة، عن مصعب، عن أبيه، قال: شهدنا مع أمير المؤمنين «ع» الجمل، فلما ظفرنا بهم خرجنا في طلب الطعام، فجعلنا نمرّ بالذهب و الفضة

فلا نتعرض له و إذا وجدنا الطعام أصبنا منه.

قال: و قسم علي «ع» ما وجده في العسكر من طيب بين نسائنا ...

و لما قسم ما حواه العسكر أمر بفرس فيه كادت أن تباع، فقام إليه رجل قال:

يا أمير المؤمنين، هذه الفرس لي كانت، و إنما أعرتها لفلان، و لم أعلم أنه يخرج عليها، فسأله البيّنة على ذلك، فأقام البيّنة أنها عارية، فردها و قسم ما سوى ذلك.

و روى نصر بن (نصر، عن- ظ.) عمر بن سعد، عن أبي خالد، عن عبد اللّه بن عاصم، عن محمد بن بشير الهمداني، عن الحارث بن سريع، قال: لمّا ظهر أمير المؤمنين «ع» على أهل البصرة و قسم ما حواه العسكر قام فيهم خطيبا.

الحديث.» «2»

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 252، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(2)- الجمل/ 216.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 314

فهذه روايات مستفيضة رواها المفيد يظهر منها تحقق القسمة بالنسبة إلى ما حواه العسكر إجمالا في حرب الجمل، و إن كان يظهر من بعضها وقوع القسمة على آلات الحرب فقط.

10- و في مروج الذهب في قصة الجمل قال: «و قبض ما كان في عسكرهم من سلاح و دابة و متاع و آلة و غير ذلك، فباعه و قسمه بين أصحابه.» «1»

11- و في الإمامة و السياسة لابن قتيبة: «ثم أمر المنادي فنادى: لا يقتلن مدبر و لا يجهز على جريح، و لكم ما في عسكرهم. و على نسائهم العدّة. و ما كان لهم من مال في أهليهم فهو ميراث على فرائض اللّه ...» «2»

12- و في المستدرك، عن الحسين بن حمدان الحضيني في الهداية، عن محمد بن علي، عن الحسن

بن علي بن أبي حمزة، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه الصادق «ع» في حديث طويل في قصة أهل النهروان ...

قال لهم علي «ع»: فأخبروني ما ذا أنكرتم عليّ؟ قالوا: أنكرنا أشياء يحلّ لنا قتلك بواحدة منها ...

و أما ثانيها أنك حكمت يوم الجمل فيهم بحكم خالفته بصفين، قلت لنا يوم الجمل: لا تقتلوهم مولّين و لا مدبرين و لا نياما و لا أيقاظا و لا تجهزوا على جريح، و من ألقى سلاحه فهو آمن، و من أغلق بابه فلا سبيل عليه، و أحللت لنا سبي الكراع و السلاح و حرمت علينا سبي الذراريّ.

و قلت لنا بصفين: اقتلوهم مدبرين و نياما و أيقاظا و جهّزوا على كل جريح، و من ألقى سلاحه فاقتلوه، و من أغلق بابه فاقتلوه، و أحللت لنا سبي الكراع و السلاح و الذراريّ. فما العلة فيما اختلف فيه الحكمان؟ إن يكن هذا حلالا فهذا حلال، و إن يكن هذا حراما فهذا حرام ...

ثم قال- عليه السلام-: و أما حكمي يوم الجمل بما خالفته يوم صفين فإن أهل الجمل ... لم تكن لهم دار حرب تجمعهم، و لا إمام يداوي جريحهم و يعيدهم إلى قتالكم مرة أخرى، و أحللت لكم الكراع و السلاح، و حرمت الذراريّ فأيّكم يأخذ عائشة زوجة النبي «ص» في سهمه؟ ...

______________________________

(1)- مروج الذهب 2/ 15.

(2)- الإمامة و السياسة 1/ 72.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 315

و أما قولي بصفين: اقتلوهم مولّين و مدبرين ... و أحللت لكم سبي الكراع و السلاح و سبي الذراريّ، و ذاك حكم اللّه- عزّ و جلّ-، لأن لهم دار حرب قائمة و إماما منتصبا يداوي جريحهم ...

و

من خرج من بيعتنا فقد خرج من الدين و صار ماله و ذراريّه بعد دمه حلالا. الحديث.»

و رواه القاضي نعمان في كتاب شرح الأخبار، عن أحمد بن شعيب الساري بإسناده، عن عبد اللّه بن عباس مثله باختلاف يسير «1».

أقول: ما في هذه الرواية من إحلال سبي الذراريّ في صفين غير معهود بل هو متروك قطعا، لما مرّ من إجماع المسلمين بل ضرورة الفقه الإسلامي على حرمة سبي النساء و الذراريّ من البغاة مطلقا.

13- و في مسند زيد، عن علي «ع»: «أنه خمّس ما حواه عسكر أهل النهروان و أهل البصرة، و لم يعترض ما سوى ذلك.» «2»

إذ الظاهر منه تقسيم الأخماس الباقية.

14- و في شرح ابن أبي الحديد لنهج البلاغة: «اتّفقت الرواة كلها على أنه- عليه السلام- قبض ما وجد في عسكر الجمل من سلاح و دابّة و مملوك و متاع و عروض، فقسمه بين أصحابه، و أنهم قالوا له: اقسم بيننا أهل البصرة فاجعلهم رقيقا، فقال: لا. فقالوا: فكيف تحلّ لنا دماءهم و تحرم علينا سبيهم؟! فقال: كيف يحلّ لكم ذرية ضعيفة في دار هجرة و إسلام؟! أما ما أجلب به القوم في معسكرهم عليكم فهو لكم مغنم، و أما ما وارت الدور و أغلقت عليه الأبواب فهو لأهله، و لا نصيب لكم في شي ء منه.

فلمّا أكثروا عليه قال: فاقرعوا على عائشة لأدفعها إلى من تصيبه القرعة. فقالوا: نستغفر اللّه يا أمير المؤمنين، ثم انصرفوا.» «3» إلى غير ذلك مما ورد في التواريخ.

و كيف كان فالظاهر أن الأموال التي حواها العسكر يجوز اغتنامها، وفاقا للأكثر

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 253، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 9.

(2)- مسند زيد/ 321، كتاب السير،

باب قتال أهل البغي.

(3)- شرح ابن أبي الحديد 1/ 250.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 316

لما مرّ من الأخبار الكثيرة الواردة في حرب الجمل و صفين التي ربما يحصل القطع بصدور بعضها إجمالا.

فإن قلت: يعارض هذه الأخبار ما دلت على حرمة اغتنام أموالهم مطلقا، و قد مرّ بعضها و منها صحيحة زرارة السابقة، عن أبي جعفر «ع»: «لو لا أن عليّا «ع» سار في أهل حربه بالكفّ عن السبي و الغنيمة للقيت شيعته من الناس بلاء عظيما. الحديث.» «1»

قلت: الأخبار المطلقة المانعة تحمل على الأخبار المفصلة بين ما حواها العسكر و ما لم يحوها، فلاحظ خبر الدعائم الذي مر، حيث قال: «روينا عن علي «ع» أنه لمّا هزم أهل الجمل جمع كل ما أصابه في عسكرهم مما أجلبوا به عليه فخمّسه و قسم أربعة أخماسه على أصحابه و مضى، فلما صار إلى البصرة قال أصحابه:

يا أمير المؤمنين، اقسم بيننا ذراريّهم و أموالهم. قال: ليس لكم ذلك. الحديث.» «2»

فهم مع قسمة ما حواها العسكر بينهم استدعوا قسمة الذراريّ و الأموال، و أجابهم- عليه السلام- بالمنع و أنه ليس لهم ذلك. فيظهر بذلك أن الأموال الممنوع تقسيمها هي ما لم يحوها العسكر، و أما ما حواها العسكر فكان جواز قسمتها مفروغا عنه.

و ردّها في الجمل بعد ذلك وقع امتنانا، و لعلّه «ع» جبر ذلك لأصحابه من بيت المال.

فإن قلت: كما دلّت الروايات على وقوع التقسيم إجمالا في حرب البصرة فقد دلّت على ردّ الأموال أيضا منّا و عفوا، و قد مرّ أنه يظهر من الأخبار أن المنّ منه «ع» كان حكما ولائيا مستمرا في جميع زمان الهدنة إلى قيام القائم «ع»، كما

في السبى و الأموال التي لم يحوها العسكر، فراجع ما حكيناه في المقام عن صاحب الجواهر.

قلت: شمول أخبار المنّ المستمر للأموال التي حواها العسكر غير معلوم، فيؤخذ

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 59، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 395، كتاب الجهاد- ذكر الحكم في غنائم أهل البغي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 317

بأخبار الجواز فإنها خاصة و العام لا يعارض الخاص، و قد أفتى الأكثر بالجواز كما مرّ.

كيف و لو كان المنّ الواقع منه «ع» في الجمل حكما مستمرا فلم أجاز اغتنام ما في العسكر في حرب صفين، كما مرّ في خبر مالك بن أعين و خبر جندب؟! اللّهم إلّا أن نفصّل بين من له فئة و غيره، كما حكيناه عن التذكرة.

هذا مضافا إلى أن اغتنام الأموال التي حواها العسكر و مصادرتها أمر عرفي استقرت عليه سيرة العقلاء في جميع الأعصار، لوقوعها في طريق البغي و التجاوز، فكأنها تصادر على سبيل المقابلة و التقاصّ كما أشار إليه المرتضى في الناصريات، و لأن من جاء بها إلى أثناء المعركة بغيا و عدوانا فكأنه عرّضها للتلف كما عرّض نفسه له فلا يبقى لها حرمة. هذا كله بالنسبة إلى الأموال الشخصية للبغاة.

و أما الأسلحة و الأمتعة و الرواتب التي وزّعتها الدولة الباغية على جنودها فهي من الأموال العامة، و أمرها موكول إلى إمام المسلمين و وليّ أمرهم بلا إشكال و له إجازة تقسيمها بين جنده تشويقا لهم.

و من المحتمل بعيدا أن يراد بما حواها العسكر في الروايات هذه الأموال لا الأموال الشخصية للبغاة.

و ربما يشهد لذلك ما في تاريخ الطبري، قال: «و دفن علي «ع» الأطراف في قبر عظيم،

و جمع ما كان في العسكر من شي ء ثم بعث به إلى مسجد البصرة: أن من عرف شيئا فليأخذه إلّا سلاحا كان في الخزائن عليه سمة السلطان فإنه مما بقي ما لم يعرف، خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال اللّه- عزّ و جلّ-، لا يحلّ لمسلم من مال المسلم المتوفى شي ء، و إنما كان ذلك السلاح في أيديهم من غير تنفل من السلطان.» «1» هذا.

و قد طال البحث في باب الغنائم، و لعلّ التطويل مخالف لوضع هذا الكتاب و لكنه حيث لم نبحث في الغنائم قبل ذلك أطلنا البحث فيها هنا بخلاف الزكاة و الخمس، حيث استوفينا البحث فيهما قبل ذلك، و قد طبع ما كتبناه فيهما، فراجع.

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 6/ 3223 (ط. ليدن).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 319

الفصل الرابع في بيان مفهوم الفي ء و ذكر بعض مصاديقه

[معنى الفي ء في سورة الحشر و بيان نزولها]

و الظاهر أن هذه الكلمة مأخوذة من كلامه- تعالى- في سورة الحشر، فلنتعرض له إجمالا:

قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلىٰ مَنْ يَشٰاءُ، وَ اللّٰهُ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لٰا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيٰاءِ مِنْكُمْ، وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ مٰا نَهٰاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللّٰهَ إِنَّ اللّٰهَ شَدِيدُ الْعِقٰابِ* لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ وَ أَمْوٰالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللّٰهِ وَ رِضْوٰاناً وَ يَنْصُرُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ أُولٰئِكَ هُمُ الصّٰادِقُونَ* وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ وَ الْإِيمٰانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هٰاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لٰا يَجِدُونَ فِي

صُدُورِهِمْ حٰاجَةً مِمّٰا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلىٰ أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كٰانَ بِهِمْ خَصٰاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ* وَ الَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنٰا وَ لِإِخْوٰانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونٰا بِالْإِيمٰانِ وَ لٰا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنٰا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا، رَبَّنٰا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الحشر (59)، الآيات 6- 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 320

أقول: قوله: «أَفٰاءَ» من الفي ء بمعنى الرجوع. و الإيجاف: تسيير الخيل و الركاب، من وجف وجيفا إذا تحرك باضطراب. و الركاب: الإبل. و الخصاصة: الإملاق و الحاجة. و الشّحّ: البخل، أو البخل مع الحرص.

1- و في الدرّ المنثور بسنده، عن سعيد بن جبير، قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال: قل سورة النضير. «1»

2- و فيه أيضا بسنده، عنه، قال: قلت لابن عباس: سورة الحشر، قال:

«نزلت في بني النصير.» «2»

3- قالوا: نزلت السورة في إجلاء بني النضير و هم يهود المدينة، و ذلك أن النبيّ «ص» لما دخل المدينة صالحه بنو النضير على أن لا يقاتلوه و لا يقاتلوا معه، ثم نقضوا العهد فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكة و حالفوا أبا سفيان و قريشا على أن تكون كلمتهم واحدة على محمد «ص» فنزل جبرائيل فأخبر النبي «ص» بما تعاقدوا عليه.

و خرج رسول اللّه «ص» إلى بني النضير يستعينهم في دية قتيلين من بني عامر، فلما أتاهم قال بعضهم لبعض: إنكم لن تجدوا الرجل على مثل هذه الحالة فاطرحوا عليه حجارة من فوق هذا البيت فاقتلوه، فأتاه الخبر من السماء بذلك فقام و خرج إلى المدينة ثم أقبل أصحابه فأخبرهم بما أراد اليهود من الغدر، و أمر محمد

بن مسلمة بقتل رئيسهم كعب بن الأشرف، و سار إليهم بالناس حتى نزل بهم، فتحصنوا منه في حصن منيع، و أرسل إليهم عبد اللّه بن أبيّ المنافق: لئن أخرجتم لنخرجن معكم و إن قوتلتم لننصرنكم، ثم أخلفهم، و قذف اللّه الرعب في قلوبهم، فصالحهم النبيّ «ص» على أن يحقن دماءهم و أن يخرجوا من أرضهم و ديارهم و جعل لكل

______________________________

(1)- الدّر المنثور 6/ 187.

(2)- الدّر المنثور 6/ 187.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 321

ثلاثة منهم بعيرا و سقاء فخرجوا إلى خيبر و أذرعات بالشام و غيرهما من البلاد.

راجع في تفصيل القصة تفسير علي ابن إبراهيم القمي، و سيرة ابن هشام، و مغازي الواقدي، و المجمع و التبيان و القرطبي و الدرّ المنثور و غيرها من التفاسير. «1»

4- و في السيرة: «و خلّوا الأموال لرسول اللّه «ص» فكانت لرسول اللّه «ص» خاصة، يضعها حيث يشاء، فقسمها رسول اللّه «ص» على المهاجرين الأولين دون الأنصار إلّا أنّ سهل بن حنيف و أبا دجانة سماك بن خرشة ذكرا فقرا فأعطاهما رسول اللّه «ص» ...

و نزل في بني النضير سورة الحشر بأسرها، يذكر فيها ما أصابهم اللّه به من نقمته، و ما سلط عليهم به رسوله «ص» و ما عمل به فيهم.» «2»

5- و في المغازي للواقدي بسنده: «فقال عمر: يا رسول اللّه، ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول اللّه «ص»: لا أجعل شيئا جعله اللّه- عزّ و جلّ- لي دون المؤمنين بقوله: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ» الآية، كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين.» «3»

و لا يخفى أن مقصود عمر

في سؤاله تخميس المال و تقسيم البقية، كما في الغنائم.

و الرواية شاهدة على وقوع التخميس في غنائم بدر.

6- و فيه أيضا ما ملخصه: «فلما غنم رسول اللّه «ص» بني النضير دعا ثابت بن قيس فقال: ادع لي قومك، فدعا له الأوس و الخزرج، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم ذكر الأنصار و ما صنعوا بالمهاجرين و إنزالهم إياهم في منازلهم و أثرتهم على أنفسهم، ثم قال: إن أحببتم قسمت بينكم و بين المهاجرين مما أفاء اللّه عليّ من بني النضير، و كان المهاجرون

______________________________

(1)- راجع تفسير علي بن إبراهيم (القميّ)/ 672 (ط. أخرى 2/ 358)؛ و سيرة ابن هشام 3/ 199؛ و المغازي للواقدي 1/ 363؛ و مجمع البيان 5/ 256 (الجزء 9)؛ و التبيان 2/ 665؛ و تفسير القرطبي 18/ 4 و ما بعدها؛ و الدّر المنثور 6/ 187.

(2)- سيرة ابن هشام 3/ 201.

(3)- المغازى للواقدي 1/ 377.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 322

على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم و أموالكم، و إن أحببتم أعطيتهم و خرجوا من دوركم.

فتكلم سعد بن عبادة و سعد بن معاذ فقالا: يا رسول اللّه، بل تقسمه للمهاجرين و يكونون في دورنا كما كانوا، و نادت الأنصار: رضينا و سلمنا يا رسول اللّه «ص»، فقسم رسول اللّه «ص» ما أفاء اللّه عليه و أعطى المهاجرين و لم يعط أحدا من الأنصار من ذلك الفي ء شيئا إلا رجلين كانا محتاجين: سهل بن حنيف، و أبا دجانة.» «1» راجع في ذلك أيضا تحف العقول. «2»

7- و في سنن البيهقي بسنده عن الزهري، عن مالك بن أوس، عن عمر في حديث قال: «كانت أموال بني

النضير مما أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل و لا ركاب، فكانت لرسول اللّه «ص» خالصا دون المسلمين، و كان رسول اللّه «ص» ينفق منها على أهله نفقة سنة، فما فضل جعله في الكراع و السلاح، عدة في سبيل اللّه.» «3»

و نحوه في أمّ الشافعي، «4» و الأموال لأبي عبيد. «5»

8- و في سنن البيهقي أيضا بسنده عن الزهري: «كانت بنو النضير للنبي خالصا لم يفتحوها عنوة، افتتحوها على صلح، فقسمها النبي «ص» بين المهاجرين، لم يعط الأنصار منها شيئا إلا رجلين كانت بهما حاجة.» «6»

9- و في المجمع: «جعل اللّه أموال بني النضير لرسوله خالصة، يفعل بها ما يشاء، فقسمها رسول اللّه «ص» بين المهاجرين، و لم يعط الأنصار منها شيئا إلّا ثلاثة نفر

______________________________

(1)- المغازي للواقدي 1/ 379.

(2)- تحف العقول/ 341، رسالة أبي عبد اللّه «ع» في الغنائم و وجوب الخمس.

(3)- سنن البيهقي 6/ 296، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب مصرف أربعة أخماس الفي ء ...

(4)- الأمّ للشافعي 4/ 64.

(5)- الأموال/ 15.

(6)- سنن البيهقي 6/ 296، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب مصرف أربعة أخماس الفي ء ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 323

كانت بهم حاجة، و هم أبو دجانة، و سهل بن حنيف، و الحارث بن الصمة.» «1»

10- و في كتاب الأموال لأبي عبيد: «قال أبو عبيد: أول ما نبدأ به من ذكر الأموال ما كان منها لرسول اللّه «ص» خالصا دون الناس، و ذلك ثلاثة أموال:

أولها: ما أفاء اللّه على رسوله من المشركين، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل و لا ركاب، و هي فدك و أموال بني النضير، فإنهم صالحوا رسول اللّه

«ص» على أموالهم و أرضيهم بلا قتال كان منهم و لا سفر تجشمه المسلمون إليهم.

و المال الثاني: الصفي الذي كان رسول اللّه «ص» يصطفيه من كل غنيمة يغنمها المسلمون قبل أن يقسم المال.

و الثالث: خمس الخمس بعد ما تقسم الغنيمة و تخمس. و في كل ذلك آثار قائمة معروفة.» «2»

اذا عرفت هذا فنقول:

هنا أمور يجب البحث فيها إجمالا:

اشارة

1- هل الموضوع في الآيتين هنا واحد أو يكون الموضوع في الثانية أعم؟

2- ما هو الحكم في ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب؟

3- هل في الفي ء خمس أم لا؟

4- ما هو مفهوم الفي ء و المراد منه في لسان الشرع، و النسبة بينه و بين الغنائم و الأنفال و الصدقات؟

5- التعرض لبعض أنواع الفي ء.

______________________________

(1)- مجمع البيان 5/ 260 (الجزء 9).

(2)- الأموال/ 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 324

الأمر الأول: [هل الموضوع في الآيتين هنا واحد]

قد يقال: إن الموضوع في كلتا الآيتين هنا أموال بني النضير، و إنما تعرضت الآية الأولى لعدم كونها للمقاتلين حيث لم يوجفوا عليها، و ما بعدها تعرضت لما هو المصرف لها.

و قد يقال: إن الموضوع في الأولى أموال بني النضير، و في الثانية جميع ما أفاء اللّه على رسوله من بني النضير و غيرهم.

قال في المجمع:

«قال ابن عباس: نزل قوله: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ» الآية، في أموال كفار أهل القرى و هم قريظة و بنو النضير و هما بالمدينة، و فدك و هي من المدينة على ثلاثة أميال، و خيبر، و قرى عرينة، و ينبع، جعلها اللّه لرسوله يحكم فيها ما أراد، و أخبر أنها كلّها له. فقال أناس: فهلا قسمها؟ فنزلت الآية.

و قيل: إن الآية الأولى بيان أموال بني النضير خاصة، لقوله: «وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ»، الآية. و الثانية بيان الأموال التي أصيبت بغير قتال. و قيل: إنهما واحد و الآية الثانية بيان قسم المال الذي ذكره اللّه في الآية الأولى.» «1»

أقول: يظهر منه أن الأقوال ثلاثة، و على القول الأوّل تشمل الآية الثانية لما حصل بالقتال أيضا، كأموال خيبر.

و ربّما يشهد لهذا

القول خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، حيث ذكر فيه بعض مصاديق الفي ء و الأنفال و قال إنها للإمام ثم قال: و أما قوله: «وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ

______________________________

(1)- مجمع البيان 5/ 260 (الجزء 9).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 325

رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ.» قال: أ لا ترى هو هذا؟ و أما قوله: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ» فهذا بمنزلة المغنم، كان أبي يقول ذلك و ليس لنا فيه غير سهمين ...» «1»

و لعل القول بنسخ آية الخمس لهذه الآية كان مبنيا على هذا القول، و سيأتي البحث فيه.

و في الدرّ المنثور:

«أخرج ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: «وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ» قال: أمر اللّه رسوله بالسير إلى قريظة و النضير، و ليس للمؤمنين يومئذ كثير خيل و لا ركاب، فجعل رسول اللّه «ص» يحكم فيه ما أراد، و لم يكن يومئذ خيل و لا ركاب يوجف بها. قال: و الإيجاف أن يوضعوا السير. و هي لرسول اللّه «ص» فكان من ذلك خيبر و فدك و قرى عرينة، و أمر اللّه رسوله أن يعدّ لينبع فأتاها رسول اللّه «ص» فاحتواها كلها، فقال أناس: هلا قسمها، فأنزل اللّه عذره فقال: مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ- إلى قوله- شَدِيدُ الْعِقٰابِ.» «2»

أقول: لا مانع من كون الآية الأولى بقرينة قوله: «مِنْهُمْ» في بني النضير، و الآية الثانية أعم. نظير ما احتملناه في آية الأنفال من كون السؤال عن غنائم بدر و الجواب عن جميع

الأنفال، فتكون السلام في الأول للعهد و في الثاني للجنس.

اللّهم إلا أن يقال: إن قوله- تعالى- بعد ذلك: «لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ» و ما بعده من الآيات بقرينة ما ورد في تفسيرها من الروايات- و قد مرّ بعضها- لعله قرينة على كون جميع الآيات مرتبطة بقصة بني النضير.

و كيف كان فالحكم لا يختص بأموال بني النضير أو بخصوص ما لم يوجف عليه في عصر النبي «ص»، بل يعمّ جميع الأشباه و النظائر و لو في عصر الغيبة، و المرجع فيها إمام المسلمين على ما يأتي في جميع الأنفال.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 368، الباب 1 من أبواب الأنفال و ما يختصّ بالإمام، الحديث 12.

(2)- الدّر المنثور 6/ 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 326

الأمر الثاني: في حكم ما لم يوجف عليه بالخيل و الركاب و أنه للرسول «ص» و بعده للإمام:
اشارة

أقول: قد وردت أخبار مستفيضة بل متواترة في أن ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب تكون من الأنفال و تكون لرسول اللّه «ص» و بعده للإمام، و سيأتي ذكرها في فصل الأنفال. و قد مرّ سابقا و يأتي أن المراد كونها لمنصب الإمامة و في اختيار الإمام و هو الولي لأمرها، لا أنها لشخص الإمام، فتكون من الأموال المعدة للمصالح العامة. نعم، إدارة شئون الإمام و بيته و عائلته أيضا من أهمّ المصالح العامة.

و الأموال العامة قد تضاف إلى اللّه، و قد تضاف إلى الرسول أو إلى الإمام، و قد تضاف إلى المسلمين،

و مآل الكل واحد:

1- ففي الخطبة الشقشقية من نهج البلاغة: «و قام معه بنو أبيه يخضمون مال اللّه خضمة الإبل نبتة الربيع.» «1»

2- و في نهج البلاغة أيضا من كلام له «ع» كلّم به عبد اللّه بن زمعة لما طلب منه مالا قال: «إن هذا المال ليس لي و لا لك، و إنما هو في ء للمسلمين و جلب أسيافهم.» «2» و قد مرّ بيان كون الغنائم من الأنفال.

3- و في الوسائل بإسناده، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في الغنيمة، قال: «يخرج منه الخمس و يقسم ما بقي بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و أما الفي ء

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 30؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 728؛ عبده 2/ 253؛ لح/ 353، الخطبة 232.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 327

و الأنفال فهو خالص لرسول اللّه «ص».» «1»

4- و فيه أيضا بسند موثوق به، عن سماعة، قال: سألته عن الأنفال، فقال:

«كل أرض خربة أو شي ء يكون للملوك فهو خالص للإمام و ليس للناس فيها سهم، قال: و منها البحرين لم يوجف عليها بخيل و

لا ركاب.» «2»

و نحو ذلك من الروايات الكثيرة الدالة على كون الفي ء و الأنفال للإمام.

و ليس المقصود في الآية الشريفة تقسيم الفي ء ستة أسهم متساوية أو غير متساوية على ما ينسبق إلى الأذهان، بل لم نجد من فقهائنا من يفتي بوجوب التسهيم في الفي ء و الأنفال، و إن أفتوا به في الخمس و دلّ عليه بعض الأخبار.

فلعل المقصود كما عرفت في باب الخمس هو الترتيب في الاختصاص، و سياق الآيتين في البابين واحد. فالفي ء يكون تحت اختيار من له حق الحكم. و حيث إن الحكم يكون أولا و بالذات للّه- تعالى-، و من قبله- تعالى- جعل للرسول، و من قبل الرسول «ص» جعل للإمام من ذي القربى، فالفي ء الذي هو من ضرائب الحكم الإسلامي يكون بأجمعه للّه و تحت اختياره، و من قبله جعل تحت اختيار الرسول، و من قبل الرسول جعل تحت اختيار الإمام.

و المراد بذي القربى هو الإمام من عترته و أهل بيته، كما ادعي عليه الإجماع في باب الخمس، و قد مرّ، و يدلّ عليه الأخبار:

و منها ما رواه في الكافي بسنده، عن سليم بن قيس، قال: سمعت أمير المؤمنين «ع» يقول: «نحن و اللّه الذين عنى اللّه بذي القربى، الذين قرنهم اللّه بنفسه و نبيه «ص» فقال: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ» منا خاصة و لم يجعل لنا سهما في الصدقة. الحديث.» «3»

و أما الأصناف الثلاثة الأخر فهي مصارف محضة يتكفل لمئونتها الإمام و لذا

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 8.

(3)- الكافي 1/

539، كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال و تفسير الخمس ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 328

لم يدخل عليها لام الملك لا في المقام و لا في آية الخمس.

و قد دلت الأخبار الواردة و كلمات أصحابنا على أن المراد بها الأصناف الثلاثة من بني هاشم لا مطلقا، و إنما خصوا بالذكر تشريفا لهم و اهتماما بشأنهم لئلا تنساهم الأمّة.

و قد مرّ في الجهة الثالثة التي عقدناها لبيان مصرف الخمس ذكر المحتملات في الآية الشريفة و في الأصناف الثلاثة و في ذي القربى و كلمات الفقهاء و الأعلام فيها. و قوينا هناك كون الخمس و كذا الفي ء حقا وحدانيا يكون بأجمعه تحت اختيار الإمام، و الإمام يسد به خلات نفسه و بيته و عائلته و خلات المجتمع كما صنع رسول اللّه «ص». و لأجل ذلك صرف رسول اللّه «ص» أموال بني النضير مع كونها له خاصة، كما مرّ في الأخبار، في مصارف أهله و أزواجه و في فقراء المهاجرين و الأنصار. و قد تعرضت لذلك الآيات التي مرت:

فقوله: «لِلْفُقَرٰاءِ الْمُهٰاجِرِينَ» لبيان أحد المصارف و كأنه بمنزلة البدل لما قبله.

و قوله: «وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدّٰارَ وَ الْإِيمٰانَ»، و قوله: «وَ الَّذِينَ جٰاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ» يحتمل فيهما العطف و الاستيناف.

و على الاحتمال الأول يشارك الأنصار و التابعون المهاجرين في الفي ء لا بنحو الملكية بل بنحو المصرفية.

و بهذا الاحتمال أخذ عمر في حديث طويل رواه مالك بن أوس بن الحدثان، و في آخره: «قال عمر: لئن بقيت ليأتين الرويعي بصنعاء حقه و دمه في وجهه.»

رواه السيوطي في الدر المنثور عن أبي عبيد، و البخاري، و مسلم، و أبي داود، و الترمذي

و غيرهم، فراجع. «1» و إن اشتمل الحديث على ما لا نلتزم به جدّا، و هو الذي عنى به الخليفة. هذا.

______________________________

(1)- الدّر المنثور 6/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 329

اعطاء فدك لفاطمة «ع»:

و حفظ بيت الوحي و الرسالة، و أغصان شجرة النبوة، و شئون العترة الطاهرة التي عدّها الرسول الكريم «ص» قرينا للكتاب العزيز في حديث الثقلين المتواتر نقله بين الفريقين حفظا للكتاب و السنة، و سفنا لنجاة الأمة و نظاما لأمرهم، قد كان من أهم المصالح العامة التي كان يجب على النبي «ص» الاهتمام بها لمستقبل الأمة.

و لأجل ذلك أعطى فاطمة «ع» فدك التي كانت خالصة له، حيث كانت هي قرينة لباب العلم و الحكمة و صدفا لدرر العترة الطاهرة:

1- ففي الدر المنثور: «أخرج البزاز و أبو يعلى و ابن أبي حاتم و ابن مردويه، عن أبي سعيد الخدري، قال: لما نزلت هذه الآية: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ» دعا رسول اللّه «ص» فاطمة فاعطاها فدك.»

و أخرج ابن مردويه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ» أقطع رسول اللّه «ص» فاطمة فدك.» «1»

2- و في الوسائل بسنده، عن علي بن أسباط، عن أبي الحسن موسى «ع» في حديث، قال: «إن اللّه لما فتح على نبيه فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، فأنزل اللّه على نبيه: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ»، فلم يدر رسول اللّه «ص» من هم فراجع في ذلك جبرئيل و راجع جبرئيل ربه، فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة. الحديث.» «2»

3- و روى الصدوق في العيون: «و الآية الخامسة قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ آتِ

ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ» ...

______________________________

(1)- الدّر المنثور 4/ 177. و الآية المذكورة من سورة الإسراء (17)، رقمها 26.

(2)- الوسائل 6/ 366، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 330

فلما نزلت هذه الآية على رسول اللّه «ص» قال: ادعوا لي فاطمة، فدعيت له، فقال:

يا فاطمة، قالت: لبيك يا رسول اللّه، فقال: هذه فدك، هي مما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و هي لي خاصة دون المسلمين، و قد جعلتها لك لما أمرني اللّه- تعالى- به، فخذيها لك و لولدك.» «1»

و رواها أيضا في تحف العقول «2».

4- و في شرح ابن أبي الحديد بسنده، عن الزهري، قال:

«بقيت بقية من أهل خيبر تحصنوا فسألوا رسول اللّه «ص» أن يحقن دماءهم و يسيرهم ففعل، فسمع ذلك أهل فدك فنزلوا على مثل ذلك، و كانت للنبي «ص» خاصة لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب.» «3» و روى نحو ذلك البلاذري في فتوح البلدان. «4»

5- و فيه أيضا:

«قال أبو بكر: و روى محمد بن إسحاق أيضا أن رسول اللّه «ص» لما فرغ من خيبر قذف اللّه الرعب في قلوب أهل فدك، فبعثوا إلى رسول اللّه «ص» فصالحوه على النصف من فدك، فقدمت عليه رسلهم بخيبر أو بالطريق أو بعد ما أقام بالمدينة، فقبل ذلك منهم. و كانت فدك لرسول اللّه «ص» خالصة له، لأنه لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب. قال: و قد روي أنه صالحهم عليها كلها.» «5»

إلى غير ذلك من الأخبار الكثيرة الواردة في هذا المجال.

و بالجملة، ففدك كانت مما لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب، فكانت خالصة لرسول اللّه «ص»، يعني لم يتعلق

بها حق للمقاتلين، بل كانت بأجمعها تحت اختيار

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا/ 233، الباب 23 (باب ذكر مجلس الرضا «ع» مع المأمون)، الحديث 1.

(2)- تحف العقول/ 430.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/ 210.

(4)- فتوح البلدان/ 43.

(5)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/ 210.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 331

الرسول «ص» و كان له أن يضعها حيث يراها مصلحة. فأعطاها فاطمة- عليها السلام- لا لأنها ابنته فقط، بل لأن بيتها مهبط الملائكة و محور حفظ الكتاب و السنّة و ضمان مستقبل الأمة، و هذا كان من أهم المصالح العامة. فهو «ص» أراد دعم بيت الإمامة من الجهة المالية و بهذا الملاك أعطى و نحل فاطمة فدك، و بهذا الملاك أيضا ابتزّها الغاصبون.

و مطالبة الميراث كانت في الرتبة المتأخرة و من باب المماشاة، كما يظهر لمن تتبع.

و في نهج البلاغة: «بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحّت عليها نفوس قوم و سخت عنها نفوس قوم آخرين، و نعم الحكم اللّه. و ما أصنع بفدك و غير فدك و النفس مظانها في غد جدث؟» «1»

فظاهره أن فدك كانت في أيديهم و تحت تصرفهم، و على هذا فلم يكن للخليفة مطالبتهم بالبيّنة، فإنها خلاف موازين القضاء.

و لم يكن إقطاع الرسول «ص» لفاطمة «ع» و أهلها أمرا فريدا يخصها:

ففي فتوح البلدان للبلاذري: أنه «ص» أقطع من أرض بني النضير أبا بكر و عبد الرحمن بن عوف و أبا دجانة و غيرهم. «2»

و أقطع الزبير بن العوام أرضا من أرض بني النضير ذات نخل. «3»

و أقطع بلالا أرضا فيها جبل و معدن. «4»

و قال مالك بن أنس: أقطع رسول

اللّه «ص» بلال بن الحارث معادن بناحية الفرع، لا اختلاف في ذلك بين علمائنا. «5»

و أقطع عليا «ع» أربع أرضين: الفقيرين و بئر قيس و الشجرة.» «6»

و أبو بكر نفسه أقطع الزبير الجرف، و عمر أقطعه العقيق أجمع. «7»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 967؛ عبده 3/ 79؛ لح/ 417، الكتاب 45.

(2)- فتوح البلدان/ 31.

(3)- فتوح البلدان/ 34.

(4)- فتوح البلدان/ 27.

(5)- فتوح البلدان/ 27.

(6)- فتوح البلدان/ 27.

(7)- فتوح البلدان/ 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 332

فما أدري لما ذا اخذوا من فاطمة «ع» نحلة أبيها، و هل كانت هي فقط من الأموال العامة للمسلمين؟ نعم، فدك كانت دعما لبيت الإمامة و الوصاية كما مرّ، و هذا كان سبب ابتزازها.

و مما يشهد لما ذكرناه من ارتباط أمر فدك بموضوع الخلافة و الإمامة، و أن إعطاءها لفاطمة «ع» كان لدعم بيت الإمامة لا بلحاظ العواطف الشخصيّة ما ورد من أن إعطاءها وقع بعد نزول قوله- تعالى-: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ.» و قد أجمع أصحابنا الإمامية إلّا ما شذّ على أن المراد بذي القربى هو الإمام، و به فسّر في بعض الأخبار أيضا. فهو «ص» إنما أعطاها فاطمة بما أنها كانت أم الأئمة الطاهرة و قرينة لأول الأوصياء. و لعل شدة قربها من النبي «ص» توجب الحياء من هتك حريمها، و العواطف تعوق دون ابتزاز حقها، و لكن يد السياسة هدمت ما أسّسه النبي «ص» و بناه، و ما أدراك ما السياسة؟!

و يشهد لذلك أيضا: ما ورد في تحديد فدك بحدود المملكة الإسلامية بسعتها، أو بمطلق ما لم يوجف عليه المرتبط بمنصب الإمامة و مقامها:

ففي المناقب عن كتاب أخبار الخلفاء: «أن هارون الرشيد كان

يقول لموسى بن جعفر «ع» خذ فدك حتى أردّها إليك، فيأبى حتى ألحّ عليه، فقال «ع»:

لا آخذها إلا بحدودها، قال: و ما حدودها؟ قال: إن حددتها لم تردّها. قال: بحق جدّك إلّا فعلت. قال: أما الحدّ الأول فعدن. فتغير وجه الرشيد، و قال: إيها! قال: و الحد الثاني سمرقند، فاربدّ وجهه. قال: و الحد الثالث إفريقية، فاسودّ وجهه و قال: هيه! قال:

و الرابع سيف البحر مما يلي الجزر و إرمينية. قال الرشيد: فلم يبق لنا شي ء، فتحول إلى مجلسي! قال موسى: قد أعلمتك أنني إن حددتها لم تردها. فعند ذلك عزم على قتله.» «1»

______________________________

(1)- المناقب 3/ 435.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 333

و رواه عنه في البحار. «1»

و في رواية علي بن أسباط، قال: لما ورد أبو الحسن «ع» على المهدي رآه يردّ المظالم فقال: «يا أمير المؤمنين، ما بال مظلمتنا لا تردّ؟ فقال له: و ما ذاك؟ يا أبا الحسن! قال: إن اللّه- تعالى- لما فتح على نبيه «ص» فدك و ما والاها لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، فأنزل اللّه على نبيه «ص»: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبىٰ حَقَّهُ»، فلم يدر رسول اللّه «ص» من هم، فراجع في ذلك جبرئيل، و راجع جبرئيل «ع» ربه، فأوحى اللّه إليه أن ادفع فدك إلى فاطمة «ع»، فدعاها رسول اللّه «ص» فقال لها: يا فاطمة، إن اللّه أمرني أن أدفع إليك فدك، فقالت: قد قبلت يا رسول اللّه من اللّه و منك. فلم يزل وكلاؤها فيها حياة رسول اللّه «ص». فلما ولى أبو بكر أخرج عنها وكلاءها، فأتته فسألته أن يردّها عليها، فقال لها: ايتيني بأسود أو أحمر يشهد لك بذلك،

فجاءت بأمير المؤمنين «ع» و أمّ أيمن فشهدا لها ...

فقال له المهدي: يا أبا الحسن، حدّها لي. فقال: حدّ منها جبل أحد، و حدّ منها عريش مصر، و حدّ منها سيف البحر، و حدّ منها دومة الجندل.

فقال له: كل هذا؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا كله، إن هذا كله مما لم يوجف على أهله رسول اللّه «ص» بخيل و لا ركاب. فقال: كثير، و أنظر فيه.» «2» و قد روى قطعة منه في الوسائل «3» كما مرّ. هذا.

توهم نسخ آية الفي ء:

في الدر المنثور:

«أخرج عبد بن حميد، عن قتادة: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ

______________________________

(1)- بحار الأنوار 48/ 144، تاريخ الإمام موسى بن جعفر «ع»، الباب 6 (باب مناظراته «ع»)، الحديث 20.

(2)- الكافي 1/ 543، كتاب الحجة، باب لفي ء و الأنفال و تفسير الخمس ...، الحديث 5.

(3)- الوسائل 6/ 366، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 334

وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ.» قال: كان الفي ء بين هؤلاء فنسختها الآية التي في الأنفال فقال: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ.» فنسخت هذه الآية ما كان قبلها في سورة الحشر، فجعل الخمس لمن كان له الفي ء و صار ما بقي من الغنيمة لسائر الناس: لمن قاتل عليها.» «1»

و في تفسير القرطبي:

«قال قوم من العلماء: إن قوله- تعالى-: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ» منسوخ بما في سورة الأنفال من كون الخمس لمن سمّي له، و الأخماس الأربعة لمن قاتل. و كان في

أول الإسلام تقسم الغنيمة على هذه الأصناف و لا يكون لمن قاتل عليها شي ء. و هذا قول يزيد بن رومان. و قتادة و غيرهما، و نحوه عن مالك.» «2»

أقول: يرد على ما ذكره قتادة و غيره أولا: أن موضوع الحكم هنا هو الفي ء و في آية الخمس الغنيمة و هما مختلفان عند الأكثر، حيث أخذوا في مفهوم الفي ء عدم القتال و في مفهوم الغنيمة القتال، فتأمل.

و ثانيا: أن الظاهر من قوله: «غَنِمْتُمْ» صدور الاغتنام من المقاتلين. و ظاهر قوله:

«فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ» نفي صدور الاغتنام منهم و إنما حصل بتسليط اللّه رسوله. و الظاهر أن الموضوع في كلتا آيتي الفي ء واحد، و هو أموال بني النضير كما مرّ.

و ثالثا: أنه يستفاد من الروايات و التواريخ أن آية الخمس نزلت بعد غزوة بدر و آية الفي ء نزلت في بني النضير بعد غزوة احد، و من المحال أن ينسخ المتقدم للمتأخر.

و كيف كان فالحكم عندنا واضح، حيث إن ما لم يوجف عليه يكون من الأنفال كما يأتي، و الأنفال كلها للإمام. بل قد عرفت منّا أن الغنائم أيضا من الأنفال و أنه لا يتعين فيها التقسيم أيضا، فراجع ما ذكرناه في أول بحث الغنائم.

______________________________

(1)- الدّر المنثور 6/ 192.

(2)- تفسير القرطبي 18/ 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 335

الأمر الثالث: أن الفي ء و الأنفال لا خمس فيها:

قد مرّ في بحث الغنائم أن الخمس إنما يثبت فيها بعد سدّ النوائب منها و إرادة تقسيمها بين المقاتلين، فيكون الخمس فيها بلحاظ تقسيمها بينهم و صيرورتها لهم، حيث إن الخمس ضريبة إسلامية تؤخذ من أموال الناس بنفع بيت المال و الدولة الإسلامية و يؤدونها إلى الإمام بما هو إمام

المسلمين.

و الفي ء و الأنفال تكون بأجمعها للإمام و تكون خالصة له، فلا مجال للخمس فيها.

و هو الظاهر من أكثر كلمات الأصحاب و أكثر فقهاء السنّة.

و قد مرّ عن الواقدي قول عمر لرسول اللّه «ص»: ألا تخمس ما أصبت من بني النضير كما خمست ما أصبت من بدر؟ فقال رسول اللّه «ص»: «لا أجعل شيئا جعله اللّه لي دون المؤمنين بقوله- تعالى-: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ ...» كهيئة ما وقع فيه السهمان للمسلمين.» «1»

و ظاهره كون جميع المال له، فلا تقسيم فيه و لا خمس.

و لكن عن الشافعي ثبوت الخمس في الفي ء أيضا كالغنيمة و هو الظاهر من الخلاف أيضا:

1- قال في الخلاف (المسألة 2 من كتاب الفي ء و قسمة الغنائم):

«الفي ء كان لرسول اللّه «ص» خاصة، و هو لمن قام (يقوم خ. ل) مقامه من الأئمة «ع». و به قال علي «ع» و ابن عباس و عمر، و لم نعرف لهم مخالفا.

و قال الشافعي: كان الفي ء يقسم على عهد رسول اللّه «ص» على خمسة و عشرين

______________________________

(1)- المغازي 1/ 377.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 336

سهما: أربعة أخماسه للنبي «ص» و هو عشرون سهما، و له أيضا خمس ما بقي يكون إحدى و عشرين سهما للنبي «ص» و يبقى أربعة أسهم بين ذوي القربى و اليتامى و المساكين و أبناء السبيل.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 336

و قال أبو حنيفة: الفي ء كله و خمس الغنيمة يقسم على ثلاثة، لأنه كان

يقسم على خمس فلما مات النبي «ص» رجع سهم النبي «ص» و سهم ذوي القربى إلى أصل السهمان، فيقسم الفي ء على ثلاثة.

و عندنا كان يستحق النبي «ص» الفي ء إلا الخمس. و عند الشافعي أربعة أخماس الفي ء و خمس ما بقي من الفي ء.

دليلنا إجماع الفرقة ...» «1»

2- و قال فيه أيضا (المسألة 3):

«حكم الفي ء بعد النبي «ص» حكمه في أيامه في أنه خاص بمن قام مقامه و للشافعي فيه قولان في أربعة أخماسه و خمس الخمس، أحدهما يكون للمقاتلين و القول الثاني يكون في المصالح ...» «2»

أقول: قوله- قدّس سرّه- أولا: إنّ الفي ء لرسول اللّه «ص» خاصة أو لمن قام مقامه لعلّه ينافي ما ذكره أخيرا من استحقاق النبي «ص» الفي ء إلا الخمس. اللهم إلا أن يريد بقوله: «خاصة» عدم التقسيم بين المقاتلين لا نفي الخمس أيضا. ثم إن للرسول أيضا سهما في الخمس فلم استثنى الخمس بنحو الإطلاق؟

و لعل الشافعي و كذا الشيخ تصورا كون الفي ء لشخص النبي «ص» و من أمواله الشخصية فحكما بتخميسه، مع أن الفي ء و الأنفال للمنصب و للإمام بما أنه إمام و مثله الخمس أيضا، فلا مجال لتعلق الخمس بها بعد كون كليهما له.

و لم أجد في نهاية الشيخ و لا مبسوطه تعرضا لخمس الفي ء و الأنفال بل ظاهرهما كون الجميع للإمام.

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 328.

(2)- الخلاف 2/ 329.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 337

نعم، قال في المبسوط:

«و أما ما يؤخذ من الجزية و الصلح و الأعشار فإنه يخمس لأنه من جملة الغنائم على ما فسرناه.» «1»

و الظاهر أن ما ذكر يكون من الفي ء كما يأتي بيانه، وعدها من الغنائم لا يخلو من مسامحة.

و يظهر من

الخلاف خلاف ما في المبسوط، فقال فيه (المسألة 7 من كتاب الفي ء):

«ما يؤخذ من الجزية و الصلح و الخراج و ميراث من لا وارث له و مال المرتد لا يخمس، بل هو لجهاته المستحقة لها، و به قال عامة الفقهاء. و للشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه. و الثاني ذكره في الجديد أنه يخمس و هو الصحيح عندهم. دليلنا أنه لا دليل في الشرع يدل على أنه يخمس، فوجب نفيه و يصرف إلى جهاته.» «2» هذا.

و لم أعثر على طرح المسألة فيما رأيت من كتب أصحابنا.

3- و في أمّ الشافعي:

«و ما أخذ الولاة من المشركين من جزيتهم و الصلح عن أرضهم، و ما أخذ من أموالهم إذا اختلفوا في بلاد المسلمين، و من أموالهم إن صالحوا بغير إيجاف خيل و لا ركاب، و من أموالهم إن مات منهم ميت لا وارث له، و ما أشبه هذا مما أخذه الولاة من مال المشركين فالخمس في جميعه ثابت فيه، و هو على ما قسمه اللّه- عزّ و جلّ- لمن قسمه له من أهل الخمس الموجف عليه من الغنيمة، و هذا هو المسمى في كتاب اللّه.» «3»

4- و فيه أيضا:

«فالغنيمة و الفي ء يجتمعان في أن فيهما معا الخمس من جميعهما لمن سماه اللّه- تعالى- له، و من سماه اللّه- عزّ و جلّ- له في الآيتين معا سواء مجتمعين غير مفترقين.» «4»

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 65.

(2)- الخلاف 2/ 330.

(3)- الأمّ 4/ 77.

(4)- الأمّ 4/ 64.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 338

و حكاه عنه البيهقي في السنن و قال:

«و قال في القديم: إنما يخمس ما أوجف عليه.» «1»

5- و في بداية ابن رشد في قسمة

الفي ء:

«فقال قوم: إن الفي ء لجميع المسلمين: الفقير و الغني، و إن الإمام يعطي منه للمقاتلة و للحكّام و للولاة، و ينفق منه في النوائب التي تنوب المسلمين كبناء القناطر و إصلاح المساجد و غير ذلك، و لا خمس في شي ء منه. و به قال الجمهور، و هو الثابت عن أبي بكر و عمر.

و قال الشافعي: بل فيه الخمس، و الخمس مقسوم على الأصناف الذين ذكروا في آية الغنائم، و هم الأصناف الذين ذكروا في الخمس بعينه من الغنيمة، و إن الباقي هو مصروف الى اجتهاد الإمام ينفق منه على نفسه و على عياله و من رأى.

و أحسب أن قوما قالوا: إن الفي ء غير مخمس و لكن يقسم على الأصناف الخمسة الذين يقسم عليهم الخمس، و هو أحد أقوال الشافعي فيما أحسب ...

و أما تخميس الفي ء فلم يقل به أحد قبل الشافعي، و إنما حمله على هذا القول أنه رأى الفي ء قد قسم في الآية على عدد الأصناف الذين قسم عليهم الخمس، فاعتقد لذلك أن فيه الخمس لأنه ظن أن هذه القسمة مختصة بالخمس، و ليس ذلك بظاهر بل الظاهر أن هذه القسمة تخص جميع الفي ء لا جزء منه، و هو الذي ذهب إليه فيما أحسب قوم.

و أخرج مسلم عن عمر، قال: كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه على رسوله مما لم يوجف عليه المسلمون بخيل و لا ركاب، فكانت للنبي «ص» خالصة، فكان ينفق منها على أهله نفقة سنة و ما بقي يجعله في الكراع و السلاح عدّة في سبيل اللّه. و هذا يدلّ على مذهب مالك.» «2»

أقول: ما حكاه عن مالك هنا يشابه ما حكي عنه في الخمس: «هو موكول الى

______________________________

(1)- سنن

البيهقي 6/ 294، كتاب قسم الفي ء و الغنيمة، باب وجوب الخمس في الغنيمة و الفي ء ...

(2)- بداية المجتهد 1/ 389 (ط. أخرى 1/ 342).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 339

نظر الإمام و اجتهاده، فيأخذ منه من غير تقدير و يعطي منه القرابة باجتهاد، و يصرف الباقي في مصالح المسلمين، و به قال الخلفاء الأربعة و به عملوا.» «1»

و هذا هو الذي استظهرناه أيضا في الخمس و كذا في الفي ء من كونهما حقا وحدانيا جعل للإمام بما أنه إمام المسلمين، فيسدّ بهما ما تنوبه و منها مصارف نفسه و عائلته، غاية الأمر أن عليه أيضا سدّ خلات الأصناف الثلاثة من بني هاشم و قد ذكروا في الآيتين بالخصوص تشريفا لهم فلا يتعين التنصيف و التسهيم على ما في كلام الأكثر.

و يحتمل أن مالكا أخذ هذا الفتوى في المدينة من أئمة العترة الطاهرة- عليهم السلام-.

6- و في مختصر الخرقي قال:

«فخمس الفي ء و الغنيمة مقسوم على خمسة أسهم.»

و ذيله ابن قدامة في المغني بقوله:

«في هذه المسألة فصول أربعة: أحدها أن الفي ء مخموس كما تخمس الغنيمة في إحدى الروايتين، و هو مذهب الشافعي و الرواية الثانية: لا يخمس. نقلها أبو طالب فقال: إنما تخمس الغنيمة. قال القاضي: لم أجد بما قال الخرقي من أن الفي ء مخموس نصّا فأحكيه و إنما نص على أنه غير مخموس، و هذا قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر: و لا نحفظ عن أحد قبل الشافعي في الفي ء خمس كخمس الغنيمة ...» «2»

7- و في الناصريات (المسألة 121) عن الناصر أنه قال:

«في قليل العسل و كثيره الخمس، لأنه من جنس الفي ء.» ثم قال السيد «ره»:

«لا عشر عندنا في العسل

و لا خمس.» «3»

فيظهر من كلام الناصر أنه يقول بالخمس في الفي ء مطلقا، و هو على ما قيل من أئمة الزيدية.

______________________________

(1)- تفسير القرطبي 8/ 11.

(2)- المغني 7/ 299.

(3)- الجوامع الفقهية/ 241 (ط. أخرى/ 205).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 340

أقول: و كيف كان فالظاهر أن الفي ء و الأنفال و الجزايا و الأعشار و الزكوات و الأخماس و كذلك الأراضي المفتوحة عنوة على ما مر، كل هذه من الأموال العامة و تكون تحت اختيار الإمام، و لا يتعلق بها الخمس و لا غيره من الضرائب، فإن الضرائب إنما توضع على أموال الناس بنفع بيت المال و الدولة الإسلامية و تؤدى إلى الإمام بما هو إمام المسلمين.

و ليس على مال الإمام بما هو إمام ضريبة، و لذا لا تتعلق بالنقود المخزونة في خزانة الدولة الإسلامية زكاة.

و قد أشير إلى هذا في مرسلة حماد الطويلة، حيث قال: «و ليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس ... و لذلك لم يكن على مال النبي و الوالي زكاة ...» «1»

و لعله المقصود أيضا مما رواه أبو بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له: أما على الإمام زكاة؟ فقال: «أحلت يا أبا محمد، أما علمت أن الدنيا و الآخرة للإمام، يضعها حيث يشاء و يدفعها إلى من يشاء؟ الحديث.» «2»

فيكون المقصود ما هو مال الإمام بما أنه إمام لا أمواله الشخصية، بداهة أن الإمام الصادق «ع» مثلا كما يتعلق به التكليف بالصلاة يتوجه إليه التكليف بالزكاة أيضا إذا صارت أمواله الشخصية بحدّ النصاب. و يشهد بذلك قوله: «أما علمت أن الدنيا و الآخرة للإمام؟» إذ هما للإمام بما

أنه إمام لا لشخصه.

فان قلت: من الأنفال: المعادن على الأقوى، و مع ذلك يتعلق بها الخمس.

قلت: الخمس إنما يتعلق بها بعد ما أقطعها الإمام إلى الأشخاص، فيكون الخمس بمنزلة حق الإقطاع، و لذا لا نقول بتعلقه بها إذا كان المستخرج لها الدولة

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 359، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 8.

(2)- الكافي 1/ 408، كتاب الحجة، باب أن الأرض كلّها للإمام «ع»، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 341

الإسلامية بنفسها، فتدبّر.

فإن قلت: ما ذكرت من عدم الخمس في الفي ء و الأنفال و غيرهما من الأموال العامة و إن كان موافقا للاعتبار لكنه مخالف لما رواه العياشي عن زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير أنهم قالوا له: «ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: الفي ء و الأنفال و الخمس. و كل ما دخل منه في ء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه، فإن اللّه يقول: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ.» و كل شي ء في الدنيا فإن لهم فيه نصيبا، فمن وصلهم بشي ء فمما يدعون له لا مما يأخذون منه.» هكذا في الوسائل. «1»

و في تفسير العياشي المطبوع: «فمن وصلهم بشي ء مما يدعون له أكثر مما يأخذون منه.» «2»

و في كلتا العبارتين إبهام، و يحتمل أن تكون عبارة التفسير صحيحة و تكون:

«مما» مصحف «فما».

أقول: أولا إن الحديث مرسل مقطوع، فلا اعتبار به. و ثانيا إن ظاهر صدر الكلام موافق لما نصرّ عليه من كون الفي ء و الأنفال و الخمس بأجمعها حقا وحدانيا في اختيار الإمام.

و أما قوله: «فإن لهم خمسه» ففيه

أن الخمس لا خمس فيه قطعا، فيمكن أن يحمل على تسهيم الخمس و الفي ء و تقسيمهما على خمسة أسهم، على ما يقول به الشافعي و غيره، و يدل عليه صحيحة ربعي، «3» و يراد بالخمس فيه سهم ذي القربى المذكور في آية الخمس و آية الفي ء، و المورد كان مورد المحاجة و الجدل في قبال خلفاء الجور، حيث أسقطوا سهم ذي القربى بعد موت النبي «ص»، فتدبّر.

و الحديث أقوى شاهد على أن الفي ء لا يصدق على الصدقات و الزكوات، إذ لا سهم لذوي القربى فيها. هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.

(2)- تفسير العياشي 2/ 62.

(3)- راجع الوسائل 6/ 356، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 342

و في أوائل كتاب الخراج ليحيى بن آدم القرشي بسنده، عن سفيان بن سعيد، يقول:

«الغنيمة ما أصاب المسلمون عنوة، ففيه الخمس لمن سمّى اللّه و أربعة أخماس لمن شهده. و الفي ء ما صالح عليه المسلمون بغير قتال، ليس فيه خمس، فهو لمن سمى اللّه و رسوله.» «1» هذا.

و يمكن أن يستدلّ لما ذكرنا أيضا بصحيحة عبد اللّه بن سنان، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ليس الخمس إلا في الغنائم خاصّة» «2» بأن يكون موضوع البحث فيها خصوص ما يصل إلى المسلمين من أموال الكفّار، و الحصر فيها إضافيا، فيراد أنّ ما يصل إليهم من أموالهم لا تخمس إلّا الغنائم منها دون الفي ء و الأنفال، فتدبّر.

______________________________

(1)- خراج يحيى/ 19.

(2)- الوسائل 6/ 338، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 343

الأمر الرابع: ما هو مفهوم الفي ء و المقصود منه في لسان الشرع؟
[كلمات العلماء]

1- قال الراغب في المفردات:

«الفي ء و الفيئة: الرجوع الى حالة محمودة. قال: «حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ». «فإن فاءت» و قال: «فإن فاءوا.» و منه فاء الظل. و الفي ء لا يقال إلا للراجع منه. قال:

«يَتَفَيَّؤُا ظِلٰالُهُ.» و قيل للغنيمة التي لا يلحق فيها مشقة في ء. قال: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ». «مِمّٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلَيْكَ»» «1»

2- و في النهاية:

«قد تكرر ذكر الفي ء في الحديث على اختلاف تصرفه. و هو ما حصل للمسلمين من أموال الكفار من غير حرب و لا جهاد. و أصل الفي ء: الرجوع. يقال: فاء يفي ء فئة و فيوء، كأنه كان في الأصل لهم فرجع إليهم ...» «2»

3- و في تفسير سورة الحشر من التبيان:

«فالفي ء ردّ ما كان للمشركين على المسلمين بتمليك اللّه إياهم ذلك على ما شرط فيه. يقال: فاء يفي ء فيئا إذا رجع، و أفأته أنا عليه: إذا رددته عليه. و قال عمر بن الخطاب و معمر: مال الفي ء هو مال الجزية و الخراج.

و الفي ء كل ما رجع من أموال الكافرين إلى المؤمنين، فمنه غنيمة و غير غنيمة، فالغنيمة ما أخذ بالسيف، فأربعة أخماسه للمقاتلة و خمسه للذين ذكرهم اللّه في قوله: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ»، الآية. و قال كثير من العلماء: إن الفي ء المذكور في هذه الآية هو الغنيمة.

______________________________

(1)- المفردات/ 402.

(2)- النهاية لابن الأثير 3/ 482.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 344

و قال قوم: مال الفي ء خلاف مال الصدقات، لأن مال الفي ء أوسع، فإنه يجوز أن يصرف في مصالح المسلمين، و مال الصدقات إنما هو في الأصناف الثمانية.

و قال قوم: مال الفي ء يأخذ منه الفقراء من قرابة رسول اللّه «ص» بإجماع الصحابة في زمن

عمر بن الخطاب، و لم يخالفه فيه أحد إلا الشافعي فإنه قال: يأخذ منه الفقراء و الأغنياء، و إنما ذكروا في الآية لأنهم منعوا الصدقة فبيّن اللّه أن لهم في مال الفي ء حقّا.

و قال عمر بن الخطاب: مال بني النضير كان فيئا لرسول اللّه «ص» خاصة و لذي القربى قرابة رسول اللّه «ص» من بني هاشم و بني المطلب ...

و الذي نذهب إليه أن مال الفي ء غير مال الغنيمة: فالغنيمة كل ما أخذ من دار الحرب بالسيف عنوة مما يمكن نقله إلى دار الإسلام، و ما لا يمكن نقله إلى دار الإسلام فهو لجميع المسلمين ينظر فيه الإمام و يصرف ارتفاعه إلى بيت المال لمصالح المسلمين.

و الفي ء كل ما أخذ من الكفار بغير قتال أو انجلاء أهلها و كان ذلك للنبي «ص» خاصة يضعه في المذكورين في هذه الآية. و هو لمن قام مقامه من الأئمة الراشدين.» «1»

4- و في المجمع في ذيل آية الخمس:

«الغنيمة ما أخذ من أموال أهل الحرب من الكفار بقتال و هي هبة من اللّه- تعالى- للمسلمين. و الفي ء ما أخذ بغير قتال و هو قول عطاء و مذهب الشافعي و سفيان. و هو المروي عن أئمتنا «ع». و قال قوم: الغنيمة و الفي ء واحد، و ادّعوا أن هذه الآية ناسخة للتي في الحشر ...» «2»

أقول: و قد مضى في أول بحث الغنائم قريب من هذا عن تفسير القرطبي، فراجع. «3»

______________________________

(1)- التبيان 2/ 666.

(2)- مجمع البيان 2/ 543 (الجزء 4).

(3)- تفسير القرطبي 8/ 1، و راجع ص 130 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 345

5- و في أمّ الشافعي:

«و الغنيمة هي الموجف عليها بالخيل و

الركاب لمن حضر من غني و فقير، و الفي ء و هو ما لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب.» «1»

6- و في تفسير سورة الحشر من القرطبي قال:

«الثالثة: الأموال التي للأئمة و الولاة فيها مدخل ثلاثة أضرب: ما أخذ من المسلمين على طريق التطهير لهم كالصدقات و الزكوات.

و الثاني: الغنائم، و هو ما يحصل في أيدي المسلمين من أموال الكافرين بالحرب و القهر و الغلبة.

و الثالث: الفي ء، و هو ما رجع للمسلمين من أموال الكفار عفوا صفوا من غير قتال و لا إيجاف، كالصلح و الجزية و الخراج و العشور المأخوذة من تجار الكفار، و مثله أن يهرب المشركون و يتركوا أموالهم أو يموت أحد منهم في دار الإسلام و لا وارث له ...

فأما الفي ء فقسمته و قسمة الخمس سواء. و الأمر عند مالك فيهما إلى الإمام: فإن رأى حبسهما لنوازل تنزل بالمسلمين فعل، و إن رأى قسمتهما أو قسمة أحدهما قسمه كله بين الناس و سوى فيه بين عربيّهم و مولاهم ...» «2»

7- و قال الماوردي:

«الباب الثاني عشر في قسم الفي ء و الغنيمة: و أموال الفي ء و الغنائم: ما وصلت من المشركين أو كانوا سبب وصولها.

و يختلف المالان في حكمهما، و هما مخالفان لأموال الصدقات من أربعة أوجه:

أحدها: أن الصدقات مأخوذة من المسلمين تطهيرا لهم، و الفي ء و الغنيمة مأخوذان من الكفار انتقاما منهم.

و الثاني: أن مصرف الصدقات منصوص عليه ليس للأئمة اجتهاد فيه، و في أموال الفي ء و الغنيمة ما يقف مصرفه على اجتهاد الأئمة.

و الثالث: أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد أربابها بقسمتها في أهلها. و لا يجوز

______________________________

(1)- الأمّ 4/ 64.

(2)- تفسير القرطبي 18/ 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 3، ص: 346

لأهل الفي ء و الغنيمة أن ينفردوا بوضعه في مستحقه حتى يتولاه أهل الاجتهاد من الولاة.

و الرابع: اختلاف المصرفين على ما سنوضح.

أما الفي ء و الغنيمة فهما متفقان من وجهين و مختلفان من وجهين:

فأما وجها اتفاقهما فأحدهما: أن كل واحد من المالين واصل بالكفر. و الثاني أن مصرف خمسهما واحد.

و أما وجها افتراقهما فأحدهما أن مال الفي ء مأخوذ عفوا و مال الغنيمة مأخوذ قهرا.

و الثاني: أن مصرف أربعة أخماس الفي ء مخالف لمصرف أربعة أخماس الغنيمة على ما سنوضح إن شاء اللّه- تعالى-.

و سنبدأ بمال الفي ء فنقول: إن كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال و لا بإيجاف خيل و لا ركاب فهو كمال الهدنة و الجزية و أعشار متاجرهم، أو كان واصلا بسبب من جهتهم كمال الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس مقسوما على خمسة. و قال أبو حنيفة: لا خمس في الفي ء ...» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية، إلا أنه جعل الخمس مختلفا فيه عند أصحاب أحمد «2».

أقول: الماوردي من علماء الشافعية، و قد مرّ عن الشافعي الحكم بثبوت الخمس في الفي ء، و مرّ عن الخلاف أيضا ما يظهر منه الموافقة له، و مرّ منّا الإشكال في ذلك.

و أما ما قاله الماوردي من أن أموال الصدقات يجوز أن ينفرد بها أربابها بقسمتها في أهلها فهو و إن كان حقا عندنا في صورة عدم بسط يد الإمام العادل و لكن مع بسط يده و لا سيما مع مطالبته فلا محيص عن إيصال الزكوات إليه أو الاستيذان منه، لما دلت على ذلك من الأخبار المستفيضة كما مرّ في الجهة الثالثة من مبحث الزكاة.

______________________________

(1)- الأحكام

السلطانية/ 126.

(2)- الأحكام السلطانية/ 136.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 347

8- و في مختصر أبي القاسم الخرقي من فقهاء الحنابلة:

«و الأموال ثلاثة: في ء و غنيمة و صدقة: فالفي ء ما أخذ من مال مشرك بحال و لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب، و الغنيمة ما أوجف عليها.»

و في المغني شرح المختصر:

«الفي ء هو الراجع إلى المسلمين من مال الكفار بغير قتال. يقال: فاء الفي ء: إذا رجع نحو المشرق.

و الغنيمة ما أخذ منهم قهرا بالقتال، و اشتقاقها من الغنم و هو الفائدة، و كل واحد منهما في الحقيقة في ء و غنيمة، و إنما خص كل واحد منهما باسم ميز به عن الآخر.» «1»

أقول: فالفي ء عند هؤلاء المصنفين يطلق على خصوص ما حصل بغير قتال و يكون قسيما للغنيمة. و لكن الكليني «ره» خص الفي ء بما أخذ بقتال و جعل ما لم يوجف عليه من الأنفال، فيكون الفي ء عنده مساويا للغنيمة و قسيما للأنفال:

9- ففي أصول الكافي في باب الفي ء و الأنفال قال:

«إن اللّه- تبارك و تعالى- جعل الدنيا كلها بأسرها لخليفته، حيث يقول للملائكة:

«إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.» «2» فكانت الدنيا بأسرها لآدم و صارت بعده لأبرار ولده و خلفائه. فما غلب عليه أعداؤهم ثم رجع إليهم بحرب أو غلبة سمّي فيئا، و هو يفي ء إليهم بغلبة و حرب و كان حكمه فيه ما قال اللّه- تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلّٰهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ». فهو للّه و للرسول و لقرابة الرسول.

فهذا هو الفي ء الراجع. و إنما يكون الراجع ما كان في يد غيرهم فأخذ منهم بالسيف.

و أما

ما رجع إليهم من غير أن يوجف عليه بخيل و لا ركاب فهو الأنفال، هو للّه

______________________________

(1)- المغني 7/ 297.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 30.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 348

و للرسول خاصة ليس لأحد فيه الشركة، و إنما جعل الشركة في شي ء قوتل عليه، فجعل لمن قاتل من الغنائم أربعة أسهم و للرسول سهم، و الذي للرسول «ص» يقسمه على ستة أسهم: ثلاثة له و ثلاثة لليتامى و المساكين و ابن السبيل.

و أما الأنفال فليس هذه سبيلها كانت للرسول خاصة. و كانت فدك لرسول اللّه «ص» خاصة لأنه فتحها و أمير المؤمنين «ع» لم يكن معهما أحد فزال عنها اسم الفي ء و لزمها اسم الأنفال، و كذلك الآجام و المعادن و البحار و المفاوز هي للإمام خاصة.» «1»

أقول: ما ذكره- قدّس سرّه- مخالف لصريح الآية في سورة الحشر و للروايات الكثيرة الآتية و لما حكيناه عن علماء الفريقين.

10- و في تفسير النعماني جعل الفي ء أعم مما أوجف عليه و ما لم يوجف فقال:

«و الفي ء يقسم قسمين: فمنه ما هو خاص للإمام و هو قول اللّه- عزّ و جلّ- في سورة الحشر: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ فَلِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبىٰ وَ الْيَتٰامىٰ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» و هي البلاد التي لا يوجف عليها المسلمون بخيل و لا ركاب.

و الضرب الآخر ما رجع إليهم مما غصبوا عليه في الأصل، قال اللّه- تعالى-: «إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً.» فكانت الدنيا بأسرها لآدم «ع»: إذ كان خليفة اللّه في أرضه، ثم هي للمصطفين الذين اصطفاهم و عصمهم، فكانوا هم الخلفاء في الأرض، فلما غصبهم الظلمة على

الحق الذي جعله اللّه و رسوله لهم و حصل ذلك في أيدي الكفار صار في أيديهم على سبيل الغصب حتى بعث اللّه- تعالى- رسوله محمدا «ص» فرجع له و لأوصيائه، فما كانوا غصبوا عليه أخذوه منهم بالسيف، فصار ذلك مما أفاء اللّه به، أي مما أرجعه اللّه إليهم، و الدليل على أن الفي ء هو الراجع قوله- تعالى-: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» أي رجعوا من الإيلاء إلى المناكحة. و قوله- عزّ و جلّ-: وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا.. حَتّى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، أي ترجع.» «2»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 538، كتاب الحجة.

(2)- بحار الأنوار 90/ 47 (ط. إيران 93/ 47)، كتاب القرآن، باب ما ورد في أصناف القرآن؛ و روى صدره في الوسائل 6/ 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 349

أقول: و هذا التفسير و إن نسب جميعه إلى أمير المؤمنين «ع»، لكن كون جميع ما فيه رواية عنه «ع» غير معلوم بل معلوم العدم، لاشتماله على مطالب لا يمكن الالتزام بها. نعم، فيه مطالب صحيحة مهمة نافعة أيضا، فراجع.

و كيف كان فظاهر الكلمات التي مرت و غيرها من الكلمات فيما رأيت أن الفي ء عندهم كان اسما لخصوص ما رجع من ناحية الكفار إلى إمام المسلمين و بيت ما لهم إما مطلقا كما في التفسير المذكور، أو ما حصل بغير قتال كما عليه الأكثر، أو ما حصل بقتال كما في الكافي. فكأنهم اتفقوا على عدم صدقه على مثل الزكوات و الأخماس المأخوذة من أموال المسلمين.

فالأموال العامة الراجعة إلى إمام المسلمين كانت على قسمين:

قسم منها من الضرائب التي توضع على أموال المسلمين و فوائدهم. و قسم منها كانت تحصل من ناحية سعة حكم الإسلام و سلطته على أراضي الكفر و بلاده بالقتال أو بالهدنة.

فالفي ء كان يطلق على خصوص القسم الثاني إما على بعض أصنافه أو مطلقا، و لعل الثاني هو الظاهر من كثير من الأخبار الواردة في الأبواب المختلفة، فيعم مغانم الحرب و الأنفال بأنواعها و الخراج و الجزايا و العشور المأخوذة من تجار الكفار و نحو ذلك.

و لعل إطلاقه عليها كان بلحاظ أن سلطان الكفر بشعبه كان قد استولى على جميع الأموال و البلاد و الأراضي و الجبال و الأودية و غيرها من الأموال العامة التي خلقها اللّه لعباده الصالحين، و قد رجعت بحكم الإسلام إلى رسول اللّه «ص» و إمام المسلمين.

و قد مرّ في أول بحث الغنائم أن آية الأنفال نزلت في غنائم بدر، فيظهر بذلك أن لفظ الأنفال أيضا كان يشمل ما حصل بقتال، فكان اللفظان متساويين موردا و إن اختلفا مفهوما، هذا.

و لكن شاع بعد ذلك استعمال لفظ الأنفال في خصوص ما حصل بغير قتال و لم يتعلق به حق للمقاتلين، بل لم يعهد إطلاقه على مثل الخراج و الجزايا من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 350

الضرائب المأخوذة تدريجا و لو حصلت بسبب الغلبة على الكفر أيضا، كما شاع إطلاق لفظ الفي ء على ما حصل بغير قتال، و لعله بلحاظ كونه موردا لقوله- تعالى- «وَ مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ.»

و كذلك صار لفظ الغنيمة شائعا في خصوص ما حصل بقتال بعد كونه بحسب اللغة أعم، فصار بهذا كله لفظ

الفي ء و الأنفال قسيمين للغنيمة بحسب الاستعمالات الشائعة و الفي ء مساويا للأنفال أو أعم منه إن منعنا صدق الأنفال على مثل الخراج و الجزايا.

و أما الضرائب المأخوذة من أموال المسلمين كالزكوات و الأخماس فلم أعثر إلى الآن على إطلاق الفي ء و الأنفال عليها، بل تقع هذه قسيما لهما في الكلمات. و قد مرّ عن الماوردي و أبي يعلى و القرطبي و الخرقي جعل الفي ء و الغنيمة قسيما للصدقات.

اللهم إلّا أن يطلق الفي ء على جميع ما في بيت المال حتى الصدقات مسامحة و تغليبا، فتأمّل.

و في نهج البلاغة: «إن القرآن أنزل على النبي «ص» و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، و الفي ء فقسمه على مستحقيه، و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، و الصدقات فجعلها اللّه حيث جعلها.» «1»

فذكر فيه الفي ء قسيما للصدقات.

و مرّ في خبر العياشي قوله: «و كل ما دخل منه في ء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه.» «2»

و قد مرّ أن المراد سهم ذي القربى، و واضح أن الصدقات ليس فيها لذي القربى سهم.

و عمدة ما كان في بيوت الأموال في عصر الخلفاء و لا سيما الأموية و العباسية كان من المغانم و الصفايا و خراج الأرضين و الجزايا لكثرة الفتوحات الإسلامية في تلك الأعصار، و هم كانوا يستبدّون في هذه الأموال و يستأثرون بها على حسب

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1217، عبده 3/ 218، لح/ 523، الحكمة 270.

(2)- تفسير العياشي 2/ 61، و الوسائل 6/ 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 351

آرائهم و شهواتهم.

و أما الزكوات فلعلها كانت بالنسبة إليها قليلة جدّا و كذلك

الأخماس، و كانت الزكوات تصرف غالبا في الفقراء و في سبيل اللّه و نحوهما.

[بعض الروايات المتضمنة للفظ الفي ء و مصارفه و هي على ثلاث طوائف]
اشارة

و كيف كان فلنذكر بعض الروايات المتضمنة للفظ الفي ء و مصارفه تتميما للفائدة، و هي على ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: ما جعل فيها الفي ء في قبال الغنيمة المأخوذة عنوة و قسيما لها:

1- ما عن الشيخ بسنده، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في الغنيمة، قال: «يخرج منه الخمس و يقسم ما بقي بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و أما الفي ء و الأنفال فهو خالص لرسول اللّه «ص».» «1»

و عن العياشي أيضا، عن ابن سنان مثله. «2»

و يحتمل كون عطف الأنفال على الفي ء تفسيريا، و لذا أرجع إليهما الضمير المفرد.

2- موثقة محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سمعه يقول: «إن الأنفال ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة دم، أو قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم، و ما كان من أرض خربة أو بطون أودية فهذا كله من الفي ء، و الأنفال للّه و للرسول، فما كان للّه فهو للرسول يضعه حيث يحب.» «3»

و الظاهر من الموثقة أيضا بدوا هو مساواة الفي ء و الأنفال. و ربما يشهد لذلك:

3- موثقته الأخرى، عن أبي جعفر «ع»، قال سمعته يقول: «الفي ء و الأنفال

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 3.

(2)- الوسائل 6/ 361، الباب 1 من أبواب قسمة الخمس، الحديث 14.

(3)- الوسائل 6/ 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 352

ما كان من أرض لم يكن فيها هراقة الدماء، و قوم صولحوا و أعطوا بأيديهم، و ما كان من أرض خربة أو بطون أو دية فهو كله من الفي ء، فهذا للّه و لرسوله، فما كان للّه فهو لرسوله يضعه حيث شاء، و هو للإمام بعد الرسول. و أما قوله:

«مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمٰا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لٰا رِكٰابٍ» قال: أ لا ترى هو هذا؟ و أما قوله: «مٰا أَفٰاءَ اللّٰهُ عَلىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرىٰ» فهذا بمنزلة المغنم. كان أبي يقول ذلك. و ليس لنا فيه غير سهمين: سهم الرسول و سهم القربى، ثم نحن شركاء الناس فيما بقي.» «1»

و روى صدرها العياشي أيضا «2».

و ذيل الخبر لا يخلو من رعاية التقية كما لا يخفى. و ظاهره كون الموضوع في الآية الثانية أعم. و قد عرفت أن ظاهر الخبرين مساواة الفي ء و الأنفال. اللّهم إلا أن يقال بأن ذكر الأنفال بعد الفي ء من قبيل ذكر الخاص بعد العام، فتدبّر.

4- خبر الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، و فيه: «الفي ء ما كان من أموال لم يكن فيها هراقة دم أو قتل، و الأنفال مثل ذلك هو بمنزلته.» «3»

5- مرفوعة أحمد بن محمد، عن بعض أصحابنا، قال: و ما كان من فتح لم يقاتل عليه و لم يوجف عليه بخيل و لا ركاب إلا أن أصحابنا يأتونه فيعاملون عليه فكيف ما عاملهم عليه النصف أو الثلث أو الرابع أو ما كان يسهم له خاصة و ليس لأحد فيه شي ء إلّا ما أعطاه هو منه و بطون الأودية و رءوس الجبال و الموات كلها هي له، و هو قوله- تعالى-: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ» أن تعطيهم منه «قُلِ الْأَنْفٰالُ لِلّٰهِ وَ الرَّسُولِ» و ليس هو يسألونك عن الأنفال، و ما كان من القرى و ميراث من لا وارث له فهو له خاصة، و هو قوله- عزّ و جلّ-: ما أفاء اللّه على رسوله من أهل القرى.

الحديث.» «4»

أقول: ظاهر الخبر كسابقه أيضا مساواة الفي ء

و الأنفال. و الظاهر كون كلمة:

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 368، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 12.

(2)- مستدرك الوسائل 1/ 554، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 3.

(3)- الوسائل 6/ 367، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 11.

(4)- الوسائل 6/ 369، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 353

«عَنِ» في قوله: «يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفٰالِ» زائدة.

فالرواية مطابقة لما حكي عن ابن مسعود و غيره من قراءة الآية كذلك.

و لكن وقوع الزيادة في الكتاب العزيز عندنا ممنوع و كذا النقيصة، و التفصيل يطلب من محلّه.

و لعل المراد بميراث من لا وارث له في الحديث ميراث الكافر الذي ربما يموت في بلاد الإسلام بعد سفره إليها، و أما المسلم الذي يموت في بلده فقلّ من لا يكون له وارث و لو بعيدا، و قد مرّ ذكره في عبارة القرطبي أيضا.

الطائفة الثانية: ما استعمل فيها الفي ء فيما حصل بقتال:

1- ما في نهج البلاغة من كلام له «ع» كلّم به عبد اللّه بن زمعة لما قدم عليه يطلب منه مالا، فقال «ع»: «إن هذا المال ليس لي و لا لك، و إنما هو في ء للمسلمين و جلب أسيافهم، فإن شركتهم في حربهم كان لك مثل حظّهم، و إلا فجناة أيديهم لا تكون لغير أفواههم.» «1»

2- و فيه أيضا من كتاب له «ع» إلى مصقلة بن هبيرة الشيباني: «بلغني عنك أمر إن كنت فعلته فقد أسخطت إلهك و أغضبت (عصيت- لح) إمامك: أنك تقسم في ء المسلمين الذي حازته رماحهم و خيولهم و أريقت عليه دماؤهم فيمن اعتامك من أعراب قومك.» «2»

أقول: اعتامك أي اختارك.

3- و في الوسائل في رواية مروان بن الحكم، قال: «لما هزمنا علي «ع» بالبصرة ...

فقال له قائل: يا أمير المؤمنين، اقسم الفي ء بيننا و السبي. الحديث.» «3»

4- و فيه أيضا موثقة سماعة، عن أحدهما «ع»، قال: «إن رسول اللّه «ص» خرج

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 728؛ عبده 2/ 253؛ لح/ 353، الخطبة 232.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 961؛ عبده 3/ 76، لح/ 415، الكتاب 43.

(3)- الوسائل 11/ 58، الباب 25 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 354

بالنساء في الحرب يداوين الجرحى، و لم يقسم لهن من الفي ء شيئا و لكنه نفلهن.» «1»

5- و فيه أيضا: «إن عليا «ع» قال: إذا ولد المولود في أرض الحرب قسم له مما أفاء اللّه عليهم.» «2»

6- و فيه أيضا في رواية الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «سألته عن رجل لقيه العدوّ و أصاب منه مالا أو متاعا ثم إن المسلمين أصابوا ذلك كيف يصنع بمتاع الرجل؟ فقال: إذا كانوا أصابوه قبل أن يحوزوا متاع الرجل ردّ عليه، و إن كانوا أصابوه بعد ما حازوه فهو في ء المسلمين، فهو أحق بالشفعة.» «3»

7- و فيه أيضا في رواية حفص بن غياث، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الرجل من أهل الحرب إذا أسلم في دار الحرب فظهر عليهم المسلمون بعد ذلك؟

فقال: «إسلامه إسلام لنفسه و لولده الصغار و هم أحرار، و ولده و متاعه و رقيقه له، فأما الولد الكبار فهم في ء للمسلمين إلا أن يكونوا أسلموا قبل ذلك، فأما الدور و الأرضون فهي في ء و لا تكون له. الحديث.» «4»

8- و فيه أيضا خبر أبي الربيع الشامي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لا تشتر من أرض السواد (أراضي أهل السواد خ.

ل) شيئا إلا من كانت له ذمة، فإنما هو في ء للمسلمين.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: سئل عن رجل أصاب جارية من الفي ء فوطأها قبل أن يقسم؟ قال: «تقوم الجارية و تدفع إليه بالقيمة و يحطّ له منها ما يصيبه من الفي ء. الحديث.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 86، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(2)- الوسائل 11/ 87، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(3)- الوسائل 11/ 74، الباب 35 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(4)- الوسائل 11/ 89، الباب 43 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(5)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 5.

(6)- الوسائل 18/ 391، الباب 22 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 355

10- و فيه أيضا خبر ابن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قلت له: رجل سرق من الفي ء؟ قال: بعد ما قسم أو قبل؟ قلت: أجبني فيهما جميعا. قال: «إن كان سرق بعد ما أخذ حصّته منه قطع، و إن كان سرق قبل أن يقسم لم يقطع حتى ينظر ماله فيه.

الحديث.» «1»

11- و فيه أيضا بسند صحيح، عن زرارة، قال: «الإمام يجري و ينفل و يعطي ما يشاء قبل أن تقع السهام، و قد قاتل رسول اللّه «ص» بقوم لم يجعل لهم في الفي ء نصيبا، و إن شاء قسم ذلك بينهم.» «2»

12- و في سيرة ابن هشام: «و لما فرغ رسول اللّه «ص» من ردّ سبايا حنين إلى أهلها ركب و أتبعه الناس يقولون: يا رسول اللّه، اقسم علينا فيئنا من الإبل و الغنم ...

ثم قام

إلى جنب بعير فأخذ و برة من سنامه فجعلها بين اصبعيه ثم رفعها ثم قال: أيها الناس، و اللّه مالي من فيئكم و لا هذه الوبرة إلا الخمس، و الخمس مردود عليكم. الحديث.» «3»

13- و في سنن أبي داود في قصة حنين بسنده: «فقال رسول اللّه «ص»: «ردّوا عليهم نساءهم و أبناءهم، فمن تمسك بشي ء من هذا الفي ء فإن له به علينا ست فرائض من أول شي ء يفيئه اللّه علينا.» ثم دنا- يعني النبي «ص»- من بعير، فأخذ وبرة من سنامه ثم قال: «يا أيها الناس، إنه ليس لي من هذا الفي ء شي ء و لا هذا إلا الخمس، و الخمس مردود عليكم. الحديث.» «4» و رواه أيضا أحمد في المسند. «5»

14- و في كتاب الأموال لأبي عبيد: «فأما الحكم في أرض العنوة فإن عبد اللّه بن صالح حدثنا عن الليث بن سعد، عن يونس بن يزيد الأيلي، عن ابن

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 519، الباب 24 من أبواب حدّ السّرقة، الحديث 6.

(2)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 2.

(3)- سيرة ابن هشام 4/ 134.

(4)- سنن أبي داود 2/ 57، كتاب الجهاد، باب في فداء الأسير بالمال.

(5)- مسند أحمد 2/ 184.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 356

شهاب أن رسول اللّه «ص» افتتح خيبر عنوة بعد القتال و كانت مما أفاء اللّه على رسوله. الحديث.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار.

الطائفة الثالثة: ما ورد فيها لفظ الفي ء مطلقا أو بنحو الإهمال:

1- ما في نهج البلاغة: «فأما حقكم عليّ فالنصيحة لكم و توفير فيئكم عليكم.

الحديث.» «2»

2- و فيه أيضا: «و إنه لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر ... و يجمع به الفي ء. الحديث.» «3»

3- و فيه أيضا: «و

قد علمتم أن رسول اللّه «ص» رجم الزاني (المحصن خ. ل) ثم صلى عليه ثم ورثه أهله، و قتل القاتل و ورث ميراثه أهله، و قطع السارق و جلد الزاني غير المحصن ثم قسم عليهما من الفي ء.» «4»

4- و فيه أيضا من كتاب له إلى زياد بن أبيه: «و إني أقسم باللّه قسما صادقا لئن بلغني أنك خنت من في ء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدّنّ عليك. الحديث.» «5»

5- و فيه أيضا من كتاب له إلى بعض عمّاله: «و كأنك إنما كنت تكيد هذه الأمّة عن دنياهم، و تنوي غرتهم عن فيئهم. الحديث.» «6»

6- و فيه أيضا: «و الأموال أربعة: أموال المسلمين فقسمها بين الورثة في الفرائض، و الفي ء فقسمه على مستحقيه، و الخمس فوضعه اللّه حيث وضعه، و الصدقات. الحديث.» «7»

______________________________

(1)- الأموال/ 70.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 114؛ عبده 1/ 80؛ لح/ 79، الخطبة 34.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 392؛ عبده 2/ 11؛ لح/ 184، الخطبة 127.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 870؛ عبده 3/ 22؛ لح/ 377، الكتاب 20.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 956؛ عبده 3/ 73؛ لح/ 413، الكتاب 41.

(7)- نهج البلاغة، فيض/ 1217؛ عبده 3/ 218؛ لح/ 523، الحكمة 270.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 357

7- و في خطبة سيد الشهداء «ع» لأصحابه و أصحاب الحرّ: «ألا و إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد و عطّلوا الحدود و استأثروا بالفي ء.» «1»

8- و في الوسائل عن العياشي، عن الثمالي، عن أبي جعفر «ع»، قال: سمعته يقول في الملوك الذين يقطعون الناس، قال: «هو من

الفي ء و الأنفال و أشباه ذلك.» «2»

9- و فيه أيضا عن العياشي، عن زرارة و محمد بن مسلم و أبي بصير أنهم قالوا له: ما حق الإمام في أموال الناس؟ قال: «الفي ء و الأنفال و الخمس، و كل ما دخل منه في ء أو أنفال أو خمس أو غنيمة فإن لهم خمسه. الحديث.» «3»

و الحديث أقوى شاهد على أن الفي ء لا يصدق على الزكوات و الصدقات، إذ لا سهم لذوي القربى فيها.

10- و فيه أيضا بسنده، عن الفضيل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع» لفاطمة «ع»: «أحلّي نصيبك من الفي ء لآباء شيعتنا ليطيبوا.» «4»

11- و فيه أيضا بسنده، عن أبي حمزة، عن أبي جعفر «ع» قال: «إن اللّه جعل لنا أهل البيت سهاما ثلاثة في جميع الفي ء فقال- تبارك و تعالى-: «وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ ...»

فنحن أصحاب الخمس و الفي ء. الحديث.» «5» فتأمّل.

12- و فيه أيضا عن الكليني بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع» في حديث طويل يتعرض فيه للجهاد و أوصاف المجاهدين، و فيه: «و ذلك أن جميع ما بين السماء و الأرض للّه- عزّ و جلّ- و لرسوله «ص» و لأتباعهم من المؤمنين من أهل هذه الصفة. فما كان من الدنيا في أيدي

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 7/ 300 (ط. ليدن).

(2)- الوسائل 6/ 372، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 30.

(3)- الوسائل 6/ 373، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 33.

(4)- الوسائل 6/ 381، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 10.

(5)- الوسائل 6/ 385، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 358

المشركين و الكفار و الظلمة و الفجار من

أهل الخلاف لرسول اللّه «ص» و المولى عن طاعتهما مما كان في أيديهم ظلموا فيه المؤمنين من أهل هذه الصفات و غلبوهم على ما أفاء اللّه على رسوله، فهو حقهم أفاء اللّه عليهم و ردّه إليهم، و إنما كان معنى الفي ء كل ما صار إلى المشركين ثم رجع مما كان غلب عليه أو فيه، فما رجع إلى مكانه من قول أو فعل فقد فاء، مثل قول اللّه- عزّ و جلّ-: «لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسٰائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فٰاؤُ فَإِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» أي رجعوا ...

فذلك الدليل على أن الفي ء كل راجع إلى مكان قد كان عليه أو فيه، و يقال للشمس إذا زالت: قد فاءت الشمس حين يفي ء الفي ء عند رجوع الشمس إلى زوالها، و كذلك ما أفاء اللّه على المؤمنين من الكفار فإنما هي حقوق المؤمنين رجعت إليهم بعد ظلم الكفار إياهم. الحديث.» «1»

و مفاد الحديث كما ترى حصر الفي ء فيما حصل من الكفار و المشركين، و ظاهره الإطلاق فيعم ما حصل بالقتال أيضا.

13- و فيه أيضا بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن آبائه «ع»، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه- عزّ و جلّ-.» «2»

14- و فيه أيضا بسنده، عن النبي «ص» في حديث طويل: «و إن أبوا أن يهاجروا و اختاروا ديارهم و أبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين، و لا يجري لهم في الفي ء و لا في القسمة شيئا إلا أن يهاجروا.» «3»

15- و فيه أيضا صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي

عبد اللّه «ع» قال: «لما وليّ علي «ع» صعد المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: أما إني و اللّه ما أرزأكم من فيئكم هذا درهما ما قام لي عذق بيثرب. الحديث.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 25، الباب 9 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(3)- الوسائل 11/ 44، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(4)- الوسائل 11/ 79، الباب 39 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 359

16- و فيه أيضا في حديث عن كتاب الغارات، و فيه: «فقالت العربية:

يا أمير المؤمنين، إني امرأة من العرب و هذه امرأة من العجم، فقال علي «ع»: «و اللّه لا أجد لبني إسماعيل في هذا الفي ء فضلا على بني اسحاق.» «1»

17- و فيه أيضا بسنده عن الزهري، عن علي بن الحسين «ع»، قال: «الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه و صار فيئا.» «2»

18- و فيه أيضا بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع»: «قسم رسول اللّه «ص» الفي ء فأصاب عليا «ع» أرض. الحديث.» «3»

19- و في سنن أبي داود، بسنده، عن رويفع بن ثابت الأنصاري أن النبي «ص» قال: «من كان يؤمن باللّه و باليوم الآخر فلا يركب دابّة من في ء المسلمين حتى إذا أعجفها ردّها فيه، و من كان يؤمن باللّه و باليوم الآخر فلا يلبس ثوبا من في ء المسلمين حتى إذا أخلقه ردّه فيه.» «4»

و رواه أيضا أحمد في المسند. «5»

20- و فيه أيضا بسنده، عن عوف بن مالك: «أن رسول اللّه «ص» كان إذا أتاه الفي ء قسمه في يومه فأعطى الآهل حظّين، و أعطى العزب

حظّا.» «6» و رواه أحمد أيضا في المسند. «7»

21- و في مسند أحمد بسنده، عن أبي ذرّ، قال: قال «ص»: «كيف أنت و ائمة من بعدي

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 81، الباب 39 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 54، الباب 23 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(3)- الوسائل 13/ 303، الباب 6 من كتاب الوقوف و الصدقات، الحديث 2.

(4)- سنن أبي داود 2/ 61، كتاب الجهاد، باب في الرجل ينتفع من الغنيمة بالشي ء.

(5)- مسند أحمد 4/ 108.

(6)- سنن أبي داود 2/ 123، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في قسم الفي ء.

(7)- مسند أحمد 6/ 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 360

يستأثرون بهذا الفي ء. الحديث.» «1» إلى غير ذلك الأخبار التي يعثر عليها المتتبع.

و قد ظهر بما ذكرنا عدم اختصاص لفظ الفي ء بما لم يكن فيه هراقة الدماء. نعم، ربما شاع أخيرا استعماله في خصوص ذلك أخذا من الآية الشريفة. و لم يعهد لنا إطلاقه على مثل الزكوات و الأخماس، أعني الضرائب التي تؤخذ من المسلمين. و لعل الفي ء و الأنفال متساويان موردا و إن اختلفا مفهوما.

اللهم إلا أن ينكر إطلاق الأنفال على الضرائب التدريجية كالخراج و الجزايا و العشور، فيكون الفي ء أعم من الأنفال.

و ربما يؤيد ذلك بأن للإمام أن يصرف من الأنفال في مئونة نفسه و عائلته قطعا، و لم يعهد لنا صرفه للخراج و الجزايا في مصارف نفسه، بل في مرسلة حماد الطويلة في مصرف خراج الأراضي المفتوحة عنوة قال: «فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك

مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير.» «2»

أقول: يظهر من الروايات الكثيرة الواردة في سيرة النبي «ص» في خيبر أنه «ص» عامل أهل خيبر على النصف من ثمرتها و جعل لنفسه و أزواجه أيضا سهاما منها، فراجع ما حررناه في حكم الأراضي المفتوحة عنوة.

و على هذا فيحمل ما في المرسلة على أنه ليس الخراج ملكا شخصيا للإمام، لا أنه لا يصرفه في مصارف نفسه إذا اقتضته المصلحة العامّة، فتدبّر.

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 180.

(2)- الكافي 1/ 541، كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال و تفسير الخمس ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 361

الأمر الخامس: في التعرض لبعض أنواع الفي ء:
[الخراج و الجزايا و العشور]

أقول: حيث إن أكثر أنواع الفي ء ذكرت في أخبارنا و فتاوى أصحابنا باسم الأنفال فالأولى أن نتعرض لها في الفصل الآتي المعقود لبيان الأنفال.

و لكن هنا أمور ثلاثة عدّت في كلماتهم من الفي ء و لم يعهد ذكرها في باب الأنفال، و هي الخراج و الجزايا و العشور التي كانت تؤخذ من تجّار أهل الذمّة أو أهل الحرب.

قال أبو عبيد في كتاب الأموال:

«فالأموال التي تليها أئمة المسلمين هي هذه الثلاثة التي ذكرها عمر، و تأولها من كتاب اللّه- عزّ و جلّ-: الفي ء، و الخمس، و الصدقة ...

فأما الصدقة فزكاة أموال المسلمين من الذهب و الورق، و الإبل و البقر و الغنم، و الحبّ و الثمار. فهي للأصناف الثمانية الذين سمّاهم اللّه- تعالى-، لا حق لأحد من الناس فيها سواهم. و لهذا قال عمر: هذه لهؤلاء.

و أما مال الفي ء فما اجتني من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التي بها حقنت دماؤهم و حرمت أموالهم. و منه خراج الأرضين التي

افتتحت عنوة، ثم أقرّها الإمام في أيدي أهل الذمة على طسق يؤدونه. و منه وظيفه أرض الصلح التي منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمّى. و منه ما يأخذه العاشر من أموال أهل الذمّة التي يمرّون بها عليه لتجارتهم. و منه ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارات. فكل هذا من الفي ء. و هو الذي يعمّ المسلمين: غنيهم و فقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة، و أرزاق الذرية، و ما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام و أهله.

و أما الخمس فخمس غنائم أهل الحرب، و الركاز العادي، و ما يكون من غوص أو

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 362

معدن. فهو الذي اختلف فيه أهل العلم ...» «1»

و كيف كان فلنتعرض هنا إجمالا للخراج و الجزايا لثبوتهما في الشرع بلا إشكال و ورود الأخبار الكثيرة بهما، و نحيل البحث في العشور و الكمارك إلى الفصل الأخير الذي نعقده لبيان الضرائب التي ربما يقال بجواز أن يفرضها الحكومة الحقة العادلة أيضا حسب الاحتياج زائدة على الضرائب المشروعة المعروفة.

______________________________

(1)- الأموال/ 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 363

معنى الجزية و الخراج و الفرق بينهما:

الجزية ضريبة كانت توضع عادة على رءوس أهل الذمة و رقابهم. و إن كانت ربما توضع على أراضيهم أيضا.

و الخراج كان يطلق على ضريبة كانت توضع على الأراضي المفتوحة عنوة أو صلحا على أنها للمسلمين أو لإمام المسلمين، أو الأراضي التي انجلى عنها أهلها، بل و على أراضي الموات أيضا على احتمال يأتي بيانه.

و تقبيل الأراضي يمكن أن يقع بنحو الإجارة، و يمكن أن يقع بنحو المزارعة.

فربما كان يطلق على المأخوذ منها مطلقا لفظ الخراج،

و ربما كان يطلق على ما أخذ بنحو الإجارة الخراج و على ما أخذ بنحو المزارعة المقاسمة.

و يظهر من صحيحة محمد بن مسلم إطلاق لفظ الخراج على الجزية أيضا فيكون أعم منها: قال: «سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم مما يحقنون به دماءهم و أموالهم؟

قال: الخراج. و إن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، و إن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم.» «1»

و لكن الظاهر من الماوردي و غيره كون اللفظين متباينين:

قال الماوردي في الباب الثالث عشر من الأحكام السلطانية:

«و الجزية و الخراج حقان أوصل اللّه- سبحانه و تعالى- المسلمين إليهما من المشركين، يجتمعان من ثلاثة أوجه و يفترقان من ثلاثة أوجه، ثم تتفرع أحكامهما:

فأما الأوجه التي يجتمعان فيها: فأحدها: أن كل واحد منهما مأخوذ عن مشرك صغارا له و ذلة. و الثاني: أنهما مالا في ء يصرفان في أهل الفي ء. و الثالث: أنهما يجبان

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 364

بحلول الحول و لا يستحقان قبله.

و أما الأوجه التي يفترقان فيها: فأحدها: أن الجزية نصّ، و أن الخراج اجتهاد.

و الثاني: أن أقلّ الجزية مقدر بالشرع و أكثرها مقدر بالاجتهاد، و الخراج أقله و أكثره مقدر بالاجتهاد. و الثالث: أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر و تسقط بحدوث الإسلام، و الخراج يؤخذ مع الكفر و الإسلام.» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفراء أيضا. «2»

أقول: ما ذكراه من أنهما يصرفان في أهل الفي ء لعله مساوق لاستحقاق الرسول «ص» و ذوي القربي أيضا منهما على ما هو مقتضى آية الفي ء في سورة الحشر، و لكن قد مرّ

منّا عدم كونه معهودا في الجزايا، فراجع و تتبع.

و بالجملة فهنا مسألتان: الأولى في الجزية، و الثانية في الخراج.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 142.

(2)- الأحكام السلطانية/ 153.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 365

المسألة الأولى: في الجزية:
اشارة

و الأصل فيها قوله- تعالى- في سورة التوبة: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» «1»

في المجمع:

«قيل: هذه الآية نزلت حين أمر رسول اللّه «ص» بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك، عن مجاهد. و قيل: هي على العموم.» «2»

و الظاهر أن كلمة: «من» بيانية لا للتبعيض، و أن نفي الإيمان باللّه و باليوم الآخر عنهم مع أنهم من أهل الكتاب من جهة أنهم لا يرون ما هو الحق في باب التوحيد و المعاد، و لا يلتزمون بلوازمهما في مقام العمل. و قيل: لأنهم يضيفون إلى اللّه- تعالى- ما لا يليق بذاته، فكأنهم لا يعرفونه حتى يؤمنوا به.

و المراد برسوله إما النبي محمد «ص» الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل، و إما رسول أنفسهم كموسى و عيسى «ع». فالمعنى أنه لا يحرم كل أمة منهم ما حرّمه رسولهم أيضا. حيث إنهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم. و قد وصفهم اللّه- تعالى- بهذه الأوصاف الدالة على ذمهم تعليلا لإيجاب قتالهم و تهييجا للمؤمنين على ذلك.

و من المظنون أن «الجزية» معربة من كلمة: «گزيت» الفارسية و ليست عربية.

و قال الماوردي:

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 29.

(2)- مجمع البيان 3/ 21 (الجزء 5).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 366

«اسمها

مشتق من الجزاء، إما جزاء على كفرهم لأخذها منهم صغارا، و إما جزاء على أماننا لهم لأخذها منهم رفقا.» «1» و ذكر نحوه أبو يعلى أيضا. «2»

و في الجواهر:

«هي فعلة من جزى يجزي، يقال: جزيت ديني: إذا قضيته.» «3»

و على هذا تكون الفارسية مأخوذة من العربية. و يحتمل أصالتهما أيضا، فتدبّر.

و كانت الجزية تؤخذ من أهل الكتاب عوضا عن حفظ ذمتهم و الكف عنهم و الدفاع عن حقوقهم و حرماتهم. و لا غنى للحكومة التي تريد أن تقوم على ساقها عن الضرائب المالية حقا كانت الدولة أم باطلة.

و لعل اليد في الآية كناية عن القوة و القدرة، فيراد أنهم يعطون الجزية عن قدرة و سلطة لكم عليهم، و هم خاضعون منقادون في قبال الحكم الإسلامي. فالآية تدل على ركني عقد الذمة، أعني بذل الجزية و الالتزام بأحكام المسلمين.

و قيل: يعني عن غنى و قدرة لهم. و قيل: يعني نقدا لا نسية. و قيل: يعطيها من يده إلى يد من يدفعه إليه من غير واسطة، كما يقال: كلّمته فما بفم. و اللّه- تعالى- أعلم.

و الظاهر أن الصغار لا يراد به أزيد من التزامهم بأحكامنا و انقيادهم للدولة الإسلامية، و سيأتي تفصيل ذلك.

و ظاهر الآية أن قبول الجزية من أهل الكتاب إلزامي، فلا يجوز قتالهم بعد ما قبلوا إعطاءها، اللهم إلا أن يقال إن إعطاء الجزية في الآية غاية لوجوب القتال لا لجوازه.

و الحاصل أن الأمر بالقتال إن كان مفاده الوجوب كما هو الظاهر منه بدوا كان إعطاء الجزية غاية لوجوبه، فلا ينافي بقاء الجواز معه. نعم، لو قيل: بأن مفاد الأمر هنا هو الجواز فقط لكونه في مقام توهم الحظر كانت الغاية غاية للجواز،

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/

142.

(2)- الأحكام السلطانية/ 153.

(3)- الجواهر 21/ 227.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 367

فلا يجوز القتال بعد قبولهم لإعطائها، فتدبّر.

و الآية بنفسها لا تنفي قبول الجزية من سائر الكفار، فإنه من قبيل مفهوم اللقب و ليس بحجة.

و المراد بأهل الكتاب على ما هو المتبادر منه في تلك الأعصار هو اليهود و النصارى، و ألحق بهم المجوس أيضا للسنّة، و إنما وقع الخلاف و البحث في غيرهم كما سيأتي.

و كيف كان فهنا جهات من البحث:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 368

الجهة الأولى: فيمن تؤخذ منه الجزية من الفرق و أنها هل تؤخذ من سائر الكفار أيضا أم لا؟ و هل تؤخذ من العرب أيضا؟
[كلمات العلماء]

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 1):

«لا يجوز أخذ الجزية من عبّاد الأوثان، سواء كانوا من العجم أو من العرب، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: تؤخذ من العجم و لا تؤخذ من العرب. و قال مالك:

تؤخذ من جميع الكفار إلا مشركي قريش.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.» و قال- تعالى-: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ.» و لم يستثن.

و قال- تعالى-: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ. الآية.» فخص أهل الكتاب بالجزية دون غيرهم. و أيضا قوله «ص»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه.»

(المسألة 2):

«يجوز أخذ الجزية من أهل الكتاب من العرب، و به قال جميع الفقهاء، و قال أبو يوسف: لا يجوز. دليلنا قوله- تعالى-: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» و لم يفرق. و أيضا بعث رسول اللّه «ص» خالد بن الوليد إلى دومة الجندل فأغار عليها و أخذ أكيدر دومة فأتي به النبي «ص»، فصالحه على

الجزية. و قال الشافعي: أكيدر بن حسان رجل من كندة أو غسان، و كلاهما عرب. و أخذ رسول اللّه «ص» الجزية من أهل نجران و فيهم عرب.»

(المسألة 3):

«المجوس كان لهم كتاب ثم رفع عنهم، و هو أصح قولي الشافعي، و له قول آخر أنه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 369

لم يكن لهم كتاب، و به قال أبو حنيفة. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و رووا عن علي «ع» أنه قال: كان لهم كتاب أحرقوه و نبيّ قتلوه. فثبت أنهم أهل الكتاب.» «1»

2- و قال في النهاية:

«كل من خالف الإسلام من سائر أصناف يجب مجاهدتهم و قتالهم، غير أنهم ينقسمون قسمين: قسم لا يقبل منهم إلا الإسلام و الدخول فيه، أو يقتلون و تسبى ذراريّهم و تؤخذ أموالهم، و هم جميع أصناف الكفار إلا اليهود و النصارى و المجوس.

و القسم الآخر هم الذين تؤخذ منهم الجزية، و هم الأجناس الثلاثة الذين ذكرناهم، فإنهم متى انقادوا للجزية و قبلوها و قاموا بشرائطها لم يجز قتالهم و لم يسغ سبي ذراريّهم. و متى أبوا الجزية أو أخلّوا بشرائطها كان حكمهم حكم غيرهم من الكفار في أنه يجب عليهم القتل و سبي الذراريّ و أخذ الأموال.» «2»

3- و فيه أيضا:

«الجزية واجبة على أهل الكتاب ممن أبى منهم الإسلام و أذعن بها، و هم اليهود و النصارى. و المجوس حكمهم حكم اليهود و النصارى.» «3»

4- و قال في جهاد المبسوط:

«الكفار على ثلاثة أضرب: أهل كتاب، و هم اليهود و النصارى، فهؤلاء يجوز إقرارهم على دينهم ببذل الجزية. و من له شبهة كتاب، فهم المجوس، فحكمهم حكم أهل الكتاب يقرّون على دينهم ببذل الجزية.

و من لا كتاب له و لا شبهة كتاب، و هم من عدا هؤلاء الثلاثة أصناف من عبّاد الأصنام و الأوثان و الكواكب و غيرهم، فلا يقرّون على دينهم ببذل الجزية.

و متى امتنع أهل الكتاب من بذل الجزية قوتلوا و سبيت ذراريّهم و نساؤهم،

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 237.

(2)- النهاية/ 291.

(3)- النهاية/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 370

و أموالهم تكون فيئا.» «1»

و ذكر قريبا من ذلك في أول كتاب الجزايا منه أيضا، فراجع. «2»

و لعل التعبير بشبهة الكتاب كان من جهة عدم تحقق كون ما بأيديهم الآن من الكتاب، حيث أحرقوا كتابهم، فتأمّل.

5- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«فيجب على وليّ الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقرّوا بها في دار الإسلام، و يلتزم لهم ببذلها حقان: أحدهما: الكف عنهم.

و الثاني: الحماية لهم، ليكونوا بالكف آمنين و بالحماية محروسين. روى نافع عن ابن عمر، قال: كان آخر ما تكلّم به النبي «ص» أن قال: «احفظوني في ذمتي.»

و العرب في أخذ الجزية منهم كغيرهم. و قال أبو حنيفة: لا آخذها من العرب، لئلا يجري عليهم صغار.

و لا تؤخذ من مرتدّ و لا دهريّ و لا عابد وثن. و أخذها أبو حنيفة من عبدة الأوثان إذا كانوا عجما. و لم يأخذها منهم إذا كانوا عربا.

و أهل الكتاب هم اليهود و النصارى، و كتابهم التوراة و الإنجيل. و يجري المجوس مجراهم في أخذ الجزية منهم و إن حرم أكل ذبائحهم و نكاح نسائهم.

و تؤخذ من الصابئين و السامرة إذا وافقوا اليهود و النصارى في أصل معتقدهم و إن خالفوهم في فروعه. و لا تؤخذ منهم إذا خالفوا

اليهود و النصارى في أصل معتقدهم.» «3»

و لا يخفى أن الماوردي يكون من علماء الشافعية.

6- و في جهاد البداية لابن رشد بعد ذكر الجزية لأهل الكتاب و ذكر الآية الشريفة قال:

«و كذلك اتفق عامة الفقهاء على أخذها من المجوس، لقوله «ص»: «سنّوا بهم سنّة

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 9.

(2)- المبسوط 2/ 36.

(3)- الأحكام السلطانية/ 143.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 371

أهل الكتاب.» و اختلفوا فيما سوى أهل الكتاب من المشركين هل تقبل منهم الجزية أم لا، فقال قوم: تؤخذ الجزية من كل مشرك، و به قال مالك. و قوم استثنوا من ذلك مشركي العرب. و قال الشافعي و أبو ثور و جماعة: لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب و المجوس.» «1»

7- و في خراج أبي يوسف:

«قال أبو يوسف: و الجزية واجبة على جميع أهل الذمة: ممن في السواد و غيرهم من أهل الحيرة و سائر البلدان، من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و السامرة ما خلا نصارى بني تغلب و أهل نجران خاصّة.» «2»

8- و فيه أيضا:

«و جميع أهل الشرك من المجوس و عبدة الأوثان و عبدة النيران و الحجارة و الصابئين و السامرة تؤخذ منهم الجزية ما خلا أهل الردّة من أهل الإسلام و أهل الأوثان من العرب.» «3»

9- و في مختصر الخرقي في فقه الحنابلة قال:

«و لا تقبل الجزية إلا من يهوديّ أو نصرانيّ أو مجوسيّ، إذا كانوا مقيمين على ما عوهدوا عليه. و من سواهم فالإسلام أو القتل.» «4»

و قال في المغني في شرحه:

«يعني من سوى اليهود و النصارى و المجوس لا تقبل منهم الجزية و لا يقرّون بها و لا يقبل منهم إلا الإسلام، فإن

لم يسلموا قتلوا. هذا ظاهر مذهب أحمد، و روى عنه الحسن بن ثواب أنها تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب، لأن حديث بريدة يدلّ بعمومه على قبول الجزية من كل كافر إلا أنه خرج منه عبدة الأوثان من العرب ...» «5»

______________________________

(1)- بداية المجتهد 1/ 376 (ط. أخرى 1/ 331).

(2)- الخراج/ 122.

(3)- الخراج/ 128.

(4)- المغني 10/ 568 و 573.

(5)- المغني 10/ 573.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 372

10- و في المنتهى:

«و يعقد الجزية لكل كتابي عاقل بالغ ذكر، و نعني بالكتابي من له كتاب حقيقة و هم اليهود و النصارى، و من له شبهة كتاب و هم المجوس، فيؤخذ الجزية من هؤلاء الأصناف الثلاثة بلا خلاف بين علماء الإسلام في ذلك في قديم الوقت و حديثه، فإن الصحابة أجمعوا على ذلك و عمل به الفقهاء القدماء و من بعدهم إلى زماننا هذا من أهل الحجاز و العراق و الشام و مصر و غيرهم من أهل الأصقاع في جميع الأزمان، عملا بالآية الدالّة على أخذ الجزية، و الأحاديث المتقدمة. و فعل النبي «ص» ذلك، و أخذ الجزية من مجوس هجر. و بعث النبي «ص» معاذا إلى اليمن، فأمره أن يأخذ من كل حالم دينارا أو عدله من المعافري، و هو إجماع.» «1»

أ قول: قال في النهاية بعد ذكر الحديث:

«و هي برود باليمن منسوبة إلى معافر، و هي قبيلة باليمن. و الميم زائدة.» «2»

11- و فيه أيضا:

«و لا يقبل من غير الأصناف الثلاثة من سائر فرق الكفار إلا الإسلام، فلو بذلوا الجزية لم يقبل منهم كعبّاد الأوثان و الأصنام و الأحجار و النيران و الشمس و غير ذلك من غير

اليهود و النصارى و المجوس من العرب و العجم، و به قال الشافعي.

و قال أبو حنيفة: تقبل من جميع الكفار إلا العرب. و قال أحمد: تقبل من جميع الكفار إلا عبدة الأوثان من العرب. و قال مالك: إنها تقبل من جميعهم إلا مشركي قريش، فإنهم ارتدّوا. و قال الأوزاعي و سعيد بن عبد العزيز: إنها تقبل من جميعهم.» «3»

12- و في جهاد الشرائع في أحكام الذمّة قال:

«الأول: من تؤخذ منه الجزية؟ تؤخذ ممن يقرّ على دينه، و هم اليهود و النصارى، و من لهم شبهة كتاب و هم المجوس، و لا يقبل من غيرهم إلا الإسلام.

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 959.

(2)- النهاية لابن الأثير 3/ 262.

(3)- المنتهى 2/ 960.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 373

و الفرق الثلاث إذا التزموا شرائط الذمة أقرّوا، سواء كانوا عربا أو عجما.

و لو ادّعى أهل حرب أنهم منهم و بذلوا الجزية لم يكلفوا البيّنة و أقرّوا.» «1»

13- و في الجواهر في ذيل قول المحقق: «و لا يقبل من غيرهم إلا الإسلام»، قال:

«بلا خلاف أجده فيه، بل عن الغنية و غيرها الإجماع عليه، بل و لا إشكال بعد قوله- تعالى-: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.» و قوله- تعالى-: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ.» و غير ذلك من الكتاب و السنة. من غير فرق بين من كان منهم له أحد كتب إبراهيم و آدم و إدريس و داود، و من لم يكن له، ضرورة أنّ المنساق من الكتاب في القرآن العظيم التوراة و الإنجيل ...» «2»

و قد تحصّل مما حكيناه من الكلمات أنه لا إشكال عند أصحابنا في قبول الجزية من اليهود و النصارى، بل و من المجوس أيضا.

نعم، عن ظاهر العماني أنه ألحقهم بعباد الأوثان و غيرهم ممن لا يقبل منهم إلا الإسلام، و لكن قال في الجواهر: «قد سبقه الإجماع بقسميه و لحقه.» «3»

و أفتى أصحابنا بعدم قبولها من غير الفرق الثلاث، و به قال الشافعي أيضا، و أفتى أبو حنيفة و مالك و أحمد في رواية بقبولها من جميع الكفار إلا مشركي العرب أو قريش، و قال بعضهم بقبولها من جميعهم. هذا.

14- و لكن في كتاب السير من الخلاف (المسألة 24):

«إذا صالح الإمام قوما من المشركين على أن يفتحوا الأرض و يقرّهم فيها و يضرب على أرضهم خراجا بدلا عن الجزية كان ذلك جائزا على حسب ما يعلمه (يراه- ظ.) من المصلحة و يكون جزية. و إذا أسلموا أو باعوا الأرض من مسلم سقط، و به قال الشافعي إلا أنه قيد ذلك بأن قال: إذا علم أن ذلك يفي بما يختص كل بالغ

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 327 (ط. أخرى/ 250).

(2)- الجواهر 21/ 231.

(3)- الجواهر 21/ 228.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 374

دينارا في كل سنة. و قال أبو حنيفة: لا يسقط ذلك بالإسلام. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

أقول: أراد الشافعي بما قيده أن لا يقلّ المأخوذ منهم عن أقلّ الجزية لأهل الكتاب، فإن الأقلّ عنده دينار واحد لكل سنة.

و لا يخفى أن هذه المسألة من الخلاف تنافي ما سبق منه و من المبسوط و غيرهما من عدم قبول الجزية من المشركين.

اللّهم إلا أن يفرّق بين المسألتين بأن قبول الجزية من أهل الكتاب و المجوس بنحو الإلزام، و من المشركين بنحو الجواز و رعاية المصلحة.

أو أن جزية أهل الكتاب على رقابهم و جزية المشركين على

الأراضي،

أو أن جزية أهل الكتاب على نحو الدوام و الاستمرار، و جزية المشركين على نحو التوقيت، حيث لا يجوز المهادنة على ترك القتال أكثر من عشر سنين كما بيّن في محله،

أو أن المنع من أخذ الجزية من المشرك و أمثاله محمول على أخذها من الكفار الموجودين في داخل المجتمعات الإسلامية و الحكم الإسلامي، فنقول بجواز أخذها من دول الكفر و حكّامهم و مدنهم و قراهم ليكفّ عنهم و يكونوا مأمونين في ظل حماية الدولة الإسلامية و التعهد الدولي، إذ يبعد جدا وجوب قتل جميع الكفار في بلاد الكفر مع سعتها و كثرتهم كالهنود و البوذيين و أمثالهم، و لا إكراه في الدين و لا اعتبار به ما لم يكن على أساس العلم و المعرفة، و قد مرّ عن الماوردي قوله: «فيجب على ولي الأمر أن يضع الجزية على رقاب من دخل في الذمة من أهل الكتاب ليقرّوا في دار الإسلام.» فيظهر بذلك أن محل البحث في الجزية عندهم هي الأقلية الداخلة في المجتمعات الإسلامية في دار الإسلام. و المسألة محتاجة إلى كثرة بحث و تنقيح.

و يحتمل بعيدا أن الشيخ أراد بالمشركين في كلامه هنا خصوص أهل الكتاب،

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 235.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 375

و كان عنوان المسألة لبيان كفاية ضرب الخراج على الأرض بدلا عن جزية الرؤوس، فتدبّر.

[ما يستدل به في المقام من الآيات]

و كيف كان فلنتعرض لما يستدل به في المقام من الآيات و الروايات:

1- قال اللّه- تعالى-: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ. الآية.» «1»

2- و قال: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تٰابُوا وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا

الزَّكٰاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» «2»

3- و قال: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ. الآية.» «3»

إلى غير ذلك من الآيات التي يستفاد منها الحثّ على القتال لبسط التوحيد و العدالة و رفع أساس الكفر و الفتنة من ساحة الأرض. نعم، يمكن المناقشة في بعضها بكونها في مقام رفع توهم الحظر، فلا تدلّ على أزيد من الترخيص.

4- و قد مرّ قوله- تعالى-: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» «4»

و مرّ شرح الآية و مقدار دلالتها في أول البحث.

[ما يستدل به في المقام من الروايات]

5- و روى البيهقي بسنده، عن أبي هريرة أن رسول اللّه «ص»، قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فمن قال: لا إله إلا اللّه فقد عصم مني ماله و نفسه إلا بحقه

______________________________

(1)- سورة محمّد «ص» (47)، الآية 4.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 5.

(3)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 376

و حسابه على اللّه.» رواه مسلم ... و أخرجه البخاري في الصحيح. «1»

6- و فيه أيضا بسنده، عن أبي هريرة: قال رسول اللّه «ص»: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللّه، فإذا قالوها منعوا مني دماءهم و أموالهم إلا بحقها، و حسابهم على اللّه.» أخرجه مسلم في الصحيح. «2»

7- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عصام، عن أبيه أن النبي «ص» كان إذا بعث سرية قال: «إذا سمعتم مؤذنا أو رأيتم

مسجدا فلا تقتلوا أحدا.» «3»

فيستفاد من هذه الآيات و الروايات أن الكافر يدعى إلى الإسلام؛ فإن قبل جرى عليه حكم الإسلام و إلا قتل، فتكون الجزية على خلاف القاعدة لا يصار إليها إلا بدليل، و آية سورة التوبة الواردة فيها تكون بمنزلة الاستثناء، و موردها خصوص أهل الكتاب.

8- و في الوسائل في خبر حفص بن غياث، عن أبي عبد اللّه «ع» الوارد في الأسياف الخمسة، قال: «فأما السيوف الثلاثة المشهورة (الشاهرة) فسيف على مشركي العرب، قال اللّه- عزّ و جلّ-: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تٰابُوا (يعني آمنوا) وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ فَإِخْوٰانُكُمْ فِي الدِّينِ.» فهؤلاء لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، و أموالهم (و مالهم في ء) و ذراريّهم سبي على ما سنّ رسول اللّه «ص»، فإنه سبى و عفا و قبل الفداء.

و السيف الثاني على أهل الذمّة، قال اللّه- تعالى-: «وَ قُولُوا لِلنّٰاسِ حُسْناً.» «4» نزلت هذه الآية في أهل الذمة، ثم نسخها قوله- عزّ و جلّ-: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.

(2)- سنن البيهقي 9/ 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.

(3)- سنن البيهقي 9/ 182، كتاب الجزية، باب من لا تؤخذ منه الجزية من أهل الأوثان.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 83.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص:

377

فمن كان منهم في دار الإسلام فلن يقبل منهم إلا الجزية أو القتل، و مالهم في ء، و ذراريّهم سبي، و إذا قبلوا الجزية على أنفسهم حرم علينا سبيهم، و حرمت أموالهم، و حلّت لنا مناكحتهم، و من كان منهم في دار الحرب حلّ لنا سبيهم، و لم تحل لنا مناكحتهم و لم يقبل منهم إلا الدخول في دار الإسلام أو الجزية أو القتل.

و السيف الثالث سيف على مشركي العجم، يعني الترك و الديلم و الخزر، قال اللّه- عزّ و جلّ- في أول السورة التي يذكر فيها الذين كفروا فقصّ قصتهم ثم قال: «فَضَرْبَ الرِّقٰابِ حَتّٰى إِذٰا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثٰاقَ فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمّٰا فِدٰاءً حَتّٰى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزٰارَهٰا.» فأما قوله: «فَإِمّٰا مَنًّا بَعْدُ» يعني بعد السبي منهم، «وَ إِمّٰا فِدٰاءً» يعني المفاداة بينهم و بين أهل الإسلام. فهؤلاء لن يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام، و لا تحلّ لنا مناكحتهم ما داموا في دار الحرب.» «1»

و لا يخفى أن الآية الأولى المذكورة في الحديث تحصّلت من ضمّ آيتي 5 و 11 من سورة التوبة، فراجع.

9- و في المستدرك، عن العياشي، عن جعفر بن محمد، عن أبي جعفر «ع» «أن اللّه بعث محمدا «ص» بخمسة أسياف: فسيف على مشركي العرب، قال اللّه- جلّ وجهه:

«فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ، فَإِنْ تٰابُوا (يعني فإن آمنوا) فَإِخْوٰانُكُمْ فِي الدِّينِ» لا يقبل منهم إلا القتل أو الدخول في الإسلام. الحديث.» «2»

10- و في الوسائل في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي الواردة في مناظرة الإمام الصادق «ع» مع عمرو بن عبيد و غيره من المعتزلة في شأن محمد

بن عبد اللّه بن الحسن، قال «ع»: «يا عمرو، أ رأيت لو بايعت صاحبك الذي تدعوني إلى بيعته ثم اجتمعت لكم الأمة فلم يختلف عليكم رجلان فيها فأفضيتم إلى المشركين الذين لا يسلمون و لا يؤدون الجزية، أ كان عندكم و عند صاحبكم من العلم ما تسيرون فيه بسيرة رسول اللّه «ص» في المشركين في حروبه؟ قال: نعم. قال: فتصنع ما ذا؟ قال: ندعوهم إلى الإسلام، فإن أبوا

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 16، الباب 5 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 246، الباب 5 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 378

دعوناهم إلى الجزية. قال: إن كانوا مجوسا ليسوا بأهل الكتاب؟ قال: سواء. قال: و إن كانوا مشركي العرب و عبدة الأوثان؟ قال: سواء. قال: أخبرني عن القرآن تقرأه؟ قال:

نعم. قال: اقرأ: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» فاستثناء اللّه- تعالى- و اشتراطه من أهل الكتاب، فهم و الذين لم يؤتوا الكتاب سواء؟ قال: نعم. قال:

عمن أخذت ذا؟ قال: سمعت الناس يقولون. الحديث.» «1»

أقول: فيظهر من هذه الصحيحة إجمالا مخالفة أهل الكتاب لغيرهم من الكفار في قبول الجزية منهم، بل و مخالفة المجوس أيضا لأهل الكتاب و إن كان الحق كونهم مثل أهل الكتاب في ذلك كما سيظهر.

و ربما ينسبق إلى الذهن من قوله «ع»: «فأفضيتم إلى المشركين الذين لا يسلمون و لا يؤدون الجزية» قبول الجزية من المشركين أيضا و لكن الذيل يدفع ذلك، فتدبّر.

11-

و في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال:

«لا يقبل من عربي جزية، و إن لم يسلموا قوتلوا.» «2»

12- و في الوسائل، عن الكليني، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، عن بعض أصحابنا، قال: «سئل أبو عبد اللّه «ع» عن المجوس أ كان لهم نبيّ؟ فقال: نعم. أما بلغك كتاب رسول اللّه «ص» إلى أهل مكة: أن أسلموا و إلا نابذتكم بحرب. فكتبوا إلى النبي «ص»: أن خذ منّا الجزية و دعنا على عبادة الأوثان.

فكتب إليهم النبيّ «ص» إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب. فكتبوا إليه- يريدون بذلك تكذيبه-: زعمت أنك لا تأخذ الجزية إلا من أهل الكتاب ثم أخذت الجزية من مجوس هجر.

فكتب إليهم رسول اللّه «ص»: أن المجوس كان لهم نبي فقتلوه و كتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور.»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 262، الباب 42 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 379

و رواه أيضا، عن الشيخ بإسناده، عن محمد بن يعقوب، و بإسناده، عن أحمد بن محمد مثله. «1»

و في الخبر كما ترى إرسال. و يظنّ بحسب الطبقة أن أبا يحيى الواسطي يراد به زكريا بن يحيى الواسطي، و هو ثقة كسائر رواة الحديث.

و قوله «ص»: «إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب» هل هو حكم إلهيّ كليّ فلا يجوز التخلف عنه، أو أن رسول اللّه «ص» بما أنه كان حاكما على المسلمين في عصره لم ير أخذها صلاحا إلا من أهل الكتاب فلا

ينافي ذلك أخذ الأئمة و الحكام بعده و لو من غيرهم إذا رأوا في ذلك مصلحة للإسلام و المسلمين؟

كل محتمل، بل لعل ظاهر التعبير هو الثاني.

هذا مع قطع النظر عما ورد في الروايات السابقة من الفرق بين أهل الكتاب و غيرهم.

ثم إن تعليل النبي «ص» لأخذ الجزية من مجوس هجر بأنه كان لهم نبيّ و كتاب، لعله يقتضي إسراء الحكم إلى كل أمة ثبت لهم نبيّ و كتاب سماوي و لو لم يطلق عليها أحد العناوين الثلاثة.

13- و فيه أيضا، عن الشيخ بإسناده، عن أحمد بن محمد، عن أبي يحيى الواسطي، قال: سئل أبو عبد اللّه «ع» عن المجوس، فقال: «كان لهم نبي قتلوه و كتاب أحرقوه، أتاهم نبيهم بكتابهم في اثني عشر ألف جلد ثور، و كان يقال له جاماسب.» «2»

14- و فيه أيضا، عن الصدوق في الفقيه، قال: «المجوس تؤخذ منهم الجزية، لأن النبي «ص» قال: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب.» و كان لهم نبيّ اسمه داماسب فقتلوه، و كتاب يقال له جاماسب كان يقع في اثني عشر ألف جلد ثور فحرقوه.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 96، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(3)- الوسائل 11/ 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 380

15- و فيه أيضا، عن مجالس الصدوق بسنده، عن الأصبغ بن نباتة: «أن عليا «ع» قال على المنبر: سلوني قبل أن تفقدوني، فقام إليه الأشعث فقال:

يا أمير المؤمنين، كيف تؤخذ الجزية من المجوس و لم ينزل عليهم كتاب و لم يبعث إليهم نبي؟ فقال: بلى يا أشعث،

قد أنزل اللّه عليهم كتابا و بعث إليهم نبيا. الحديث.» «1»

16- و فيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال: «المجوس إنما ألحقوا باليهود و النصارى في الجزية و الديات، لأنه قد كان لهم فيما مضى كتاب.» «2»

17- و فيه أيضا، عن مجالس ابن الشيخ بسنده، عن علي بن موسى الرضا «ع»، عن أبيه، عن آبائه، عن علي بن الحسين- عليهم السلام- أن رسول اللّه «ص» قال: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب.» يعني المجوس. «3»

18- و في كتاب الأموال لأبي عبيد في ذكر كتب رسول اللّه «ص» بسنده، عن عروة بن الزبير، قال: «و كتب إلى أهل اليمن: من محمد رسول اللّه «ص» إلى أهل اليمن- برسالة فيها-: و أنه من أسلم من يهوديّ أو نصراني فإنه من المؤمنين، له ما لهم و عليه ما عليهم.

و من كان على يهوديته او نصرانيته فإنه لا يفتن عنها و عليه الجزية.» «4»

19- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن إسحاق، قال: «فلما انتهى رسول اللّه «ص» إلى تبوك أتاه يحنة بن روبة صاحب أيلة فصالح رسول اللّه «ص» و أعطاه الجزية. و أتاه أهل جربا و أذرح فأعطوه الجزية.» «5»

20- و فيه أيضا بسنده، عن أنس بن مالك و عن عثمان بن أبي سليمان «أن

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 7.

(2)- الوسائل 11/ 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

(3)- الوسائل 11/ 98، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 9.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 380

(4)- الأموال/ 29.

(5)- سنن البيهقي 9/ 185، كتاب الجزية، باب من يؤخذ منه الجزية من أهل الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 381

النبي «ص» بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر دومة، فأخذوه فأتوا به فحقن له دمه و صالحه على الجزية.» «1»

21- و فيه أيضا بسنده «أن رسول اللّه «ص» بعث خالد بن الوليد إلى أكيدر بن عبد الملك- رجل من كندة كان ملكا على دومة و كان نصرانيّا ... ثم إن خالدا قدم بالأكيدر على رسول اللّه «ص»، فحقن له دمه و صالحه على الجزية و خلّى سبيله، فرجع إلى قريته.

قال الشافعي: و أخذ رسول اللّه «ص» الجزية من أهل ذمة اليمن و عامتهم عرب، و من أهل نجران و فيهم عرب.» «2»

22- و فيه أيضا بسنده، عن معاذ بن جبل، قال: بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن و أمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر. قال يحيى بن آدم: و إنما هذه الجزية على أهل اليمن و هم قوم عرب لأنهم أهل كتاب، ألا ترى أنه قال:

لا يفتن يهودي عن يهوديته. «3»

23- و فيه أيضا بسند، عن ابن عباس، قال: صالح رسول اللّه «ص» أهل نجران على ألفي حلة. «4»

24- و فيه أيضا بسنده، قال الشافعي: قد أخذ رسول اللّه «ص» الجزية من أكيدر الغساني، و يروون أنه صالح رجالا من العرب على الجزية.

فأما عمر بن الخطاب و من بعده من الخلفاء إلى اليوم فقد أخذوا الجزية من بني تغلب و تنوخ و بهراء و خلط من خلط العرب، و هم إلى الساعة مقيمون على النصرانيّة

______________________________

(1)-

سنن البيهقي 9/ 186، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

(2)- سنن البيهقي 9/ 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

(3)- سنن البيهقي 9/ 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

(4)- سنن البيهقي 9/ 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 382

يضاعف عليهم الصدقة، و ذلك جزية و إنما الجزية على الأديان لا على الأنساب ... «1»

25- و فيه أيضا بسنده، عن نصر بن عاصم، قال: قال فروة بن نوفل الأشجعي: علام تؤخذ الجزية من المجوس و ليسوا بأهل كتاب؟ فقام إليه المستورد فأخذ بتلبيبه فقال: يا عدوّ اللّه، تطعن على أبي بكر و عمرو على أمير المؤمنين- يعني عليا «ع»- و قد أخذوا منهم الجزية؟ فذهب به إلى القصر، فخرج علي «ع» عليهما و قال: البدا، فجلسا في ظلّ القصر، فقال علي «ع»: «أنا أعلم الناس بالمجوس؛ كان لهم علم يعلمونه و كتاب يدرسونه، و أن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطّلع عليه بعض أهل مملكته، فلما صحا جاؤوا يقيمون عليه الحدّ فامتنع منهم، فدعا أهل مملكته فلما أتوه قال: تعلمون دينا خيرا من دين آدم و قد كان ينكح بنيه من بناته و أنا على دين آدم، ما يرغب بكم عن دينه؟

قال: فبايعوه و قاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم، فأصبحوا و قد أسري على كتابهم فرفع من بين أظهرهم و ذهب العلم الذي في صدورهم فهم أهل كتاب و قد أخذ رسول اللّه «ص» و أبو بكر و عمر منهم الجزية.» «2»

26- و فيه أيضا بسنده، عن مالك، عن جعفر

بن محمد، عن أبيه: أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم، فقال له عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمعت رسول اللّه «ص» يقول: «سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب.» «3»

27- و فيه أيضا بسنده، قال: كتب رسول اللّه «ص» إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام، فمن أسلم قبل منه و من أبى ضربت عليه الجزية على أن لا تؤكل لهم ذبيحة و لا تنكح لهم امرأة. «4»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

(2)- سنن البيهقي 9/ 188، كتاب الجزية، باب المجوس من أهل الكتاب و الجزية تؤخذ منهم.

(3)- سنن البيهقي 9/ 189، كتاب الجزية، باب المجوس من أهل الكتاب و الجزية تؤخذ منهم.

(4)- سنن البيهقي 9/ 192، كتاب الجزية، باب الفرق بين نكاح نساء من يؤخذ منه الجزية و ذبائحهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 383

28- و في البخاري فيما قاله المغيرة لعامل كسرى في حرب إيران قال: «فأمرنا نبينا رسول ربنا «ص» أن نقاتلكم حتى تعبدوا اللّه وحده أو تؤدوا الجزية.» «1»

و ظاهر أن الإيرانيين كانوا مجوسا.

إلى غير ذلك من الأخبار الواردة في هذا المجال.

أقول: قد عرفت أن الآية الشريفة ناطقة بثبوت الجزية على أهل الكتاب و لا تدلّ على نفيها عن سائر الكفار. و مفاد بعض هذه الأخبار أيضا ثبوتها في أهل الكتاب أو المجوس، و أما نفي غيرهم فلا. نعم، بعضها دلّت على النفي أيضا.

و هنا بعض الأخبار التي ربما يمكن أن يستفاد منها إجمالا ثبوتها في غير الفرق الثلاث أيضا

، فلنتعرض لها:

1- ما رواه في الوسائل، عن الشيخ بسنده، عن أبي بصير، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الجزية فقال: «إنما حرّم اللّه الجزية من مشركي العرب.» «2»

و

في السند وهب، و هو مجهول أو ضعيف. و مفاد الحديث يساوق ما حكوه عن أبي حنيفة، إذ كلمة إنما للحصر.

2- ما رواه أيضا، عن الكليني بسند صحيح، عن محمد بن مسلم، قال: قلت لأبي جعفر «ع»: قول اللّه- عزّ و جلّ-: «قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ»؟ فقال: لم يجئ تأويل هذه الآية بعد، إن رسول اللّه «ص» رخّص لهم لحاجته و حاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم، و لكن يقتلون حتى يوحّد اللّه و حتى لا يكون شرك. «3»

و مورد الآية و مرجع الضمير فيها مشركو مكة.

______________________________

(1)- صحيح البخاري 2/ 201، كتاب الجهاد و السير، باب الجزية و الموادعة.

(2)- الوسائل 11/ 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(3)- الوسائل 11/ 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 384

قال في مرآة العقول:

«أي بقبول الجزية من أهل الكتاب، و الفداء من المشركين، و إظهار الإسلام من المنافقين مع علمه بكفرهم.» «1»

فالصحيحة تدلّ إجمالا على الترخيص في ترك القتل مع الشرك أيضا للحاجة.

3- ما رواه أيضا، عن الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: إنّ النبي «ص» كان إذا بعث أميرا له على سريّة أمره بتقوى اللّه- عزّ و جلّ- في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة ثم يقول ...:

«و إذا لقيتم عدوّا للمسلمين فادعوهم إلى إحدى ثلاث، فإن هم أجابوكم إليها فاقبلوا منهم و كفّوا عنهم:

ادعوهم إلى الإسلام، فان دخلوا فيه فاقبلوا منهم و كفّوا عنهم. و ادعوهم إلى الهجرة بعد الإسلام،

فإن فعلوا فاقبلوا منهم و كفّوا عنهم، و إن أبوا أن يهاجروا و اختاروا ديارهم و أبوا أن يدخلوا في دار الهجرة كانوا بمنزلة أعراب المؤمنين يجري عليهم ما يجري على أعراب المؤمنين و لا يجري لهم في الفي ء و لا في القسمة شيئا إلا أن يهاجروا (يجاهدوا خ. ل) في سبيل اللّه. فإن أبوا هاتين فادعوهم إلى إعطاء الجزية عن يد و هم صاغرون، فإن أعطوا الجزية فاقبل منهم و كفّ عنهم، و إن أبوا فاستعن باللّه- عزّ و جلّ- عليهم و جاهدهم في اللّه حق جهاده. الحديث.» «2»

و رواه الشيخ أيضا عن محمد بن يعقوب، و لكنه قال: «و إذا لقيتم عدوّا من المشركين فادعوهم.» «3»

و السند موثوق به، كما لا يخفى.

و إطلاق هذه الموثقة يعمّ غير أهل الكتاب أيضا، بل لعلّ أكثر بعوث النبي «ص» كان إلى غيرهم، بل المذكور في نقل التهذيب و كذا خبر بريدة الآتي لفظ المشركين، و قوله: «إن النبي «ص» كان» ظاهر في الاستمرار. و قوله: «عن يد و هم

______________________________

(1)- مرآة العقول 4/ 337 من ط. القديم.

(2)- الوسائل 11/ 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(3)- تهذيب الأحكام 6/ 138، كتاب الجهاد، باب ما ينبغي لوالي الإمام أن يفعله إذا سرى في سرية، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 385

صاغرون» اقتباس من الآية الشريفة، لا أنه إشارة إليها حتى يقال بأن مورد الآية هو أهل الكتاب فقط، اللّهم إلا أن يقال: إن قوله «ص» في مرسلة الواسطي: «إني لست آخذ الجزية إلا من أهل الكتاب» يفسّر هذه الموثقة و يقيد إطلاقها، فتأمّل.

4- و يقرب من هذه الموثقة ما

في سنن البيهقي بسنده، عن مسلم و غيره، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول اللّه «ص» إذا بعث أميرا على سريّة أو جيش أوصاه بتقوى اللّه في خاصة نفسه و بمن معه من المسلمين خيرا، قال: «إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال أو خلال، فأيّتهن أجابوك إليها فاقبل منهم و كفّ عنهم: ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم و كفّ عنهم. ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، و أعلمهم أنهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين و أن عليهم ما على المهاجرين. فإن أبوا و اختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون مثل أعراب المسلمين يجري عليهم حكم اللّه الذي كان يجري على المؤمنين و لا يكون لهم في الفي ء و الغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين. فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوك فاقبل منهم و كفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن باللّه و قاتلهم. الحديث.» «1»

قال الشوكاني في نيل الأوطار بعد نقل الحديث:

«ظاهره عدم الفرق بين الكافر العجمي و العربي و الكتابي و غير الكتابي، و إلى ذلك ذهب مالك و الأوزاعي و جماعة من أهل العلم و خالفهم الشافعي.» «2»

5- و في المستدرك، عن دعائم الإسلام، عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال: «لا يقبل من عربي جزية، و إن لم يسلموا قوتلوا.» «3»

نعم، الاستدلال به يتوقف على عموم المفهوم لغير أهل الكتاب أيضا، و لكن عموم المفهوم ممنوع.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 184، كتاب الجزية، باب من يؤخذ منه الجزية من أهل الكتاب.

(2)- نيل الأوطار 7/ 232، كتاب الجهاد و السير، باب الدعوة قبل القتال.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 262، الباب 42

من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 386

6- و في مسند زيد: «حدثني زيد بن عليّ، عن أبيه، عن جدّه، عن علي «ع»، قال: «لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف، و أما مشركو العجم فتؤخذ منهم الجزية. و أما أهل الكتاب من العرب و العجم فإن أبوا أن يسلموا أو سألونا أن يكونوا من أهل الذمة قبلنا منهم الجزية.» «1»

و لا يخفى أن حمل مشركي العجم على خصوص المجوس مشكل.

7- و فيه أيضا: سمعت زيد بن علي «ع» يقول: «إذا غلب الإمام على أرض فرأى أن يمنّ على أهلها جعل الخراج على رءوسهم، فإن رأى أن يقسمها جعلها أرض عشر.» «2»

و إطلاقه يعم المشرك أيضا، و لكن الرواية كما ترى مقطوعة.

8- و في المصنف لعبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: «صالح رسول اللّه «ص» عبدة الأوثان على الجزية إلا من كان منهم من العرب. و قبل الجزية من أهل البحرين و كانوا مجوسا.» «3»

9- و في الدرّ المنثور: عن ابن عساكر، عن أبي أمامة، عن رسول اللّه «ص»، قال: «القتال قتالان: قتال المشركين حتى يؤمنوا أو يعطوا الجزية عن يد و هم صاغرون، و قتال الفئة الباغية حتى تفي ء إلى أمر اللّه. الحديث.» «4»

10- و روي نحو ذلك عن أمير المؤمنين «ع» أيضا: ففي التهذيب بسنده، عن أبي البختري، عن جعفر، عن أبيه، قال: قال علي «ع»: «القتال قتالان: قتال لأهل الشرك لا ينفر عنهم حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد و هم صاغرون، و قتال لأهل الزيغ لا ينفر

______________________________

(1)- مسند زيد/ 317، كتاب السير، باب العهد و الذمة.

(2)-

مسند زيد/ 316، كتاب السير، باب قسمة الغنائم.

(3)- المصنّف 6/ 86، كتاب أهل الكتاب، الجزية، الحديث 10091.

(4)- الدّر المنثور 3/ 228.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 387

عنهم حتى يفيئوا إلى أمر اللّه أو يقتلوا.» «1» و رواه عنه في الوسائل. «2»

أقول: بل في عصر خلافة أمير المؤمنين «ع» كان يوجد قطعا في البلاد الإسلامية مثل العراق و إيران و مصر كفّار غير أهل الكتاب و المجوس كثيرا، و لم يعهد أمره- عليه السلام- عمّاله بإكراههم على الإسلام أو القتل.

11- و في كتاب الغارات بسنده، قال: «بعث علي «ع» محمد بن أبي بكر أميرا على مصر، فكتب إلى علي «ع» يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانيّة، و عن زنادقة فيهم من يعبد الشمس و القمر، و فيهم من يعبد غير ذلك، و فيهم مرتدّ عن الإسلام، و كتب يسأله عن مكاتب مات و ترك مالا و ولدا.

فكتب إليه علي «ع» «أن أقم الحدّ فيهم على المسلم الذي فجر بالنصرانية، و ادفع النصرانية إلى النصارى يقضون فيها ما شاءوا. و أمره في الزنادقة أن يقتل من كان يدّعي الإسلام، و يترك سائرهم يعبدون ما شاءوا. الحديث.» «3»

و رواه عنه في الوسائل. «4»

و الظاهر أن المراد بقتل من كان يدّعي الإسلام قتل من أسلم ثم ارتدّ و إنما أمر بقتل المرتدّ لأن الارتداد من الإسلام و لا سيما ما كان عن فطرة له وجهة سياسية و داء عضال يسري في المجتمع سريعا، و به تضعف شوكة دولته و عظمتها.

و لعل الحكم من أصله حكم سياسي و ولائي؛ فتراعى فيه شروط الزمان و المكان و البيئات أيضا:

ففي كتاب الرضا «ع» إلى المأمون، قال:

«لا يحلّ (لا يجوز- العيون) قتل أحد من النّصاب و الكفار في دار التقية إلا قاتل أو ساع في فساد. و ذلك إذا لم تخف على نفسك و على أصحابك.» «5»

______________________________

(1)- التهذيب 4/ 114، باب الجزية، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 18، الباب 5 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(3)- الغارات 1/ 230.

(4)- الوسائل 18/ 415، الباب 50 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 1.

(5)- الوسائل 11/ 62، الباب 26 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 9؛ و الوسائل 18/ 552، الباب 5 من أبواب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 388

و كيف كان فالحكم بوجوب قتل من لم يسلم من غير أهل الكتاب بنحو الإطلاق مشكل بل ممنوع. فاللازم إحالة أمرهم إلى إمام المسلمين و حاكمهم فيراعي ما هو الأصلح. نعم، لا يتعين إقرارهم على دينهم بقبول الجزية منهم على نحو ما كان يتعين ذلك في أهل الكتاب بناء على نفي التعميم في الحكم، و لعلّ هذا هو الفارق بين أهل الكتاب و بين غيرهم. و إن شئت فسمّ هذا صلحا موقتا، و عقد الذمة مع أهل الكتاب صلح دائم.

و بالجملة: المهادنة و المعاهدة على ترك القتال و ترك التعرض للعدوّ مدة معينة جائزة بلا إشكال إذا رآها الإمام مصلحة، قال اللّه- تعالى-: «وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهٰا وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ.» «1»

و قد صالح رسول اللّه «ص» قريشا عام الحديبية على ترك القتال عشر سنين. و في كتاب امير المؤمنين «ع» لمالك الأشتر: «و لا تدفعنّ صلحا دعاك إليه عدوّك و للّه فيه رضا،

فإن في الصلح دعة لجنودك و راحة من همومك و أمنا لبلادك.» «2» و إطلاقه يشمل غير أهل

الكتاب أيضا.

و ليس من شرط الهدنة أن تكون بلا عوض، فيمكن أن تكون بعوض أيضا:

قال العلامة في التذكرة:

«المهادنة و الموادعة و المعاهدة ألفاظ مترادفة معناها وضع القتال و ترك الحرب مدّة بعوض و غير عوض، و هي جائزة بالنصّ و الإجماع.» «3»

و العوض كما يصح أن يقع على الأراضي يصح أيضا أن يقع على الرقاب، و لا نعني بالجزية إلا هذا. و قد مرّت عبارة الخلاف في كتاب السير في هذا المعنى.

غاية الأمر أن قبولها ليس بنحو اللزوم، بل يكون باختيار الإمام و يكون موقتا على

______________________________

حد المرتد، الحديث 6؛ و عيون أخبار الرضا 2/ 124.

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 61.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1027؛ عبده 3/ 117؛ لح/ 442، الكتاب 53.

(3)- التذكرة 1/ 447.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 389

ما قالوا، و يجدد إذا لزم.

و لعل ما روي عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «تاركوا الترك ما تركوكم»، أو قال:

«تاركوا الحبشة ما تركوكم.» «1» يكون من هذا القبيل، إذ لم يثبت كون جميع الترك أو الحبشة نصرانيا أو مجوسيا.

و في الكتاب الكريم: «لٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقٰاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّمٰا يَنْهٰاكُمُ اللّٰهُ عَنِ الَّذِينَ قٰاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيٰارِكُمْ وَ ظٰاهَرُوا عَلىٰ إِخْرٰاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ. الآية.» «2»

و ظاهرها الإطلاق بل المورد مشركو مكة، فراجع.

و لا أظنّ أن يلتزم أحد بوجوب قتل ما يقرب من نصف سكّان الأرض أعني مليارات من البشر إذا فرض القدرة عليهم، مع أن استبقاءهم و النشاط الثقافي فيهم ربما يوجب تنبه كثير منهم تدريجا و انجذابهم يوما

فيوما إلى الإسلام. و لعل المقصود من قبول الجزية ليس إلا مخالطة أهل الذمة للمسلمين فيتأثروا بالعلوم الإسلامية و أخلاقها و مقرراتها الصالحة العادلة، و لا اعتبار بدين ليس على أساس العلم و المعرفة، فتدبّر.

حكم من تهوّد أو تنصّر أو تمجّس بعد طلوع الإسلام:

لو قلنا باختصاص الجزية بالفرق الثلاث فهل يختص الحكم بالسابقين منهم و أولادهم نسلا بعد نسل، أو يشمل من تهود أو تنصر أو تمجس بعد نسخ الجميع بالإسلام؟

أقول: ظاهر الآيات و الروايات التي علق الحكم فيها على عنوان أهل الكتاب أو اليهود و النصارى و المجوس كون القضايا على نحو القضايا الحقيقية لا القضايا

______________________________

(1)- راجع الوسائل 11/ 42، الباب 14 من أبواب جهاد العدوّ.

(2)- سورة الممتحنة (60)، الآية 8 و 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 390

الخارجية، و كون الملاك هو الانتحال إلى الأديان الثلاثة لا النسب، فيراد بالنصارى مثلا: المنتحلون إلى النصرانية و لو بتبديل دينهم إليها في الأعصار اللاحقة كسائر الموضوعات في الأحكام الشرعية. و كون الحكم مقصورا على السابقين و أولادهم فقط خلاف الظاهر جدّا.

1- و لكن في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 19):

«إذا انتقل الذمّيّ من دينه إلى دين يقرّ أهله عليه، مثل يهودي صار نصرانيا أو نصراني صار يهوديا أو مجوسيّا، أقرّ عليه، و به قال أبو حنيفة، و للشافعي فيه قولان:

أحدهما مثل ما قلناه. و الثاني و هو الأصح عندهم أنه لا يقرّ، لقوله «ع»: «من بدّل دينه فاقتلوه.» و لقوله- تعالى-: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.»

دليلنا هو أن الكفر كالملة الواحدة، بدلالة أنه يرث بعضهم من بعض و إن اختلفوا، و عليه إجماع الفرقة.» «1»

2- و في المبسوط:

«و أما من كان من عبدة

الأوثان فدخل في دينهم فلا يخلو أن يدخل في دينهم قبل نسخ شرعهم أو بعده. فإن كان قبل نسخ شرعهم أقرّوا عليه، و إن كان بعد نسخ شرعهم لم يقرّوا عليه، لقوله «ع»: «من بدّل دينه فاقتلوه.» و هذا عامّ إلا من خصّه الدليل.» «2»

3- و فيه أيضا:

«من كان مقيما على دين ببذل الجزية فدخل في غير دينه و انتقل إليه لم يخل إما أن ينتقل إلى دين يقرّ أهله عليه ببذل الجزية، أو دين لا يقرّ عليه أهله. فإن انتقل إلى دين يقرّ عليه أهله كاليهودي ينتقل إلى النصرانية أو المجوسية فظاهر المذهب يقتضي أنه يجوز أن يقرّ عليه، لأن الكفر عندنا كالملّة الواحدة.

و لو قيل: إنه لا يقرّ عليه لقوله- تعالى-: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ»، و لقوله «ع» «من بدّل دينه فاقتلوه»، و ذلك عام إلا من أخرجه الدليل كان قويا ...

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 241.

(2)- المبسوط 2/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 391

و أما إذا انتقل إلى دين لا يقرّ عليه أهله كالوثنية فإنه لا يقرّ عليه ...» «1»

4- و في التذكرة:

«تؤخذ الجزية ممن دخل في دينهم من الكفار إن كانوا قد دخلوا فيه قبل النسخ و التبديل و من نسله و ذراريّه، و يقرّون بالجزية و لو ولدوا بعد النسخ.

و لو دخلوا في دينهم بعد النسخ فلم يقبل منهم إلا الإسلام و لا تؤخذ منهم الجزية عند علمائنا، و به قال الشافعي، لقوله «ع»: «من بدّل دينه فاقتلوه.» و لأنه ابتغى دينا غير الإسلام فلا يقبل منه، لقوله- تعالى-: «وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلٰامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ.» و قال المزني:

يقرّ على دينه و تقبل منه الجزية مطلقا ...» «2»

و ذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا فراجع «3»، و راجع المختلف أيضا. «4»

5- و في الجواهر:

«الظاهر عدم إلحاق حكم اليهود و النصارى لمن تهود أو تنصر بعد النسخ، بل عن ظاهر التذكرة و المنتهى الإجماع عليه، و لعل بني تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار ممن انتقل في الجاهلية إلى النصرانية، كما صرّح به بعض أصحابنا ...» «5»

أقول: المسلم إن بدل دينه إلى الكفر بأقسامه صار مرتدّا، و لا إشكال في أنه لا يقرّ على كفره، و قد تعرض الفقهاء لحكم المرتد بقسميه في كتاب الحدود، و لكن لا يجري حكم المرتد على أولادهم بل يجري عليهم حكم الكافر الأصيل.

و كذلك الوثني أو الكتابي إن بدل دينه إلى النصرانية و نحوها فالظاهر كما مرّ شمول حكم أهل الكتاب له، لإطلاق الآيات و الروايات.

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 57.

(2)- التذكرة 1/ 438.

(3)- المنتهى 2/ 960.

(4)- المختلف/ 336.

(5)- الجواهر 21/ 232.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 392

و ما في التذكرة و المنتهى من نسبة خلاف ذلك إلى علمائنا مشعرا بالإجماع عليه يمكن أن يناقش فيه بعدم كون المسألة من المسائل الأصلية المعنونة في الكتب المعدة لنقل الفتاوى المأثورة، فادعاء الإجماع في كل من طرفي المسألة بلا وجه.

و الظاهر أن الإجماع الذي في الخلاف لا يرتبط بأصل المسألة بل بمسألة أرث بعضهم من بعض.

و قوله «ص»: «من بدّل دينه فاقتلوه»، ينصرف إلى المسلم إذا بدّل دينه و ارتد، فلا يشمل الكافر إذا بدّل دينه إلى كفر آخر، كما لا يشمل الكافر إذا بدّل دينه إلى الإسلام.

بل لعلّ الآية الشريفة أيضا تنصرف إلى

خصوص المسلم إذا ابتغى غير الإسلام و إلا لانتقض عمومها بالذمي الأصيل، أو يراد بالآية عدم القبول في الآخرة و يكون ذيلها أعني قوله: «وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخٰاسِرِينَ» مفسرا للصدر.

كيف! و مقتضى ما ذكروه أنه يجب أن يكون لكل نصراني مثلا قائمة تاريخية يعلم بها أنه من نسل النصارى السابقين على طلوع الإسلام أو من نسل من تنصر بعده، فتدبّر.

بحث في حكم الصابئة:
[كلمات العلماء حولهم]

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 4):

«الصابئة لا يؤخذ منهم الجزية و لا يقرّون على دينهم، و به قال أبو سعيد الإصطخري. و قال باقي الفقهاء انه يؤخذ منهم الجزية.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و أيضا قوله- تعالى-: «فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.» و قال: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ.» و لم يأمر بأخذ الجزية منهم. و أيضا قوله- تعالى-: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ» إلى قوله: «مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» فشرط في أخذ الجزية

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 393

أن يكونوا من أهل الكتاب، و هؤلاء ليسوا بأهل الكتاب.» «1»

أقول: قد مرّ منّا الإشكال في دلالة الآية الأخيرة على نفي الجزية من غير أهل الكتاب، فإنه من قبيل مفهوم اللقب، فتأمّل.

2- و قال المفيد في المقنعة:

«و الواجب عليه الجزية من الكفار ثلاثة أصناف: اليهود على اختلافهم، و النصارى على اختلافهم، و المجوس على اختلافهم.

و قد اختلف فقهاء العامّة في الصابئين و من ضارعهم في الكفر سوى من ذكرناه من الثلاثة الأصناف.

فقال مالك بن أنس و الأوزاعي: كلّ دين بعد دين الإسلام سوى اليهودية و النصرانية فهو مجوسية و حكم أهله حكم المجوس.

و روي عن عمر

بن عبد العزيز أنه قال: الصابئون مجوس. و قال الشافعي و جماعة من أهل العراق حكمهم حكم المجوس. و قال بعض أهل العراق: حكمهم حكم النصارى.

فأما نحن فلا نجاوز بإيجاب الجزية على غير من عددناه، لسنّة رسول اللّه «ص» فيهم و التوقيف الوارد عنه في أحكامهم. و قد روي عن أمير المؤمنين «ع» أنه قال:

«المجوس إنما ألحقوا باليهود و النصارى في الجزية و الديات لأنه قد كان لهم فيما مضى كتاب.» فلو خلينا و القياس لكانت المانوية و المزدقية و الديصانية عندي بالمجوسية أولى من الصابئين، لأنهم يذهبون في أصولهم مذاهب تقارب المجوسية و تكاد تختلط بها ...

فأما الصابئون فمنفردون بمذاهبهم عمن عددناه، لأن جمهورهم يوحّد الصانع في الأزل، و منهم من يجعل معه هيولى في القدم صنع منها العالم فكانت عندهم الأصل، و يعتقدون في الفلك و ما فيه الحياة و النطق و أنه المدبّر لما في هذا العالم و الدالّ عليه، و عظموا الكواكب و عبدوها من دون اللّه- عزّ و جلّ-، و سماها

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 238.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 394

بعضهم ملائكة، و جعلها بعضهم آلهة و بنوا لها بيوتا للعبادات. و هؤلاء على طريق القياس إلى مشركي العرب و عبّاد الأوثان أقرب من المجوس، لأنهم وجهوا عبادتهم إلى غير اللّه في التحقيق و على القصد و الضمير و سمّوا من عداه من خلقه بأسمائه- جلّ عما يقول المبطلون- ...» «1»

و حكاه عنه العلامة في جهاد المختلف، فراجع. «2»

أقول: لعل ابتلاء رسول اللّه «ص» في عصره كان باليهود و النصارى و المجوس، فيشكل الاستدلال بسنّته و عمله في أخذ الجزية منهم على عدم جواز الأخذ

من غيرهم ممن ادّعى الكتاب.

و تعليل أمير المؤمنين «ع» إلحاق المجوس باليهود و النصارى بأنه قد كان لهم فيما مضى كتاب يقتضي كفاية وجود الكتاب فيما مضى في الإلحاق حكما و إن فرض تحريفه و الالتزام بالعقائد الفاسدة، كما نعتقد بالتحريف في التوراة و الإنجيل و فساد الاعتقاد بالأقانيم الثلاثة.

3- و في تفسير علي بن إبراهيم القمي:

«الصابئون قوم لا مجوس و لا يهود و لا نصارى و لا مسلمين، و هم يعبدون الكواكب و النجوم.» «3»

4- و في مجمع البيان في تفسير الآية 62 من سورة البقرة قال:

«و الصابئون جمع صابئ، و هو من انتقل إلى دين آخر، و كل خارج من دين كان عليه إلى آخر غيره سمّي في اللغة صابئا ... و الدين الذي فارقوه هو تركهم التوحيد إلى عبادة النجوم أو تعظيمها.

قال قتادة: و هم قوم معروفون و لهم مذهب يتفردون به، و من دينهم عبادة النجوم.

و هم يقرّون بالصانع و بالمعاد و ببعض الأنبياء. و قال مجاهد و الحسن: الصابئون بين اليهود و المجوس لا دين لهم. و قال السدّي: هم طائفة من أهل الكتاب يقرءون

______________________________

(1)- المقنعة/ 44.

(2)- المختلف 1/ 333.

(3)- تفسير علي إبراهيم (القميّ) 1/ 41 (ط. أخرى 1/ 48).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 395

الزبور. و قال الخليل: هم قوم دينهم شبيه بدين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب حيال منتصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح. و قال ابن زيد: هم أهل دين من الأديان كانوا بالجزيرة- جزيرة الموصل- يقولون: لا إله إلا اللّه و لم يؤمنوا برسول اللّه، فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي «ص» و لأصحابه:

هؤلاء الصابئون؛ يشبهونهم

بهم. و قال آخرون: هم طائفة من أهل الكتاب.

و الفقهاء بأجمعهم يجيزون أخذ الجزية منهم، و عندنا لا يجوز ذلك لأنهم ليسوا بأهل كتاب.» «1»

5- و في تفسير القرطبي:

«و اختلف في الصابئين: فقال السدّي: هم فرقة من أهل الكتاب. و قاله إسحاق بن راهويه. قال ابن المنذر: و قال إسحاق: لا بأس بذبائح الصابئين، لأنهم طائفة من أهل الكتاب. و قال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم و مناكحة نسائهم.

و قال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح- عليه السلام-. و قال مجاهد و الحسن و ابن أبي نجيح:

هم قوم تركّب دينهم بين اليهودية و المجوسية، لا تؤكل ذبائحهم. ابن عباس:

و لا تنكح نساؤهم. و قال الحسن أيضا و قتادة: هم قوم يعبدون الملائكة و يصلّون إلى القبلة و يقرءون الزبور و يصلّون الخمس، رآهم زياد بن أبي سفيان، فأراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة.

و الذي تحصّل من مذهبهم- فيما ذكره بعض علمائنا- أنهم موحّدون معتقدون تأثير النجوم و أنها فعّالة، و لهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري القادر باللّه بكفرهم حين سأله عنهم» «2».

6- و في المصنّف لعبد الرزاق بسنده، عن قتادة، قال:

«الصابئون قوم يعبدون الملائكة و يصلّون إلى القبلة و يقرءون الزبور. و عن مجاهد قال: الصابئون بين المجوس و اليهود، ليس لهم دين. و عنه أيضا قال: سئل ابن

______________________________

(1)- مجمع البيان 1/ 126.

(2)- تفسير القرطبي 1/ 434.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 396

عباس عن الصابئين فقال: هم قوم بين اليهود و النصارى؛ لا تحلّ ذبائحهم و لا مناكحتهم.» «1»

7- و في أوائل المجلد الثاني

من كتاب الملل و النحل للشهرستاني قال في مقام تقسيمها:

«و التقسيم الضابط أن نقول:

[1]- من الناس من لا يقول بمحسوس و لا معقول، و هم السوفسطائية.

[2]- و منهم من يقول بالمحسوس و لا يقول بالمعقول، و هم الطبيعية.

[3]- و منهم من يقول بالمحسوس و المعقول و لا يقول بحدود و أحكام، و هم الفلاسفة الدهرية.

[4]- و منهم من يقول بالمحسوس و المعقول و الحدود و الأحكام و لا يقول بالشريعة و الإسلام، و هم الصابئة.

[5]- و منهم من يقول بهذه كلّها و بشريعة ما و إسلام، و لا يقول بشريعة نبينا محمد «ص»، و هم المجوس و اليهود و النصارى.

[6]- و منهم من يقول بهذه كلها، و هم المسلمون.»

ثم أطال الكلام في عقائد الصابئة و المناظرات بينهم و بين الحنفاء، فراجع. «2»

8- و للفاضل المحقق السيد محمد محيط الطباطبائي مقالة تحقيقية في الصابئين كتبها بالفارسية و طبعت في الجزء الثاني من كتاب ذكرى العلامة الشهيد آية اللّه المطهري- طاب ثراه-.

و ملخّص ما ذكره تقسيم الصابئة إلى قسمين: الصابئة الأصيلة المندائية الساكنة في واسط و ميسان من خوزستان، و الصابئة المنتحلة الحرنانية:

«فالصابئة المندائية كانوا أهل كتاب و يوجد لهم الآن كتاب باللغة السريانية يسمّونه صحف آدم و كنز الربّ أو الكنز العظيم، يعتقدون أن يحيى بن زكريا رواه

______________________________

(1)- المصنّف 6/ 124، كتاب أهل الكتاب، الصابئون، الأحاديث 10206- 10208.

(2)- الملل و النحل 2/ 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 397

لهم عن نوح و شيث و آدم. و لهم كتاب آخر يسمّونه دروس يحيى و يجعلون يحيى آخر الأنبياء.

و قد قال اللّه- تعالى- في سورة مريم: «يٰا يَحْيىٰ خُذِ الْكِتٰابَ بِقُوَّةٍ،

وَ آتَيْنٰاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا.» «1» و في سورة الأنعام بعد ذكر جمع من الأنبياء و منهم زكريا و يحيى و عيسى و إلياس قال: «أُولٰئِكَ الَّذِينَ آتَيْنٰاهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ. الآية.» «2» فيظهر بذلك أنه كان ليحيى «ع» كتاب و حكم و نبوّة نظير ما كان لعيسى «ع».

و على هذا الأساس نسب بعض المفسرين كتاب الزبور المنسوب إلى داود النبي إلى الصابئين و أرادوا بذلك توجيه عدّهم من أهل الكتاب.

و وجود الصابئة المندائية في منطقة ميسان في عصر الساسانية أمر مسلم، و لعل كثيرا منهم كانوا تفرقوا في جزيرة العرب ثم خرجوا منها حينما خرج اليهود و النصارى منها و انضمّوا إلى قومهم في ميسان.

و انتساب بيت ماني إلى مغتسلة البطائح أقوى شاهد على وجود المغتسلة في عصر أردشير بابكان. و المغتسلة هم الصابئة المندائية. و قد أشار ابن النديم في فهرسته إليهم.

و شرح «تئودور» البرقوني المسيحي في المائة الثانية من الهجرة في كتابه المسمّى «شوليون» سابقة سكونة الصابئة المندائية في ميسان و ذكرهم بأسامي المندائية و الصابئة و المغتسلة.

و لم يكن لمفسّري القرآن الكريم في القرون الأوليّة كالسدّيّ و قتادة و مقاتل و ابن عباس و مجاهد و الكلبي و ابن زيد و الحسن و أمثالهم اطلاع صحيح على وجود الصابئة المغتسلة في بطائح ميسان، فخلطوا في معنى كلمة الصابئين المذكورة في القرآن.

و المأمون العباسي حينما توجه إلى غزو الروم بلغ بلدة حرّان فوجد فيها قوما من بقايا الكلدانيين و اليونانيين المهاجرين كانوا يعبدون النجوم و أرباب الأنواع، فسألهم عن دينهم ليرى هل إنهم ممن يقرّون على دينهم. فلم يستطيعوا أن يجيبوه جوابا

______________________________

(1)- سورة مريم (19)، الآية 12.

(2)- سورة الأنعام (6)،

الآية 89.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 398

مقنعا، فطلب منهم أن يوضحوا أمر دينهم حينما يرجع هو من غزوه، فانضم بعضهم إلى المسيحيين. ود لهم بعض إلى أن ينتحلوا دين الصابئين الذين سكنوا معهم مدّة في القرون السالفة حين رحلتهم من فلسطين إلى ميسان، فأخذ الحرنانيون بهذه الدلالة و انتحلوا الصابئة حذرا من المخمصة.

ثم بعد وفاة المأمون انتشر هؤلاء المنتحلة في البلاد الإسلامية، و اكتسبوا العلوم و الآداب و تجرؤوا على إظهار عقائدهم الفاسدة و لكن تحت ستار اسم الصابئين، فجعلوا هذا الاسم وقاية و جنة لأنفسهم، و خفي أمر الصابئين الأصليين الموجودين في واسط و ميسان. و اشتبه الأمر على المفسّرين و المؤرخين أيضا، حيث نسبوا الآراء و العقائد الفاسدة الدائرة بين الصابئة المنتحلة إلى الصابئين الأصليين المذكورين في القرآن في عداد اليهود و النصارى. و حيث لم يقفوا على اللغات السريانية و الآرامية و العبرية زعموا أن كلمة الصابي عربية بمعنى الخروج من دين إلى دين آخر، مع أن اللفظ في تلك اللغات كان بمعنى الاغتسال و الرمس في الماء و التعميد.»

ثم تعرض لكلام الإمام الرازي و أبي الفتوح الرازي في تفسيريهما و نقد عليهما ثم قال ما محصله:

«إنه في أثر غفلة المفسرين و عدم اطلاعهم اتخذ الحرنانيون اسم الصابئين وقاية لأنفسهم و استطاعوا في قرون متطاولة أن يحتفظوا بأنفسهم تحت ستاره، و الصابئون الأصليون أعني المغتسلة تحملوا إلى القرن الحاضر تهمة عبادة النجوم و الملائكة، و لم يستطيعوا بعد أن يحرزوا حقهم من المصونية الدينية.

و القاضي أبو يوسف في خراجه جعل الصابئة من أهل الكتاب مثل اليهود و النصارى و المجوس. و القفطي مؤلف تاريخ الحكماء

قد التفت إلى اختلاف العقائد و الآراء الموجودتين في قسمي الصابئة فحمل اختلاف الفقهاء في نكاحهم و ذبائحهم على اختلاف موضوع الاستفتاء، فيحل النكاح و الذبيحة من صابئة البطائح و لا يحلان من الحرنانيين المنتحلة ...»

أقول: يمكن أن يقال: إن وجود كتاب لهم نظير الزبور لا يكفي في عدّهم أهل

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 399

الكتاب، إذ الظاهر أن المراد بالكتاب هو الكتاب المشتمل على دين جديد و شريعة جديدة. و يحيى النبي «ع» كان عندنا على شريعة موسى. نعم، نوح النبي كان صاحب دين و شريعة.

ثم إن ما أراده من نسبة عبادة النجوم و الملائكة إلى الحرنانيين و تطهير ساحة الصابئين الأصليين منها ربما ينافي ما مرّ عن قتادة من أن من دينهم عبادة النجوم، و عن الحسن و قتادة من أنهم يعبدون الملائكة، و أن زياد بن أبي سفيان أراد وضع الجزية عنهم حين عرف أنهم يعبدون الملائكة، إذ من الواضح أن زيادا و قتادة و الحسن كانوا قبل المأمون الذي في عصره انتحل الحرنانيون الصابئة. و لعل صابئة البطائح أخذوا عبادة النجوم أو تعظيمها من الكلدانيين في بابل، و إن كانوا في الأصل من يهود فلسطين على ما قيل.

و في نهاية ابن الأثير في لغة «صبأ» قال:

«في حديث بني جذيمة: كانوا يقولون لما أسلموا: صبأنا، صبأنا. قد تكررت هذه اللفظة في الحديث. يقال: صبأ فلان: إذا خرج من دين إلى غيره، من قولهم:

صبأ ناب البعير: إذا طلع، و صبأت النجوم: إذا خرجت من مطالعها. و كانت العرب تسمّي النبي «ص» الصابئ، لأنه خرج من دين قريش إلى دين الإسلام.» «1»

فيظهر من النهاية أن استعمال الكلمة

بمعنى الخارج من دين إلى دين آخر وقع في الأحاديث أيضا، و أن الكلمة عربية مهموزة اللام.

و في رواية المفضل، عن الصادق «ع»: «قال المفضل: فقلت: يا مولاي، فلم سمّي الصابئون الصابئين؟ فقال «ع»: إنهم صبوا إلى تعطيل الأنبياء و الرسل و الملل و الشرائع، و قالوا: كل ما جاؤوا به باطل.» «2»

و ظاهر هذه الرواية أن الكلمة عربية من الناقص الواوي، فتدبّر.

9- و ابن النديم- المتوفى في أواخر القرن الرابع- قال في فهرسته ما ملخصه:

______________________________

(1)- النهاية 3/ 3.

(2)- بحار الأنوار 53/ 5، تاريخ الإمام الثاني عشر، الباب 25 (باب ما يكون عند ظهوره «ع»).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 400

«قال أبو يوسف إيشع النصراني في كتابه في الكشف عن مذاهب الحرنانيين المعروفين في عصرنا بالصابة: إن المأمون اجتاز في آخر أيامه بديار مضر يريد بلاد الروم للغزو، فتلقاه الناس و فيهم جماعة من الحرنانيين، و كان زيّهم إذ ذاك لبس الأقبية و شعورهم طويلة، فأنكر المأمون زيّهم و قال لهم: من أنتم من الذمة؟ فقالوا:

نحن الحرنانية. فقال: أنصارى أنتم؟ قالوا: لا. قال: فيهود أنتم؟ قالوا: لا. قال:

فمجوس أنتم؟ قالوا: لا. قال: أ فلكم كتاب أم نبي؟ فمجمجوا في القول. فقال لهم: فأنتم إذا زنادقة عبدة الأوثان لا ذمّة لكم. فقالوا: نحن نؤدي الجزية. فقال لهم: إنما تؤخذ الجزية من أهل الأديان الذين ذكرهم اللّه- تعالى-، فاختاروا الآن أحدّ أمرين: إما أن تنتحلوا دين الإسلام أو دينا من الأديان التي ذكرها اللّه في كتابه، و إلا قتلتكم عن آخركم، فإني قد أنظرتكم إلى أن أرجع من سفرتي هذه.

و رحل المأمون يريد بلد الروم، فغيّروا زيّهم و حلقوا شعورهم و تركوا

لبس الأقبية و تنصر كثير منهم و أسلم طائفة منهم و بقي منهم شرذمة بحالهم و جعلوا يحتالون و يضطربون، حتى انتدب لهم شيخ من أهل حران فقيه فقال لهم إذا رجع المأمون من سفره فقولوا له: نحن الصابئون، فهذا اسم دين قد ذكره اللّه في القرآن، فانتحلوه فأنتم تنجون به، و قضي أن المأمون توفي في سفرته تلك و انتحلوا هذا الاسم منذ ذلك الوقت، فلما اتصل بهم وفاة المأمون ارتدّ أكثر من تنصر منهم و رجعوا إلى الحرنانية و طولوا شعورهم، و من أسلم منهم لم يمكنه الارتداد خوفا من القتل فأقاموا متسترين بالإسلام ...» «1»

10- و قال أيضا فيه:

«المغتسلة: هؤلاء القوم كثيرون بنواحي البطائح، و هم صابة البطائح يقولون بالاغتسال و يغسلون جميع ما يأكلونه، و رئيسهم يعرف بالحسيح، و هو الذي شرع الملة ... و كانوا يوافقون المانوية في الأصلين و تفترق ملتهم بعد، و فيهم من يعظم النجوم إلى وقتنا هذا.

______________________________

(1)- فهرست ابن النديم/ 459 (ط. أخرى/ 385).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 401

حكاية أخرى في أمر صابة البطائح: هؤلاء القوم على مذهب النبط القديم، يعظمون النجوم و لهم أمثلة و أصنام، و هم عامة الصابة المعروفين بالحرنانيين، و قد قيل: إنهم غيرهم جملة و تفصيلا.» «1»

فابن النديم أيضا التفت إلى كونهم فرقتين و لكنه نسب تعظيم النجوم إلى كلتيهما.

11- و في الآثار الباقية لأبي الريحان البيروني في ذكر المتنبئين ما ملخصه مع حفظ ألفاظه:

«و أول المذكورين منهم بوذاسف، و قد ظهر عند مضي سنة من ملك طهمورث بأرض الهندواتي بالكتابة الفارسية و دعا إلى ملة الصابئين فأتبعه خلق كثير، و كانت الملوك البيشداذية و

بعض الكيانية ممن كان يستوطن بلخ يعظّمون النيّرين و الكواكب و كليات العناصر و يقدسونها إلى وقت ظهور زرادشت، و بقايا أولئك الصابئة بحرّان ينسبون إلى موضعهم فيقال لهم الحرانية. و قد قيل: إنها نسبة إلى هاران بن ترح أخي إبراهيم- عليه السلام- ...

و كذلك حكى عبد المسيح الكندي النصراني عنهم أنهم يعرفون بذبح الناس، و لكن ذلك لا يمكنهم اليوم جهرا.

و نحن لا نعلم منهم إلا أنهم أناس يوحّدون اللّه و ينزّهونه عن القبائح، و يصفونه بالسلب لا الإيجاب كقولهم: لا يحدّ و لا يرى و لا يظلم و لا يجور، و يسمّونه بالأسماء الحسنى مجازا إذ ليس عندهم صفة بالحقيقة، و ينسبون التدبير إلى الفلك و أجرامه و يقولون بحياتها و نطقها و سمعها و بصرها و يعظمون الأنوار.

و من آثارهم القبة التي فوق المحراب عند المقصورة في جامع دمشق و كان مصلاهم أيام كان اليونانيون و الروم على دينهم، ثم صارت في أيدي اليهود فعملوها كنيستهم ثم تغلب عليها النصارى فصيروها بيعة إلى أن جاء الإسلام و أهله فاتخذوها مسجدا. و كانت لهم هياكل و أصنام بأسماء الشمس معلومة الأشكال مثل هيكل

______________________________

(1)- فهرست ابن النديم/ 491 (ط. أخرى/ 403).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 402

بعلبك كان لصنم الشمس و حران فإنها منسوبة إلى القمر، و يذكرون أن الكعبة و أصنامها كانت لهم و عبدتها كانوا من جملتهم و أن اللات كان باسم زحل، و العزّى باسم الزهرة، و لهم أنبياء كثيرة أكثرهم فلاسفة يونان ... و لهم صلوات ثلاث مكتوبات: أولها عند طلوع الشمس ثماني ركعات. و الثانية قبل زوال الشمس عن وسط السماء خمس ركعات،

و الثالثة عند غروب الشمس خمس ركعات ... و يصلّون على طهر و وضوء، و يغتسلون من الجنابة و لا يختتنون، و أكثر أحكامهم في المناكح و الحدود مثل أحكام المسلمين، و في التنجس عند مس الموتى و أمثال ذلك شبيهة بالتوراة و لهم قرابين متعلقة بالكواكب و أصنامها و هياكلها، و ذبائح يتولاها كهنتهم و فاتنوهم ...

و قد قيل: إن هؤلاء الحرّانية ليسوا هم الصابئة بالحقيقة، بل هم المسمّون في الكتب بالحنفاء و الوثنية، فإن الصابئة هم الذين تخلفوا ببابل من جملة الأسباط الناهضة في أيام كورش و أيام أرطحشست إلى بيت المقدس و مالوا إلى شرائع المجوس فصبوا إلى دين بختنصّر فذهبوا مذهبا ممتزجا من المجوسية و اليهودية كالسامرة بالشام.

و قد يوجد أكثرهم بواسط و سواد العراق بناحية جعفر و الجامدة و نهري الصلة منتمين إلى أنوش بن شيث و مخالفين للحرانية عائبين مذاهبهم لا يوافقونهم إلا في أشياء قليلة حتى إنهم يتوجهون في الصلاة إلى جهة القطب الشمالي، و الحرانية إلى الجنوبي.

و زعم بعض أهل الكتاب أنه كان لمتوشالح ابن غير لمك تسمّى صابئ و أن الصابئة سمّوا به ...» «1» هذا.

و نقل هذا الكلام عن البيروني العلامة الطباطبائي «ره» في تفسير آية البقرة، فراجع. «2»

12- و في الآثار الباقية أيضا:

______________________________

(1)- الآثار الباقية/ 204- 206.

(2)- الميزان 1/ 194 (ط. أخرى 1/ 195).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 403

«و أما الصابئون فقد قدمنا أن هذا الاسم يقع على من هم بالحقيقة أصحاب هذا الاسم و هم المتخلفون من أسرى بابل الذين نقلهم بختنصّر من بيت المقدس إليها، فإنهم لما تصرفوا في الأرض و اعتادوا بقعة بابل استثقلوا العود

إلى الشام فآثروا المقام ببابل، و لم يكونوا من دينهم بمكان معتمد، فسمعوا أقاويل المجوس و صبوا إلى بعضها، فامتزجت مذاهبهم من المجوسية و اليهودية، كحال المنقولين من بابل إلى الشام أعني المعروفين بالسامرة.

و يوجد أكثر هذه الطبقة بسواد العراق، و هم الصابئون بالحقيقة، و هم متفرقون غير مجتمعين و لا كائنين في بلدان مخصوصة بهم دون غيرهم و مع ذلك غير متفقين على حال واحدة كأنهم لا يسندونها إلى ركن ثابت في الدين من وحي أو إلهام أو ما يشبههما و ينتمون إلى أنوش بن شيث بن آدم.

و قد يقع الاسم على الحرانية الذين هم بقايا أهل الدين القديم المغربي البائنون عنه بعد تنصر الروم اليونانيين ... و هذا الاسم أشهر بهم من غيرهم و إن كانوا تسمّوا به في الدولة العباسية في سنة ثمان و عشرين و مائتين ليعدوا في جملة من يؤخذ منه [الجزية] و يرعى له الذمة، و كانوا قبلها يسمون الحنفاء و الوثنية و الحرانية ...» «1»

أقول: فأبو الريحان أيضا قد تعرض لكون الصابئين على قسمين مختلفين في الآراء و العقائد. و ظاهره كون الصابئة بالحقيقة من بقايا اليهود ببابل فامتزج بها دينهم بالمجوسية الرائجة فيها فيكون مركبا منهما.

13- و في كتاب خلاصة الأديان تأليف الفاضل الدكتور محمد جواد المشكور ذكر في عداد المذاهب العرفانية: «المندائية» و قال ما حاصله:

«المندائية من لفظ آرامي بمعنى المعرفة تسمّى بها الصابئون. و الدليل على أنهم كانوا من فلسطين استعمالهم للفظ «ياردنا» بمعنى الماء الجاري الذي يقع فيه غسل التعميد و الصابئة المندائية هاجروا من فلسطين إلى العراق و إيران، و هم من شيعة يحيى المعمد الذي كان يعمد تلاميذه و منهم عيسى المسيح

في نهر الأردن.

______________________________

(1)- الآثار الباقية/ 318.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 404

و تأثير علم النجوم الكلداني في عقائدهم كان من جهة إقامتهم في بابل و تأثرهم بثقافة بابل. و سبب مهاجرتهم وقوع الاختلاف بينهم و بين اليهود.

ففي أصح كتبهم عندهم المسمّى: «گنزا» أن يحيى حين وفاته انتخب من تلاميذه بعدد أيام السنة 366 نفرا و استخلفهم و أقرّهم في بيت المقدس عند الهيكل، فدخل في دينهم «ماريا» بنت العازار كاهن اليهود، فلما يئس أبوها من ردّها إلى دين اليهود أمر باغارة اليهود على المندائيين و قتلهم، فمن بقي منهم هاجر إلى حرّان و منه إلى بابل.

و في هذا الكتاب أيضا: أن يحيى كان يعمّد قبل أن يتعمد بيده المسيح اثنين و أربعين سنة، و لكن المسيح أفسد مذهب يحيى و نقل التعميد من نهر الأردن إلى المواضع الأخر و دعا الناس إلى نفسه. و المندائيون لا يعتقدون بنبوّة يحيى، بل هو عندهم من أعظم المؤمنين و الكهنة المندائية الذي كان يشفي أرواح الناس و أجسادهم، و هو الذي غيّر بعض مراسيم المندائية، و من جملة ذلك أنه جعل الصلوات الخمس ثلاث صلوات. و المندائية يعتقدون بارتداد المسيح. و تسمّوا مندائية لعرفانهم، و الصابي و المغتسلة لارتماسهم في الماء و اغتسالهم فيه.

و هؤلاء هم الصابئون المذكورون في القرآن. و ملخص عقائدهم أنهم يعتقدون باللّه الواحد الأزلي الأبدي الذي لا نهاية له، و يكون منزها عن المادة و الطبيعة، و أنه يوجد له بعدد أيام السنة قوى روحانية يكونون جنوده في خلقه و أعوانه و لكل منهم منطقة خاصة به. و يوجد في دينهم مظاهر الثنوية، حتى أن وجود الإنسان مركب من

الروح الذي يكون من عالم النور و الجسم الذي يكون من عالم الظلمة. و أصح الكتب عندهم: «گنزا» و يحسبونه صحف آدم. و أساس دينهم على الغسل و الغسل و يخفون مراسيمهم الدينية عن أعين الناس. و لهم ثلاثة أنواع من الغسل.

و الغسل الكامل يقع في اليوم الأحد و بعد الولادة و عند الازدواج و المرض و السفر في حضور الكاهن. الصوم عندهم حرام كما في مذهب زردشت. و الصلاة عندهم رائجة في كل يوم ثلاث مرات في ثلاثة أوقات. و من أنبيائهم هرمس الحكيم.

و التوراة عندهم كتاب ضلال، و هم لا يعبدون الأجرام السماوية و لكنهم يعدّونها

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 405

من عالم النور. و يحرم عندهم قتل النفوس و شرب الخمر و اليمين الكاذبة و الأكل و الشرب في حال الجنابة قبل الغسل، و قطع الطريق و السرقة و العمل في الأعياد و لا سيما في اليوم الأحد و الغيبة و الزنا و الاختتان و مطل الدين و أكل لحوم الحيوانات التي لها ذنب، و التزوج بنساء الأجانب و لبس الثوب الأسود و شهادة الزور و أكل الربا و الخيانة في الأمانة و اللواط و القمار. و عدد نفوسهم في العراق و إيران ثمانية آلاف.» «1»

أقول: و لا ينافي وجود الاختلاف بينهم و بين اليهود في بيت المقدس كونهم من اليهود، لاحتمال التشعب في دين اليهود كسائر الأديان، و لعلّهم كانوا في اليهودية نظير متصوفة المسلمين فيهم، حيث يكفر بعضهم بعضا، فتدبّر.

14- و في كتاب الأموال لأبي عبيد:

«شرائع القرآن كلها إنما نزلت جملا حتى فسرتها السنّة. فعلى هذا كان أخذه «ص» الجزية من العجم كافّة، إن

كانوا أهل كتاب أو لم يكونوا، و تركه أخذها من العرب إلا أن يكونوا أهل كتاب.

فلما فعل ذلك استدللنا بفعله «ص» على أن الآية التي نزل فيها شرط الكتاب على أهل الجزية إنما كانت خاصة للعرب، و أن العجم يؤخذ منهم الجزية على كل حال.

و مما يبين ذلك إجماع الأمة على قبولها من الصابئين بعده و ليس يشهد لهم القرآن بكتاب. و إنما نرى الناس فعلوا ذلك و استجازوه استنانا بالنبي «ص» في أمر المجوس و تشبيها بهم، لأن المسلمين أو أكثرهم على كراهية ذبائحهم و مناكحتهم لأنهم في حدّ المجوس.

و قد قال ذلك غير واحد من العلماء:

قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني مطرف، قال: كنا عند الحكم بن عتيبة فحدّثه رجل عن الحسن البصري: أنه كان يقول في الصابئين: هم بمنزلة المجوس، فقال

______________________________

(1)- خلاصة الأديان/ 220- 228. و الكتاب فارسيّة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 406

الحكم: أ ليس قد كنت أخبرتكم بذلك؟ ...

مجاهد قال: الصابئون قوم من المشركين بين اليهود و النصارى، ليس لهم كتاب.

قال أبو عبيد: و كذلك يروى عن الأوزاعي: أنه كان يقول: كل دين بعد الإسلام سوى اليهودية و النصرانية فهم مجوس. يقول: أحكامهم كأحكامهم. و هو أيضا قول مالك.

و اختلف فيه أهل العراق: فأكثرهم يجعل الصابئين بمنزلة المجوس. و قالت طائفة منهم: هم كالنصارى.

قال: حدثنا يزيد، عن حبيب بن أبي حبيب، عن عمر بن هرم، عن جابر بن زيد: أنه سئل عن الصائبين: أمن أهل الكتاب هم، و طعامهم و نساؤهم حلّ للمسلمين؟ فقال: نعم. قال أبو عبيد: و الأمر عندنا على ما قال مجاهد و الحسن و الحكم و الأوزاعي و مالك: أنهم كالمجوس،

لأن القرآن لا يصدقهم على كتاب.» «1»

15- و في أحكام القرآن للجصاص قال:

«و تقدم الكلام أيضا في حكم الصابئين. و هل هم أهل الكتاب أم لا، و هم فريقان:

أحدهما بنواحي كسكر و البطائح، و هم فيما بلغنا صنف من النصارى و إن كانوا مخالفين لهم في كثير من ديانتهم لأن النصارى فرق كثيرة منهم المرقونية و الأريوسية و المارونية. و الفرق الثلاث من النسطورية و الملكية و اليعقوبية يبرءون منهم و يحرمونهم، و هم ينتمون إلى يحيى بن زكريا و شيث و ينتحلون كتبا يزعمون أنها كتب اللّه التي أنزلها على شيث بن آدم و يحيى بن زكريا، و النصارى تسميهم يوحناسية. فهذه الفرقة يجعلها أبو حنيفة من أهل الكتاب و يبيح أكل ذبائحهم و مناكحة نسائهم.

و فرقة أخرى قد تسمّت بالصابئين، و هم الحرانيون الذين بناحية حرّان، و هم عبدة الأوثان و لا ينتمون إلى أحد من الأنبياء و لا ينتحلون شيئا من كتب اللّه. فهؤلاء

______________________________

(1)- الأموال/ 654.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 407

ليسوا أهل الكتاب و لا خلاف أن هذه النحلة لا تؤكل ذبائحهم و لا تنكح نساؤهم.

فمذهب أبي حنيفة في جعله الصابئين من أهل الكتاب محمول على مراده الفرقة الأولى. و أما أبو يوسف و محمد فقالا: إن الصابئين ليسوا أهل الكتاب و لم يفصلوا (لم يفصلا- ظ.) بين الفريقين. و قد روي في ذلك اختلاف بين التابعين ...» «1»

16- و في نكاح الجواهر:

«و أما الصابئون فعن أبي علي: «أنهم قوم من النصارى» و عن المبسوط: «أن الصحيح خلافه، لأنهم يعبدون الكواكب.» و عن التبيان و مجمع البيان: «أنه لا يجوز عندنا أخذ الجزية منهم، لأنهم

ليسوا أهل الكتاب.» و في المحكي عن الخلاف نقل الإجماع على أنه لا يجري على الصابئة حكم أهل الكتاب. و عن العين: أن دينهم يشبه دين النصارى إلّا أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب حيال نصف النهار، يزعمون أنهم على دين نوح. و قيل: قوم من أهل الكتاب يقرءون الزبور.

و قيل: بين اليهود و المجوس. و قيل: قوم يوحّدون و لا يؤمنون برسول. و قيل: قوم يقرّون باللّه- عزّ و جلّ- و يعبدون الملائكة و يقرءون الزبور و يصلّون إلى الكعبة. و قيل: قوم كانوا في زمن إبراهيم «ع» يقولون بأنا نحتاج في معرفة اللّه و معرفة طاعته إلى متوسط روحاني لا جسماني. ثم لما لم يمكنهم الاقتصار على الروحانيات و التوسل بها فزعوا إلى الكواكب، فمنهم من عبد السيارات السبع و منهم من عبد الثوابت. ثم إن منهم من اعتقد الإلهية في الكواكب، و منهم من سماها ملائكة. و منهم من تنزّل عنها إلى الأصنام.

لكن في القواعد: «الأصل في الباب أنهم أي السامرة و الصابئين إن كانوا إنما يخالفون القبيلتين في فروع الدين فهم منهم، و إن خالفوهم في أصله فهم ملحدة لهم حكم الحربيين.»

و في كشف اللثام: «بهذا يمكن الجمع بين القولين، لجواز أن يعدّوا منهم و إن خالفوهم ببعض الأصول، كما يعدّ كثير من الفرق من المسلمين مع المخالفة في

______________________________

(1)- أحكام القرآن 3/ 112، باب أخذ الجزية من أهل الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 408

الأصول، بل الأمر كذلك في غير الإمامية، و قد قيل: إنه لا كلام في عدّهما من القبيلتين و إنما الكلام في الأحكام.»

قلت: لا ينبغي الكلام في الأحكام بعد فرض أنهم

من القبيلتين أي اليهود و النصارى، ضرورة تعليق الأحكام في النص و الفتوى على المسمّين بهذا الاسم الذي يشملهم أهل الكتاب ...» «1»

17- و في جهاد الجواهر:

«و أما الصابئون فعن ابن الجنيد التصريح بأخذ الجزية منهم و الإقرار على دينهم.

و لا بأس به إن كانوا من إحدى الفرق الثلاث. فعن أحد قولي الشافعي: «أنهم من أهل الكتاب، و إنما يخالفونهم في فروع المسائل لا في أصولهم.» و عن ابن حنبل و جماعة من أهل العراق: «أنهم جنس من النصارى». و عنه أيضا: «أنهم يسبتون، فهم من اليهود.» و عن مجاهد: «هم من اليهود أو النصارى.» و قال السدّي: «هم من أهل الكتاب و كذا السامرة.» و عن الأوزاعي و مالك: «أن كل دين بعد دين الإسلام سوى اليهودية و النصرانية مجوسية و حكمهم حكم المجوس.» و عن عمر بن عبد العزيز: «هم مجوس.» و عن الشافعي أيضا و جماعة من أهل العراق: «حكمهم حكم المجوس» و حينئذ يتجه قبول الجزية منهم. و لكن قيل عنهم: إنهم يقولون: إن الفلك حيّ ناطق، و إن الكواكب السبعة السيارة آلهة. و عن تفسير القمي و غيره:

«أنهم ليسوا أهل كتاب، و إنما هم قوم يعبدون النجوم.» و عليه يتجه عدم قبولها منهم. و لعله لذا صرح الفاضل في المختلف بعدم قبول الجزية منهم حاكيا له عن الشيخين، اللّهم إلا أن يكون قسم من النصارى يقولون بهذه المقالة و إن زعموا أنهم على دين المسيح، إذ الجزية مقبولة من جميعهم: اليعقوبية و النسطورية و الملكية و الفرنج و الروم و الأرمن و غيرهم ممن يدين بالإنجيل و ينتسب إلى عيسى «ع» و إن اختلفوا في الأصول و الفروع، و كذلك

اليهود و المجوس ...» «2»

______________________________

(1)- الجواهر 30/ 45.

(2)- الجواهر 21/ 230.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 409

أقول: و قد تحصّل مما مرّ من الكلمات أن الصابئة عند فقهاء السنّة يعدّون من أهل الكتاب و تقبل منهم الجزية، نعم خالفهم في ذلك أبو سعيد الإصطخري منهم.

و أما فقهاؤنا فالمشهور بينهم عدم قبول الجزية منهم و خالف في ذلك ابن الجنيد منّا.

و يمكن أن يقال: إن ذكر الصابئين في الكتاب العزيز في عداد اليهود و النصارى و المجوس لعلّه يدلّ على تمايزهم عن سائر الكفار، و أنه كان يوجد لدينهم و جهة حق و ارتباط بالوحي السماوي إما لارتباطهم بأحد الأنبياء السابقين و يعدّون لذلك من أهل الكتاب، أو لكونهم من إحدى الفرق الثلاث و إنما ذكروا بالخصوص من باب ذكر الخاص بعد العام لرفع الشبهة.

و ما ورد في تعليل أخذ الجزية من المجوس بأنه كان لهم نبي و كتاب يقتضي إسراء الحكم إلى كل من لهم نبي و كتاب سماوي و إن لم يكونوا من الفرق الثلاث.

قال اللّه- تعالى- في سورة البقرة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ النَّصٰارىٰ وَ الصّٰابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ. «1»

و في المائدة: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ الصّٰابِئُونَ وَ النَّصٰارىٰ مَنْ آمَنَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صٰالِحاً فَلٰا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لٰا هُمْ يَحْزَنُونَ.» «2»

و في سورة الحج: «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هٰادُوا وَ الصّٰابِئِينَ وَ النَّصٰارىٰ وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللّٰهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ، إِنَّ اللّٰهَ عَلىٰ كُلِّ

شَيْ ءٍ شَهِيدٌ.» «3»

و لو ثبت أنهم كانوا في الأصل أهل كتاب سماوي فاعتقادهم الضمني بالعقائد الفاسدة المشوبة بالشرك لا يوجب خروجهم من حكم أهل الكتاب، كما لا يوجب اعتقاد النصارى بالأقانيم الثلاثة خروجهم عن هذا الحكم. هذا.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 62.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 69.

(3)- سورة الحجّ (22)، الآية 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 410

[الاستفسار من بعض علماء صابئي الأهواز]

و قد واجهت عالما من علماء صابئي الأهواز فاستفسرته عن بعض عقائدهم و مراسيمهم فأجاب و أهدى إليّ نسخة من أعظم كتبهم: «گنزا ربّا» باللغة الآرامية الذي يعتقدون أنه صحف آدم، و كراسة بالفارسية يسمّى: «درفش» حاوية لبعض المراسيم اليومية الدينيّة.

و مما تحصل لي من أجوبته و من محتويات الكراسة: أنهم يعتقدون بإله واحد مجرد عن المادة أزلي أبدي جامع لصفات الكمال ليس كمثله شي ء غفور رحيم لا تراه العيون و الأبصار. و يعظمون الملائكة و يسلّمون عليهم بأسمائهم في الأذكار و الأدعية و يستشفعون بهم. و يعتقدون بالجنة و النار و أنه بالموت يفنى جسد الإنسان و يبقى روحه خالدا مجزيّا بأعماله. و أول الأنبياء آدم. و يؤمنون بنوح و سام و يحيى المعمد، و هو آخرهم. و ينكرون موسى و عيسى و التوراة و الإنجيل، و أنكر إيمانهم بزبور داود و كذا تعظيم النجوم و عبادتها. و قال: إن إبراهيم كان منّا ثم انعزل منّا، فلا يؤمنون به. و قال: إن كلمة الصابي من لغة آرامية بمعنى المغتسل، و يغتسلون من الجنابة و مسّ الميت و للتوبة و يغسلون المحتضر. و يهتمون كثيرا بغسل التعميد في الماء الجاري، و تاريخهم يحيائي و تعطيلهم يوم الأحد، و أعيادهم أربعة. و لهم

ثلاث صلوات في ثلاثة أوقات بالوضوء المخصوص، و لهم أذكار و أوردة عند الغسل و الوضوء و الأكل و الذبح يلقيها الكاهن و الذبح إلى نقطة الشمال و يستغفر الذابح من عمله، و يستغفرون لأمواتهم و يقيمون لهم حفلات التابين و يتصدقون لهم.

و يحرمون قتل النفوس و الربا و الكذب و النميمة و الغش و المسكرات بأنواعها و لحم الخنزير و الاختتان و التزوج بالأخت و بنت الأخ و الأخت و العمة و الخالة و زوجة الأخ و لا يتناكحون غيرهم و يحلون تعدد الأزواج مع العدالة. هذا.

ثم إنه ثبت أن الصابئين من أهل الكتاب أو أنهم ليسوا من أهل الكتاب فلا إشكال. و أما مع احتمال كونهم منهم فالأحوط تحقيق حالهم بالرجوع إلى علمائهم و كتبهم، فإن بقي الشك فالأحوط إقرارهم على دينهم و أخذ الجزية منهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 411

حفظا للدماء، و يشكل الحكم بجواز قتلهم.

و ما يمكن أن يتمسك به القائل بجواز القتل و عدم قبول الجزية أمور:
الأول: ما مرّ من الخلاف و غيره من التمسك بعمومات الكتاب و السنّة،

كقوله- تعالى-: «فَإِذٰا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقٰابِ»، و نحو ذلك.

و فيه أنه من قبيل التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص اللفظي، إذ المفروض احتمال كونهم من أهل الكتاب و قد منعنا في محلّه جواز ذلك، اللّهم إلا إذا فرض رجوع الشبهة إلى الشبهة في المفهوم لا في المصداق مثل أن المقصود بالكتاب هل هو مطلق الكتاب السماوي أو ما اشتمل على دين جديد و شريعة جديدة مثلا.

الثاني: أن الكفر مقتض لجواز القتل،

و كونه من أهل الكتاب مع إعطاء الجزية مانع عن ذلك، فمع الشك في وجود المانع يؤثر المقتضي أثره.

و فيه منع قاعدة المقتضي و المانع، اذ الحكم تابع لموضوعه، و هو مركب من المقتضي و الشرائط و فقد الموانع، فمع الشك في واحد منها يشك في الحكم قهرا.

الثالث: إثبات عدم المانع باستصحاب العدم

إما لأنه قبل صيرورته مميزا لم يكن كتابيا فيستصحب، أو لاستصحاب العدم الأزلي نظير استصحاب عدم كون المرأة قرشية و عدم كونها من المحارم قبل أن توجد.

و فيه منع الاستصحاب الأزلي بنحو السلب المركب، لعدم اعتبار العقلاء لذلك في احتجاجاتهم، حيث إن السالبة بانتفاء الموضوع لا عرفية لها عندهم و لا هذيّة للمعدوم حتى يشار إليه و يسلب عنه المحمول، و استصحاب حكمهم في حال الصغر يقتضي عدم جواز قتلهم. و التحقيق يطلب من محلّه.

الرابع: أن إناطة الرخصة تكليفا أو وضعا بأمر وجودي يدلّ

بالالتزام العرفي على إناطتها بإحراز ذلك الأمر الوجودي و انتفاء الرخصة بمجرد عدم إحرازه، فإذا قال المولى لعبده لا تأذن لأحد في الدخول عليّ إلا لمن كان من أصدقائي، فالعبد يرى نفسه موظفا على إحراز الصداقة في الإذن، و لو أذن لمشكوك الصداقة كان

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 412

ملوما عند العقلاء.

و فيه أنه إن كان المراد أن إناطة الرخصة بأمر وجودي مرجعها إلى إناطة الرخصة الواقعية بالوجود الواقعي لهذا الأمر و إناطة الرخصة الظاهرية بالعلم بوجوده و الحكم بعدمها مع الشك فيكون المجعول حكمين: واقعيا و ظاهريا بدليل واحد و الأول مدلول مطابقي و الثاني التزامي عرفي فهذا ممنوع جدا.

و إن كان المراد أن المجعول شرعا واحد و لكن هنا قاعدة عقلائية ظاهرية نظير سائر القواعد العقلائية ففيه أيضا منع ذلك.

هذا مضافا إلى أن توقف إجراء حكم الرخصة على إحراز موضوعه لا يوجب إجراء حكم العام على المشكوك فيه. و بالجملة فإجراء كلّ من الحكمين يتوقف على إحراز موضوعه، و المفروض أن الموضوع في طرف العام مركب من وجود عنوان العام و عدم عنوان الخاص، و العدم غير محرز مع الشك، فتدبّر.

و قد

أطلنا الكلام في الصابئين، فلنعتذر من الإخوان القارئين، و الحمد للّه ربّ العالمين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 413

الجهة الثانية: في ذكر من تسقط عنه الجزية:
[كلمات العلماء]

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 6):

«المجنون المطبق لا خلاف أنه لا جزية عليه، و إن كان ممن يجنّ أحيانا و يفيق أحيانا حكم بحكم الأغلب، و به قال أبو حنيفة. و قال الشافعي: يسقط حكم المجنون و لا تلفق أيّامه. و قال أكثر أصحابه: تلفق أيامه فإذا بلغت الأيام حولا و جبت الجزية.

دليلنا قوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ»، و لم يستثن و لم يشرط التلفيق، و إنما أخرجنا المطبق و من غلب على أكثر أيامه الجنون بدليل.»

(المسألة 7):

«الشيوخ الهرمى و أصحاب الصوامع و الرهبان يؤخذ منهم الجزية و للشافعي فيه قولان. بناء على القولين إذا وقعوا في الأسر هل يجوز قتلهم أم لا. و في أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية.

دليلنا على الأول قوله تعالى: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ»، و لم يفصل» ...

(المسألة 10):

«من لا كسب له و لا مال لا يجب عليه الجزية، و به قال أبو حنيفة و للشافعي فيه قولان: أحدهما مثل ما قلناه، و الآخر و هو أصحهما: أنها تجب عليه.

دليلنا إجماع الفرقة. و أيضا الأصل براءة الذمة، و أيضا قوله- تعالى-: «لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا وُسْعَهٰا»، و أيضا قوله- تعالى-: «لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا». و إذا لم يكن له قدرة على المال و لا الكسب فلا يجوز أن يجب عليه الجزية.» «1»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 238.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 414

2- و في النهاية:

«و هي واجبة على

جميع الأصناف المذكورة إذا كانوا بشرائط المكلفين، و تسقط عن الصبيان و المجانين و البله و النساء منهم.» «1»

3- و في كتاب الجزايا من المبسوط:

«و الفقير الذي لا شي ء معه تجب عليه الجزية، لأنه لا دليل على إسقاطها عنه.

و عموم الآية يقتضيه، ثم ينظر فإن لم يقدر على الأداء كانت في ذمته فإذا استغنى أخذت منه الجزية من يوم ضمنها و عقد العقد له بعد أن يحول عليه الحول. و أما النساء و الصبيان و البله و المجانين فلا جزية عليهم بحال ... فأما المملوك فلا جزية عليه، لقوله- عليه السلام: «لا جزية على العبيد.» ... و الشيخ الفاني و الزمن و أهل الصوامع و الرهبان الذين لا قتال فيهم و لا رأي لهم تؤخذ منهم الجزية لعموم الآية.

و كذلك إذا وقعوا في الأسر جاز للإمام قتلهم، و قد روي أنه لا جزية عليهم.» «2»

فهو- قدّس سرّه- أفتى في الخلاف بعدم وجوب الجزية على الفقير و ادّعى عليه إجماع الفرقة، و في المبسوط أفتى فيه بالوجوب.

و يمكن الجمع بينهما بثبوتها عليه وضعا و وجوب إنظاره إلى اليسار، أو أن الموضوع في عبارة المبسوط الفقير الصادق على من يتمكن من الأداء و لو تدريجا، و في الخلاف من لا كسب له و لا مال أصلا و بينهما فرق، فتأمّل.

4- و في جهاد الشرائع:

«و لا تؤخذ الجزية من الصبيان و المجانين و النساء. و هل تسقط عن الهمّ؟ قيل:

نعم. و هو المروي، و قيل: لا. و قيل: تسقط عن المملوك، و تؤخذ ممن عدا هؤلاء و لو كانوا رهبانا أو مقعدين. و تجب على الفقير و ينظر بها حتى يوسر و لو ضرب عليهم جزية فاشترطوها على

النساء لم يصح الصلح.» «3»

5- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

______________________________

(1)- النهاية/ 193.

(2)- المبسوط 2/ 38، و 40 و 42.

(3)- الشرائع 1/ 327 (ط. أخرى/ 250).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 415

«و لا تجب الجزية إلّا على الرجال الأحرار العقلاء، و لا تجب على امرأة و لا صبيّ و لا مجنون و لا عبد لأنهم أتباع و ذراريّ.

و لو تفردت منهم امرأة على أن تكون تبعا لزوج أو نسيب لم تؤخذ منها، لأنها تبع لرجال قومها و إن كانوا أجانب منها. و لو تفردت امرأة من دار الحرب فبذلت الجزية للمقام في دار الإسلام لم يلزمها ما بذلته و كان ذلك منها كالهبة لا تؤخذ منها إن امتنعت و لزمت ذمتها و إن لم تكن تبعا لقومها.» «1»

و ذكر نحو ذلك أيضا أبو يعلى في الأحكام السلطانية، فراجع. «2»

6- و في مختصر أبي القاسم الخرقي:

«و لا جزية على صبيّ و لا زائل العقل و لا امرأة و لا على فقير، و لا شيخ فان و لا زمن و لا أعمى و لا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما.» «3»

7- و في خراج أبي يوسف:

«و إنما تجب الجزية على الرجال منهم دون النساء و الصبيان ... و لا تؤخذ الجزية من المسكين الذي يتصدق عليه، و لا من أعمى لا حرفة له و لا عمل، و لا من ذمي يتصدق عليه، و لا من مقعد، و المقعد و الزمن إذا كان لهما يسار أخذ منهما، و كذلك الأعمى و كذلك المترهبون الذين في الديارات إذا كان لهم يسار أخذ منهم ...» «4»

و كيف كان فلا خلاف و لا إشكال

في سقوط الجزية عن النساء و الصبيان و البله و المجنون المطبق.

ففي الجواهر بعد قول المصنف: «و لا تؤخذ الجزية من الصبيان و المجانين و النساء» قال:

«كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، بل في المنتهى و محكي الغنية

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 144.

(2)- الأحكام السلطانية/ 154.

(3)- المغني 10/ 581، 585 و 586.

(4)- الخراج/ 122.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 416

و التذكرة الإجماع عليه، و هو الحجة.» «1»

و في المغني بعد قول المصنف: «و لا جزية على صبيّ و لا زائل العقل و لا امرأة» قال:

«لا نعلم بين أهل العلم خلافا في هذا، و به قال مالك و أبو حنيفة و أصحابه و الشافعي و أبو ثور. و قال ابن المنذر: و لا أعلم عن غيرهم خلافهم.» «2»

و المشهور سقوطها عن العبيد أيضا، كما يأتي.

و أما الشيخ الفاني و المقعد و الزمن و الأعمى و الفقير و الرهبان و أهل الصوامع الذين لا قتال لهم ففيهم خلاف. و إطلاق الآية الشريفة و كثير من أخبار الباب يقتضي الثبوت فيهم إلا أن يدل دليل على الخلاف.

و من الأخبار المطلقة في هذا الباب ما مرّ من خبر معاذ بن جبل، قال: «بعثني رسول اللّه «ص» إلى اليمن و أمرني أن آخذ من كل حالم دينارا أو عدله معافر.» «3»

فلنتعرض لأخبار المسألة، و تفصيل العناوين المذكورة:
أ- في حكم النساء و الصبيان و المجانين:

1- ما رواه في الوسائل عن المشايخ الثلاثة بأسانيدهم، عن حفص بن غياث (في حديث) أنه سأل أبا عبد اللّه «ع» عن النساء كيف سقطت الجزية عنهن و رفعت عنهن؟ قال: فقال: «لأن رسول اللّه «ص» نهى عن قتل النساء و الولدان في دار الحرب إلا أن يقاتلن، فإن قاتلن (قاتلت)

أيضا فأمسك عنها ما أمكنك و لم تخف خللا (حالا خ. ل). فلما نهى عن قتلهن في دار الحرب كان (ذلك) في دار الإسلام أولى. و لو امتنعت أن تؤدي

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 236.

(2)- المغني 10/ 581.

(3)- سنن البيهقي 9/ 187، كتاب الجزية، باب من قال تؤخذ منهم الجزية ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 417

الجزية لم يمكن قتلها، فلما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها. و لو امتنع الرجال أن يؤدوا الجزية كانوا ناقضين للعهد و حلت دماؤهم و قتلهم، لأن قتل الرجال مباح في دار الشرك.

و كذلك المقعد من أهل الذمة و الأعمى و الشيخ الفاني و المرأة و الولدان في أرض الحرب، فمن أجل ذلك رفعت عنهم الجزية.» «1»

و السند و إن كان مخدوشا و لكن رواية حفص بهذا السند قد عمل بها الأصحاب في كثير من الأبواب. و دلالتها على سقوط الجزية عن النساء و الولدان واضحة. بل دلت على السقوط عن المقعد و الأعمى و الشيخ الفاني أيضا، و سيأتي البحث فيهم. و ظاهر الخبر وجود الملازمة بين جواز القتل و ثبوت الجزية، فلا جزية على من لا يجوز قتله.

2- ما رواه أيضا عن المشايخ الثلاثة بأسانيدهم، عن طلحة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «جرت السنة أن لا تؤخذ الجزية من المعتوه، و لا من المغلوب على عقله.» «2»

و السند موثوق به إلى طلحة، و قال الشيخ إن كتاب طلحة معتمد «3». و قال في الصحاح: «المعتوه: الناقص العقل.» «4» و في القاموس: «عته فهو معتوه: نقص عقله.» «5»

و في الجواهر بعد نقل الخبر قال:

«و لعل المراد من المعتوه فيه ما عن المبسوط و

النهاية و الوسيلة و السرائر من زيادة البله، و إن كان قد فسّر هنا بمن لا عقل له، إلا أن المراد به كما صرّح به آخر ضعيف العقل، بل هو المراد مما في محكي الوسيلة من التعبير بالسفيه الذي هو في العرف عبارة عن الأحمق لا السفه الشرعي الذي لا أجد خلافا في عدم سقوط الجزية عنه لعموم الأدلة.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 47، الباب 18 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 48 و 100، الباب 18 و 51 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3 و 1.

(3)- الفهرست للشيخ/ 86 (ط. أخرى/ 112).

(4)- صحاح اللغة 6/ 2239.

(5)- القاموس/ 853.

(6)- الجواهر 21/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 418

أقول: و يدلّ على إرادة ناقص العقل لا فاقده عطف المغلوب على عقله عليه، و ظاهره المغايرة، و لكن في النهاية: «هو المجنون المصاب بعقله» «1»، فتدبّر.

3- و في المستدرك، عن الصدوق في الخصال بسنده، عن جابر الجعفي، قال:

سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «... و لا جزية على النساء.» «2»

4- و في سنن البيهقي بسنده، عن أسلم مولى عمر: «أن عمر بن الخطاب كتب إلى عمّاله أن لا يضربوا الجزية على النساء و الصبيان و لا يضربوها إلا على من جرت عليه المواسي و يختم في أعناقهم و يجعل جزيتهم على رءوسهم.» «3»

و راجع البيهقي باب من يرفع عنه الجزية أيضا. «4» هذا.

5- و لكن فيه أيضا بسنده، عن الحكم، قال: كتب رسول اللّه «ص» إلى معاذ بن جبل باليمن على كل حالم أو حالمة دينارا أو قيمته، و لا يفتن يهودي عن يهوديته. قال يحيى:

و لم أسمع أن على النساء جزية

إلا في هذا الحديث. «5»

6- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس أن النبي «ص» كتب إلى معاذ بن جبل: أن من أسلم من المسلمين فله ما للمسلمين و عليه ما عليهم، و من أقام على يهودية أو نصرانية فعلى كل حالم دينارا أو عدله من المعافر، ذكرا أو أنثى، حرّا أو مملوكا». «6»

7- و فيه أيضا بسنده، عن أبي زرعة بن سيف بن ذي يزن قال: كتب إليّ رسول اللّه «ص» كتابا هذا نسخته- فذكرها، و فيها-: «و من يكن على يهوديته أو على نصرانيته فإنه لا يفتن عنها و عليه الجزية على كل حالم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار أو قيمته من

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 3/ 181.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 7.

(3)- سنن البيهقي 9/ 195، كتاب الجزية، باب الزيادة على الدينار بالصلح.

(4)- سنن البيهقي 9/ 198، كتاب الجزية.

(5)- سنن البيهقي 9/ 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(6)- سنن البيهقي 9/ 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 419

المعافر.» قال: و هذه الرواية في رواتها من يجهل و لم يثبت بمثلها عند أهل العلم حديث. «1»

8- و فيه أيضا بسنده، عن ابن إسحاق، قال: حدثني عبد اللّه بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، قال: هذا كتاب رسول اللّه «ص» عندنا الذي كتبه لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن- فذكره، و في آخره: «... و من كان على نصرانية أو يهودية فإنه لا يفتن عنها، و على كل حالم ذكر أو أنثى حرّ أو عبد دينار واف أو عرضه من الثياب.»

«2»

أقول: هذه الأخبار الأخيرة أعرض عنها فقهاء السنّة أيضا و ناقشوا في أسانيدها. و يحتمل فيها النسخ أيضا.

و كيف كان فسقوط الجزية عن النساء و الصبيان و المجانين مما لا خلاف فيه و لا إشكال عند الفريقين.

نعم، هنا شي ء ينبغي الإشارة إليه، و هو أن للإمام أن يزيد في جزية الرجل بلحاظ أهله و عياله، حيث إن الحماية لهم تستدعي مئونة زائدة على الدولة الإسلامية، و لكن الجميع على عهدة المعيل لا العيال. و اختيار الجزية كمّا و كيفا يكون بيد الإمام كما يأتي، فوزان ذلك وزان زكاة الفطر، حيث إنها لا تجب على المرأة و الصبيّ و العبد و إن كانوا موسرين، و لكن تجب فطرتهم على الرجل إن كانوا تحت عيلولته، فتدبّر.

و ليعلم أيضا أنه لو كان في اختيار المرأة أو الصبيّ أو المجنون أرض خراج فالظاهر أخذ الخراج منهم، إذ لا وجه لوقوع أرض المسلمين في أيديهم مجانا، و هذا غير الجزية

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(2)- سنن البيهقي 9/ 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 420

التي ربما توضع على الأرض أيضا كما يأتي.

قال في دعائم الإسلام بعد ذكر الجزية على الرجال الأحرار البالغين:

«و عليهم مع ذلك الخراج في أرضهم لمن كانت في الأرض منهم من صغير أو كبير أو امرأة أو رجل فالخراج عليها. و من أسلم وضعت عنه الجزية و لم يوضع عنه الخراج.» «1»

ب- حكم الجزية على المملوك:

و أما المملوك فقد مرّ بعض الكلمات فيه. و في المنتهى قال:

«اختلف علماؤنا في إيجاب الجزية على المملوك. فالمشهور عدم وجوبها عليه، ذهب إليه الشيخ و هو قول الجمهور كافة.

و قال آخرون: لا تسقط عنهم الجزية.

احتج الشيخ بما روي عن النبي «ص» أنه قال: «لا جزية على العبد.» و لأن العبد مال فلا يؤخذ عنه الجزية كغيره من الحيوان ...» «2»

و مرّ عن أبي القاسم الخرقي قوله:

«و لا على سيد عبد عن عبده إذا كان السيد مسلما.» «3»

و في المغني في شرح العبارة قال:

«لا خلاف في هذا نعلمه، لأنه يروى عن النبي «ص» أنه قال: «لا جزية على العبد»، و عن ابن عمر مثله. و لأن ما لزم العبد إنما يؤديه سيده فيؤدي إيجابه على عبد المسلم إلى إيجاب الجزية على مسلم. فأما إن كان العبد لكافر فالمنصوص عن أحمد أنه لا جزية عليه أيضا، و هو قول عامة أهل العلم.

قال ابن المنذر: أجمع كل من نحفظ عنه من أهل العلم على أنه لا جزية على العبد.

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 381، كتاب الجهاد- ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(2)- المنتهى 2/ 965.

(3)- المغني 10/ 586.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 421

و ذلك لما ذكر من الحديث، و لأنه محقون الدم فأشبه النساء و الصبيان، أو لا مال له فأشبه الفقير العاجز ...» «1» هذا.

و لكن في الوسائل، عن الصدوق بإسناده، عن أبي الورد (أبي الدرداء خ. ل) أنه سأل أبا جعفر «ع» عن مملوك نصراني لرجل مسلم، عليه جزية؟ قال: نعم. قال:

فيؤدي عنه مولاه المسلم الجزية؟ قال: «نعم، إنما هو ماله يفتديه إذا أخذ يؤدي عنه.»

و عنه بإسناده، عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي الورد مثله. «2»

و في باب العتق من المقنع:

«و إن كان للرجل مملوك نصراني و عليه الجزية أدّى مولاه الجزية فيه.»

«3»

و في المنتهى:

«قال ابن الجنيد: و في كتاب النبي «ص» لمعاذ و عمرو بن حزم أخذ الجزية من العبد. و لأنه مشرك فلا يجوز أن يستوطن دار الإسلام بغير عوض كالحرّ. و لأن سيده لو كان مشركا لم يمكن من الإقامة إلا بعقد الذمة، فالعبد أولى. و لأنه من أهل الجهاد فلا يسقط عنه الجزية لأنها عوض حقن الدم و هو مباح الدم.» «4»

أقول: ما رووه من كتاب النبي «ص» لمعاذ و عمرو بن حزم المشتملين على العبد مشتملان على الانثى أيضا، و قد مرّ إعراض الفريقين عن العمل بهما. و ما ذكره من كون العبد أولى لم يظهر لي وجه أولويته في ذلك.

و بالجملة فالمسألة ذات قولين فينا، و الأخبار المحكية ضعيفة متعارضة. و إطلاق الآية الشريفة و بعض الأخبار يقتضي الثبوت. و حيث إن موضوع البحث منتف في عصرنا ندرج البحث فيها.

______________________________

(1)- المغني 10/ 586.

(2)- الوسائل 11/ 97، الباب 49 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(3)- الجوامع الفقهية/ 38.

(4)- المنتهى 2/ 965.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 422

ج- حكم الشيخ الفاني المعبر عنه بالهمّ، و كذا المقعد و الأعمى:

و أما الشيخ الفاني فقد مرّ عن الخلاف و المبسوط ثبوت الجزية عليه.

و في الجواهر عن الإسكافي و النافع و القواعد السقوط عنه «1»، و به أفتى الخرقي أيضا كما مرّ. و يظهر من الشرائع التوقف فيه.

و إطلاق الآية و بعض الأخبار و منها خبر معاذ و إن اقتضى الثبوت، لكن مقتضى رواية حفص التي مرت هو السقوط عنه.

و يؤيد ذلك ما رواه الشيخ بإسناده، عن الصفار، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه «ع» أن النبي «ص» قال:

«اقتلوا المشركين، و استحيوا شيوخهم

و صبيانهم.» «2» و السند كما ترى لا بأس به.

و إذا لم يقتل شيوخ المشركين فشيوخ أهل الكتاب أولى بذلك. و قد مرّ في رواية حفص تعليل سقوط الجزية عن النساء بأنه لما لم يمكن قتلها رفعت الجزية عنها، و هذا التعليل جار في المقام أيضا.

و ربما يفصل فيه بأنه إن كان ذا رأي و قتال أخذت منه، و إلا فلا، فيكون جواز أخذ الجزية و عدمه تابعا لجواز قتله و عدمه.

قال في التذكرة:

«الشيخ من المحاربين إن كان ذا رأي و قتال جاز قتله إجماعا و كذا إن كان فيه قتال و لا رأي له أو كان له رأي و لا قتال فيه، لأن دريد بن الصمة قتل يوم بدر (يوم حنين- ظ.) و كان له مأئة و خمسون سنة و كان له معرفة بالحرب و كان المشركون يحملونه معهم في قفص حديد ليعرفهم كيفية القتال فقتله المسلمون و لم ينكر عليهم النبي «ص». و إن لم يكن له رأي و لا قتال لم يجز قتله عندنا، و به قال أبو حنيفة

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 237.

(2)- الوسائل 11/ 48، الباب 18 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 423

و الثوري و مالك و الليث و الأوزاعي و أبو ثور ...» «1»

و هذا التفصيل قريب، و الاحتياط حسن على كل حال. هذا.

و مقتضى خبر حفص سقوطها عن المقعد و الأعمى أيضا. و نسب هذا إلى ابن الجنيد منّا، و به قال الخرقي كما مرّ. و مرّ عن خراج أبي يوسف التفصيل فيهما بين من له يسار و غيره. و لكن المشهور بيننا عدم السقوط.

قال العلامة في المختلف:

«حفص بن غياث عامي فلا نعوّل على روايته خصوصا مع معارضتها بعموم القرآن.» «2»

أقول: خبر حفص بهذا السند قد عمل به الأصحاب في الأبواب المختلفة، فرفع اليد عنه مشكل، اللّهم إلا أن يحرز إعراض الأصحاب عنه في مقام. نعم، يمكن أن يحمل إطلاقه على ما هو الغالب في الأعمى و المقعد من الفقر الدائم، فلا يعم صورة يسارهما.

و في الجواهر اختار عدم السقوط و قال:

«لعموم الأدلة الذي لا يخصصه ما في الخبر المزبور بعد عدم الجابر له في ذلك، و بعد تأييده بأنها وضعت للصغار و الإهانة المناسبين للكفر فيهما.» «3»

أقول: الظاهر أن الجزية لم توضع للإهانة، بل لأن إدارة المجتمع تتوقف قهرا على أموال و ضرائب. و الجزية ضريبة أهل الكتاب. و المراد بقوله- تعالى-: «وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» هو انقيادهم للحكم الإسلامي و تسليمهم له، كما يأتي بحثه.

د- حكم الفقير في هذا الباب:

و أما الفقير فقد مرّ عن الخلاف السقوط عنه و ادّعى عليه إجماع الفرقة. و عن

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 412.

(2)- المختلف 1/ 335.

(3)- الجواهر 21/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 424

المبسوط و الشرائع ثبوتها عليه. و نسب في الخلاف إلى أبي حنيفة أيضا السقوط، و به قال الخرقي أيضا كما مرّ.

و في المنتهى ما ملخصه:

«و في سقوط الجزية عن الفقير منهم لعلمائنا قولان: أشهرهما أنها لا تسقط، اختاره الشيخ، بل ينظر إلى وقت يساره، و به قال المزني و هو أحد قولي الشافعي. و قال المفيد و ابن الجنيد: لا جزية عليه، و هو القول الآخر للشافعي، و به قال أحمد. لنا عموم قوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ». يعني حتى يلزموا بالإعطاء، و لأنه كافر مكلف فلا يعقد الذمة بغير

عوض. و لقوله «ع» لمعاذ: «خذ من كل حالم دينارا» و هو عام، و لأن عليا «ع» وظف على الفقير دينارا.» «1»

أقول: إن أريد بالفقير الشرعي، أي من لا يملك مئونة سنته، أو الفقير العرفي و إن تمكن من أداء الجزية و لو تدريجا كأكثر أفراد المجتمع، فعموم الأدلة يشمله.

و قد كان الخلفاء و أمير المؤمنين «ع» يوظفون عليهم كما يأتي في رواية مصعب بن يزيد الأنصاري. و إن أريد به من لا كسب له و لا مال أصلا فالحق هو السقوط.

و يدلّ عليه قوله- تعالى-: «لٰا يُكَلِّفُ اللّٰهُ نَفْساً إِلّٰا مٰا آتٰاهٰا.» و الشيخ في الخلاف لم يعبر بالفقير، بل عبر بمن لا كسب له و لا مال، فموضوع بحثه في الخلاف يخالف موضوع بحثه في المبسوط، فراجع.

ه- حكم الرهبان و أصحاب الصوامع في هذا الباب:

و أما الرهبان و أصحاب الصوامع فقد مرّ عن الخلاف ثبوت الجزية عليهم، قال: و في أصحابنا من قال: لا تؤخذ منهم الجزية، و للشافعي فيه قولان. «2»

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 963.

(2)- راجع الخلاف 3/ 238، كتاب الجزية، المسألة 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 425

أقول: إطلاق الآية الشريفة و عموم كل حالم في خبر معاذ يقتضيان الثبوت و لا وجه لاستثنائهم إلا إذا كانوا شيوخا هرمى أو فقراء و قلنا باستثنائهما، أو يقال بأن الجزية تابعة لجواز القتل كما مرّ في النساء و الشيوخ، و الرهبان لا يقتلون لقوله- تعالى-: «وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا.» «1» و الراهب لا يقاتل، و لقول النبي «ص» في خبر مسعدة، عن أبي عبد اللّه «ع»، عنه «ص»: «و لا تقتلوا وليدا و لا متبتلا في شاهق.» «2» و في

خبر ابن عباس عنه «ص»: «لا تقتلوا الولدان و لا أصحاب الصوامع.» «3» هذا.

و في المغني لابن قدامة:

«و لا جزية على أهل الصوامع من الرهبان، و يحتمل وجوبها عليهم، و هذا أحد قولي الشافعي. و روي عن عمر بن عبد العزيز: أنه فرض على رهبان الديارات الجزية على كل راهب دينارين. و وجه ذلك عموم النصوص، و لأنه كافر صحيح قادر على أداء الجزية فأشبه الشمّاس. و وجه الأول أنهم محقونون بدون الجزية فلم تجب عليهم كالنساء و قد ذكرنا أنه يحرم قتلهم و النصوص مخصوصة بالنساء و هؤلاء في معناهن، و لأنه لا كسب له فأشبه الفقير غير المعتمل.» «4»

أقول: الشمّاس موظف دون القسّيس، قالوا: أصلها سريانية بمعنى الخادم.

و لو قيل بأن إدارة المجتمع تتوقف على أموال و ضرائب، و الجزية ضريبة أهل الكتاب، و الرهبان أيضا يتمتعون من مزايا الدولة العادلة، و من له الغنم فعليه الغرم فللحاكم الإسلامي أن يضع عليهم الجزية إن قدروا عليها و رأى في ذلك مصلحة لم يكن هذا بعيدا عن الصواب. و اللّه- تعالى- أعلم.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 190.

(2)- الوسائل 11/ 43، الباب 15 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(3)- سنن البيهقي 9/ 90، كتاب السير، باب ترك قتل من لا قتال فيه من الرهبان ...

(4)- المغني 10/ 587.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 426

الجهة الثالثة: في كمية الجزية:
[كلمات العلماء]

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 9):

«ليس للجزية حدّ محدود، بل ذلك موكول إلى اجتهاد الإمام يأخذ منهم بحسب ما يراه أصلح و ما يحتمل أحوالهم مما يكونون به صاغرين، و به قال الثوري. و قال الشافعي: إذا بذل الكافر دينارا في الجزية

قبل منه موسرا كان أو معسرا أو متوسطا. و قال مالك: أقلّ الجزية أربعة دنانير على أهل الذهب و ثمانية و أربعون درهما على أهل الورق في جميع من ذكرناه. و قال أبو حنيفة: جزية المقلّ اثنا عشر درهما، و المتوسط أربعة و عشرون درهما، و الغني ثمانية و أربعون درهما.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم. و لأن تقدير ذلك بحدّ يحتاج إلى دليل شرعي و ليس في الشرع ما يدلّ عليه، و الآية إنما أوجبت الجزية التي يكون بإعطائها صاغرا و ذلك يختلف الحال فيه.» «1»

2- و في النهاية:

«و ليس للجزية حدّ محدود و لا قدر موقت، بل يأخذ الإمام منهم على قدر ما يراه من أحوالهم من الغنى و الفقر بقدر ما يكونون به صاغرين.» «2»

3- و في المبسوط:

«و ليس للجزية حدّ محدود و لا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم أو على رءوسهم على قدر أحوالهم من الضعف و القوة بمقدار ما يكونون صاغرين به.» «3»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 239.

(2)- النهاية/ 193.

(3)- المبسوط 2/ 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 427

أقول: المترائى من كلمات الشيخ أن الغرض من وضع الجزية جعل الكافر صاغرا به. و الظاهر أنه اجتهاد منه، و لعله أخذ ذلك من الصحيحة الآتية، و سيأتي بيانها. و أما الآية الشريفة فلا تدلّ على أزيد من كون الصغار حالا مقارنا لإعطائها، و ظاهر ذلك مقارنة إعطائها لانقيادهم للحكومة الإسلامية و تسليمهم لها.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 427

4- و

في الشرائع:

«الثاني في كمية الجزية، و لا حدّ لها، بل تقديرها إلى الإمام بحسب الأصلح.

و ما قرّره علي «ع» محمول على اقتضاء المصلحة في تلك الحال. و مع انتفاء ما يقتضي التقدير يكون الأولى اطراحه تحقيقا للصغار.» «1»

أقول: و المراد باطّراحه عدم التقدير إلى وقت مطالبتها في آخر الحول فيقول لهم:

ادفعوا كذا و كذا.

5- و في الجواهر نسب عدم الحدّ لها إلى المشهور بين الأصحاب شهرة عظيمة ثم قال:

«بل عن الغنية الإجماع، كما عن السرائر نسبته إلى أهل البيت «ع»، بل لم نعرف القائل منّا بتقديرها في جانب القلة و الكثرة و إن أرسله الفاضل و غيره. نعم، عن الإسكافي تقديرها في جانب القلة بالدينار ...» «2»

6- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«و اختلف الفقهاء في قدر الجزية: فذهب أبو حنيفة إلى تصنيفهم ثلاثة أصناف:

أغنياء يؤخذ منهم ثمانية و أربعون درهما، و أوساط يؤخذ منهم أربعة و عشرون درهما، و فقراء يؤخذ منهم اثنا عشر درهما، فجعلها مقدرة الأقل و الأكثر و منع من اجتهاد الولاة فيها.

و قال مالك: لا يقدر أقلها و لا أكثرها، و هي موكولة لاجتهاد الولاة في الطرفين.

______________________________

(1)- الشرائع 1/ 328 (ط. أخرى/ 251).

(2)- الجواهر 21/ 245.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 428

و ذهب الشافعي إلى أنها مقدرة الأقل بدينار لا يجوز الاقتصار على أقل منه، و عنده غير مقدرة الأكثر يرجع فيه إلى اجتهاد الولاة و يجتهد رأيه في التسوية بين جميعهم أو التفضيل بحسب أحوالهم.» «1»

أقول: ما حكاه الماوردي عن مالك و الشافعي يخالفان لما حكاه الشيخ عنهما في الخلاف، فراجع مظانّ المسألة.

7- و في مختصر أبي القاسم الخرقي في فقه الحنابلة:

«و المأخوذ منهم الجزية

على ثلاث طبقات: فيؤخذ من أدونهم اثنا عشر درهما، و من أوسطهم أربعة و عشرون درهما، و من أيسرهم ثمانية و أربعون درهما.» «2»

و لكن روى أبو يعلى الفراء عن أحمد ثلاث روايات في هذه المسألة «3» و راجع المغني أيضا في هذه المسألة. «4»

و بالجملة فالمسألة واضحة عندنا و أن مقدارها موكول إلى اجتهاد الإمام كمّا و كيفا و قلة و كثرة.

و يدلّ على ذلك مضافا إلى الشهرة المحققة و الإجماعات المنقولة ما رواه في الوسائل بسند صحيح، عن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، و هل عليهم في ذلك شي ء موظف لا ينبغي أن يجوز إلى غيره؟

فقال: «ذلك إلى الإمام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و ما يطيق، إنما هم قوم فدوا أنفسهم من أن يستعبدوا أو يقتلوا، فالجزية تؤخذ منهم على قدر ما يطيقون له أن يأخذهم به حتى يسلموا، فإن اللّه قال: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» و كيف يكون صاغرا و هو لا يكترث لما يؤخذ منه حتى لا يجد ذلّا (ألما خ. ل) لما أخذ منه فيألم لذلك فيسلم؟!». «5»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 144.

(2)- المغني 10/ 574.

(3)- الأحكام السلطانية/ 155.

(4)- المغني 10/ 574 و ما بعدها.

(5)- الوسائل 11/ 113، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 429

و رواه في المستدرك أيضا، عن تفسير العياشي، عن زرارة. «1»

أقول: دلالة الصحيحة على المقصود واضحة، و تدل أيضا على أن الجزية عوض عن الكف عنهم. و لكن المستفاد من آخرها كون الغرض من أخذ الجزية إذ لا

لهم و إيلامهم حتى يسلموا، و لكن الالتزام بذلك مشكل. و أيّ إيلام في إعطاء دينار أو دينارين في ظرف السنة مع وقوعهم تحت حماية الدولة الإسلامية و استفادتهم من مزاياها؟ و الدولة لا محيص لها عن أخذ مال و ضريبة، فتدبّر.

و يستدلّ للقائل بالتقدير شرعا

بما أمر به رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» في هذا الباب:

1- ففي سنن البيهقي بسنده، عن معاذ بن جبل: «أن رسول اللّه «ص» بعثه إلى اليمن و أمره أن يأخذ من البقر من كل ثلاثين تبيعا، و من كل أربعين بقرة مسنّة، و من كل حالم دينارا أو عدله ثوب معافر.» «2»

2- و فيه أيضا بسنده، عن عمر بن عبد العزيز: أن النبي «ص» كتب إلى أهل اليمن: «أن على كل إنسان منكم دينارا كل سنة أو قيمته من المعافر.» يعني أهل الذمة منهم. «3»

و روي هذا الكتاب منه «ص» بطرق و ألفاظ مختلفة كلها تشتمل على هذا المضمون، فراجع البيهقي و غيره.

و فيما كتبه «ص» لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أيضا ذكر هذا المضمون، فراجع البيهقي. «4»

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(2)- سنن البيهقي 9/ 193، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(3)- سنن البيهقي 9/ 193، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(4)- سنن البيهقي 9/ 194، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 430

3- و فيه أيضا بسنده، عن أبي الحويرث، قال: «ضرب رسول اللّه «ص» على نصارى بمكة دينارا لكل سنة.» «1»

4- و فيه أيضا بسنده، عن أبي الحويرث: أن النبي «ص» ضرب على نصراني بمكة يقال له موهب دينارا كل سنة. و أن

النبي «ص» ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار كل سنة.

الحديث.

قال: و أخبرنا إبراهيم، أنبأ إسحاق بن عبد اللّه أنهم كانوا ثلاثمائة فضرب عليهم النبي «ص» يومئذ ثلاثمائة دينار كل سنة. «2»

5- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: صالح رسول اللّه «ص» أهل نجران على ألفي حلة: النصف في صفر و النصف في رجب يؤدونها إلى المسلمين، و عارية ثلاثين درعا و ثلاثين فرسا و ثلاثين بعيرا و ثلاثين من كل صنف من أصناف السلاح يغزون بها، المسلمون ضامنون لها حتى يردّوها عليهم إن كان باليمن كيد.

قال الشافعي: و قد سمعت بعض أهل العلم من المسلمين و من أهل الذمة من أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار. «3»

أقول: استدل الشافعي بهذا السنخ من الأخبار على وجوب أن لا تكون الجزية في كل سنة أقل من دينار واحد:

قال في الأمّ في باب كم الجزية:

«و كان رسول اللّه «ص» المبين عن اللّه- عزّ و جلّ- معنى ما أراد؛ فأخذ رسول اللّه «ص» جزية أهل اليمن دينارا في كل سنة أو قيمته من المعافري و هي الثياب. و كذلك روي أنه أخذ من أهل أيلة و من نصارى مكة دينارا عن كل إنسان. و أخذ الجزية من أهل نجران فيها كسوة، و لا أدري ما غاية ما أخذ منهم. و قد

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(2)- سنن البيهقي 9/ 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

(3)- سنن البيهقي 9/ 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 431

سمعت بعض أهل العلم من المسلمين و من أهل الذمة من

أهل نجران يذكر أن قيمة ما أخذ من كل واحد أكثر من دينار. و أخذها من أكيدر و من مجوس البحرين لا أدري كم غاية ما أخذ منهم، و لم أعلم أحدا قط حكى عنه أنه أخذ من أحد أقلّ من دينار.» «1» هذا.

6- و في الوسائل بسنده، عن مصعب بن يزيد الأنصاري، قال: استعملني أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع» على أربعة رساتيق المدائن: البهقباذات و نهر سير (شير خ. ل) (بهر سير- فتوح البلدان.) و نهر جوير و نهر الملك، و أمرني أن أضع على كل جريب زرع غليظ درهما و نصفا، و على كل جريب وسط درهما، و على كل جريب زرع رقيق ثلثي درهم، و على كل جريب كرم عشرة دراهم، و على كل جريب نخل عشرة دراهم، و على كل جريب البساتين التي تجمع النخل و الشجر عشرة دراهم. و أمرني أن ألقى كل نخل شاذّ عن القرى لمارّة الطريق و ابن السبيل و لا آخذ منه شيئا. و أمرني أن أضع على الدهاقين الذين يركبون البراذين و يتختمون بالذهب على كل رجل منهم ثمانية و أربعين درهما، و على أوساطهم و التجّار منهم على كل رجل منهم أربعة و عشرين درهما، و على سفلتهم و فقرائهم اثني عشر درهما على كل إنسان منهم. قال: فجبيتها ثمانية عشر ألف ألف درهم في سنة.» «2» و روى نحوه البلاذري في فتوح البلدان. «3»

قال في الوسائل:

«حمله الشيخ على أنه رأى المصلحة في ذلك، و يجوز أن تتغير المصلحة إلى زيادة أو نقصان بحسب ما يراه الإمام، و كذا ذكر المفيد و غيرهما.»

7- و فيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، عن

أمير المؤمنين «ع»: «أنه جعل على أغنيائهم ثمانية و أربعين درهما، و على أوساطهم أربعة و عشرين درهما، و جعل على فقرائهم اثني عشر درهما.» و كذلك صنع عمر بن الخطاب قبله و إنما صنعه بمشورته «ع». «4»

______________________________

(1)- الأمّ 4/ 101.

(2)- الوسائل 11/ 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

(3)- فتوح البلدان/ 270.

(4)- الوسائل 11/ 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 432

أقول: و كيف كان فأمر رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين «ع» في عصرهما في موارد خاصة بضرب مقدار معين لا ظهور له في تعين ذلك في جميع الأعصار و جميع البلدان، بداهة أن هذا السنخ من الأمور ليست تابعة للتعبد المحض، بل يلاحظ فيها مصالح المسلمين و الدولة الإسلامية، و قد دلّت صحيحة زرارة على كونها عوضا عن قتل الشخص أو استعباده، فلا تتقدر بقدر خاص كالأجرة. و لا يرفع اليد عن الصحيحة التي عمل بها الأصحاب و أيّدها الإجماع المنقول و الشهرة المحققة بهذه الأخبار الحاكية للفعل في موارد خاصة، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 433

الجهة الرابعة: في اختيار الإمام أو من نصبه بين أن يضع الجزية على الرؤوس أو الأراضي أو كليهما:
[كلمات العلماء]

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 17):

«يجوز للإمام أن يصالح قوما على أن يضرب الجزية على أرضهم بحسب ما يراه، و إذا أسلموا سقط ذلك عنهم و صارت الأرض عشرية، و به قال الشافعي إلا أنه قيد ذلك بأن يضع عليها بأقلّ ما يكون من الجزية فصاعدا.

و قال أبو حنيفة: لا يجوز الاقتصار على هذا حتى ينضم إليه ضرب الجزية على الرؤوس. و متى أسلموا لا تسقط عنهم بل تكون الأرض خراجية

على ما وضع عليها.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.» «1»

2- و في النهاية:

«و كل من وجبت عليه الجزية فالإمام مخير بين أن يضعها على رءوسهم أو على أرضيهم، فإن وضعها على رءوسهم فليس له أن يأخذ من أرضيهم شيئا. و إن وضعها على أرضيهم فليس له أن يأخذ من رءوسهم شيئا.» «2»

أقول: الظاهر أن مراده أنه لو جعلت على الرؤوس فقط أو على الأرضين فقط في عقد الذمة فلا يجوز التخلف عن العقد، لا أنه لا يجوز الوضع عليهما في بادي الأمر، و من أقسام المنفصلة ما يراد بها منع الخلوّ فقط فلا تنافي جواز الجمع.

3- و قد مرّ عن المبسوط قوله:

«و ليس للجزية حدّ محدود و لا قدر مقدور، بل يضعها الإمام على أراضيهم أو على

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 241.

(2)- النهاية/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 434

رءوسهم على قدر أحوالهم من الضعف أو القوة بمقدار ما يكونون صاغرين به.» «1»

4- و في الشرائع:

«و يجوز وضعها على الرؤوس أو على الأرض. و لا يجمع بينهما. و قيل بجوازه ابتداء، و هو الأشبه.» «2»

5- و في الجواهر في ذيل الجملة الأولى قال:

«بلا خلاف أجده فيه، بل و لا إشكال بعد الأصل و العمومات كتابا و سنة، و خصوص النصوص المتضمنة لإثبات كل منهما ...» «3»

و في ذيل قول المحقق: «و هو الأشبه» قال:

«بأصول المذهب و قواعده التي منها ما سمعته من عدم موظف للجزية، و أن تقديرها إلى الإمام «ع» كمّا و كيفا كما هو مقتضى الأصل و غيره، بل هو المناسب للصغار و لما دل على مشروعية العقود بالتراضي و لغير ذلك.» «4»

[الأخبار]

أقول: و يدلّ على جواز ضرب الجزية

على الأرض إجمالا مضافا إلى الإجماع المدعى في الخلاف و العمومات من الكتاب و السنة:

1- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم مما يحقنون به دماءهم و أموالهم؟ قال: «الخراج و إن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم، و إن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم.» «5»

و مرجع الضمير بقرينة ما قبله في الكافي هو أبو عبد اللّه «ع»، مضافا إلى أن مثل محمد بن مسلم الفقيه لا يروي عن غير الإمام «ع».

و المنساق منها بدوا و إن كان عدم جواز الجمع، و لكن لما كانت الجزية إنما تثبت بتبع عقد الذمة فلعلّ المراد أنه بعد ما وقع العقد على أحدهما فلا يجوز التخلف

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 38.

(2)- الشرائع 1/ 328 (ط. أخرى/ 251).

(3)- الجواهر 21/ 249.

(4)- الجواهر 21/ 249.

(5)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 435

عنه بالأخذ من الآخر، فلا ينافي هذا جواز الجمع بينهما ابتداء في متن العقد.

و الأخذ يراد به الوضع في متن العقد لا الأخذ خارجا، نظير الإعطاء في قوله- تعالى- «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ»، أي يقبلوا إعطاءها.

2- الصحيحة الأخرى له، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: أ رأيت ما يأخذ هؤلاء من هذا الخمس من أرض الجزية و يأخذ من الدهاقين جزية رءوسهم أما عليهم في ذلك شي ء موظف؟ فقال: «كان عليهم ما أجازوا على أنفسهم، و ليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رءوسهم و ليس على أموالهم شي ء، و إن شاء فعلى أموالهم و ليس على رءوسهم شي ء.» فقلت: فهذا الخمس؟ فقال:

«إنما هذا شي ء كان صالحهم عليه رسول اللّه «ص».» «1»

أقول: الظاهر أن المراد بالخمس الذي كان يؤخذ من أرض الجزية في عصر الإمام الصادق «ع» هي الصدقة المضاعفة التي كانت توضع على بعض القبائل عوضا عن جزية الرؤوس. و يظهر من الحديث أن هذا كان ثابتا من عصر الرسول «ص» بالمصالحة معه، و انسباق نفي الجمع من الحديث بدوا قد مرّ الجواب عنه و أن المراد عدم جواز التخلف عما عقد عليه لا عدم جواز الجمع بينهما في متن العقد. بل المستفاد من قوله «ع»: «عليهم ما أجازوا على أنفسهم» و قوله: «هذا شي ء كان صالحهم عليه رسول اللّه «ص»،» هو صحة العقد معهم عليهما معا أيضا باختيارهم و رضاهم، إذ بعد ما لم يكن لها حدّ في ناحية الكثرة كما مرّ و أن اختيارها إلى الإمام فأيّ فرق بين أن يضع القدر المختار على الأراضي أو على الرؤوس أو يوزّعه عليهما؟ و المستفاد من خبر مصعب بن يزيد السابق أيضا جواز الجمع، إذ لم يقيد أمير المؤمنين «ع» فيمن أمر بوضع الجزية على رءوسهم بأقسامه أن لا يكون في أيديهم أرض الجزية، و قد تعرض في الحديث لخراج الأراضي و جزية الرؤوس معا، فتأمّل.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 436

3- و عن الصدوق، قال: قال الرضا «ع»: «إن بني تغلب أنفوا من الجزية و سألوا عمر أن يعفيهم، فخشي أن يلحقوا بالروم فصالحهم على أن صرف ذلك عن رءوسهم و ضاعف عليهم الصدقة، فعليهم ما صالحوا عليه و رضوا به إلى أن يظهر الحقّ.» «1»

و ظاهر هذا الخبر

أيضا أن الملاك في عصر الهدنة و التقية، هو ما صالحوا عليه و رضوا به، فليس فيه موظف خاصّ. نعم، يتراءى من الحديث أن هذا الحكم ثانوي موسمي لا أولي دائم، فتدبّر.

و العلامة في المنتهى قوّى جواز الجمع فقال:

«و يتخير الإمام في وضع الجزية إن شاء على رءوسهم و إن شاء على أرضيهم.

و هل يجوز له أن يجمع بينهما فيأخذ منهم عن رءوسهم شيئا و عن أرضهم شيئا؟

قال الشيخان و ابن إدريس: لا يجوز ذلك، بل له أن يأخذ من أيّهما شاء.

و قال أبو الصلاح: يجوز الجمع بينهما، و هو الأقوى عندي.

لنا أن الجزية غير مقدرة في طرفي الزيادة و النقصان على ما تقدم، بل هي موكولة إلى نظر الإمام، فجاز له أن يأخذ من أرضيهم و رءوسهم كما يجوز له أن يضعف الجزية التي على رءوسهم في الحول الثاني، و لأن ذلك أنسب بالصغار.» «2»

و لكنه قرب في جهاد المختلف خلاف ذلك و إن رجع عنه في آخر كلامه فقال فيه:

«و هل له الجمع؟ قال الشيخ في النهاية: لا، و به قال ابن حمزة و ابن إدريس.

و جوز ابن الجنيد الجمع، و هو اختيار أبي الصلاح. و الأقرب الأول.

لنا ما رواه ابن بابويه في الصحيح عن محمد بن مسلم ... احتج الآخرون بأن الجزية لا حدّ لها، فجاز أن يضع قسطا على رءوسهم و قسطا على أرضهم.

و الجواب ليس النزاع في تقسيط الجزية على الرأس و الأرض بل وضع جزيتين عليهما، و بالجملة فلا بأس بهذا القول.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 6.

(2)- المنتهى 2/ 966.

(3)- المختلف 1/ 334.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص:

437

أقول: عبارة النهاية قد مرّت، و ليس فيها تصريح بعدم جواز الجمع ابتداء كما مرّ، و في المقنعة لم يفت بشي ء و إنما اقتنع بذكر الأخبار التي مرّت. «1» و صحيحة محمد بن مسلم مرّ بيانها.

و قال في الجواهر ما محصله:

«أن عقد الذمة شي ء و تقدير الجزية أمر آخر، ضرورة أن عقد الذمة عبارة عن العهد لهم بالأمان و سكنى أراضي المسلمين بالجزية التي يبقى تقديرها إلى الإمام في كل سنة على حسب ما يراه من المصلحة كمّا و كيفا و له في الابتداء تقديرها على رءوسهم أو على أراضيهم أو غير ذلك أو على الجميع. و ظاهر المختلف المفروغية من جواز تقسيط الجزية عليهما و أن النزاع في الجزيتين، و لكنه كلام مجمل، إذ من المعلوم عدم مدخلية النية في ذلك، فإن شئت سميتها تقسيطا و إن شئت سميتها جزيتين، على معنى إيقاع العقد عليهما ابتداء بالرضا من الإمام و منهم. نعم، من المعلوم عدم مشروعية جزية أخرى بعد عقدها على أحدهما فإن التعدي عما اقتضاه العقد غير جائز إجماعا و يكون أكلا للمال بالباطل.» «2»

أقول: الظاهر صحة ما ذكر في الجواهر و يظهر وجهه مما مرّ، فتدبّر.

و الظاهر عدم الخصوصية للأرض، فيجوز وضعها على الأنعام و السيّارات و نحوها من الممتلكات، لما مرّ من العمومات و الإطلاقات.

______________________________

(1)- المقنعة/ 44.

(2)- الجواهر 21/ 250 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 438

الجهة الخامسة: في جواز مضاعفة الصدقة عليهم جزية:

قد مرّ سابقا أن في ثبوت الجزية على أهل الكتاب لا فرق عندنا بين العرب منهم و العجم.

و مرّ آنفا أنه لا يتعين وضعها على الرؤوس فيجوز وضعها على الأراضي أو على كليهما حسب ما يراه الإمام من المصلحة.

إذا عرفت هذا فنقول: من الممكن أن يكون ذلك بمضاعفة الصدقة عليهم فتكون هذه جزية لا صدقة، و على هذا يحمل ما مرّ عن الرضا «ع» من مضاعفة عمر الصدقة على بني تغلب.

بل و عليه يحمل أيضا الخمس الذي

كان يؤخذ من أرض الجزية على ما في صحيحة محمد بن مسلم السابقة. و هذا تابع للمصلحة التي يراها الإمام بحسب الزمان و المكان و الظروف و الشرائط، فلا يكون حكما دائما لا يجوز التخلف عنه كما قد يتوهم خلافا لأكثر فقهاء السنة:

قال العلامة في التذكرة:

«مسألة: بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، و انتقل أيضا من العرب قبيلتان أخريان و هم تنوخ و بهراء، فصارت القبائل الثلاثة من أهل الكتاب تؤخذ منهم الجزية كافة كما تؤخذ من غيرهم، و به قال علي «ع» و عمر بن عبد العزيز لأنهم أهل كتاب فيدخلون تحت عموم الأمر بأخذ الجزية من أهل الكتاب.

و قال أبو حنيفة: لا تؤخذ منهم الجزية، بل تؤخذ منهم الصدقة مضاعفة فيؤخذ من كل خمس من الإبل شاتان، و يؤخذ من كل عشرين دينارا دينار، و من كل مأتي

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 439

درهم عشرة دراهم، و من كل ما يجب فيه نصف العشر العشر، و ما يجب فيه العشر الخمس، و به قال الشافعي و ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح بن حي و أحمد بن حنبل، لأن عمر ضعف الصدقة عليهم.

و هي حكاية حال لا عموم لها، فجاز أن تكون المصلحة للمسلمين في كفّ أذاهم بذلك، و لأنه كان يأخذ جزية لا صدقة و زكاة، و لأنه يؤدي إلى أن يأخذ أقلّ من دينار بأن تكون صدقته أقل من ذلك، و لأنه يلزم أن يقيم بعض أهل الكتاب في بلد الإسلام مؤبدا بغير عوض بأن لا يكون له زرع و لا ماشية.

و روى العامة عن

علي «ع» أنه قال: «لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي:

لأقتلن مقاتلتهم و لأسبين ذراريهم، فقد نقضوا العهد و برئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم.» «1» و ذكر نحو ذلك في المنتهى. «2»

و في مختصر الخرقي في فقه الحنابلة:

«و لا تؤخذ الجزية من نصارى بني تغلب، و تؤخذ الزكاة من أموالهم و مواشيهم و ثمرهم مثلي ما يؤخذ من المسلمين.»

و قال في المغنى في شرح العبارة:

«بنو تغلب بن وائل من العرب من ربيعة بن نزار انتقلوا في الجاهلية إلى النصرانية، فدعاهم عمر إلى بذل الجزية فأبوا و أنفوا و قالوا: نحن عرب، خذ منّا كما يأخذ بعضكم من بعض باسم الصدقة، فقال عمر: لا آخذ من مشرك صدقة، فلحق بعضهم بالروم فقال النعمان بن زرعة: يا أمير المؤمنين، إن القوم لهم بأس و شدة و هم عرب يأنفون من الجزية فلا تعن عليك عدوّك بهم و خذ منهم الجزية باسم الصدقة، فبعث عمر في طلبهم فردّهم و ضعف عليهم من الإبل من كل خمس شاتين، و من كل ثلاثين بقرة تبيعين، و من كل عشرين دينارا دينارا، و من كل مأتي درهم عشرة دراهم. و فيما سقت السماء الخمس، و فيما سقي بنضح أو غرب أو دولاب العشر، فاستقر ذلك من قول عمر و لم يخالفه أحد من الصحابة فصار إجماعا، و قال

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 439.

(2)- المنتهى 2/ 962.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 440

به الفقهاء بعد الصحابة منهم ابن أبي ليلى و الحسن بن صالح و أبو حنيفة و أبو يوسف و الشافعي.

و يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه أبى على نصارى بني تغلب إلا

الجزية، و قال: لا و اللّه إلا الجزية، و إلا فقد آذنتكم بالحرب، و الحجة لهذا عموم الآية فيهم. و روي عن علي «ع» أنه قال: «لئن تفرغت لبني تغلب ليكونن لي فيهم رأي: لأقتلن مقاتلتهم و لأسبين ذراريّهم، فقد نقضوا العهد و برئت منهم الذمة حين نصروا أولادهم.» و ذلك أن عمر صالحهم على أن لا ينصروا أولادهم. و العمل على الأول لما ذكرنا من الإجماع. و أما الآية فإن هذا المأخوذ منهم جزية باسم الصدقة، فإن الجزية يجوز أخذها من العروض.» «1»

أقول: الحديث الذي رواه العلامة و ابن قدامة عن علي «ع» رواه عنه أبو عبيد في كتاب الأموال، فراجع. «2»

و ملخص ما ذكره ابن قدامة أنه يتعين العمل بما صنعه عمر من تضعيف الصدقة على بعض قبائل العرب، و تكون جزية لا صدقة، و ظاهر العلامة على ما مرّ إفتاء الفقهاء بذلك صدقة و زكاة. و نحن نقول بجواز ذلك إذا رآه الإمام مصلحة و لكنه لا دليل على تعينه. و مجرد عمل عمر في عصره في طوائف خاصة ليس حجة شرعية يؤخذ بها في جميع الأعصار.

و كيف كان فهي جزية كما ذكر لا صدقة، و به قال الشافعي أيضا، فلا تؤخذ من النساء و الصبيان و المجانين و نحوهم ممن تسقط عنهم الجزية، و مصرفها أيضا مصرف الجزية.

قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«فإن صولحوا على مضاعفة الصدقة عليهم ضوعفت، كما ضاعف عمر بن الخطاب مع تنوخ و بهراء و بني تغلب بالشام. و لا تؤخذ من النساء و الصبيان، لأنها جزية تصرف في أهل الفي ء فخالفت الزكاة المأخوذة من النساء و الصبيان، فإن جمع بينها

______________________________

(1)- المغني 10/ 590.

(2)- الأموال/ 37.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 441

و بين الجزية أخذتا معا، و إن اقتصر عليها وحدها كانت جزية إذا لم تنقص في السنة عن دينار.» «1» و الماوردي شافعي المذهب.

و بالجملة، فأمر الجزية كمّا و كيفا إلى إمام المسلمين، من غير فرق بين العرب و العجم و بني تغلب و غيرهم. و لا يتعين ما صنعه عمر في عصره.

نعم، قد مرّ منا في بحث الخمس أن الذمي إذا اشترى من مسلم أرضا عشرية ضوعف عليه العشر فأخذ منه الخمس، و على هذا حملنا حكم الخمس المذكور في صحيحة أبي عبيدة الحذاء، خلافا للمشهور بين أصحابنا من حملها على خمس رقبة الأرض التي اشتراها الذمّي من مسلم، فراجع تلك المسألة.

و الظاهر أن هذا الخمس غير الجزية التي تؤخذ من كل ذمي، بل هو في الحقيقة غرامة اشترائه لأرض عشرية. و على هذا فيؤخذ هذا الخمس من النساء أيضا بل و الصبيان إن قيل بتعلق الزكاة بهم. و مصرفه أيضا مصرف الزكاة.

و يحتمل بعيدا أن يكون هذا الخمس أيضا من قبيل الجزية، فيترتّب عليه أحكامها.

و المسألة تحتاج إلى دقة أكثر.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 144.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 442

الجهة السادسة: في جواز اشتراط الضيافة على أهل الذمة:
[كلمات العلماء]

1- قال في المبسوط:

«يجوز أن يشرط عليهم ضيافة من مرّ بهم من المسلمين مجاهدين و غير مجاهدين، لأن النبي «ص» ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار و أن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين ثلاثا و لا يغشوا.

فإذا ثبت ذلك احتاج إلى شرطين: أحدهما: أن يكون ذلك زائدا على أقلّ ما يجب عليهم من الجزية ...

و الشرط الثاني أن يكون معلوما لأنه لا يصح العقد على مجهول، و يصير معلوما

بأن يكون عدد أيام الضيافة من الحول معلومة ... و يكون عدد من يضاف معلوما ...

؟؟؟ يكون القوت معلوما و لكل رجل كذا و كذا رطلا من الخبز و كذا من الأدم من لحم و جبن و سمن و زيت و شيرج و يكون مبلغ الأدم معلوما، و يكون علف الدواب معلوما ... و مبلغ الضيافة ثلاثة أيام، لما تضمنه الخبر و ما زاد عليه فهو مكروه. فأما موضع النزول فينبغي أن يكون في فضول منازلهم و بيعهم و كنائسهم ...» «1»

2- و في الشرائع:

«و يجوز أن يشترط عليهم مضافا إلى الجزية ضيافة مارة العساكر، و يحتاج أن تكون الضيافة معلومة، و لو اقتصر على الشرط وجب أن يكون زائدا عن أقل مراتب الجزية.» «2»

3- و في المسالك:

«و كما يجوز اشتراط ضيافة مارّة العساكر يجوز اشتراط ضيافة مطلق المارّة من

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 38.

(2)- الشرائع 1/ 329 (ط. أخرى/ 251).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 443

المسلمين، بل هذا هو المشهور في الأخبار و الفتاوى و هو الذي شرطه النبي «ص».» «1»

4- و في التذكرة:

«يجوز أن يشترط عليهم في عقد الذمة ضيافة من يمرّ بهم من المسلمين إجماعا بل يستحب، لأن النبي «ص» ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار- و كانوا ثلاثمائة نفر- في كل سنة، و أن يضيفوا من يمرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام و لا يغشّوا مسلما. و شرط على نصارى نجران إقراء رسله عشرين ليلة فما دونها و عارية ثلاثين فرسا و ثلاثين بعيرا و ثلاثين درعا مضمونة إذا كان حدث باليمن. و لأن الحاجة تدعو إليه، و ربما امتنعوا من مبايعة المسلمين معاندة و إضرارا.

و لو

لم يشترط الضيافة لم تكن واجبة، و به قال الشافعي، للأصل و لأن أصل الجزية إنما تثبت بالتراضي فالضيافة أولى.

و قال بعض العامة: تجب بغير شرط. و تجوز لجميع الطارقين و لا تختص بأهل الفي ء خلافا لبعض الشافعية أنه لا يجوز لغير المجاهدين ...» «2»

و ذكر نحو ذلك في المنتهى أيضا، فراجع. «3»

[الأخبار]

أقول: و يدلّ على المسألة- مضافا إلى عمومات العقود و الشروط و أن تقدير الجزية كمّا و كيفا إلى الإمام كما مرّ، و الضيافة جزء منها- أخبار كثيرة حاكية عن عمل النبي «ص» و الخلفاء بعده بلا ردع و اعتراض من الصحابة:

1- ففي سنن البيهقي بسنده، عن أبي الحويرث: «أن النبي «ص» ضرب على نصارى أيلة ثلاثمائة دينار كل سنة، و أن يضيفوا من مرّ بهم من المسلمين ثلاثا و أن لا يغشّوا مسلما.» «4»

______________________________

(1)- المسالك 1/ 158.

(2)- التذكرة 1/ 441.

(3)- المنتهى 2/ 966.

(4)- سنن البيهقي 9/ 195، كتاب الجزية، باب كم الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 444

2- و فيه أيضا بسنده، عن عقبة بن عامر، قال: قلنا: يا رسول اللّه، إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقروننا فما ترى؟ فقال رسول اللّه «ص»: «إن نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا، فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم.» رواه البخاري و مسلم. «1»

3- و فيه أيضا بسنده، عن أبي كريمة، سمع النبي «ص» يقول: «ليلة الضيف حق على كل مسلم. من أصبح الضيف بفنائه فهو عليه حق، أو قال: دين، إن شاء اقتضاه و إن شاء تركه.» «2»

أقول: و ظاهر هاتين الروايتين ثبوت حق النزول و الضيافة حتى على المسلمين، و حتى

مع عدم الاشتراط، بحيث يجوز إجبار الشخص عليه، و لكن الالتزام بذلك مشكل و لا سيما بالنسبة إلى المسلم.

4- و فيه أيضا بسنده، عن أبي سعيد: أن النبي «ص» قال: «حق الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد على ذلك فهو صدقة.» و روى نحو ذلك بسنده، عن أبي هريرة عنه «ص» أيضا. «3»

5- و في قرب الإسناد، عن مسعدة بن زياد، عن جعفر، عن أبيه: «أن رسول اللّه «ص» أمر بالنزول على أهل الذمّة ثلاثة أيام.» «4»

6- و فيه أيضا، عن أبي البختري، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، قال: «ينزل المسلمون على أهل الذمة في أسفارهم و حاجاتهم، و لا ينزل المسلم على المسلم إلا بإذنه.» «5»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في ضيافة من نزل به.

(2)- سنن البيهقي 9/ 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في ضيافة من نزل به.

(3)- سنن البيهقي 9/ 197، كتاب الجزية، باب ما جاء في ضيافة من نزل به.

(4)- قرب الإسناد/ 39.

(5)- قرب الإسناد/ 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 445

7- و في البيهقي أيضا بسنده، عن أسلم: «أن عمر بن الخطاب ضرب الجزية على أهل الذهب أربعة دنانير، و على أهل الورق أربعين درهما، و مع ذلك أرزاق المسلمين و ضيافة ثلاثة أيام.» «1»

8- و فيه أيضا بسنده، عن الأحنف بن قيس: «أن عمر بن الخطاب كان يشترط على أهل الذمة ضيافة يوم و ليلة و أن يصلحوا قناطر، و إن قتل بينهم قتيل فعليهم ديته.» «2»

أقول: و الأخبار في هذا المجال كثيرة، و يظهر من بعضها أنه ربما كان يشرط الزيت و العسل و نحوهما.

و لا يخفى أن

مثل الضيافة و التصرف في مثل الزيت و العسل و نحوهما يوجب غالبا المس بالأيادي، فلأحد أن يستشهد بهذه الأخبار أيضا على أن طهارة أهل الكتاب ذاتا كانت مفروغا عنها عند المسلمين، فتأمّل.

و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«و إذا صولحوا على ضيافة من مرّ بهم من المسلمين قدّرت عليهم ثلاثة أيام و أخذوا بها لا يزادون عليها، كما صالح عمر نصارى الشام على ضيافة من مرّ بهم من المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون، و لا يكلفهم ذبح شاة و لا دجاجة، و تبييت دوابهم من غير شعير. و جعل ذلك على أهل السواد دون المدن. فإن لم يشترط عليهم الضيافة و مضاعفة الصدقة فلا صدقة عليهم في زرع و لا ثمر، و لا يلزمهم إضافة سائل و لا سابل.» «3»

أقول: و للمسألة فروع كثيرة أدرجناها، فمن شاء فليراجع مظانّها.

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 197، كتاب الجزية، باب الضيافة في الصلح.

(2)- سنن البيهقي 9/ 197، كتاب الجزية باب الضيافة في الصلح.

(3)- الأحكام السلطانية/ 144.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 446

الجهة السابعة: في أنه لا يؤخذ منهم سوى الجزية و ما اشترط عليهم في عقد الذمة شي ء آخر من زكاة و غيرها:

أقول: الظاهر أن ضريبة أهل الجزية تنحصر في الجزية الموضوعة عليهم بكمها و كيفها و ما اشترط عليهم في عقد الذمة، فليس عليهم بعدها شي ء.

بل الظاهر من الأخبار و الفتاوى سقوط الزكاة أيضا عنهم، و إن ثبت عندنا كون الكفار مكلفين بالفروع أيضا كما حققناه في كتاب الزكاة، فراجع «1»:

1- ففي صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» في أهل الجزية يؤخذ من أموالهم و مواشيهم شي ء سوى الجزية؟ قال: لا. «2»

2- و عن المقنعة، عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «إذا أخذت الجزية من أهل الكتاب فليس على

أموالهم و مواشيهم شي ء بعدها.» «3»

و الظاهر اتحاد الخبرين و كون الثاني نقلا بالمعنى و المضمون، كما هو سيرة الفقهاء في كتبهم الفقهية.

و الظاهر منهما نفي الزكاة عنهم. اللّهم إلّا أن يقال بعدم دلالتهما على نفي الزكاة عن الغلات، إذ الظاهر من الأموال خصوص النقود، فتدبّر.

3- و قد مرّ في صحيحة محمد بن مسلم السابقة، عن أبي عبد اللّه «ع» قوله:

______________________________

(1)- كتاب الزكاة 1/ 125 و ما بعدها.

(2)- الوسائل 11/ 115، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(3)- الوسائل 11/ 116، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 447

«و ليس للإمام أكثر من الجزية، إن شاء الإمام وضع ذلك على رءوسهم، و ليس على أموالهم شي ء، و إن شاء فعلى أموالهم و ليس على رءوسهم شي ء.» فقلت: فهذا الخمس؟ فقال: «إنما هذا شي ء كان صالحهم عليه رسول اللّه «ص».» «1»

أقول: قد مرّ أن المراد بالخمس هنا هو الزكاة المضاعفة، فيجوز مطالبتها إن شرطت في عقد الذمة و تكون في الحقيقة بعنوان الجزية، نظير ما وضعه عمر على بني تغلب حين أنفوا من جزية الرؤوس.

و من هذا القبيل أيضا على الظاهر جعل رسول اللّه «ص» العشر و نصف العشر على أهل خيبر بعد تقبيلهم أراضيها، كما دلّ عليه صحيحة صفوان و البزنطي و خبر البزنطي أيضا، فراجع. «2»

4- و في معاهدة النبي «ص» مع نصارى نجران: «بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ. هذا ما كتب محمد النبي رسول اللّه «ص» لأهل نجران: إذا كان عليهم حكمه في كل ثمرة، و في كل صفراء و بيضاء و رقيق- فأفضل ذلك عليهم و ترك ذلك كله لهم- على

ألفي حلّة من حلل الأواقي:

في كل رجب ألف حلّة، و في كل صفر ألف حلّة. الحديث.» «3»

و الحلل وضعت عليهم جزية كما مرّ.

و في الأموال: «كل حلة أوقية، ما زاد الخراج أو نقص فعلى الأواقي فليحسب.»

5- و في دعائم الإسلام: «و نهى رسول اللّه «ص» عن التعدي على المعاهدين.» «4»

6- و فيه أيضا: «روينا عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن آبائه، عن علي «ع»، عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «لا تقوم الساعة حتى يؤكل المعاهد كما توكّل الخضر.» «5» و رواهما عنه في المستدرك. «6»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- راجع الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1 و 2.

(3)- الوثائق السياسيّة/ 175، الرقم 94؛ و في الأموال/ 244 بتفاوت.

(4)- دعائم الإسلام 1/ 380، كتاب الجهاد- ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(5)- دعائم الإسلام 1/ 380، كتاب الجهاد- ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(6)- مستدرك الوسائل 2/ 267، الباب 56 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5 و 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 448

7- و في سنن البيهقي بسنده، عن العرباض بن سارية السلمي، قال: نزلنا مع النبي «ص» خيبر، و معه من معه من أصحابه، و كان صاحب خيبر رجلا ماردا منكرا، فأقبل إلى النبي «ص» فقال: يا محمد، أ لكم أن تذبحوا حمرنا و تأكلوا ثمارنا و تضربوا نساءنا؟ فغضب النبي «ص» و قال: «يا بن عوف، اركب فرسك ثم ناد: أن الجنة لا تحلّ إلا لمؤمن، و أن اجتمعوا للصلاة.» قال: فاجتمعوا ثم صلّى بهم النبي «ص» ثم قام فقال: «أ يحسب أحدكم متكئا

على أريكته قد يظنّ أن اللّه- عزّ و جلّ- لم يحرّم شيئا إلا ما في هذا القرآن؟ ألا و إنّي و اللّه قد أمرت و وعظت و نهيت عن أشياء إنها لمثل القرآن أو أكثر. و إن اللّه- عزّ و جلّ- لم يحلّ لكم أن تدخلوا بيوت أهل الكتاب إلا بإذن و لا ضرب نسائهم و لا أكل ثمارهم إذا أعطوكم الذي عليهم.» «1»

أقول: و في الحديث ردّ على من قال أو يقول: حسبنا كتاب اللّه، و روايات أئمتنا «ع» حاكية لما وصل إليهم عن النبي «ص»، كما مرّ بيانه في بعض الأبحاث السابقة.

8- و فيه أيضا بسنده، عن رجل من جهينة من أصحاب النبي «ص»، قال:

قال رسول اللّه «ص»: «إنكم لعلكم تقاتلون قوما و تظهرون عليهم فيفادونكم بأموالهم دون أنفسهم و أبنائهم و تصالحوهم على صلح، فلا تصيبوا منهم فوق ذلك، فإنه لا يحلّ لكم.» «2»

9- و فيه أيضا بسنده، عن رسول اللّه «ص»، قال: «ألا من ظلم معاهدا و انتقصه و كلّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة.- و أشار رسول اللّه «ص» بإصبعه إلى صدره- ألا و من قتل معاهدا له ذمة اللّه و ذمة رسوله حرم اللّه عليه ريح الجنة، و إن ريحها لتوجد من مسيرة سبعين خريفا.» «3»

10- و في خراج أبي يوسف قال: و حدثني بعض المشايخ المتقدمين يرفع

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 204، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ...

(2)- سنن البيهقي 9/ 204، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من ثمار أهل الذمة ...

(3)- سنن البيهقي 9/ 205، كتاب الجزية، باب لا يأخذ المسلمون من

ثمار أهل الذمة ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 449

الحديث إلى النبي «ص» أنه ولّى عبد اللّه بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولّى من عنده ناداه فقال: «ألا من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار في هذا المجال.

أقول: و إذا كان هذا حال من أخذ من أموال أهل الذمة بغير طيب أنفسهم فكيف حال من توغّل في دماء المسلمين و أموالهم و أعراضهم بلا توقّ و احتياط بمجرد الأحاسيس النفسية و التوهمات و الإلقاءات، اللّهم فأعذنا من موجبات سخطك و عذابك.

نعم، لو كان غاصبا للأموال العامة جاز استردادها بالمصادرة بل وجب، كما مرّ تفصيله في محلّه. هذا.

11- و في كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن الحسن، قال:

«ليس على أهل الذمة صدقة في أموالهم، و ليس عليهم إلا الجزية.» «2»

12- و في باب أحكام الأرضين من النهاية قال:

«و الضرب الثالث: كلّ أرض صالح أهلها عليها، و هي أرض الجزية، يلزمهم ما يصالحهم الإمام عليه من النصف أو الثلث أو الرابع، و ليس عليهم غير ذلك.» «3»

13- و في المبسوط في نصارى العرب قال:

«و ينبغي أن تؤخذ منهم الجزية، و لا تؤخذ منهم الزكاة، لأن الزكاة لا تؤخذ إلا من مسلم.» «4»

14- و في موطأ مالك:

«و لا صدقة على أهل الكتاب و لا المجوس في شي ء من أموالهم و لا من مواشيهم

______________________________

(1)- الخراج/ 125.

(2)- الأموال/ 119.

(3)- النهاية/ 195.

(4)- المبسوط 2/ 50.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 450

و لا ثمارهم و لا زروعهم، مضت بذلك السنّة.»

«1»

15- و في خراج أبي يوسف:

«و ليس في شي ء من أموالهم- الرجال منهم و النساء- زكاة إلا ما اختلفوا به في تجارتهم، فإن عليهم نصف العشر.» «2»

أقول: أراد بذلك تضعيف زكاة مال التجارة، كما لا يخفى.

16- و قد مرّ عن الماوردي قوله:

«فإن لم يشترط عليهم الضيافة و مضاعفة الصدقة فلا صدقة عليهم في زرع و لا ثمر، و لا يلزمهم إضافة سائل و لا سابل.» «3»

إلى غير ذلك من الكلمات التي يعثر عليها المتتبع، و قد تعرضنا للمسألة إجمالا في كتابنا في الزكاة، فراجع. «4»

______________________________

(1)- موطأ مالك 1/ 208، كتاب الزكاة، جزية أهل الكتاب و المجوس.

(2)- الخراج/ 123.

(3)- الأحكام السلطانية/ 145.

(4)- كتاب الزكاة 1/ 133.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 451

الجهة الثامنة: في جواز أخذ الجزية من ثمن الخمور و الخنازير و نحوهما من المحرّمات:

1- قال الشيخ في النهاية:

«و لا بأس أن تؤخذ الجزية من أهل الكتاب مما أخذوه من ثمن الخمور و الخنازير و الأشياء التي لا يحلّ للمسلمين بيعها و التصرف فيها.» «1»

2- و في المختلف:

«لا بأس بأخذ الجزية من ثمن المحرمات و عليه علماؤنا، و به قال ابن الجنيد و لكنه قال: و لو علم المسلمون بأن الذميّ أدّاها من ثمن خمر جاز ذلك منه، لا من حوالة على المبتاع للخمر منه. و الأقرب أنه لا فرق بين الحوالة و بين قبضه منه، عملا بالعموم الدالّ على جواز الأخذ من ثمن المحرمات.» «2»

3- و الأصل في المسألة ما رواه في الوسائل بسند صحيح، عن محمد بن مسلم، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن صدقات أهل الذمة و ما يؤخذ من جزيتهم من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتتهم، قال: «عليهم الجزية في أموالهم، تؤخذ من ثمن لحم الخنزير أو

خمر، فكل ما أخذوا منهم من ذلك فوز ذلك عليهم و ثمنه للمسلمين حلال يأخذونه في جزيتهم.» «3»

4- و فيه أيضا، عن المفيد في المقنعة، قال: و روى محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سأله عن خراج أهل الذمّة و جزيتهم إذا أدّوها من ثمن خمورهم

______________________________

(1)- النهاية/ 194.

(2)- المختلف 1/ 335.

(3)- الوسائل 11/ 117، الباب 70 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 452

و خنازيرهم و ميتتهم أ يحلّ للإمام أن يأخذها و يطيب ذلك للمسلمين؟ فقال:

«ذلك للإمام و المسلمين حلال، و هي على أهل الذمة حرام و هم المحتملون لوزره.» «1»

و من المحتمل اتحاد الروايتين، لاتحاد الراوي و المروي عنه و المضمون، و كان بناء الفقهاء في كتبهم الفقهية على نقل الروايات بمضامينها.

و المقصود بالصدقات في الرواية الأولى الصدقات المضاعفة أو المستحبة أو الخراج المجعول على أراضيهم، حيث إنه يشبه صدقة العشر، و يشهد لذلك رواية المقنعة، فتأمّل.

5- و في دعائم الإسلام: «و عن جعفر بن محمد «ع» «أنه رخص في أخذ الجزية من أهل الذمّة من ثمن الخمر و الخنزير، لأن أموالهم كذلك أكثرها من الحرام و الربا.» «2» و رواه عنه في المستدرك. «3»

6- و في كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن سويد بن غفلة «أن بلالا قال لعمر بن الخطاب: إن عمالك يأخذون الخمر و الخنازير في الخراج؟ فقال:

لا تأخذوا منهم، و لكن ولّوهم بيعها و خذوا أنتم من الثمن.» «4»

قال ابن قدامة في المغني بعد نقل الخبر:

«و يجوز أخذ ثمن الخمر و الخنزير منهم على جزية رءوسهم و خراج أرضهم، احتجاجا بقول عمر هذا، و لأنها من

أموالهم التي نقرّهم على اقتنائها و التصرف فيها، فجاز أخذ أثمانها منهم كثيابهم.» «5»

أقول: و مقتضى بعض الأخبار أنه يجوز لأنفسهم أيضا بعد ما أسلموا ترتيب آثار

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 381، كتاب الجهاد- ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 267، الباب 58 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(4)- الأموال/ 62.

(5)- المغني 10/ 601.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 453

الصحة على هذا السنخ من المعاملات الواقعة منهم حال الكفر: ففي خبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن رجلين نصرانيين باع أحدهما خمرا أو خنزيرا إلى أجل فأسلما قبل أن يقبضا الثمن هل يحلّ له ثمنه بعد الإسلام؟ قال: «إنما له الثمن فلا بأس أن يأخذه.» «1»

و قد وردت أخبار مستفيضة تدلّ على جواز اقتضاء الرجل ماله الذي في عهدة غيره من ثمن الخمر و الخنزير، و أكثرها مطلقة و إن كان المذكور في بعضها خصوص الذمي، فراجع الوسائل. «2»

فمن جملة هذه الأخبار صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» في رجل كان له على رجل دراهم فباع خمرا و خنازير و هو ينظر فقضاه؟ فقال: «لا بأس به، أمّا للمقتضي فحلال، و أمّا للبائع فحرام.»

و في صحيحة زرارة، عن أبي عبد اللّه «ع»: «في الرجل يكون لي عليه الدراهم فيبيع بها خمرا و خنزيرا ثم يقضي منها؟ قال: لا بأس، أو قال: خذها.»

إلى غير ذلك من الأخبار.

و كون موضوع السؤال في بعضها الذمي لا يوجب حمل المطلقات عليه لعدم التنافي.

اللهم إلا أن يقال: إن بيع الخمر و

الخنزير في البلاد الإسلامية في تلك الأعصار لم يكن يصدر إلا من أهل الذمة. هذا.

و نظير هذا الباب ما ورد في جواز بيع المختلط بالميتة ممن يستحلّها، كصحيحة الحلبي، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «إذا اختلط الذكي و الميتة باعه ممن يستحلّ الميتة و أكل ثمنه.» و نحو ذلك صحيحته الأخرى عنه «ع»، فراجع. «3»

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 172، الباب 61 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2)- راجع الوسائل 12/ 171، الباب 60 من أبواب ما يكتسب به.

(3)- راجع الوسائل 12/ 67 و 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1 و 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 454

و من هذا القبيل أيضا ما ورد في بيع العجين بالماء النجس ممن يستحلّ الميتة:

ففي خبر حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» في العجين من الماء النجس كيف يصنع به؟ قال: «يباع ممن يستحلّ الميتة.» «1»

و السند إلى حفص صحيح، و الراوي عن حفص، ابن أبي عمير.

و لا يخفى أن الخمر و الخنزير لا ماليّة لهما عند المسلمين و تكون المعاملة عليهما باطلة، فيستفاد من هذه الأخبار الكثيرة جواز إلزام الكفّار بما ألزموا به أنفسهم من صحّة المعاملة عليهما و أخذ ثمنهما، و كذلك الميتة و نحوها.

و لعلّه ينفتح من ذلك باب واسع يمكن أن تنتفع به الدول المسلمة في معاملاتهم مع الدول الأجنبية الكافرة، فتدبّر.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 68، الباب 7 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 455

الجهة التاسعة: فيما إذا مات الذمّي أو أسلم:

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 11):

«إذا وجبت الجزية على الذمي بحول الحول ثم

مات أو أسلم قال الشافعي:

لم تسقط. و قال أبو حنيفة: تسقط. و قال أصحابنا: إن أسلم سقطت، و لم يذكروا الموت.

و الذي يقتضيه المذهب: أنه إذا مات لا تسقط عنه، لأن الحق واجب عليه فيؤخذ من تركته، و به قال مالك.

و أمّا الدليل على أنها تسقط بالإسلام فقوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» فشرط في إعطائها الصغار، و هذا لا يمكن مع الإسلام، فيجب أن تسقط. و أيضا قوله «ص»: «الإسلام يجبّ ما قبله» يفيد سقوطها، لأن عمومه يقتضي ذلك.

و روي عنه «ع» أنه قال: «لا جزية على مسلم.» و ذلك على عمومه في الإعطاء و الوجوب.» «1»

2- و في النهاية:

«و من وجبت عليه الجزية و حلّ الوقت فأسلم قبل أن يعطيها سقطت عنه و لم يلزمه أداؤها.» «2»

3- و في المبسوط:

«و إذا أسلم الذمّي بعد الحول سقطت عنه الجزية، و إن مات لم تسقط عنه و تؤخذ

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 239.

(2)- النهاية/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 456

من تركته، فإن لم يترك شيئا فلا شي ء على ورثته. و إن أسلم و قد مضى بعض الحول فلا يلزمه شي ء؛ مثل ذلك. و إن مات قبل الحول لا يجب أخذها من تركته، لأنها إنما تجب بحئول الحول، و ما حال.» «1»

4- و في المنتهى:

«إذا مات الذمّي بعد الحول لم تسقط عنه الجزية و أخذت من تركته، و به قال الشافعي و مالك. و قال أبو حنيفة: تسقط، و هو قول عمر بن عبد العزيز. و عن أحمد روايتان ... لو مات في أثناء الحول ففي مطالبته بالقسط نظر؛ أقربه المطالبة، و به قال ابن الجنيد، لأن

الجزية معاوضة عن المساكنة و حقن الدم و إنما أخرنا المطالبة إرفاقا ...

إذا أسلم الذمّي قبل أداء الجزية فإن كان في أثناء الحول سقطت عنه الجزية إجماعا منّا. و إن أسلم بعد حولان الحول ففيه قولان: أحدهما تسقط عنه أيضا ذهب إليه الشيخان و ابن إدريس و أكثر علمائنا، و به قال مالك و الثوري و أبو عبيد و أحمد و أصحاب الرأي. و الثاني لا تسقط، اختاره الشيخ «ره» في الخلاف و به قال الشافعي و أبو ثور و ابن المنذر.» «2»

أقول: ما حكاه عن الخلاف لم نجده فيه بل مرّ عن الخلاف خلافه، اللّهم إلا أن يقال: إن نسبته إلى أصحابنا لا تدلّ على موافقته بل تشعر بمخالفته.

5- و في الشرائع:

«و إذا أسلم قبل الحول أو بعده قبل الأداء سقطت الجزية على الأظهر. و لو مات بعد الحول لم تسقط و أخذت من تركته كالدين.» «3»

6- و في الجواهر بعد قول المصنف: «على الأظهر» قال:

«بل لا أجد فيه خلافا في الأول، بل في المنتهى و محكي التذكرة الإجماع عليه و هو الحجة، مضافا إلى ما تسمعه في الثاني الذي هو المشهور شهرة عظيمة، بل عن الغنية

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 42.

(2)- المنتهى 2/ 967 و ما بعدها.

(3)- الشرائع 1/ 329 (ط. أخرى/ 251).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 457

الإجماع عليه، و لعلّه كذلك.» «1»

7- و قال الماوردي:

«و لا تجب الجزية عليهم في السنة إلا مرّة واحدة بعد انقضائها بشهور هلالية، و من مات منهم فيها أخذ من تركته بقدر ما مضى منها. و من أسلم منهم كان ما لزم من جزيته دينا في ذمته يؤخذ بها، و أسقطها أبو

حنيفة بإسلامه و موته.» «2»

و أبو يعلى حكم بسقوط الجزية بالإسلام دون الموت كافرا، فراجع «3» و هو حنبلي و الماوردي شافعي.

8- و في خراج أبي يوسف:

«و لا يؤخذ من مسلم جزية رأسه إلا أن يكون أسلم بعد خروج السنة، فإنه إذا أسلم بعد خروجها فقد كانت الجزية وجبت عليه و صارت خراجا لجميع المسلمين فتؤخذ منه. و إن أسلم قبل تمام السنة بيوم أو يومين أو شهر أو شهرين أو أكثر أو أقل لم يؤخذ بشي ء من الجزية إذا كان أسلم قبل انقضاء السنة. و إن وجبت عليه الجزية فمات قبل أن تؤخذ منه أو أخذ بعضها و بقي البعض لم يؤخذ بذلك ورثته و لم تؤخذ من تركته، لأن ذلك ليس بدين عليه. و كذلك إن أسلم و قد بقي عليه شي ء من جزية رأسه لم يؤخذ بذلك.» «4»

أقول: لما كانت الجزية ضريبة سنوية توضع على أهل الذمّة في قبال الكفّ عنهم و الحماية لهم طول السنة فالقاعدة تقتضي ثبوتها بعقد الذمّة و اشتغال ذمتهم بها. و السقوط بالموت أو بالإسلام بالنسبة إلى ما مضى مخالف للأصل. نعم بالإسلام ينتفي الموضوع بالنسبة إلى ما بعده.

و تعيين وقت المطالبة و تحديده بآخر الحول في العقد لا يوجب عدم تقسيطها

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 258.

(2)- الأحكام السلطانية/ 145.

(3)- الأحكام السلطانية/ 160.

(4)- الخراج/ 122.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 458

بحسب أيّام السنة، بداهة أنها ضريبة سنوية توضع بحساب جميع أيّام السنة لا بحساب اليوم الآخر منها، فالسقوط بعد الثبوت يحتاج إلى دليل.

إذا عرفت هذا فنقول: الظاهر أنه لا خلاف و لا إشكال عندنا في عدم سقوطها بالموت بعد الحول، بل تتعلق بالتركة

كسائر الديون خلافا لأبي حنيفة، قال: لأنها عقوبة كالحدّ. و فيه أنه قياس مع الفارق، لما مرّ من أنها ضريبة و معاوضة و إن استلزمت العقوبة أيضا. و الحدود تسقط بالموت لفوات محلّها بخلاف الجزية التي هي أمر مالي يمكن أن تتعلق بالتركة. بل لو مات في أثناء الحول أيضا كان مقتضى القاعدة و الاعتبار التقسيط كما مرّ و إن كان لو لم يمت لم يطالب في الأثناء عملا بمقتضى العقد و إنما يحلّ الأجل بالموت كسائر الديون المؤجلة، فتدبّر.

و أما من أسلم قبل الحول أو بعده قبل أداء الجزية فالمشهور فيهما السقوط، بل مرّ ادعاء الإجماع فيهما و لا سيما في الأوّل.

و استدلّوا لذلك بقوله- تعالى-: «قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مٰا قَدْ سَلَفَ.» «1»

و بالنبويين المستغنيين بشهرتهما نقلا و عملا عن البحث في سنديهما على ما في الجواهر: «2»

أحدهما قوله «ص»: «الإسلام يجبّ ما قبله.» «3» و قد تعرضنا لسند الحديث و متنه بالتفصيل في المجلد الأول من كتابنا في الزكاة، فراجع. «4»

و الآخر قوله «ص»: «ليس على مسلم جزية.» «5» و رواه البيهقي بسنده، عن ابن

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 38.

(2)- الجواهر 21/ 258.

(3)- مستدرك الوسائل 1/ 580، الباب 15 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 2.

(4)- كتاب الزكاة 1/ 137 و ما بعدها.

(5)- مستدرك الوسائل 2/ 270، الباب 61 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 34؛ و الأموال/ 59؛ و سنن أبي داود 2/ 152، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب في الذّمي يسلم في بعض السنّة ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 459

عباس، عنه «ص»، قال: «ليس على مؤمن جزية.» «1»

و بالنبويّ

الثالث: «لا ينبغي للمسلم أن يؤدي خراجا.» «2»

و بأن الجزية عقوبة تجب بسبب الكفر، فيسقطها الإسلام.

و بأن وضعها للصغار و الإهانة للرغبة في الإسلام المنزه عنهما المسلم.

و بظهور دليلها في الإعطاء صاغرا، و من المعلوم عدمه في المسلم.

و روي عن مسروق أن رجلا من الشعوب أسلم فكانت تؤخذ منه الجزية فأتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين، إني أسلمت، فقال: لعلّك أسلمت متعوذا.

فقال: أما في الإسلام ما يعيذني؟ قال: بلى. قال: فكتب (عمر): أن لا تؤخذ منه الجزية. قال أبو عبيد: الشعوب: الأعاجم. «3»

أقول: لو لا وضوح المسألة عند الأصحاب و اشتهارها بينهم بل الإجماع عليها لأمكن الإشكال في كثير مما ذكر بالمناقشة في سند الروايات، و بأن المتبادر من عدم الجزية على المسلم عدمها بلحاظ حال إسلامه لا بلحاظ حال كفره السابق، و لا نسلم كون الجزية عقوبة، بل هي ضريبة توضع في قبال حماية الدولة الإسلامية له، و لا نسلم أن وضعها للصغار و الإهانة. نعم يعطيها صاغرا، و لكنه من المحتمل أن يراد به التسليم و الانقياد في قبال الدولة الحقّة، و ليس هذا إهانة. هذا.

و قد يقال بالنسبة إلى حديث الجبّ: إن الجزية من الديون و لا يجبّها الإسلام.

و فيه أن الظاهر من الحديث جبّ الإسلام لكل ما كان يقتضيه الكفر و إن كان أمرا ماليا.

بل الظاهر جبّه لجميع الواجبات المالية و غيرها بناء على عموم أدلتها للكفّار أيضا كما هو الظاهر. و قد بيّنا ذلك في كتاب الزكاة، فراجع.

و قال في مصباح الفقيه في بيان دلالة الحديث:

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 199، كتاب الجزية، باب الذّمي يسلم فيرفع عنه الجزية ...

(2)- سنن البيهقي 9/ 139، كتاب السير، باب الأرض إذا

كان صلحا ...، نقله عن الشافعي.

(3)- الأموال/ 59.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 460

«فإن مثل الزكاة و الخمس و الكفارات و أشباهها من الحقوق الثابتة في الإسلام بمنزلة القدر المتيقن منها، كما يؤيد ذلك بل يدلّ على أصل المدعى قضاء الضرورة بجريان سيرة النبي «ص» و الأئمة القائمين مقامه على عدم مؤاخذة من دخل في الإسلام بشي ء من هذه الحقوق بالنسبة إلى الأزمنة الماضية.» «1»

أقول: اللهم إلا أن يقال: إن عدم مؤاخذتهم بها لعله كان لعدم تعلقها بالكفار لا لجبّ الإسلام إياها.

و كيف كان فبعد الإسلام لا يجوز أخذ الجزية بلا إشكال و لا سيما بالنسبة إلى المستقبل و حال إسلامه.

و لكن في أحكام القرآن للجصاص:

«و قد كان آل مروان يأخذون الجزية ممن أسلم من أهل الذمة و يذهبون إلى أن الجزية بمنزلة ضريبة العبد فلا يسقط إسلام العبد ضريبته.»

قال:

«و هذا خلل في جنب ما ارتكبوه من المسلمين و نقض الإسلام عروة عروة إلى أن ولى عمر بن عبد العزيز فكتب إلى عامله بالعراق عبد الحميد بن عبد الرحمن: أمّا بعد، فإن اللّه بعث محمدا «ص» داعيا و لم يبعثه جابيا، فإذا أتاك كتابي هذا فارفع الجزية عمن أسلم من أهل الذمة. فلما ولي هشام بن عبد الملك أعادها على المسلمين. و كان أحد الأسباب التي لها استجاز القرّاء و الفقهاء قتال عبد الملك بن مروان و الحجاج- لعنهما اللّه- أخذهم (هما- ظ.) الجزية من المسلمين، ثم صار ذلك أيضا أحد اثبات (أسباب- ظ.) زوال دولتهم و سلب نعمتهم.» «2»

______________________________

(1)- مصباح الفقيه، كتاب الزكاة/ 17.

(2)- أحكام القرآن 3/ 126، باب وقت وجوب الجزية.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 3، ص: 461

الجهة العاشرة: في مصرف الجزية:

1- قال الشيخ في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 42):

«ما يؤخذ من الجزية و الصلح و الأعشار من المشركين للمقاتلة المجاهدين. و للشافعي فيه قولان: أحدهما أن جميعه لمصالح المسلمين و يبدأ بالأهم فالأهم، و الأهمّ هم الغزاة. و الباقي للمقاتلة كما قلناه.

هذا إذا قال: إنه لا يخمس، و أما إذا قال: يخمس فأربعة أخماسه تصرف إلى أحد هذين النوعين على القولين. و المصالح مقدمة عندهم.

دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم في أن الجزية للمجاهدين لا يشركهم فيها غيرهم. و إذا ثبت ذلك ثبت في الكل، لأن الصلح أيضا جزية عندنا. فأمّا الأعشار فإنه يصرف في مصالح المسلمين لأنه لا دليل على تخصيص شي ء منه به دون شي ء.» «1»

أقول: المراد بقوله: «و الباقي» القول الآخر للشافعي، و يمكن أن تكون الكلمة مصحفة: «و الثاني».

2- و في النهاية:

«و كان المستحق للجزية في عهد رسول اللّه «ص» المهاجرين دون غيرهم، و هي اليوم لمن قام مقامهم في نصرة الإسلام و الذبّ من سائر المسلمين.» «2»

أقول: إعطاء رسول اللّه «ص» إياها لخصوص المهاجرين لا يدلّ على اختصاصها بهم، فتأمّل.

______________________________

(1)- الخلاف 2/ 344.

(2)- النهاية/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 462

3- و في المبسوط:

«و مصرف الجزية مصرف الغنيمة سواء للمجاهدين، و كذلك ما يؤخذ منهم على وجه المعاوضة لدخول بلاد الإسلام لأنه مأخوذ من أهل الشرك.» «1»

و قد ذكر مثل ذلك أيضا العلامة في المنتهى. «2»

4- و في التذكرة:

«تذنيب: مصرف الجزية هو مصرف الغنيمة سواء، لأنه مال أخذ بالقهر و الغلبة فكان مصرفه مصرف المجاهدين كغنيمة دار الحرب.» «3»

أقول: الغنيمة فائدة تحصل دفعة فتقسم في جيش اغتنمها، فلا تقاس عليها

الجزية التي تحصل تدريجا في آخر كل سنة، إذ نسبتها إلى الجيش الفاتح لهذا البلد الخاص قد انقطعت، و لا نسبة لها أيضا إلى الجيوش الاخر، فتدبّر.

5- و في المقنعة:

«و كانت الجزية على عهد رسول اللّه «ص» عطاء المهاجرين، و هي من بعده لمن قام مع الإمام مقام المهاجرين، و فيما يراه الإمام من مصالح المسلمين.» «4»

6- و في السرائر:

«و كان المستحق للجزية على عهد رسول اللّه «ص» المهاجرين دون غيرهم على ما روي، و هي اليوم لمن قام مقامهم مع الإمام في نصرة الإسلام و الذبّ عنه، و لمن يراه الإمام من الفقراء و المساكين من سائر المسلمين.» «5»

7- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«إن كل مال وصل من المشركين عفوا من غير قتال و لا إيجاف خيل و لا ركاب كمال الهدنة و الجزية و أعشار متاجرهم، أو كان واصلا بسبب من جهتهم كمال

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 50.

(2)- المنتهى 2/ 973.

(3)- التذكرة 1/ 442.

(4)- المقنعة/ 44.

(5)- السرائر/ 110.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 463

الخراج ففيه إذا أخذ منهم أداء الخمس لأهل الخمس مقسوما على خمسة. و قال أبو حنيفة: لا خمس في الفي ء ...

و أما أربعة أخماسه ففيه قولان: أحدهما أنه للجيش خاصة لا يشاركهم فيه غيرهم ليكون معدا لأرزاقهم. و القول الثاني أنه مصروف في المصالح التي منها أرزاق الجيش و ما لا غنى للمسلمين عنه.

و لا يجوز أن يصرف الفي ء في أهل الصدقات، و لا تصرف الصدقات في أهل الفي ء، و يصرف كل واحد من المالين في أهله. و أهل الصدقة من لا هجرة له و ليس من المقاتلة عن المسلمين و لا من حماة البيضة. و

أهل الفي ء هم ذوو الهجرة الذابّون عن البيضة و المانعون عن الحريم و المجاهدون للعدوّ ...» «1»

أقول: الماوردي من علماء الشافعية، و الشافعي قائل بثبوت الخمس في الفي ء بأنواعه. و قد مرّ البحث في ذلك و نفينا نحن ثبوت الخمس في الفي ء و أمثاله من الضرائب و الأموال العامة، فراجع.

و فيما ذكره من عدم جواز صرف الصدقات في أهل الفي ء و بالعكس كلام، إذ من أهمّ مصارف الصدقات سبيل اللّه الشامل لجميع سبل الخير و المصالح العامة و منها الجهاد في سبيل اللّه كما أن من أهمّ المصالح العامة سدّ خلّات المسلمين و رفع حاجة المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى و الزمنى منهم كما أوصى بذلك أمير المؤمنين «ع» في كتابه لمالك حين ولّاه مصر. و بالجملة فالتباين بين المصرفين غير واضح. هذا.

8- و راجع في مصرف الجزية الأحكام السلطانية لأبي يعلى. «2»

و في مصرف الفي ء الذي من أقسامه الجزية المغني لابن قدامة. و قد حكى فيه عن أحمد أن الفي ء بأنواعه حق لكل المسلمين غنيهم و فقيرهم.

و فيه عن القاضي قال:

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 126- 127.

(2)- الأحكام السلطانية/ 136.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 464

«و معنى كلام أحمد: أنه بين الغني و الفقير، يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين من المجاهدين و القضاة و الفقهاء ... و سياق كلامه يدلّ على أنه ليس مختصا بالجند و إنما هو مصروف في مصالح المسلمين لكن يبدأ بجند المسلمين لأنهم أهمّ المصالح لكونهم يحفظون المسلمين فيعطون كفاياتهم، فما فضل قدم الأهمّ فالأهمّ من عمارة الثغور و كفايتها فالأسلحة و الكراع و ما يحتاج إليه، ثم الأهم فالأهم من عمارة المساجد و القناطر

و إصلاح الطرق و كراء الأنهار و سدّ بثوقها، و أرزاق القضاة و الأئمة و المؤذّنين و الفقهاء و نحو ذلك مما للمسلمين فيه نفع.» «1»

أقول: و قد تحصل مما ذكرناه من الكلمات أن في مصرف الجزية قولين: أحدهما أنها بحكم الغنيمة فتختص بالمقاتلين. و الثاني أنها من أنواع الفي ء، و مصرف الفي ء مصالح المسلمين بشعبها المختلفة و منها مصارف المقاتلين. و لعلّ عمدة نظر الفريق الأول إلى أن الجزية كأنها نتيجة الحرب و فداء عن النفوس التي وقعت في معرض القتل أو الأسر، و الأسارى يعدّون من جملة الغنائم كما مرّ. هذا.

و الأصل في المسألة عندنا:

1- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»، قال: سألته عن سيرة الإمام في الأرض التي فتحت بعد رسول اللّه «ص» فقال: «إن أمير المؤمنين «ع» قد سار في أهل العراق بسيرة، فهي إمام لسائر الأرضين.»

و قال: «إن أرض الجزية لا ترفع عنهم الجزية، و إنما الجزية عطاء المهاجرين. و الصدقات لأهلها الذين سمّى اللّه في كتابه ليس لهم في الجزية شي ء.» ثم قال: «ما أوسع العدل، إن الناس يتّسعون (يستغنون- الفقيه) إذا عدل فيهم و تنزل السماء رزقها و تخرج الأرض بركتها بإذن اللّه- تعالى-.»

رواها الفقيه «2»، و التهذيب «3». و لكن في الفقيه: «عطاء المجاهدين».

______________________________

(1)- المغني 7/ 307- 308.

(2)- الفقيه 2/ 53، باب الخراج و الجزية، الحديث 1677.

(3)- التهذيب 4/ 118، باب مستحقّ عطاء الجزية من المسلمين، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 465

و رواها في الوسائل «1» عن المشايخ الثلاثة، و لكني لم أجده في الكافي.

2- و في دعائم الإسلام، عن أبي جعفر محمد بن علي «ع»

أنه قال: «الجزية عطاء المجاهدين، و الصدقة لأهلها الذين سمّاهم اللّه- تعالى- في كتابه ليس من الجزية في شي ء.» ثم قال: «ما أوسع العدل، إن الناس يستغنون إذا عدل عليهم.» «2» و رواه عنه في المستدرك. «3»

3- خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن أرض الجزية لا ترفع عنها الجزية، و إنما الجزية عطاء المهاجرين، و الصدقة لأهلها الذين سمّى اللّه في كتابه فليس لهم من الجزية شي ء.» ثم قال: «ما أوسع العدل.» ثم قال: «إن الناس يستغنون إذا عدل بينهم و تنزل السماء رزقها و تخرج الأرض بركتها بإذن اللّه.»

رواه في الوسائل «4» عن الكليني بسند لا بأس به، إلّا أن فيه سهلا و الأمر فيه سهل، و عن المقنعة أيضا مرسلا. و عبّر عنه في الجواهر «5» بالصحيح، و لعله منه سهو.

و هل يراد بالمهاجرين في الخبرين خصوص من هاجر في صدر الإسلام في عصر النبي «ص» إلى المدينة المنورة أو الأعمّ منهم؟ يبعد جدا إرادة الأول، إذ هم لم يبقوا إلى عصر الصادقين «ع»، و حكم الجزية عامّ ثابت في جميع الأعصار، فلا محالة يراد بهم جنود الإسلام المهاجرين من بلادهم إلى صفوف القتال أو إلى الثغور، فينطبق قهرا على المجاهدين. و حيث إن مصارف الصدقة سبيل اللّه و من أظهر مصاديقه الجهاد بلا إشكال فلا محالة لا يمكن الحكم بتباين المصرفين بالكلية. فلعل المراد بمصرف الصدقة في هذه الأخبار مصرفها الغالب، أعني الفقراء و المساكين. و قد كانت الصدقات تقسم غالبا في المحل: تقسم صدقات البوادي في البوادي

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 117، الباب 69 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- دعائم الإسلام 1/ 380، كتاب الجهاد-

ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 267، الباب 57 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

(4)- الوسائل 11/ 69، الباب 69 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1، عن الكافي 3/ 568، و عن المقنعة/ 45.

(5)- الجواهر 21/ 262.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 466

و صدقات أهل الحضر في أهل الحضر كما نطقت بذلك الأخبار. «1»

فلم يكن يبقى منها غالبا ما يصرف في المهاجرين المجاهدين في سبيل اللّه، فخصّ بهم الخراج و الجزية و نحوهما مما كان يؤخذ من الكفار، و مع وجودهم عند الإمام و احتياجهم يقدمون بحسب المصلحة على أكثر المصالح العامة قطعا، فلا تصرف الجزية قهرا في فقراء المحل بما هم فقراء فقط، إذ على الإمام أن يراعي فيها ما هو الأهمّ من المصالح العامة. و بالجملة، فالتباين بين المصرفين كان في مقام العمل و الابتلاء خارجا بملاحظة الأعم الأغلب، فتدبّر.

ثم لو سلّم كون الجزية كالغنيمة بحسب المصرف لكونها مثلها في الأخذ من أهل الشرك بالقهر و الغلبة كما مرّ في بعض الكلمات فنقول:

قد مرّ منّا في مبحث الغنائم أنها أيضا تكون تحت اختيار الإمام، فله أن يصرفها فيما يراه صلاحا و لا يتعين فيها التقسيم بين المقاتلين: ففي مرسلة حمّاد الطويلة قال في شأن الغنيمة: «و له أن يسدّ بذلك المال جميع ما ينوبه من مثل إعطاء المؤلفة قلوبهم و غير ذلك ممّا ينوبه، فإن بقي بعد ذلك شي ء أخرج الخمس منه فقسّمه في أهله، و قسم الباقي على من ولي ذلك، و إن لم يبق بعد سدّ النوائب شي ء فلا شي ء لهم. الحديث.» «2»

و بالجملة فالأقوى في مصرف الجزية بل مطلق الفي ء هو صرفها

فيما يراه الإمام من مصالح المسلمين، كما مرّ من المقنعة. نعم، مع وجود المهاجرين المجاهدين و احتياجهم لا تصل النوبة غالبا إلى غيرهم فإن إدارة شئونهم من أهمّ المصالح العامة، فتدبّر.

و لعلّ الخلفاء في عصر الأئمة «ع» كانوا يستبدّون و يستأثرون بالفي ء و الجزايا فيصرفونها في حواشيهم و المحامين لهم باسم الاحتياج و الفقر و كانت مصارف المجاهدين في الثغور مهملة، فكانت الروايات التي مرّت ناظرة إليهم.

______________________________

(1)- راجع الوسائل 6/ 183، الباب 28 من أبواب المستحقين للزكاة.

(2)- الوسائل 6/ 365، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 467

و يشبه أن يكون مصرف الجزية و الخراج واحدا، لأنهما من الفي ء و مصرف الفي ء بأنواعه واحد، بل ربما أطلق لفظ الجزية على الخراج و بالعكس:

ففي رواية إبراهيم بن أبي زياد، قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية، قال: فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «1» فتأمّل.

و في حديث ابن عباس، قال: سئل رسول اللّه «ص» عن الجزية عن يد، قال:

«جزية الأرض و الرقبة، جزية الأرض و الرقبة.» «2»

و في صحيحة محمد بن مسلم، قال: سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم مما يحقنون به دماءهم و أموالهم؟ قال: «الخراج، و إن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم.

الحديث.» «3»

و قد ورد في مصرف خراج الأرض المفتوحة عنوة في مرسلة حماد قوله: «و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك

قليل و لا كثير.» «4»

فيماثله مصرف الجزية أيضا.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

(2)- الدّر المنثور 3/ 228.

(3)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(4)- الوسائل 11/ 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 468

الجهة الحادية عشرة: في معنى الصغار المذكور في الآية و الإشارة إلى ماهية الجزية و تاريخها:

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 5):

«الصغار المذكور في آية الجزية هو التزام الجزية على ما يحكم به الإمام من غير أن تكون مقدّرة. و التزام أحكامنا عليهم. و قال الشافعي: هو التزام أحكامنا عليهم.

و من الناس من قال: هو وجوب جري أحكامنا عليهم. و منهم من قال: الصغار أن يؤخذ الجزية منه قائما و المسلم جالس.

دليلنا إجماع الفرقة على أن الصغار هو أن لا يقدر الجزية فيوطّن نفسه عليها، بل تكون بحسب ما يراه الإمام مما يكون معه صاغرا. و أيضا قوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» فجعل الصغار شرطا لرفع السيف، فمن قال: إنه لا يرفع حتى تجري أحكامنا و حتى يعطوا الجزية خالف الظاهر.» «1»

أقول: فالشيخ «ره» حمل قوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ» على معنى: «حتى يلتزموا بإعطاء الجزية»، و حمل قوله: «وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» على معنى: «حتى يلتزموا بأحكام الإسلام»، فتأمّل.

2- و قال في المبسوط:

«و أما التزام أحكامنا و جريانها عليهم فلا بدّ منه أيضا، و هو الصغار المذكور في الآية. و في الناس من قال: إن الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم. و منهم من قال: الصغار أن تؤخذ منهم الجزية قائما و المسلم جالس.» «2»

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 238.

(2)- المبسوط 2/ 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 469

3- و في جهاد التذكرة:

«مسألة: اختلف علماؤنا في الصغار فقال ابن الجنيد: إنه عبارة عن أن يشترط عليهم وقت العقد إجراء أحكام المسلمين عليهم إذا كانت الخصومات بينهم و بين المسلمين أو يتحاكموا إلينا في خصوماتهم، و أن تؤخذ منهم و هم قيام على الأرض.

قال الشيخ: الصغار: التزام أحكامنا و إجراؤها عليهم.

و قال الشافعي: هو أن يطأطأ رأسه عند التسليم فيأخذ المستوفي بلحيته و يضربه في لهازمه، و هو واجب في أحد قوليه حتى لو وكّل مسلما بالأداء لم يجز، و إن ضمن المسلم الجزية لم يصح، لكن يجوز إسقاط هذه الإهانة مع اسم الجزية عند المصلحة بتضعيف الصدقة.» «1»

و راجع في هذه المسألة المنتهى أيضا و المختلف «2».

4- و قال الشافعي في الأمّ:

«سمعت عددا من أهل العلم يقولون: الصغار أن يجري عليهم حكم الإسلام.

و ما أشبه ما قالوا بما قالوا لامتناعهم من الإسلام، فإذا جرى عليهم حكمه فقد أصغروا بما يجري عليهم منه.» «3»

أقول: الظاهر أن الأمّ يشتمل على الفتاوى الأخيرة للشافعي.

5- و في منهاج النووي في فقه الشافعية:

«و تؤخذ بإهانة فيجلس الآخذ و يقوم الذمي و يطأطأ رأسه و يحني ظهره و يضعها في الميزان، و يقبض الآخذ لحيته و يضرب لهزمتيه، و كلّه مستحب، و قيل: واجب.

فعلى الأول له توكيل مسلم بالأداء و حوالة عليه و أن يضمنها. قلت: هذه الهيئة باطلة، و دعوى استحبابها أشدّ خطأ، و اللّه أعلم.» «4»

6- و في مغني المحتاج في ذيل قول المنهاج: «هذه الهيئة باطلة» قال:

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 442.

(2)- المنتهى 2/ 967؛ و المختلف/ 334.

(3)- الأمّ 4/ 99، الصغار مع الجزية.

(4)- المنهاج (المطبوع مع شرحه السراج الوهّاج)/ 551.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 470

«لأنها لا أصل لها من السنّة و لا نقل عن فعل أحد من السلف ... قال في زيادة الروضة: و إنما ذكرها طائفة من الخراسانيين. و قال جمهور الأصحاب تؤخذ الجزية برفق كأخذ الديون.» «1»

7- و في تفسير الكشّاف في تفسير الآية الشريفة قال:

«تؤخذ منهم على الصغار و الذلّ، و هو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب و يسلّمها و هو قائم و المتسلّم جالس. و أن يتلتل تلتلة و يؤخذ بتلبيبه و يقال له: أدّ الجزية، و إن كان يؤدّيها و يزخّ في قفاه». «2»

أقول: اللهزمة كزبرجة: العظم الناتئ في اللحى تحت الأذن. و التلبيب الثوب الواقع على اللبة، أي المنحر. و تلّه: صرعه. و تلتله: زعزعه و أقلقه و زلزله. و زخّه: دفعه في وهدة. هذا.

و لا يخفى أن الهيئات المذكورة في كلماتهم لا تناسب ثقافة الإسلام و ما نعرفه من سيرة النبي «ص» و الأئمة الهداة «ع»، و يشبه أن تكون متخذة من سيرة الأمويين و عمّالهم، حيث كانوا يعاملون غير العرب بل من لم يكن من قومهم معاملة خشنة.

و الإسلام بري ء من هذه الأعمال الخشنة و من الميزات الطائفية و العنصرية.

و في كتاب أمير المؤمنين «ع» لمالك حين ولّاه مصر: «و أشعر قلبك الرحمة للرعيّة و المحبّة لهم و اللطف بهم، و لا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق ...» «3»

و قد روي أن النبي «ص» قام لجنازة يهودي فقيل له: إنها جنازة يهودي، فقال:

«أ ليست نفسا». «4»

فهذا منهج الإسلام و ثقافته في الكافر الذي تحت لوائه و ذمته حتى

بالنسبة إلى

______________________________

(1)- مغني المحتاج 4/ 250.

(2)- تفسير الكشّاف 2/ 184 (ط. أخرى 2/ 263).

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 993؛ عبده 3/ 93؛ لح/ 427، الكتاب 53.

(4)- صحيح البخاري 1/ 228، باب من قام لجنازة يهوديّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 471

جنازته و نعشه، لا أن يؤخذ منه ماله ثم تضرب لهزمته أو يزخّ في قفاه و يتلتل، فتدبّر.

و هناك أخبار تدلّ على الإرفاق بأهل الذمة في جباية الجزية منهم و عدم جواز ضربهم لذلك و وجوب إمهالهم مع الإعواز، و سنذكرها في مسألة الخراج لاشتراكهما في هذا الحكم، فانتظر. هذا.

8- و في الدرّ المنثور عن ابن عباس في قوله: «عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» قال:

«و لا يلكزون.» «1»

9- و فيه أيضا عن سلمان في قوله: «وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» قال: «غير محمودين.» «2»

10- و فيه أيضا عن المغيرة:

«أنه بعث إلى رستم فقال له رستم إلى م تدعو؟ فقال له: أدعوك إلى الإسلام، فإن أسلمت فلك مالنا و عليك ما علينا. قال: فإن أبيت؟ قال: فتعطي الجزية عن يد و أنت صاغر، فقال لترجمانه: قل له: أمّا إعطاء الجزية فقد عرفتها فما قولك: و أنت صاغر؟ قال: تعطيها و أنت قائم و أنا جالس و السوط على رأسك.» «3»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 3، ص: 471

أقول: ليس قول مغيرة من الحجج الشرعية مع ما نعرفه من سابقته و لاحقته. هذا.

و قد أشرنا في صدر المسألة إلى أن الجزية ضريبة تؤخذ عوضا عن الكفّ عنهم و عن

حرماتهم و مشاعرهم و الحماية لهم و تمتعهم بمزايا الدولة الإسلامية، و أن يعامل كل واحد منهم كمواطن مسلم إذا التزموا بشرائط الذمة، و ليست مفروضة بداعي العقوبة و الإهانة و التذليل، نعم يلازم قبولها نوعا من التسليم و الانقياد، و هذا شأن كل ضريبة، و لا غنى للحكومات عن الأموال و الضرائب.

قال المفيد في المقنعة:

«و جعلها- تعالى- حقنا لدمائهم و منعا من استرقاقهم و وقاية لما عداها من أموالهم.» «4»

و يستفاد هذا من نصوص المعاهدات التي عقدها النبي «ص» و الخلفاء

______________________________

(1)- الدّرّ المنثور 3/ 228.

(2)- الدّرّ المنثور 3/ 228.

(3)- الدّرّ المنثور 3/ 228.

(4)- المقنعة/ 44.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 472

و أمراؤهم مع أهل الكتاب.

ففيما كتبه النبي «ص» لأهل نجران: «و لنجران و حاشيتها جوار اللّه و ذمة محمد النبي رسول اللّه على أموالهم و أنفسهم و أرضهم و ملتهم و غائبهم و شاهدهم و عشيرتهم و بيعهم و كل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير. لا يغيّر أسقف من أسقفيته و لا راهب من رهبانيته و لا كاهن من كهانته، و ليس عليه دنيّة (و ليس عليهم ربّيّة- الوثائق) و لا دم جاهلية و لا يخسرون و لا يعسرون (و لا يحشرون و لا يعشرون- الوثائق) و لا يطأ أرضهم جيش، و من سأل منهم حقّا فبينهم النصف غير ظالمين و لا مظلومين ...» «1»

أقول: قوله: «لا يحشرون» أي لا يندبون إلى المغازي و لا تضرب عليهم البعوث.

و قيل: لا يجلون من أوطانهم و «لا يعشرون» أي لا يؤخذ منهم العشر. هذا.

و لما صالح أبو عبيدة بن الجراح أهل بلاد الشام ثم تتابعت الأخبار عليه بأن

الروم قد جمعوا لهم جمعا لم ير مثله اشتدّ ذلك عليه و على المسلمين فكتب إلى كل وال ممن خلّفه في المدن التي صالح أهلها يأمرهم أن يردّوا عليهم ما جبي منهم من الجزية و الخراج، و كتب إليهم أن يقولوا لهم: إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جمع لنا من الجموع و أنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم و أنا لا نقدر على ذلك، و قد رددنا عليكم ما أخذنا منكم، و نحن لكم على الشرط و ما كتبنا بيننا و بينكم إن نصرنا اللّه عليهم. فلما قالوا ذلك لهم و ردّوا عليهم الأموال التي جبوها منهم، قالوا:

ردّكم اللّه علينا و نصركم عليهم، فلو كانوا هم لم يردّوا علينا شيئا و أخذوا كل شي ء بقي لنا حتى لا يدعوا لنا شيئا. «2»

و مقدار الجزية قليل ضئيل بالنسبة إلى ما يلتزم به المسلمون و يضرب عليهم من الزكوات و الأخماس و إعداد وسائل الجهاد و الخدمات العسكرية و غيرها، فكيف يسمّون هذه عقوبة.

و في كتاب آثار الحرب للدكتور وهبة الزحيلي قال:

«و الجزية ليست من مبتدعات الإسلام، و إنما كانت مقرّرة عند مختلف الأمم التي

______________________________

(1)- الخراج لأبي يوسف/ 72، و الوثائق السياسية/ 176، الرقم 94.

(2)- الخراج لأبي يوسف/ 139.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 473

سبقته كبني إسرائيل و اليونان و الرومان و البيزنطيين و الفرس، و كان أوّل من سنّ الجزية من الفرس كسرى أنو شروان، و هو الذي رتّب أصولها و جعله طبقات، إذن فالحالة العامة بين الأمم كانت تألف نظام الجزية و الإسلام أقرّ ذلك فقط.» «1»

و راجع في هذا المجال تفسير المنار أيضا. «2»

و كم فرقا

بين ما أقرّه الإسلام و بين ما كان يضعه الفاتحون على الأمم المغلوبة المقهورة، كما هو واضح.

و بالجملة فيظهر من الأخبار و السير أن الجزية كانت ضريبة بتّة عادلة يأخذها إمام المسلمين من أهل الكتاب عوضا عن الزكوات و الأخماس التي كانت تؤخذ من المسلمين. و الدولة لا مناص لها من الأموال التي بها يقوم الملك و تدار شئونه و بها يدفع عن البلاد و العباد.

قال في تفسير المنار:

«إن الجزية في الإسلام لم تكن كالضرائب التي يضعها الفاتحون على من يتغلبون عليهم فضلا عن المغارم التي يرهقونهم بها، و إنما هي جزاء قليل على ما تلتزمه الحكومة الإسلامية من الدفاع عن أهل الذمة و إعانة للجند الذي يمنعهم أي يحميهم ممن يعتدي عليهم كما يعلم من سيرة أصحاب رسول اللّه «ص»، و هم أعلم الناس بمقاصد الشريعة و أعدلهم في تنفيذها، و الشواهد على ذلك كثيرة أوردنا طائفة منها في تفسير الآية.» «3»

و قال أستاذه الشيخ محمد عبده في بعض مقالاته ما ملخصه:

«قالوا: إن الدين الإسلامي دين جهادي شرع في القتال، و في طبيعته روح الشدة على من يخالفه و ليس فيها الصبر و المسالمة اللّذان تقضي بهما شريعة المسيح حيث ورد فيها: «من ضربك على خدّك الأيسر فأدر له خدّك الأيمن.» «من سخرك

______________________________

(1)- آثار الحرب/ 693.

(2)- المنار 10/ 292.

(3)- المنار 11/ 282.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 474

ميلا فسر معه ميلين.»

قلنا: بل طبيعة الإسلام هو العفو و المسامحة، قال- تعالى-: «خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجٰاهِلِينَ» «1» و إنما القتال فيه لردّ اعتداء المعتدين على الحق و أهله إلى أن يؤمن شرهم و تضمن

السلامة من غوائلهم. و لم يكن ذلك للإكراه في الدين و لا للانتقام من مخالفيه و لهذا لا تسمع في تاريخ الفتوح الإسلامية ما تسمعه في الحروب المسيحية من قتل الشيوخ و النساء و الأطفال.

الإسلام الحربي كان يكتفي من الفتح بإدخال الأرض المفتوحة تحت سلطانه ثم يترك الناس و ما كانوا عليه من الدين يؤدّون ما يجب عليهم في اعتقادهم، و إنما يكلّفهم بجزية يدفعونها لتكون عونا على صيانتهم و المحافظة على أمنهم في ديارهم، و هم في عقائدهم و معابدهم و عاداتهم بعد ذلك أحرار لا يضايقون في عمل و لا يضامون في معاملة.

خلفاء المسلمين كانوا يوصون قوّادهم باحترام العبّاد في الصوامع و الأديار كما كانوا يوصونهم باحترام دماء النساء و الأطفال و كل من لم يعن على القتال.

جاءت السنّة المتواترة بالنهي عن إيذاء أهل الذمّة و بتقرير ما لهم من الحقوق على المسلمين: «لهم ما لنا و عليهم ما علينا.» و «من آذى ذميا فليس منّا.» و استمرّ العمل على ذلك ما استمرت قوة الإسلام.

و المسيحية السلمية كانت ترى لها حق القيام على كل دين يدخل تحت سلطانها؛ تراقب أعمال أهله و تخصصهم دون الناس بضروب من المعاملة لا يحتملها الصبر مهما عظم حتى إذا تمت لها القدرة على طردهم بعد العجز عن إخراجهم من دينهم و تعميدهم، أجلتهم عن ديارهم و غسلت الديار من آثارهم كما حصل و يحصل في كل أرض استولت عليها أمة مسيحية استيلاء حقيقيا ...» «2»

أقول: فأهل الذمّة بعد عقدها و العمل بشرائطها يعيشون بين المسلمين في ظلّ

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 199.

(2)- الإسلام و النصرانيّة مع العلم و المدنيّة/ 65- 67.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 475

حكومتهم عيشة حرّة آمنين في الأموال و الأعراض و النفوس، لهم ما لهم و عليهم ما عليهم. بل الشواهد التاريخية تشهد بأنهم ربما كانوا يؤثرون العيش في ظلّ الدولة الإسلامية العادلة على البقاء تحت لواء الحكومات المسيحية الدارجة المستكبرة.

و اليهود كانوا عائشين في البلاد الإسلامية قرونا متطاولة برفق و تلطف و أمن في الأموال و النفوس في حال أن الدول المسيحية و في رأسهم الحكومة النازية كانت تضغط عليهم و تستأصلهم. و من المؤسف عليه أنهم قد جازوا المسلمين بأحسن الجزاء في مجازر فلسطين و لبنان، و كأن غرامة جنايات الدول الأوربيّة الظالمة كانت على عهدة أطفال المسلمين و نسائهم و مستضعفيهم!!

اللهم! فأيقظ المسلمين من سباتهم الغالب عليهم و ادفع عنهم و عن بلادهم شر الصهاينة و عملاء الكفر و الفساد.

و لا يحصل هذا إلّا بوحدة المسلمين و اتحاد صفوفهم حتى كَأَنَّهُمْ بُنْيٰانٌ مَرْصُوصٌ، و إحساسهم بوظيفة الدفاع عن حرمات اللّه و حرمات المسلمين، فإن اللّه- تعالى- يقول: «إِنَّ اللّٰهَ لٰا يُغَيِّرُ مٰا بِقَوْمٍ حَتّٰى يُغَيِّرُوا مٰا بِأَنْفُسِهِمْ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الرعد (13)، الآية 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 476

الجهة الثانية عشرة: في إشارة إجمالية إلى شرائط الذمة:
[بعض الكلمات من أعاظم الفقهاء]

أقول: شرائط الذمة كثيرة و بابها واسع و البحث فيها تفصيلا لا يناسب المقام، حيث إن بحثنا هنا في المنابع المالية للدولة الإسلامية، فلنكتف في هذه الجهة بنقل بعض الكلمات من أعاظم الفقهاء و نعقبها بسرد بعض الأخبار المناسبة و نحيل البحث التفصيلي و الاستدلال عليها إلى مظانّه و أهله فنقول:

1- قال الشيخ في كتاب الجزية من الخلاف (المسألة 22):

«أهل الذمة إذا فعلوا ما يجب به الحدّ مما يحرم في شرعهم مثل الزنا و اللواطة

و السرقة و القتل و القطع أقيم عليهم الحدّ بلا خلاف، لأنهم عقدوا الذمة بشرط أن تجري عليهم أحكامنا.

و إن فعلوا ما يستحلّونه مثل شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و نكاح المحرمات فلا يجوز أن يتعرض لهم ما لم يظهروه بلا خلاف. فإن أظهروه و أعلنوه كان للإمام أن يقيم عليهم الحدود. و قال جميع الفقهاء: ليس له أن يقيم الحدود التامّة بل يعزّرهم على ذلك لأنهم يستحلّون ذلك و يعتقدون إباحته.

دليلنا الآيات الموجبات لإقامة الحدود، و هي على عمومها، و إنما خصصنا حال الاستتار بدليل الإجماع. و أيضا عليه إجماع الفرقة.» «1»

2- و في جهاد النهاية:

«و شرائط الذمة: الامتناع من مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير و شرب الخمور و أكل الربا و نكاح المحرمات في شريعة الإسلام، فمتى فعلوا شيئا من ذلك فقد

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 242.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 477

خرجوا من الذمة و جرى عليهم أحكام الكفّار.» «1»

أقول: و ظاهره الإطلاق، فيعمّ ما إذا شرط عليهم ذلك في العقد و ما إذا لم يشرط، اللّهم إلا أن يراد بالشرائط خصوص ما يشرط في العقد.

3- و في جهاد المبسوط:

«و من تقبل منه الجزية إنما تقبل منه إذا التزم شرائط الذمة، و هي الامتناع عن مجاهرة المسلمين بأكل لحم الخنزير و شرب الخمر و أكل الربا و نكاح المحرمات في شرع الإسلام، فمتى لم يقبلوا ذلك أو شيئا منه لا تقبل منهم الجزية. و إن قبلوا ذلك ثم فعلوا شيئا من ذلك فقد خرجوا من الذمة و جرى عليهم أحكام الكفّار.» «2»

4- و في كتاب الجزايا منه:

«و أما عقد الجزية فهو الذمّة و لا يصح إلّا بشرطين:

التزام الجزية و أن يجري عليهم أحكام المسلمين مطلقا من غير استثناء. فالتزام الجزية و ضمانها لا بدّ منه لقوله- تعالى-: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ» إلى قوله: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ» «3» و حقيقة الإعطاء هو الدفع غير أن المراد هاهنا الضمان و إن لم يحصل الدفع.

و أما التزام أحكامنا و جريانها عليهم فلا بدّ منه أيضا و هو الصغار المذكور في الآية.

و في الناس من قال: إن الصغار هو وجوب جري أحكامنا عليهم. و منهم من قال:

الصغار أن تؤخذ منهم الجزية قائما و المسلم جالس.» «4»

5- و فيه أيضا:

«المشروط في عقد الذمة ضربان: أحدهما يجب عليهم فعله، و الآخر يجب عليهم الكف عنه.

فما يجب عليهم فعله على ضربين: أحدهما بذل الجزية و الآخر التزام أحكام

______________________________

(1)- النهاية/ 292.

(2)- المبسوط 2/ 13.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 29.

(4)- المبسوط 2/ 37.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 478

المسلمين. و لا بد من ذكر هذين الشرطين في عقد الجزية لفظا و نطقا، فإن أغفل ذكرهما أو ذكر أحدهما لم ينعقد، لقوله- تعالى-: «حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» «1» و الصغار التزام أحكام المسلمين و إجراؤها عليهم.

و أما ما يجب الكفّ عنه فعلى ثلاثة أضرب: ضرب فيه منافاة الأمان، و ضرب فيه ضرر على المسلمين، و ضرب فيه إظهار منكر في دار الإسلام. فذكر هذه الأشياء كلّها تأكيد و ليس بشرط في صحة العقد.

فأما ما فيه منافاة الأمان فهو أن يجتمعوا على قتال المسلمين، فمتى فعلوا ذلك نقضوا العهد، و سواء شرط ذلك في عقد الذمة أو لم يشرط لأن شرط الذمة يقتضي أن يكونوا في أمان

من المسلمين و المسلمون في أمان منهم.

و أما ما فيه ضرر على المسلمين يذكر فيه ستة أشياء: ألّا يزني بمسلمة و لا يصيبها باسم نكاح، و لا يفتن مسلما عن دينه، و لا يقطع عليه الطريق، و لا يؤوي للمشركين عينا، و لا يعين على المسلمين بدلالة أو بكتب كتاب إلى أهل الحرب بأخبار المسلمين و يطلعهم على عوراتهم، فإن خالفوا شرطا من هذه الشرائط نظر فإن لم يكن مشروطا في عقد الذمة لم ينقض العهد لكن إن كان ما فعله يوجب حدّا أقيم عليه الحد فإن لم يوجبه عزر. و إن كان مشروطا عليه في عقد الذمة كان نقضا للعهد لأنه فعل ما ينافي الأمان.

فأما إذا ذكر اللّه- تعالى- أو نبيّه بالسبّ فإنه يجب قتله و يكون ناقضا للعهد ...

و أما ما فيه إظهار منكر في دار الإسلام و لا ضرر على المسلمين فيه فهو إحداث البيع و الكنائس و إطالة البنيان و ضرب النواقيس و إدخال الخنازير و إظهار الخمر في دار الإسلام، فكلّ هذا عليه الكفّ عنه، سواء كان مشروطا أو غير مشروط فإن عقد الذمة يقتضيه، و إن خالفوا ذلك لم ينتقض ذمته، سواء كان مشروطا عليه أو لم يكن لكن يعزّر فاعله أو يحدّ إن كان مما يوجب الحدّ.

و قد روى أصحابنا أنّهم متى تظاهروا بشرب الخمر أو لحم الخنزير أو نكاح

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 479

المحرمات في شرع الإسلام نقضوا بذلك العهد. و كل موضع قلنا ينتقض عهدهم فأول ما يعمل به أن يستوفي منه بموجب الجرم (الحدّ خ. ل) ثم بعد ذلك يكون الإمام بالخيار بين

القتل و الاسترقاق و المن و الفداء ...» «1»

6- و في جهاد الشرائع:

«الثالث في شرائط الذمة و هي ستة: الأول: قبول الجزية، الثاني: أن لا يفعلوا ما ينافي الأمان مثل العزم على حرب المسلمين، أو إمداد المشركين. و يخرجون عن الذمة بمخالفة هذين (الشرطين). الثالث: أن لا يؤذوا المسلمين: كالزنا بنسائهم و اللواط بصبيانهم و السرقة لأموالهم و إيواء عين المشركين و التجسس لهم، فإن فعلوا شيئا من ذلك و كان تركه مشترطا في الهدنة كان نقضا. و إن لم يكن مشترطا كانوا على عهدهم و فعل بهم ما يقتضيه جنايتهم من حدّ أو تعزير. و لو سبّوا النبي «ص» قتل السابّ، و لو نالوه بما دونه عزّروا إذا لم يكن شرط عليهم الكفّ. الرابع: أن لا يتظاهروا بالمناكير: كشرب الخمر و الزنا و أكل لحم الخنزير و نكاح المحرمات، و لو تظاهروا بذلك نقض العهد. و قيل: لا ينقض بل يفعل بهم ما يوجبه شرع الإسلام من حدّ أو تعزير. الخامس: أن لا يحدثوا كنيسة و لا يضربوا ناقوسا و لا يطيلوا بناء، و يعزّرون لو خالفوا، و لو كان تركه مشترطا في العهد انتقض.

السادس: أن يجري عليهم أحكام المسلمين.» «2»

أقول: الظاهر أن المراد بأحكام المسلمين ما يحكم به حاكم المسلمين من الحدود و الأحكام الاجتماعية و الجزائية لا الأحكام الشخصية.

7- و في الأحكام السلطانية للماوردي:

«و يشترط عليهم في عقد الجزية شرطان: مستحق و مستحب:

أما المستحقّ فستة شروط: أحدها: أن لا يذكروا كتاب اللّه- تعالى- بطعن فيه و لا تحريف له. و الثاني: أن لا يذكروا رسول اللّه «ص» بتكذيب له و لا ازدراء.

و الثالث: أن لا يذكروا دين الإسلام بذم له و لا

قدح فيه. و الرابع: أن لا يصيبوا

______________________________

(1)- المبسوط 2/ 43.

(2)- الشرائع 1/ 329 (طبعة أخرى/ 251).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 480

مسلمة بزنا و لا باسم نكاح. و الخامس: أن لا يفتنوا مسلما عن دينه و لا يتعرضوا لماله و لا دينه. و السادس: أن لا يعينوا أهل الحرب و لا يؤدّوا أغنياءهم. فهذه الستة حقوق ملتزمة فتلزمهم بغير شرط. و إنما تشترط إشعارا لهم و تأكيدا لتغليظ العهد عليهم و يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم.

و أما المستحبّ فستة أشياء: أحدها: تغيير هيئاتهم بلبس الغيار و شدّ الزنار.

و الثاني: أن لا يعلوا على المسلمين في الأبنية و يكونوا إن لم ينقصوا مساوين لهم.

و الثالث: أن لا يسمعوهم أصوات نواقيسهم و لا تلاوة كتبهم و لا قولهم في عزير و المسيح. و الرابع: أن لا يجاهروهم بشرب خمورهم و لا بإظهار صلبانهم و خنازيرهم.

و الخامس: أن يخفوا دفن موتاهم و لا يجاهروا بندب عليهم و لا نياحة. و السادس: أن يمنعوا من ركوب الخيل عتاقا و هجانا و لا يمنعوا من ركوب البغال و الحمير. و هذه الستة المستحبة لا تلزم بعقد الذمة حتى تشترط فتصير بالشرط ملتزمة. و لا يكون ارتكابها بعد الشرط نقضا لعهدهم لكن يؤخذون بها إجبارا و يؤدبون عليها زجرا و لا يؤدبون إن لم يشترط ذلك عليهم.» «1»

و راجع في هذا المجال الأحكام السلطانية لأبي يعلى أيضا «2» و الخراج لأبي يوسف «3» و المغني لابن قدامة. «4»

أقول: الغيار بالكسر: علامة أهل الذمة كالزنار للمجوس و نحوه، كذا في أقرب الموارد.

و كان الغرض من إلزامهم بلبس الزنار و نحوه تذليلهم بذلك و امتيازهم في

الزيّ من زيّ المسلمين. راجع في ذلك الأموال لأبي عبيد «5». هذا.

[بعض الأخبار الواردة في هذا المجال]

8- و في الوسائل بسنده، عن زرارة، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «إن

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 145.

(2)- الأحكام السلطانية/ 158.

(3)- الخراج/ 127 و 138 و ما بعدها.

(4)- المغني 10/ 606 و ما بعدها.

(5)- الأموال/ 65 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 481

رسول اللّه «ص» قبل الجزية من أهل الذمة على أن لا يأكلوا الربا، و لا يأكلوا لحم الخنزير و لا ينكحوا الأخوات و لا بنات الأخ و لا بنات الأخت، فمن فعل ذلك منهم برئت منه ذمة اللّه و ذمة رسوله «ص»، قال: و ليست لهم اليوم ذمة.» «1»

9- و فيه أيضا عن الصدوق، عن فضل بن عثمان الأعور، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه قال: «ما من مولود يولد إلّا على الفطرة فأبواه اللذان يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه. و إنما أعطى رسول اللّه «ص» الذمة و قبل الجزية عن رءوس أولئك بأعيانهم على أن لا يهوّدوا أولادهم و لا ينصّروا. و أما أولاد أهل الذمة اليوم فلا ذمّة لهم.» «2»

أقول: لعل نفي الذمة لهم كان لعدم شمول ما عقده النبي «ص» لهم و عدم أهلية الخلفاء في عصر الإمام الصادق «ع» لعقدها.

10- و فيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، عن أحدهما «ع»، قال: «كان علي «ع» يضرب في الخمر و النبيذ ثمانين: الحرّ و العبد و اليهودي و النصراني. قلت: و ما شأن اليهودي و النصراني؟ قال: «ليس لهم ان يظهروا شربه؛ يكون ذلك في بيوتهم.» «3»

11- و فيه أيضا بسنده، عن أبي بصير، قال: «كان أمير المؤمنين «ع» يجلد الحرّ و

العبد و اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ ثمانين. قلت: ما بال اليهودي و النصراني؟ فقال: «إذا أظهروا ذلك في مصر من الأمصار، لأنهم ليس لهم أن يظهروا شربها.» و في هذا المجال روايتان أخريان أيضا عن أبي بصير، فراجع. «4»

12- و فيه أيضا بسنده، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» أن يجلد اليهودي و النصراني في الخمر و النبيذ المسكر ثمانين جلدة إذا أظهروا شربه في مصر من أمصار المسلمين، و كذلك المجوسي، و لم يعرض لهم إذا شربوها في منازلهم و كنائسهم

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 95، الباب 48 من أبواب جهاد العدوّ ...، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 96، الباب 48 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(3)- الوسائل 18/ 471، الباب 6 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 471، الباب 6 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 2 و 4 و 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 482

حتى يصيروا بين المسلمين.» «1»

13- و فيه أيضا بسنده، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: سألته عن يهودي أو نصراني أو مجوسي أخذ زانيا او شارب خمر ما عليه؟ قال:

«يقام عليه حدود المسلمين إذا فعلوا ذلك في مصر من أمصار المسلمين أو في غير أمصار المسلمين إذا رفعوا إلى حكّام المسلمين.» «2»

14- و فيه أيضا بسنده، عن إسماعيل بن أبي زياد، عن جعفر بن محمد، عن آبائه «ع»: «أن محمد بن أبي بكر كتب إلى علي «ع» في الرجل زنى بالمرأة اليهودية و النصرانية.

فكتب «ع» إليه: إن كان محصنا فارجمه، و إن كان بكرا فاجلده مأئة جلدة ثم انفه.

و أما اليهودية فابعث بها إلى أهل ملتها فليقضوا فيها ما أحبّوا.» «3»

15- و فيه أيضا عن الغارات، قال: بعث علي «ع» محمد بن أبي بكر أميرا على مصر، فكتب إلى علي «ع» يسأله عن رجل مسلم فجر بامرأة نصرانية ... فكتب إليه علي «ع»: «أن أقم الحدّ فيهم على المسلم الّذي فجر بالنصرانيّة، و ادفع النصرانيّة إلى النصارى يقضون فيها ما شاءوا.» «4» و روى نحوه البيهقي. «5»

و راجع في هذا المجال فروع الكافي، باب ما يجب على أهل الذمة من الحدود. «6»

أقول: الذمي إذا ارتكب الزنا و نحوه فللإمام أن يقيم عليه الحدّ بموجب شرع الإسلام. و له أيضا أن يدفعه إلى أهل نحلته ليقيموا عليه الحدّ على معتقدهم، كما أفتى بذلك المحقق في حدود الشرائع فيما إذا زنى الذمي بذمية.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 471، الباب 6 من أبواب حدّ المسكر، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 338، الباب 29 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 361، الباب 8 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 5.

(4)- الوسائل 18/ 415، الباب 50 من أبواب حدّ الزّنا، الحديث 1.

(5)- سنن البيهقي 8/ 247، كتاب الحدود، باب ما جاء في حدّ الذمّيين ...

(6)- الكافي 7/ 338.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 483

و استدل على ذلك بقوله- تعالى-: «فَإِنْ جٰاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ.» «1» بما ورد لها من شأن النزول و التفسير، و بالروايات التي مرّ بعضها.

و نحن قد قوّينا جواز حكم حاكم الإسلام أيضا بأحكامهم، فراجع ما حرّرناه في كتابنا في الحدود في شرح تلك المسألة من الشرائع. «2»

16- و في سنن البيهقي بسنده عن علي «ع»: «أن يهودية كانت تشتم

النبي «ص» و تقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت فأبطل رسول اللّه «ص» دمها.» «3»

17- و فيه أيضا عن الشافعي، عن جماعة ممن روى السيرة: «أن بني قينقاع كان بينهم و بين رسول اللّه «ص» موادعة و عهد فأتت امرأة من الأنصار إلى صائغ منهم ليصوغ لها حليا- و كانت اليهود معادية للأنصار- فلما جلست عند الصائغ عمد إلى بعض حدائده فشدّ به أسفل ذيلها و جيبها و هي لا تشعر، فلما قامت المرأة و هي في سوقهم نظروا إليها منكشفة فجعلوا يضحكون منها و يسخرون، فبلغ ذلك رسول اللّه «ص» فنابذهم و جعل ذلك منهم نقضا للعهد.» «4»

18- و في دعائم الإسلام عن علي «ع»: «أن رسول اللّه «ص» نهى عن إحداث الكنائس في دار الإسلام.» «5»

19- و في المستدرك، عن الجعفريات بسنده، عن علي «ع» أنه قال: «ليس في الإسلام كنيسة محدثة.» و عن السيد فضل اللّه في نوادره بإسناده عنه «ع» مثله. «6»

أقول: الظاهر من هذا الحديث أيضا إرادة دار الإسلام.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 42.

(2)- كتاب الحدود/ 88 و ما بعدها.

(3)- سنن البيهقي 9/ 200، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يذكروا رسول اللّه «ص» إلّا بما هو أهله.

(4)- سنن البيهقي 9/ 200، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن أحدا من رجالهم إن أصاب مسلمة ...

(5)- دعائم الإسلام 1/ 381، كتاب الجهاد- ذكر الصلح و الموادعة و الجزية.

(6)- مستدرك الوسائل 2/ 262، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 484

20- و في سنن البيهقي بسنده، عن ابن عباس، قال: «صالح رسول اللّه «ص» أهل نجران على ألفي حلّة، فذكر

الحديث كما مضى قال فيه: «على أن لا تهدم لهم بيعة و لا يخرج لهم قس و لا يفتنون عن دينهم ما لم يحدثوا حدثا أو يأكلوا الربا.» «1»

21- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس، قال: «كل مصر مصّره المسلمون لا يبنى فيه بيعة و لا كنيسة و لا يضرب فيه بناقوس و لا يباع فيه لحم خنزير.» «2»

22- و فيه أيضا بسنده، عن ابن عباس أيضا، قال: «أيّما مصر أعدّه العرب فليس للعجم أن يبنوا فيه بيعة- أو قال: كنيسة- و لا يضربوا فيه ناقوسا و لا يدخلوا فيه خمرا و لا خنزيرا. و أيّما مصر اتخذه العجم فعلى العرب أن يفوا لهم بعهدهم فيه و لا يكلفوهم مالا طاقة لهم به.» «3»

23- و في خراج أبي يوسف بسنده عن ابن عباس أنه سئل عن العجم ألهم أن يحدثوا بيعة أو كنيسة في أمصار المسلمين؟ فقال: «أمّا مصر مصّرته العرب فليس لهم أن يحدثوا فيه بناء بيعة و لا كنيسة و لا يضربوا فيه بناقوس و لا يظهروا فيه خمرا و لا يتخذوا فيه خنزيرا. و كل مصر كانت العجم مصّرته ففتحه اللّه على العرب فنزلوا على حكمهم فللعجم ما في عهدهم و على العرب أن يوفوا لهم بذلك.» «4»

أقول: الظاهر أن المراد هو الفرق بين بلد بناه المسلمون و بين بلد بناه أهل الذمة ثم فتحه المسلمون و شرطوا لهم فيه شرطا، و ليس المدار هو العربية و العجمية بملاك اللغة أو العنصرية.

24- و في سنن البيهقي بسنده، عن عبد الرحمن بن غنم، قال: كتبت لعمر بن

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 202، كتاب الجزية، باب لا تهدم لهم كنيسة و لا بيعة.

(2)-

سنن البيهقي 9/ 201، كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ...

(3)- سنن البيهقي 9/ 202، كتاب الجزية، باب لا تهدم لهم كنيسة و لا بيعة.

(4)- الخراج/ 149.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 485

الخطاب حين صالح أهل الشام: بسم اللّه الرحمن الرحيم. هذا كتاب لعبد اللّه عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا و كذا. إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا و ذرارينا و أموالنا و أهل ملتنا، و شرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتنا و لا فيما حولها ديرا و لا كنيسة و لا قلّاية و لا صومعة راهب و لا نجدّد ما خرب منها و لا نحيي ما كان منها في خطط المسلمين، و أن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في ليل و لا نهار و أن نوسع أبوابها للمارة و ابن السبيل، و ان ننزل من مرّ بنا من المسلمين ثلاثة أيام و نطعمهم، و أن لا نؤمّن في كنائسنا و لا منازلنا جاسوسا و لا نكتم غشا (عينا- الكنز) للمسلمين، و لا نعلم أولادنا القرآن و لا نظهر شركا و لا ندعو إليه أحدا و لا نمنع أحدا من قرابتنا الدخول في الإسلام إن أراده، و أن نوقّر المسلمين و أن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا جلوسا، و لا نتشبه بهم في شي ء من لباسهم من قلنسوة و لا عمامة و لا نعلين و لا فرق شعر و لا نتكلم بكلامهم و لا نتكنى بكناهم، و لا نركب السروج و لا نتقلد السيوف و لا نتخذ شيئا من السلاح و لا نحمله معنا

و لا ننقش خواتيمنا بالعربية، و لا نبيع الخمور، و أن نجزّ مقاديم رءوسنا و أن نلزم زيّنا حيث ما كنّا و أن نشد الزنانير على أوساطنا، و أن لا نظهر صلبنا و كتبنا في شي ء من طريق المسلمين و لا أسواقهم و أن لا نظهر الصليب على كنائسنا و أن لا نضرب بناقوس في كنائسنا بين حضرة المسلمين، و أن لا نخرج سعانين و لا باعوثا، و لا نرفع أصواتنا مع أمواتنا و لا نظهر النيران معهم في شي ء من طريق المسلمين و لا نجاورهم موتانا، و لا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين، و أن نرشد المسلمين و لا نطلع عليهم في منازلهم.

فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه: و أن لا نضرب أحدا من المسلمين، شرطنا لهم ذلك على أنفسنا و أهل ملتنا و قبلنا منهم الأمان، فإن نحن خالفنا شيئا مما شرطناه لكم فضمّنّاه على أنفسنا فلا ذمة لنا و قد حلّ لكم ما يحلّ لكم من أهل المعاندة و الشقاوة (الشقاق- الكنز). و راجع الرواية أيضا في كنز العمال. «1»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 202، كتاب الجزية، باب الإمام يكتب كتاب الصلح على الجزية؛ و كنز العمّال 4/ 503 شروط النصارى، الحديث 11493.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 486

و قال العلامة في المنتهى:

«و ينبغي للإمام أن يشرط عليهم كلّ ما فيه نفع المسلمين و رفعتهم كما شرطه عمر؛ فقد روي أنه كتب أهل الجزيرة إلى عبد الرحمن بن غنم».

و ذكر قريبا من ذلك فراجع و راجع الجواهر أيضا «1».

أقول: القلّاية بكسر القاف و تشديد اللام: مسكن الأسقف. و السعانين: عيد الأحد الذي قبل الفصح. و

الباعوث: صلاة ثاني عيد الفصح. هكذا في المنجد.

25- و فيه أيضا بسنده، عن حرام بن معاوية، قال: كتب إلينا عمر بن الخطاب: «أن أدّبوا الخيل و لا يرفعن بين ظهرانيكم الصليب و لا يجاورنكم الخنازير.» «2»

و راجع في حكم إحداث البيع و الكنائس مبسوط الشيخ. «3»

و يظهر من الروايات و المعاهدات و السير المنقولة أن لإمام المسلمين أن يزيد و ينقص في حدود الذمة و شرائطها حسب ما يراه صلاحا بلحاظ شرائط الزمان و المكان، فتدبّر.

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 968؛ و الجواهر 21/ 273.

(2)- سنن البيهقي 9/ 201؛ كتاب الجزية، باب يشترط عليهم أن لا يحدثوا في أمصار المسلمين كنيسة ...

(3)- المبسوط 2/ 45 و ما بعدها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 487

المسألة الثانية: في الخراج:
اشارة

أقول: قد كان بحثنا في هذا الفصل في الفي ء و قد تعرّضنا أولا لآيتي الفي ء في سورة الحشر، ثم تعرضنا لخمسة أمور و بيّنا في خلالها معنى الفي ء، و عدم الخمس فيه، و النسبة بينه و بين الغنائم و الأنفال و الصدقات، و تعرضنا لمعنى الفي ء و مصارفه إجمالا، و نقلنا فيه الأخبار و كلمات الأصحاب، و تعرضنا لمسألة فدك أيضا بالإجمال. و عقدنا الأمر الخامس لبيان بعض مصاديق الفي ء و قلنا إن من مصاديقه الجزية و الخراج فنتعرض لهما في مسألتين. و قد طال بحثنا في المسألة الأولى، أعني الجزية. فالآن نتعرض لمسألة الخراج، و قد ظهر كثير من أحكامه في خلال البحث في مطلق الفي ء و كذا في الجهة السادسة من بحث الغنائم المذكور فيها حكم الأراضي المفتوحة عنوة بالتفصيل الذي مرّ.

و كيف كان فهنا أيضا جهات من البحث:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 3، ص: 488

الجهة الأولى: في معنى الخراج و موضوعه و مقداره:
اشارة

فنقول: الخراج مثلثة الفاء، و قد مرّ منّا أنه كان يطلق على الضريبة التي كانت توضع على الأراضي المفتوحة عنوة أو صلحا على أنها للمسلمين أو لإمام المسلمين، أو على الأراضي التي انجلى عنها أهلها، بل و على أراضي الموات أيضا على احتمال قوي عندنا كما يأتي بيانه في فصل الأنفال، سواء وقع التقبيل بنحو الإجارة أو بنحو المزارعة. و ربما كان يطلق على ما يؤخذ بنحو الإجارة الخراج و على ما يؤخذ بنحو المزارعة المقاسمة.

و ربما يظهر من صحيحة محمد بن مسلم إطلاق الخراج على الجزية بقسميها أيضا، قال: «سألته عن أهل الذمة ما ذا عليهم مما يحقنون به دماءهم و أموالهم؟

قال: الخراج، و إن أخذ من رءوسهم الجزية فلا سبيل على أرضهم و إن أخذ من أرضهم فلا سبيل على رءوسهم.» «1»

فيظهر من الصحيحة أن الخراج أعمّ من الجزية.

و في مجمع البحرين:

«و قيل: يقع اسم الخراج على الضريبة و الفي ء و الجزية و الغلّة، و منه خراج العراقين.» «2»

و في لسان العرب عن الفرّاء:

«أن جملة معنى الخراج الغلة، و قيل للجزية التي ضربت على رقاب أهل الذمة خراج، لأنه كالغلة الواجبة عليهم.» «3» هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 114، الباب 68 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 3.

(2)- مجمع البحرين/ 157.

(3)- لسان العرب 2/ 252.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 489

و لكن الظاهر من الماوردي و أبي يعلى كونهما متباينين، فقد مرّ عن الماوردي قوله:

«و الجزية و الخراج حقان أوصل اللّه- سبحانه و تعالى- المسلمين إليهما من المشركين، يجتمعان من ثلاثة أوجه و يفترقان من ثلاثة أوجه ثم تتفرع أحكامهما:

فأما الأوجه التي يجتمعان فيها فأحدها: أن كل

واحد منهما مأخوذ عن مشرك صغارا له و ذلة. و الثاني: أنهما مالا في ء يصرفان في أهل الفي ء. و الثالث: أنهما يجبان بحلول الحول و لا يستحقان قبله.

و أما الأوجه التي يفترقان فيها فأحدها: أن الجزية نصّ و أن الخراج اجتهاد.

و الثاني: أن أقل الجزية مقدّر بالشرع و أكثرها مقدر بالاجتهاد، و الخراج أقله و أكثره مقدر بالاجتهاد. و الثالث أن الجزية تؤخذ مع بقاء الكفر و تسقط بحدوث الإسلام، و الخراج يؤخذ مع الكفر و الإسلام.» «1»

و ذكر نحو ذلك أبو يعلى الفرّاء أيضا. «2»

أقول: قد مرّ منّا أن مقدار الجزية أيضا عندنا مفوّض إلى الإمام قلّة و كثرة، و أن الجزية أيضا قد توضع على الأرض.

و قال الماوردي في فصل الخراج ما ملخصه و محصله:

«و أما الخراج فهو ما وضع على رقاب الأرض من حقوق تؤدى عنها، قال اللّه- تعالى-: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَرٰاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ.» و في قوله: «أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً» وجهان: أحدهما: أجرا، و الثاني: نفعا. و في قوله: «فَخَرٰاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ» وجهان:

أحدهما: فرزق ربّك في الدنيا خير منه. و الثاني: فأجر ربّك في الآخرة خير منه.

قال أبو عمرو بن العلاء: و الفرق بين الخرج و الخراج أن الخرج من الرقاب و الخراج من الأرض. و الخراج في لغة العرب اسم للكراء و الغلة، و منه قول النبي «ص»:

«الخراج بالضمان.»

و الأرضون كلها تنقسم أربعة أقسام:

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 142.

(2)- الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 153.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 490

أحدها: ما استأنف المسلمون إحياءه، فهو أرض عشر لا يجوز أن يوضع عليها خراج.

و القسم الثاني: ما أسلم عليه أربابه، فهم أحق به، فتكون على مذهب

الشافعي أرض عشر. و قال أبو حنيفة: الإمام مخيّر بين أن يجعلها خراجا أو عشرا.

و القسم الثالث: ما ملك من المشركين عنوة و قهرا، فتكون على مذهب الشافعي غنيمة تقسم بين الغانمين و تكون أرض عشر، و جعلها مالك وقفا على المسلمين بخراج يوضع عليها، و قال أبو حنيفة: يكون الإمام مخيرا بينهما.

و القسم الرابع: ما صولح عليه المشركون من أرضهم، فهي الأرض المختصة بوضع الخراج عليها، و هي على ضربين: أحدهما: ما خلا عنه أهله و حصلت للمسلمين بغير قتال، فتصير وقفا على مصالح المسلمين و يضرب عليها الخراج و يكون أجرة تقرّ على الأبد. و الضرب الثاني: ما أقام فيه أهله و صولحوا على إقراره في أيديهم بخراج يضرب عليهم، فهذا على ضربين:

أحدهما: أن ينزلوا عن ملكها لنا عند صلحنا، فتصير هذه الأرض وقفا على المسلمين كالذي انجلى عنه أهله و يكون الخراج المضروب عليهم أجرة لا تسقط بإسلامهم و لا يجوز لهم بيع رقابها، و لا يسقط عنهم بهذا الخراج جزية رقابهم.

و الضرب الثاني: أن يستبقوها على أملاكهم و لا ينزلوا عن رقابها و يصالحوا عنها بخراج يوضع عليها، فهذا الخراج جزية تؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم و تسقط عنهم بإسلامهم، و يجوز أن لا يؤخذ منهم جزية رقابهم، و يجوز لهم بيع هذه الأرض على من شاءوا منهم أو من المسلمين أو من أهل الذمة.

فأما قدر الخراج المضروب فيعتبر بما تحتمله الأرض، فإن عمر حين وضع الخراج على سواد العراق ضرب في بعض نواحيه على كل جريب قفيزا و درهما، و جرى في ذلك على ما استوفقه من رأي كسرى بن قباذ، فإنه أول من مسح السواد و وضع الخراج

و حدّ الحدود و وضع الدواوين، و راعى ما تحتمله الأرض من غير حيف بمالك و لا إجحاف بزارع.

و ضرب عمر على ناحية أخرى غيرها هذا القدر. فاستعمل عثمان بن حنيف عليه و أمره بالمساحة فمسح و وضع على كل جريب من الكرم و الشجر الملتفّ عشرة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 491

دراهم، و من النخل ثمانية دراهم، و من قصب السكر ستة دراهم، و من الرطبة خمسة دراهم، و من البرّ أربعة دراهم، و من الشعير درهمين و كتب بذلك إلى عمر فأمضاه. و عمل في نواحي الشام على غير هذا.

و كذلك يجب أن يكون واضع الخراج بعده يراعي في كل أرض ما تحتمله، فإنها تختلف من ثلاثة أوجه يؤثر كل واحد منها في زيادة الخراج و نقصانه: أحدها:

ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقلّ بها ريعها. و الثاني: ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب و الثمار. و الثالث: ما يختص بالسقي و الشرب.

فلا بدّ لواضع الخراج من اعتبار ما وصفناه من الأوجه الثلاثة: من اختلاف الأرضين و اختلاف الزروع و اختلاف السقي ليعلم قدر ما تحمله الأرض فيقصد العدل من غير إجحاف بأهل الخراج و لا نقصان يضرّ بأهل الفي ء. و من الناس من اعتبر شرطا رابعا و هو قربها من البلدان و الأسواق و بعدها لزيادة أثمانها و نقصانها.

و لا يستقصي في وضع الخراج غاية ما يحتمله، و ليجعل فيه لأرباب الأرض بقية يجبرون بها النوائب و الحوائج. حكي أن الحجاج كتب إلى عبد الملك بن مروان يستأذنه في أخذ الفضل من أموال السواد فمنعه من ذلك و كتب إليه:

لا تكن على درهمك المأخوذ أحرص منك على درهمك المتروك، و أبق لهم لحوما يعقدون بها شحوما.» «1»

انتهى ما أدرنا نقله من كلام الماوردي في الخراج ملخصا.

أقول: يشبه أن يكون الخرج و الخراج مأخوذين من الخروج، حيث إن غلة الشي ء و عائدته كأنهما تخرجان من هذا الشي ء.

و ما رواه الماوردي عن النبي «ص» من قوله: «الخراج بالضّمان» قد رواه أرباب السنن، منهم أبو داود في البيوع بأسانيد عن عائشة. و متن الحديث في أحدها هكذا: إن رجلا ابتاع غلاما فأقام عنده ما شاء اللّه أن يقيم، ثم وجد به عيبا، فخاصمه إلى النبي «ص» فردّه عليه فقال الرجل: يا رسول اللّه، قد استغلّ غلامي، فقال رسول اللّه «ص»: «الخراج بالضمان.» «2»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 146- 149.

(2)- سنن أبي داود 2/ 254 و 255، كتاب الإجارة، باب فيمن اشترى عبدا فاستعمله ثم وجد به عيبا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 492

و روى أبو عبيد في الأموال عنه «ص»: «أنه قضى أن الخراج بالضمان.» «1» و ظاهره أن هذا من أقضية النبي «ص».

ثم قال:

«قال أبو عبيد: و هو أن يشتري الرجل العبد فيستغلّه ثم يجد به عيبا كان عند البائع: أنه يردّه بالعيب و تطيب له تلك الغلّة بضمانه لأنه لو مات في يده مات من ماله.» «1»

و الظاهر أن ذكر العبد من باب المثال فلا خصوصية له.

و ذكر نحو ذلك بنحو أوفى في النهاية ثم قال:

«الباء في بالضمان متعلقة بمحذوف تقديره: الخراج مستحق بالضمان أي بسببه.» «2»

أقول: لا يخفى أن هذا المعنى للحديث لا يوافق ما هو المشهور بين أصحابنا من أن التلف في زمن الخيار ممن لا خيار له، اللّهم

إلّا أن يحمل هذه القاعدة على خصوص الخيارات الزمانية كما احتمل و التحقيق يطلب من محله، أو يراد بالضمان في الحديث ضمان الإتلاف أو التلف مع التقصير في حفظه.

و يحتمل فيه كون المراد بالضمان ضمان نفقة المبيع و حفظه في مدة الخيار لا ضمان عينه لو تلفت فتكون غلّة شي ء في قبال نفقته.

و أما احتمال كون المعنى أن غلّة الشي ء و منفعته مضمونة فهو خلاف الظاهر جدّا، فتدبّر. هذا.

و قول الماوردي إن ما استأنف المسلمون إحياءه لا يجوز أن يوضع عليها خراج مبني على تملك رقبة الأرض بالإحياء، و أما إن قلنا ببقائها على ملك الإمام بما هو إمام فالظاهر جواز أخذه الطسق و الخراج منها، كما يدلّ عليه بعض الأخبار و سيأتي تحقيقه في فصل الأنفال.

______________________________

(1)- الأموال/ 93.

(2)- النهاية لابن الأثير 2/ 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 493

و قال أبو يعلى الفرّاء:

«فأما الكلام في الخراج فهو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدى عنها، و الأرضون كلّها تنقسم أربعة أقسام.»

ثم تعرّض لأحكام الأرضين بالتفصيل، فراجع. «1»

و راجع في بيان أقسام الأرضين و أحكامها زكاة النهاية أيضا «2» و قد تعرّضنا لكلامه و لنكت عليه في الجهة السادسة من بحث الغنائم أعني حكم الأراضي المفتوحة عنوة. و راجع فيها أيضا جهاد المنتهى و التذكرة «3». و راجع في حكم الأراضي المفتوحة عنوة جهاد المبسوط «4»، و قد تعرضنا له أيضا هناك.

و نحن نقول هنا إجمالا أن

الأراضي على أربعة أقسام:
الأول: ما أسلم أهلها عليها طوعا من غير قتال،

فتترك في أيديهم و تكون لهم و يؤخذ منهم العشر أو نصف العشر كغيرهم من المسلمين؛ لهم ما لهم و عليهم ما عليهم، و يدلّ على ذلك خبر صفوان و

البزنطي و كذا صحيحة البزنطي، فراجع. «5»

الثاني: ما اخذت من الكفار عنوة و قهرا بالسيف،

فهي عندنا لا تقسم بل تكون للمسلمين بما هم مسلمون و تكون تحت اختيار الإمام يقبلها لهم بما يراه صلاحا، و يدلّ عليه الخبران و غيرهما و قد مرّ تفصيله في الجهة السادسة من بحث الغنائم.

الثالث: ما صولح عليها على أن تكون للمسلمين،

و حكمها حكم ما قبلها. هذا إذا صولح عليها على أن تكون الرقبات ملكا للمسلمين و أما إن صولح عليها على أن تبقى ملكا لأنفسهم و يؤدوا عنها الخراج سمّيت أرض الجزية و يسقط عنهم الخراج بالإسلام و يصير حكمها حكم ما أسلم أهلها عليها.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 162 و ما بعدها.

(2)- النهاية للشيخ/ 194 و ما بعدها.

(3)- المنتهى 2/ 934 و ما بعدها، و التذكرة 1/ 427 و 428.

(4)- المبسوط 2/ 33- 35.

(5)- الوسائل 11/ 119 و 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1 و 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 494

الرابع: كلّ أرض انجلى أهلها عنها أو صولح عليها

على أن تكون لإمام المسلمين بما هو إمام أو كانت مواتا بأقسامه، فهذه الأرضون كلّها للإمام بما هو إمام و تكون من الفي ء و الأنفال، و قد مرّ منّا مرارا معنى كون الشي ء للإمام و يجي ء تفصيله في بحث الأنفال و محصل ذلك أنه ليس لشخص الإمام بل لمقام الإمامة و منصبها و ينتقل منه إلى الإمام بعده لا إلى وارثه.

و مقدار الخراج في جميع الأقسام الثلاثة مفوّض إلى الإمام يقبلها بالذي يرى، أمّا ما للإمام فكون أمره بيده واضح. و أمّا ما للمسلمين فيدل على ذلك مضافا إلى أن ذلك مقتضى ولايته و إمامته الخبران المشار إليهما و كذا مرسلة حمّاد الطويلة، و به أفتى الأصحاب أيضا:

ففي صحيحة البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا «ع» الخراج و ما سار به أهل بيته، فقال: «العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا؛ تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر و نصف العشر فيما عمر منها، و ما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبّله ممن يعمره

و كان للمسلمين. و ليس فيما كان أقل من خمسة أو ساق شي ء. و ما أخذ بالسيف فذلك إلى الإمام يقبّله بالذي يرى كما صنع رسول اللّه «ص» بخيبر الحديث.» «1» و نحوها خبر صفوان و البزنطي، فراجع.

و قد تعرضنا لسند الحديثين و فقههما بالتفصيل في مبحث الأراضي المفتوحة عنوة من فصل الغنائم.

و في مرسل حمّاد، عن بعض أصحابه، عن أبي الحسن «ع»: «و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل أو ركاب فهي موقوفة متروكة في يدي من يعمرها و يحييها و يقوم عليها على ما صالحهم الوالي على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو الثلثين على قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرّهم.» «2»

و كيف كان فيسمّى حاصل هذه الأراضي و ما يؤخذ منها بعد تقبيلها بالخراج.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 495

الجهة الثانية: في مصرف الخراج:

أقول: يظهر مما مرّ في أوائل فصل الفي ء و الأمور الخمسة التي ذكرناها- من كون الفي ء بأجمعه للرسول «ص» و بعده للإمام بما هو إمام و كونه تحت اختياره، و أن له أن يصرفه في كل ما تقتضيه شئون الإمامة و مصالح المسلمين- أن الخراج أيضا كذلك، لأنه أحد مصاديق الفي ء. و مما مرّ هناك في هذا المجال خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» في الغنيمة، قال: «يخرج منه الخمس و يقسم ما بقي بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و أما الفي ء و الأنفال فهو خالص لرسول اللّه «ص».» «1»

و نضيف هنا أن الأراضي التي تكون

للإمام بما هو إمام فحكمها واضح إذ يكون خراجها لا محالة تحت اختياره. و أما ما كانت للمسلمين بما هم مسلمون كالمفتوحة عنوة أو صلحا على أن تكون لهم فيدلّ على صرف خراجها في مصالحهم مرسلة حماد الطويلة التي عمل بها الأصحاب في الأبواب المختلفة:

ففيها بعد ذكر تقبيل الإمام للأراضي المفتوحة عنوة قال: «و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير.» «2»

و قوله «ع»: «ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير» لعلّه يراد به عدم كونه ملكا لشخص الإمام و الوالي أو عدم تعلق الخمس به للإمام، و إلّا فإدارة شئون الوالي و سدّ خلّاته أيضا من أهمّ المصالح العامّة التي تنوبه.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال ...، الحديث 3.

(2)- الوسائل 11/ 85، الباب 41 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 496

و يظهر من بعض الأخبار أن النبي «ص» صرف من عوائد خيبر في حاجات نفسه أيضا، و خيبر كانت مفتوحة عنوة كما يظهر من خبر صفوان و البزنطي: ففي كتاب الخراج و الفي ء من سنن أبي داود بسنده، عن سهل بن أبي حثمة، قال:

«قسّم رسول اللّه «ص» خيبر نصفين: نصفا لنوائبه و حاجته و نصفا بين المسلمين، قسمها بينهم على ثمانية عشر سهما.» «1» هذا.

و أفتى بمفاد مرسلة حمّاد في المقام فقهاؤنا:

1- ففي المبسوط في حكم الأرض المفتوحة عنوة قال:

«و يأخذ ارتفاعها و يصرفه في مصالح المسلمين و

ما ينوبهم من سدّ الثغور و معونة (تقوية خ. ل) المجاهدين و بناء القناطر و غير ذلك من المصالح.» «2»

2- و فيه أيضا:

«و أما الخراج فهو لجميع المسلمين، فإن كان قد خمّست الأرضون لا يخمس، و إن كانت لم تخمّس خمّس، و الباقي للمسلمين مصروف في مصالحهم.» «3»

3- و في كتاب الفي ء من الخلاف (المسألة 18):

«ما لا ينقل و لا يحوّل من الدور و العقارات و الأرضين عندنا ان فيه الخمس فيكون لأهله، و الباقي لجميع المسلمين: من حضر القتال و من لم يحضر، فيصرف ارتفاعه إلى مصالحهم.» «4»

و قد مرّ منّا الإشكال في ثبوت الخمس في الأرضين المفتوحة عنوة، فراجع.

4- و في جهاد الشرائع:

«و يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور و معونة الغزاة و بناء القناطر.» «5»

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 142، كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، باب ما جاء في حكم أرض خيبر.

(2)- المبسوط 2/ 34.

(3)- المبسوط 2/ 66.

(4)- الخلاف 2/ 333.

(5)- الشرائع 1/ 322 (طبعة أخرى/ 246).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 497

5- و في جهاد المنتهى:

«و ارتفاع هذه الأرض ينصرف إلى المسلمين بأجمعهم و إلى مصالحهم.» «1»

6- و فيه أيضا:

«و لا يصح بيعها و لا هبتها و لا وقفها، بل يصرف الإمام حاصلها في المصالح مثل سدّ الثغور و معاونة الغزاة و بناء القناطر، و يخرج منها أرزاق القضاة و الولاة و صاحب الديوان و غير ذلك من مصالح المسلمين.» «2»

و في التذكرة أيضا نحو ما في المنتهى. «3» هذا.

7- و في كتاب الأموال لأبي عبيد:

«و أما مال الفي ء فما اجتني من أموال أهل الذمة مما صولحوا عليه من جزية رءوسهم التي بها

حقنت دماؤهم و حرمت أموالهم و منه خراج الأرضين التي افتتحت عنوة ثم أقرّها الإمام في أيدي أهل الذمة على طسق يؤدونه، و منه وظيفة أرض الصلح التي منعها أهلها حتى صولحوا منها على خراج مسمّى، و منه ما يأخذه العاشر من أموال أهل الذمة التي يمرّون بها عليه لتجارتهم، و منه ما يؤخذ من أهل الحرب إذا دخلوا بلاد الإسلام للتجارات، فكلّ هذا من الفي ء. و هو الذي يعمّ المسلمين: غنيّهم و فقيرهم، فيكون في أعطية المقاتلة، و أرزاق الذرية، و ما ينوب الإمام من أمور الناس بحسن النظر للإسلام و أهله.» «4»

8- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«ذكر أحمد الفي ء فقال: فيه حق لكل المسلمين و هو بين الغني و الفقير.»

ثم حكى عن القاضي انه قال:

«و معنى كلام أحمد: «أنه بين الغني و الفقير» يعني الغني الذي فيه مصلحة المسلمين من المجاهدين و القضاة و الفقهاء، و يحتمل أن يكون معنى كلامه أن لجميع المسلمين

______________________________

(1)- المنتهى 2/ 935.

(2)- المنتهى 2/ 936.

(3)- التذكرة 1/ 427.

(4)- الأموال/ 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 498

الانتفاع بذلك المال لكونه يصرف إلى من يعود نفعه على جميع المسلمين، و كذلك ينتفعون بالعبور على القناطر و الجسور المعقودة بذلك المال و بالأنهار و الطرقات التي أصلحت به ...» «1»

إلى غير ذلك من كلمات علماء الفريقين في مصرف الفي ء الذي عمدته الخراج بأقسامه، حيث يستفاد من جميع ذلك أنه يكون تحت اختيار إمام المسلمين و أنه يصرفه في ما تنوبه من مصالح المسلمين.

نعم إدارة معايش الفقراء و الضعفاء و من لا حيلة له من أفراد المجتمع أيضا تكون من المصالح المهمة التي وضعت

على عاتق الإمام، فيجب سدّ خلّاتهم من الزكوات و من خراج الأرضين إن لم تف الزكوات. كما أن سدّ خلّات شخص الإمام و عمّاله و ولاته أيضا من أهمّ المصالح العامّة.

و لأجل ذلك صرف رسول اللّه «ص»- على ما روي- من أموال بني النضير في نفقة نفسه و أزواجه و فقراء المهاجرين و بعض الأنصار، كما مرّ بيانه في تفسير آية الفي ء في أول الفصل.

و في نهج البلاغة فيما كتبه «ع» لمالك: «ثمّ اللّه اللّه في الطبقة السفلى! من الذين لا حيلة لهم من المساكين و المحتاجين و أهل البؤسى و الزمنى، فإن في هذه الطبقة قانعا و معترّا، و احفظ للّه ما استحفظك من حقه فيهم، و اجعل لهم قسما من بيت مالك و قسما من غلّات صوافي الإسلام في كل بلد، فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى ...» «2»

و الظاهر أنّ المراد بالصوافي: أراضي الغنيمة أو الخالصة التي جلا أهلها عنها.

و في خبر إبراهيم بن أبي زياد قال: سألت أبا عبد اللّه «ع» عن الشراء من أرض الجزية، قال: فقال: «اشترها، فإن لك من الحق ما هو أكثر من ذلك.» «3» و نحوه في

______________________________

(1)- المغني 7/ 308.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1019؛ عبده 3/ 111؛ لح/ 438، الكتاب 53.

(3)- الوسائل 11/ 119، الباب 71 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 499

صحيحة محمد بن مسلم. «1»

و من أهمّ المصالح العامة للدولة الإسلامية سدّ خلات جميع ولاتها و عمّالها حتى لا يطمعوا في الارتشاء و تطمئن نفوسهم في مجالات أعمالهم، و على ذلك يحمل ما رواه أبو عبيد بسنده، عن النبي «ص»، قال: «من ولّى

لنا شيئا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة. و من لم يكن له مسكن فليتخذ مسكنا. و من لم يكن له مركب فليتخذ مركبا. و من لم يكن له خادم فليتخذ خادما. فمن اتخذ سوى ذلك كنزا أو إبلا جاء اللّه به يوم القيامة غالا أو سارقا.» «2»

و بالجملة، فمصرف الخراج بأقسامه ما ينوب الإمام من المصالح، و سدّ خلات العمّال و كذا المحتاجين أيضا من أهمّ المصالح العامة، و على ذلك يجب أن يحمل ما ذكره الشيخ في النهاية في حكم الأرضين المفتوحة عنوة، قال:

«و هذه الأرضون للمسلمين قاطبة، و ارتفاعها يقسم فيهم كلهم: المقاتلة و غيرهم.» «3»

فلا يراد بذلك التقسيم بين جميع المسلمين من الغني و الفقير و العمّال و غيرهم بلا رعاية للمصالح العامة، فتدبّر. هذا.

و قد مرّ البحث في حكم الأراضي المفتوحة عنوة و جواز تقبل الأراضي الخراجية من حكّام الجور و قبول الخراج منهم بالشراء و الهبة و نحو ذلك بالتفصيل، فراجع الجهة السادسة من فصل الغنائم.

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 274، الباب 21 من أبواب عقد البيع و شروطه، الحديث 1.

(2)- الأموال/ 338.

(3)- النهاية/ 195.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 500

الجهة الثالثة: في أنه يجب على إمام المسلمين و عمّاله أن يرفقوا بأهل الجزية و الخراج

و يخففوا عنهم بما يصلح به أمرهم و لا يجوز تعذيبهم و التضييق عليهم في أمر الخراج و الجزية:

1- ففي نهج البلاغة في كتابه «ع» لمالك قال: «و تفقّد أمر الخراج بما يصلح أهله، فإن في صلاحه و صلاحهم صلاحا لمن سواهم، و لا صلاح لمن سواهم إلّا بهم، لأن الناس كلهم عيال على الخراج و أهله. و ليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج لأن ذلك لا يدرك إلّا بالعمارة.

و من طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد و أهلك العباد و لم يستقم أمره إلا قليلا. فإن شكوا ثقلا أو علة أو انقطاع شرب أو بالّة، أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خفّفت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم.

و لا يثقلنّ عليك شي ء خففت به المؤونة عنهم، فإنه ذخر يعودون به عليك في عمارة بلادك و تزيين ولايتك، مع استجلابك حسن ثنائهم و تبجحك باستفاضة العدل فيهم معتمدا فضل قوّتهم بما ذخرت عندهم من إجمامك لهم و الثقة منهم بما عوّدتهم من عدلك عليهم في رفقك بهم. فربما حدث من الأمور ما إذا عوّلت فيه عليهم من بعد احتملوه طيبة أنفسهم به، فإن العمران محتمل ما حمّلته، و انما يؤتى خراب الأرض من إعواز أهلها، و إنما يعوز أهلها لإشراف أنفس الولاة على الجمع و سوء ظنهم بالبقاء و قلة انتفاعهم بالعبر.» «1»

أقول: المراد بالثقل: ثقل الخراج المضروب. و البالّة: ما يبلّ الأرض من مطر و ندى. و إحالة الأرض: تحويلها البذور إلى الفساد. و التبجح: السرور. و الإجمام:

الإراحة.

فليتأمّل في هذه الكلمات الشريفة أولياء الأمور و جباة الأموال و الضرائب

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1013؛ عبده 3/ 106؛ لح/ 436، الكتاب 53.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 501

و لا يلحظوا النفع العاجل فقط بل يراعوا شرائط الأمّة و حاجاتها و مستقبل الملك و الدولة، و احتياجهم إلى إيمان الأمة و عواطفهم في المقاطع الحادّة. فليرفقوا بهم في وضع الخراج و الضرائب و جبايتها. و لا يحملوا عليهم مالا يحتملونها.

2- و فيه أيضا في كتاب له «ع» إلى عمّاله على الخراج قال: «فأنصفوا الناس من أنفسكم

و اصبروا لحوائجهم، فإنكم خزّان الرعيّة، و وكلاء الأمة، و سفراء الأئمة. و لا تحسموا أحدا عن حاجته و لا تحبسوه عن طلبته، و لا تبيعن للناس في الخراج كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها و لا عبدا، و لا تضربن أحدا سوطا لمكان درهم، و لا تمسن مال أحد من الناس: مصلّ و لا معاهد إلا أن تجدوا فرسا أو سلاحا يعدى به على أهل الإسلام، فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي أعداء الإسلام فيكون شوكة عليه.» «1»

3- و في فروع الكافي بسنده، عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي طالب «ع» على بانقيا و سواد من سواد الكوفة فقال لي و الناس حضور: «انظر خراجك فجدّ فيه و لا تترك منه درهما، فإذا أردت أن تتوجّه إلى عملك فمرّ بي.» قال: فأتيته فقال لي: «إن الذي سمعت مني خدعة، إياك أن تضرب مسلما أو يهوديا أو نصرانيا في درهم خراج، أو تبيع دابّة عمل في درهم، فإنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو.» «2» و رواه عنه في البحار. «3»

أقول: في حاشية الكافي عن الوافي:

«بانقيا: هي القادسية و ما والاها من أعمالها، و إنما سمّيت القادسية بدعوة إبراهيم الخليل «ع» لأنه قال لها كوني مقدسة أي مطهرة من التقديس. و إنما سمّيت بانقيا لأن إبراهيم «ع» اشتراها بمائة نعجة من غنمه لأن «با» مأئة و «نقيا» شاة بلغة نبط، كذا في السرائر ... و قوله: خدعة: أي تقية. و العفو: ما جاء بسهولة.» و عن مرآة العقول في معنى العفو: «أي الزيادة أو الوسط أو يكون منصوبا بنزع الخافض.» «4»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 984؛ عبده

3/ 90؛ لح/ 425، الكتاب 51.

(2)- الكافي 3/ 540، كتاب الزكاة، باب أدب المصدّق، الحديث 8.

(3)- بحار الأنوار 41/ 128، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 107 (باب جوامع مكارم أخلاقه)، الحديث 37.

(4)- الكافي 3/ 540، كتاب الزكاة، باب أدب المصدّق.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 502

4- و في سنن البيهقي بسنده، عن رجل من ثقيف، قال: استعملني علي بن أبي طالب على بزرج سابور فقال: «لا تضربن رجلا سوطا في جباية درهم و لا تبيعن لهم رزقا و لا كسوة شتاء و لا صيف و لا دابّة يعتملون عليها و لا تقم رجلا قائما في طلب درهم.» قال: قلت:

يا أمير المؤمنين، إذا أرجع إليك كما ذهبت من عندك. قال: «و إن رجعت كما ذهبت، ويحك إنما أمرنا أن نأخذ منهم العفو» يعني الفضل. «1»

و روى نحوه يحيى بن آدم القرشي أيضا في خراجه، و رواه في كنز العمّال أيضا، و فيه: «على برج سابور.» «2»

5- و في كتاب الأموال لأبي عبيد بسنده، عن رجل من آل أبي المهاجر، قال:

استعمل علي بن أبي طالب «ع» رجلا على عكبري فقال له على رءوس الناس:

«لا تدعن لهم درهما من الخراج.» قال: و شدّد عليه القول ثم قال له: «القني عند انتصاف النهار» فأتاه فقال: «إني كنت قد أمرتك بأمر و إنّي أتقدم إليك الآن فإن عصيتني نزعتك: لا تبيعن لهم في خراج حمارا و لا بقرة و كسوة شتاء و لا صيف و ارفق بهم و افعل بهم و افعل بهم.» «3»

أقول: و لعل الوقائع كانت متعددة. و عكبري بضم الأول و سكون الثاني موضع بينه و بين بغداد عشرة فراسخ.

6- و في

صحيح مسلم بسنده، عن هشام بن حكيم بن حزام، قال: مرّ بالشام على أناس، و قد اقيموا في الشمس و صبّ على رءوسهم الزيت. فقال: ما هذا؟

قيل يعذّبون في الخراج. فقال: أما إني سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إن اللّه يعذّب الذين يعذّبون في الدنيا.» «4»

______________________________

(1)- سنن البيهقي 9/ 205، كتاب الجزية، باب النهي عن التشديد في جباية الجزية.

(2)- خراج يحيى بن آدم/ 70؛ و كنز العمّال 4/ 501، كتاب الجهاد، الجزية، الحديث 11488.

(3)- الأموال/ 55.

(4)- صحيح مسلم 4/ 2017، كتاب البرّ و الصلة و الآداب، الباب 33، الحديث 2613.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 503

7- و فيه أيضا بسنده، قال: مرّ هشام بن حكيم بن حزام على أناس من الأنباط بالشام قد أقيموا في الشمس، فقال: ما شأنهم؟ قالوا: حبسوا في الجزية. فقال هشام: اشهد لسمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إن اللّه يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا.» «1»

8- و فيه أيضا بسنده عن عروة بن الزبير: أن هشام بن حكيم وجد رجلا و هو على حمص يشمّس ناسا من النبط في أداء الجزية فقال: ما هذا؟ إني سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إن اللّه يعذّب الذين يعذّبون الناس في الدنيا.» «2»

و راجع في هذا المعنى مسند أحمد و البيهقي و الأموال لأبي عبيد «3».

أقول: و لا يخفى انصراف قوله «ص» عن التعذيب بحق كالقصاص و الحدود و التعزيرات الشرعية.

9- و في الوسائل بسند صحيح، عن الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «إن أعتى الناس على اللّه- عزّ و جل- من قتل غير قاتله، و من ضرب من لم يضربه.» «4»

10- و فيه أيضا

بسنده، عن الوشاء، قال: سمعت الرضا «ع» يقول: «قال رسول اللّه «ص»: «لعن اللّه من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.» «5»

11- و فيه أيضا بسنده، عن المثنى، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «وجد في قائم سيف

______________________________

(1)- صحيح مسلم 4/ 2018، كتاب البرّ و الصلة و الآداب، الباب 33.

(2)- صحيح مسلم 4/ 2018، كتاب البرّ و الصلة و الآداب، الباب 33.

(3)- مسند أحمد 3/ 403 و 404؛ و سنن البيهقي 9/ 205، كتاب الجزية، باب النهي عن التشديد في جباية الجزية؛ و الأموال/ 53 و ما بعدها.

(4)- الوسائل 19/ 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 1.

(5)- الوسائل 19/ 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 504

رسول اللّه «ص»: صحيفة: «إنّ أعتى الناس على اللّه القاتل غير قاتله و الضارب غير ضاربه.»

الحديث» «1»

12- و فيه أيضا بسنده، عن الفضيل بن سعدان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«كانت في ذؤابة سيف رسول اللّه «ص» صحيفة مكتوب فيها: لعنة اللّه و الملائكة و الناس أجمعين على من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.» الحديث.» «2»

13- و فيه أيضا بسنده، عن الرضا «ع»، عن آبائه، عن علي «ع»، قال:

«ورثت عن رسول اللّه «ص» كتابين: كتاب اللّه و كتاب في قراب سيفي. قيل: يا أمير المؤمنين! و ما الكتاب الذي في قراب سيفك؟ قال: «من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه فعليه لعنة اللّه.» «3»

14- و فيه أيضا بسنده، عن علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر «ع»، قال: ابتدر الناس إلى قراب سيف رسول اللّه «ص»

بعد موته فإذا صحيفة صغيرة وجدوا فيها:

«من آوى محدثا فهو كافر، و من تولّى غير مواليه فعليه لعنة اللّه، و أعتى الناس على اللّه من قتل غير قاتله أو ضرب غير ضاربه.» «4»

15- و فيه أيضا بسنده، عن الثمالي، قال: قال: «لو أنّ رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه اللّه سوطا من النار.» «5»

16- و فيه أيضا بسنده، عن جابر بن عبد اللّه، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال:

«لو أنّ رجلا ضرب رجلا سوطا لضربه اللّه سوطا من نار.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 11، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس،

(2)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس

(3)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس

(4)- الوسائل 19/ 13، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 10.

(5)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 5.

(6)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 505

17- و فيه أيضا بسنده، عن النبي «ص» في حديث المناهي، قال: «و من لطم خدّ امرئ مسلم أو وجهه بدّد اللّه عظامه يوم القيامة و حشر مغلولا حتى يدخل جهنم إلا أن يتوب.» «1»

أقول: ما رويناها هنا من الوسائل و إن لم يكن موردها الخراج و الضرائب لكن إطلاقها يشملها كما لا يخفى.

و إنما ذكرناها ليعتبر الشرطة و الضبّاط و المسؤولون في دوائر الحكم و التحقيق و الاستخبارات و اللجان الثورية و السجون، و يدركوا اهتمام الشرع المبين بحرمة الناس و قداستهم فلا يضربوا الناس و يلطموهم و يعذّبوهم بالاتهامات التافهة و النمائم و الأوهام. هذا.

18- و في خراج

أبي يوسف:

«قال أبو يوسف: و قد ينبغي يا أمير المؤمنين- أيّدك اللّه- أن تتقدم في الرفق بأهل ذمة نبيك و ابن عمّك محمد «ص» و التفقّد لهم حتى لا يظلموا و لا يؤذوا و لا يكلّفوا فوق طاقتهم و لا يؤخذ شي ء من أموالهم إلّا بحق يجب عليهم.

فقد روي عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته فأنا حجيجه.»

و كان فيما تكلّم به عمر بن الخطاب عند وفاته: «أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول اللّه «ص» أن يوفي لهم بعهدهم و أن يقاتل من ورائهم و لا يكلّفوا فوق طاقتهم.»

قال: و حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن سعيد بن زيد أنه مرّ على قوم قد أقيموا في الشمس في بعض أرض الشام فقال: ما شأن هؤلاء؟ فقيل له: أقيموا في الشمس في الجزية. قال: فكره ذلك و دخل على أميرهم و قال: إني سمعت

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 12، الباب 4 من أبواب القصاص في النفس، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 506

رسول اللّه «ص» يقول: «من عذّب الناس عذّبه اللّه.»

قال: و حدثنا بعض أشياخنا، عن عروة، عن هشام بن حكيم بن حزام: أنه وجد عياض بن غنم قد أقام أهل الذمة في الشمس في الجزية فقال: يا عياض! ما هذا؟

فإن رسول اللّه «ص» قال: «إن الذين يعذّبون الناس في الدنيا يعذّبون في الآخرة.»

قال: و حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن عمر بن الخطاب مرّ بطريق الشام و هو راجع في مسيره من الشام على قوم قد أقيموا في الشمس يصبّ على رءوسهم الزيت، فقال: ما بال هؤلاء؟ فقالوا:

عليهم الجزية لم يؤدّوها، فهم يعذّبون حتى يؤدوها. فقال عمر: فما يقولون هم و ما يعتذرون به في الجزية؟ قالوا: يقولون: لا نجد.

قال: فدعوهم، لا تكلّفوهم ما لا يطيقون، فإني سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«لا تعذّبوا الناس فإن الذين يعذّبون الناس في الدنيا يعذبهم اللّه يوم القيامة» و أمر بهم فخلّي سبيلهم.» «1»

19- و فيه أيضا بسنده قال:

«كتب عدي بن أرطاة- عامل كان لعمر بن عبد العزيز- إليه: «أما بعد، فإن أناسا قبلنا لا يؤدّون ما عليهم من الخراج حتى يمسهم شي ء من العذاب.» فكتب إليه عمر: أما بعد، فالعجب كل العجب من استيذانك إياي في عذاب البشر! كأنّي جنّة لك من عذاب اللّه و كأنّ رضاي ينجيك من سخط اللّه! إذا أتاك كتابي هذا فمن أعطاك ما قبله عفوا و إلّا فاحلفه، فو اللّه لأن يلقوا اللّه بجناياتهم أحبّ إليّ من أن ألقاه بعذابهم. و السلام.» «2»

20- و في الكامل لابن الأثير:

«و قال أبو فراس: خطب عمر الناس فقال: أيها الناس! إني ما أرسل إليكم عمّالا ليضربوا أبشاركم و لا ليأخذوا أموالكم و إنما أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم

______________________________

(1)- الخراج/ 124 و 125.

(2)- الخراج/ 119.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 3، ص: 507

و سنتكم، فمن فعل به شي ء سوى ذلك فليرفعه إليّ، فو الذي نفس عمر بيده لأقصّنّه منه. فوثب عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين! أ رأيتك إن كان رجل من أمراء المسلمين على رعيّة فأدّب بعض رعيته إنك لتقصّه منه؟ قال: إي و الذي نفس عمر بيده اذا لأقصنه منه، و كيف لا أقصّه منه و قد رأيت النبي «ص» يقص من نفسه! ألا لا تضربوا المسلمين فتذلّوهم

و لا تحمدوهم فتفتنوهم و لا تمنعوهم حقوقهم فتكفروهم، و لا تنزلوهم الغياض فتضيعوهم.» «1» هذا.

و قد طال البحث في الفي ء؛ فلنختم الكلام هنا و نشرع بعده في الأنفال، و على اللّه الاتكال.

24 رمضان المبارك 1408 ه، و أنا العبد المفتقر إلى رحمة ربّه الباري حسينعلي المنتظري النجف آبادي- غفر اللّه له و لوالديه.

ثمّ الجزء الثالث من الكتاب و يتلوه إن شاء اللّه الجزء الرابع، و أوّله الفصل الخامس من الباب الثامن في الأنفال و الحمد للّه ربّ العالمين

______________________________

(1)- الكامل 3/ 56.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.